الفصل الخامس
(المنظر: غرفة مطالعة الدكتور ستوكمان، ترى خزانات
الكتب والعينات الجراحية الطبية بجوار الحيطان، وفي المؤخرة باب يؤدي إلى غرفة الجلوس،
وفي
الحائط الأيمن نافذتان زجاجهما كله مكسور، وقد وضع مكتب الدكتور مثقلًا بالكتب والأوراق
في
وسط الغرفة، والغرفة تبدو عادمة النظام، الوقت صباح، والدكتور لابس بذلة البيت (روب دي
شامبر) وخُفَّيْنِ (شبشب) وعلى رأسه قبعة التدخين، وتراه مكبًّا يعبث بمظلة تحت إحدى
الخزانات، وبعد قليل يخرج قطعة من الحجر.)
الدكتور
(مناديًا من باب غرفة الجلوس المفتوح)
:
كاترين! وجدت حجرًا آخر.
كاترين
(من غرفة الجلوس)
:
هوه، ستجد عدة أحجار أخر، فيما أرجح.
الدكتور
(يضع الحجر فوق كومة أحجار على المنضد)
:
سأدخر هذه الأحجار كما تدخر الآثار، سينظر إليها إيليف ومورتن كل يوم، وإذا كبرا
ورثاها فيما يرثان من المخلفات، (يعبث تحت إحدى خزانات
الكتب) ألم تذهب — تلك — للشيطان، ما اسمها؟ تلك الفتاة أنت عارفة …
لإحضار الزجاج بعد.
كاترين
(داخلة)
:
بلى، ولكنه قال إنه لا يدري هل يستطيع الحضور اليوم.
الدكتور
:
سترين أنه لا يجرؤ أن يجيء.
كاترين
:
أجل، هذا بعينه ما قدرته راندين، إنه لا يجرؤ على الحضور خوفًا من جيرانه (تنادي في غرفة الجلوس) ماذا تريدين يا راندين؟
أعطينيه (تذهب داخلة في غرفة الجلوس وتعود على
الفور) هذا خطاب لك يا توماس.
الدكتور
:
دعيني أراه (يفتحه ويقرأه) ها هو ذا،
بالطبع.
كاترين
:
ممن هو؟
الدكتور
:
من صاحب الملك. إنذار بالإخلاء.
كاترين
:
أهذا ممكن، مثل هذا الرجل اللطيف …
الدكتور
(ناظرًا في الخطاب)
:
لا يجرؤ أن يفعل غير هذا، هذا ما يقوله. إنه لا يحب ما يفعل، ولكنه لا يجرؤ أن
يفعل غير ذلك، حذرًا من إخوانه في الوطن؛ مراعاة للرأي العام. إنه في مركز ذي صلات،
ولا يملك أن يغضب بعض ذوي النفوذ.
كاترين
:
ها أنت ذا ترى يا توماس …
الدكتور
:
نعم، نعم أرى حق الرؤية، الجميع في البلدة برمتها جبناء ليس فيهم رجل واحد يقوى
على عمل شيء خشية غيره. (يلقي الخطاب على
المكتب) ولكن هذا لا يهمنا يا كاترين نحن مبحرون عن هذه الأرض إلى
الدنيا الجديدة و…
كاترين
:
ولكن يا توماس، أأنت واثق أننا على صواب في هذا الرأي؟
الدكتور
:
أتعنين أنه يجب عليَّ أن أبقى هنا، حيث شهروا بي ووسموني بأني عدو للشعب، وكسروا
نوافذ داري، وإليك فانظري هنا يا كاترين … إنهم أحدثوا مزقًا كبيرًا في بنطلوني
الأسود أيضًا.
كاترين
:
ويحي! أهذا أحسن بنطلون عندك؟
الدكتور
:
لا يصح لك أن تلبسي أحسن بنطلون عندك عندما تخرجين للقتال في سبيل الحرية والحق،
ليس ذا لأنه يهمني الحرص على البنطلون — كما تعلمين — فإن من السهل أن تخيطيه لي
وتعيديه سيرته الأولى، وإنما كون القطيع العام يجرؤ أن يبغي عليَّ هذا البغي، كأنما
هم نظرائي، هذا ما لا أستطيع تحمله، ولو كان في ذلك حياتي.
كاترين
:
لا شك أنهم أساءوا إليك إساءة سمجة يا توماس، ولكن أهذا سبب يكفي لتركنا وطننا
تركًا باتًّا؟
الدكتور
:
أترين أننا إذا ذهبنا إلى بلدة أخرى لم نجد العامة بها وقحاء كما هم هنا؟ ثقي أنه
لا فرق بينهم مما يؤثر به فريق على فريق، أو — لا بأس، دعي الكلاب تنبح — ليس هذا
أسوأ ما في الأمر. أسوأه أنه لا يوجد رجل في هذا القطر من طرفه إلى طرفه الآخر إلا
وهو عبد لحزبه، وإن أكن أعتقد أن الحال في هذا الصدد ليس خيرًا من هذا في بلاد
الغرب الحرة. فأكبر الظن أن الغالبية المتراصة هناك، والرأي العام الحر، وكل ما
يتضمن ذلك الكشكول القديم من الزور والأكاذيب، على مثل ما هي عليه هنا من الذيوع
والانتشار. ولكن الأمور هناك تجري على نطاق واسع. قد يقتلونك هناك، ولكنهم لا
يعملون على موتك بالتعذيب البطيء. هناك لا يعتصرون روح الرجل الحر في المقطرة كما
يفعلون هنا. وقد يستطيع الرجل أن يعيش في عزلة إذا هو أراد ذلك. (يتمشى ذهابًا وجيئة) لو أنني أعرف غابة عذراء أو
جزيرة صغيرة في البحر الجنوبي معروضة للبيع بثمن رخيص …
كاترين
:
ولكن فكر في الأولاد يا توماس!
الدكتور
(يقف ساكنًا)
:
إنك امرأة عجيبة يا كاترين. أتؤثرين أن يشب الأولاد في مجتمع كهذا المجتمع؟ لقد
رأيت بعينيك ليلة الأمس أن نصف سكان هذه البلدة قد فقدوا عقولهم. وإذا لم يكن النصف
الآخر قد فقدوا عقولهم، فذلك لأنهم من العجماوات، ليس لهم من العقل شيء
يفقد.
كاترين
:
ولكن يا عزيزي توماس إن الأمور الخالية من الروية التي قلتها بالأمس، كان لها كما
تدري يد فيما جرى.
الدكتور
:
جرى! كيف؟ ألم يكن ما قلته صدقًا صريحًا؟ ألم يقبلوا كل فكرة على وجهها؟ ألم
يصنعوا من الحق والباطل خبيصة معصَّدة؟ ألم يقولوا عما أعرف أنه حق، إنه أكاذيب؟
وأبلغ ما في الأمر من الحق كون أولئك الذين يسمون أنفسهم أحرارًا، أولئك الرجال
البالغين، يسيرون في البلدة جموعًا وهم يتصورون أنهم أهل العقول الراجحة السمحة،
أسمعت بمثل ذلك يا كاترين؟
كاترين
:
أجل أجل. ما أشد حمقهم في ذلك! حقًّا ولكن … (بترا تدخل آتية من
غرفة الجلوس) عدت من المدرسة في هذا الوقت المبكر؟
بترا
:
أجل، أعطوني إنذارًا بالعزل.
كاترين
:
بالعزل؟!
الدكتور
:
أنت أيضًا؟
بترا
:
أعطتني السيدة باسك الإنذار. ولذلك رأيت أن أترك المكان على الفور.
الدكتور
:
لقد أحسنت أنت أيضًا.
كاترين
:
من كان يظن أن السيدة باسك أمرأة من هذا الطراز!
بترا
:
لا يا أمي ليست السيدة باسك من ذلك الطراز بتاتًا، فلقد رأيت بعيني كيف أنها كانت
متألمة لما جرى. ولكنها كما قالت لم تجرؤ أن تفعل غير ذلك. ولذلك طردتني.
الدكتور
(ضاحكًا وماسحًا يديه إحداهما بالأخرى)
:
لم تجرؤ أن تفعل غير ذلك! هي أيضًا، أوه، هذا شيء لذيذ!
كاترين
:
نعم، بعد تلك المشاهد المخيفة التي وقعت ليلة أمس.
بترا
:
لم يقتصر الأمر على ذلك إليك يا والدي، استمع.
الدكتور
:
ماذا؟
بترا
:
أطلعتني السيدة باسك على ما لا يقل عن ثلاث رسائل وصلت إليها هذا الصباح.
الدكتور
:
غفل لا توقيع عليها فيما أظن.
بترا
:
نعم.
الدكتور
:
نعم، لأنهم لم يجرءوا أن يخاطروا بإمضاءاتهم يا كاترين.
بترا
:
ومنها خطابان فحواهما أن رجلًا كان ضيفًا علينا، سمعوه ليلة الأمس يعلن في الناس
أن آرائي في كثير من المسائل طليقة من كل قيد.
الدكتور
:
وأنت لم تنكري ذلك طبعًا؟
بترا
:
أنت تدري أن هذا محال، آراء السيدة باسك طليقة هي أيضًا إلى حد ما، عندما نكون
على انفراد، أما الآن وقد ذاع هذا الرأي عني فإنها لم تجرؤ أن تستبقيني بعد
ذلك.
كاترين
:
وهذا من واحد كان ضيفًا من ضيوفنا أمس، هذا يريك ما تناله من الجزاء على كرمك يا
توماس.
الدكتور
:
لن نعيش بعد اليوم في هذا الجحر القذر. اجمعي أشياء المنزل بأسرع ما تستطيعين يا
كاترين، كلما عجلنا بالرحيل كان أحسن لنا.
كاترين
:
اسمع، يخيل إلى أني أسمع أحدًا في البهو، انظري من هو يا بترا.
بترا
(فاتحة الباب)
:
أوه، هذا أنت يا قبطان هورستر تفضل بالدخول.
هورستر
(داخلًا)
:
سعد صباحكم، رأيت أن آتي وأرى كيف حالكم في هذا الصباح؟
الدكتور
(هازًّا يده)
:
شكرًا، هذا كرم منك.
كاترين
:
وشكرًا لك أيضًا على مساعدتك إيانا في اختراق الجمهور يا قبطان هورستر.
بترا
:
كيف أمكنك أن تعود إلى منزلك بعد ذلك؟
هورستر
:
لم يكن في ذلك صعوبة، إني قوي نوعًا ما كما تعلمين، وأولئك الناس ينبحون ولا
يعضون.
الدكتور
:
أجل، أليس جبن هؤلاء الخنازير مدهشًا؟ انظر سأريك شيئًا، هناك كل الأحجار التي
ألقوها في نوافذ بيتي، انظر وتمعن فيها. أراهن برقبتي على أنه لا يوجد في هذه
الكومة حجران في حجم وجيه، أما سائر الأحجار فليست إلا حصى، هنات صغيرة حقيرة ومع
ذلك فقد وقفوا في الخارج ينبحون ويتوعدون بالأذى، أما الفعل فإنك لا ترى منه شيئًا
كثيرًا في هذا البلد.
هورستر
:
من حسن حظك هذه المرة يا دكتور.
الدكتور
:
فعلًا، ولكنه يثير غضب الإنسان على كل حال لأنه إذا حدث ذات يوم ما يستدعي جهادًا
قوميًّا جديًّا، رأيت الرأي العام في جانب الفرار، وترى الغالبية المتراصة قد أدارت
ظهورها وأذنابها كقطيع من الأغنام، يا قبطان هورستر، هذا ما تأسى له النفس. يشغل
بالي كثيرًا أن … كلا، خسئت! من المضحك أن أهتم بذلك. لقد سموني عدو الشعب، إذن
فلأكن عدوًّا للشعب حقًّا.
كاترين
:
لن تكون كذلك يا توماس.
الدكتور
:
لا تقسمي على ذلك يا كاترين. قد يكون لإطلاق تسمية قبيحة على الإنسان من الأثر
فيه ما يكون لوخز الإبرة في الرئة، وهذا النعت الكريه لا يمكن أن أبرأ منه، إنه
لاصق هنا في نقرة أحشائي يفري مني كالحامض الأكال. ولن تستطيع أية مغنيسيا أن
تزيله.
بترا
:
هون عليك، أجدر بك أن تضحك منهم يا دكتور.
هورستر
:
سيغيرون رأيهم يومًا ما يا دكتور.
كاترين
:
نعم يا توماس، هذا أمر مؤكد، كتأكدي من أنك واقف هنا.
الدكتور
:
ربما حصل ذلك بعد فوات الأوان. وقد يكون في ذلك فائدة لهم. سيخوضون في أقذارهم
يومئذ ويذمون اليوم الذي دفعوا فيه بوطنيٍّ مثلي إلى المنفى، متى تسافر يا قبطان
هورستر؟
هورستر
(يهمهم)
:
هممم، هذا في الواقع ما جئت أتكلم معك في شأنه.
الدكتور
:
لم؟ هل حدث للسفينة …؟
هورستر
:
كلا، وإنما الذي حدث أني لن أسافر فيها.
بترا
:
أتعني أنك عزلت من قيادتها؟
هورستر
(باسمًا)
:
نعم، هذا ما قد حدث فعلًا.
كاترين
:
إليك يا توماس، أترى؟!
الدكتور
:
وهذا من أجل الحق، آه، لو أنني عرفت إمكان حصول ذلك.
هورستر
:
لا تأس لهذا، إني واثق أني سأجد عملًا عند أحد أصحاب السفن في جهة أخرى.
الدكتور
:
وهذا هو ويك، الرجل الغني المستقل عن كل إنسان وكل شيء! قبح الرجل!
هورستر
:
إنه في الواقع رجل خير، وقد قال لي هو نفسه إنه كان يسره أن يستبقيني لو أنه يقوى
أن …
الدكتور
:
ولكنه لا يجرؤ، لا، لا، بالطبع!
هورستر
:
قال: ليس هينًا على رجل حزبي أن …
الدكتور
:
لقد نطق الرجل بالصواب، الحزب أشبه بمفرمة اللحم تهرس كل أنواع الرءوس معًا؛
السمين منها والهزيل، وتجعلها كلها خبيصة واحدة.
كاترين
:
وي! وي! يا عزيزي توماس.
بترا
(إلى هورستر)
:
لو أنك لم تصحبنا إلى المنزل لما انتهى الأمر إلى ذلك.
هورستر
:
لست آسفًا على ذلك.
بترا
(تقدم يدها إليه تحية)
:
شكرًا لك على هذا!
هورستر
(للدكتور)
:
ولذا فإن الذي أتيت إليكم من أجله هو هذا: إذا كنتم قد عزمتم على الرحيل فقد فكرت
في خطة أخرى.
الدكتور
:
حسن جدًّا، لو أننا نستطيع أن نرحل على الفور.
كاترين
:
س، س. أليس الباب يقرع؟
بترا
:
إنه عمي ولا شك.
الدكتور
:
آها، (بصوت عال) ادخل!
كاترين
:
يا عزيزي توماس عدني وعدًا قاطعًا.
(يدخل بيتر من البهو.)
بيتر
:
أوه، أنت مشغول، لذلك فإني …
الدكتور
:
لا، لا، ادخل.
بيتر
:
ولكني أردت أن أتكلم معك على انفراد.
كاترين
:
سنذهب نحن أثناء ذلك إلى غرفة الجلوس.
هورستر
:
وسأعود إليكم بعد فترة.
الدكتور
:
لا، لا، ادخل هناك معهما يا قبطان هورستر، أريد أن أقف أكثر على …
هورستر
:
لا بأس، سأنتظر إذن (يلحق بكاترين وبترا خارجًا إلى
غرفة الجلوس).
الدكتور
:
لا بد أنك تشعر بتيارات هوائية في هذا المكان الليلة، البس القبعة.
بيتر
:
شكرًا لك، إذا استطعت. (يلبس القبعة) أظن أني
أصبت بردًا ليلة الأمس. لقد شعرت بقشعريرة وأنا واقف هناك.
الدكتور
:
حقًّا؟ لقد كانت فيما وجدت دفيئة جدًّا.
بيتر
:
إني لآسف أني لم أستطع أن أمنع مظاهر التطرف التي بدت ليلة أمس.
الدكتور
:
هل عندك شيء آخر ذو أهمية خاصة تتحدث عنه خلاف ذلك.
بيتر
(يخرج خطابًا كبيرًا من جيبه)
:
عندي لك هذه الوثيقة من لجنة الحمامات.
الدكتور
:
وثيقة عزلي؟
بيتر
:
أجل، ابتداء من اليوم (يضع الخطاب على المنضد)
يؤلمنا أن نفعل ذلك. ولكن إذا نحن تكلمنا بصراحة، لم نجرؤ أن نفعل غير ذلك حذر
الرأي العام.
الدكتور
(باسمًا)
:
لم تجرءوا، يظهر أني سمعت هذه الكلمة اليوم مرارًا.
بيتر
:
لا بد لي أن أرجو منك أن تتبين حالتك بوضوح. لا يصح لك أن تعتمد في المستقبل على
شغلك الحر في البلدة.
الدكتور
:
ليذهب الشيطان بالشغل الحر، ولكن كيف تأكدت من ذلك؟
بيتر
:
إن جماعة أرباب المساكن كتبوا نشرة بأسماء جميع السكان لتمريرها من بيت لبيت. وقد
أهابوا في النشرة بكل صحيح الوجدان من المواطنين أن لا يستشيرك أو يلجأ إليك، وأؤكد
لك ليس بين أصحاب العيلات فرد واحد يرفض التوقيع على النشرة بالإذعان؛ إنهم لا
يجرءون.
الدكتور
:
فعلًا، فعلًا. لا شك في ذلك، ثم ماذا؟
بيتر
:
إذا كان لي أن أنصحك فإني أرى أن تهجر البلدة مدة قليلة.
الدكتور
:
نعم، لقد بدا صواب ترك البلدة فعلًا.
بيتر
:
حسن. وإذا مضى عليك ستة أشهر تكون فيها قد فكرت في الأمور مرة أخرى وتدبرتها
بالعقل الناضج، فأقنع نفسك بكتابة بضع كلمات أسف، تقر فيها بخطئك.
الدكتور
:
وبهذا أسترد وظيفتي، تعني ذلك؟
بيتر
:
ربما، ليس هذا مستحيلًا قطعًا.
الدكتور
:
ولكن ما قولك في الرأي العام يومئذ؟ حقًّا إنكم لا تجرءون يومئذ أن تعيدوني إلى
وظيفتي رعيًا للشعور العام.
بيتر
:
الرأي العام شيء قلب حول بدرجة عظيمة. وأصارحك القول إنه يهمنا جدًّا أن يكون
لدينا مثل هذا التصريح منك كتابة.
الدكتور
:
إذن فهذا ما أنت وراءه؛ اسمح لي أن أتعبك قليلًا في تذكر ما سبق لي أن قلته لك
منذ عهد قريب عن الحيل الثعلبية التي من هذا القبيل.
بيتر
:
كان مركزك يختلف يومئذ عما أنت فيه اليوم تمام الاختلاف. ولقد كنت يومئذ على حق
في تصور أن البلدة كلها وراء ظهرك.
الدكتور
:
والآن أجد جميع البلدة فوق ظهري (منتفضًا
إباء) لا أفعل ذلك ولو كان الشيطان وامرأته فوق ظهري، محال، محال.
أؤكد لك.
بيتر
:
ليس لرجل مثلك ذي عيلة أن يسلك هذا المسلك، ليس لك حق أن تفعل ذلك يا
توماس.
الدكتور
:
ليس لي حق! ليس في الدنيا من شيء لا حق للإنسان الحر أن يفعله إلا أمر واحد،
أتعرف ما هو؟
بيتر
:
كلا …
الدكتور
:
بالطبع أنت لا تعرفه ولكني سأذكره لك. ليس للرجل الشريف أن يلوث نفسه بالقذر؛ ليس
له الحق في أن يسير في هذه الحياة سيرًا يلزمه أن يبصق في وجه نفسه.
بيتر
:
يطن هذا النوع من الكلام طنين الاستحسان العظيم، نعم، وإذا لم يكن هناك إلا هذا
تعليلًا لعنادك … ولكن الواقع أنه يوجد.
الدكتور
:
ماذا تعني؟
بيتر
:
أنت مدرك معناي تمام الإدراك، ولكني كأخ لك، وكرجل حصيف أنصحك أن لا تعول كثيرًا
على الآمال، أو تركن إلى المطامح فإنها قد تكذبك وتخيب قصدك.
الدكتور
:
ليت شعري فيم كل هذا؟
بيتر
:
أتريدني حقًّا على أن أظن أنك تجهل وصية السيد مورتن كيل.
الدكتور
:
إني أعرف أن القدر القليل الذي يملكه مقدر أن يعطى إلى ملجأ العجزة والمعوزين من
العمال. وماذا في هذا مما يهمني؟!
بيتر
:
أولًا، ليس المال الذي نحن في صدده قليلًا، السيد مورتن كيل رجل يعد
غنيًّا.
الدكتور
:
ليس عندي خبر عن ذلك.
بيتر
(يهمهم)
:
هممم، ألم يكن عندك حقًّا، إذن فلعلك لا تدري أيضًا أن قسطًا عظيمًا من ثروته
مكتوب لأولادك، وأن لك ولامرأتك ربح رأس المال طول حياتكما. ألم يسبق له أن ذكر لك
هذا؟
الدكتور
:
لا وشرفي، الأمر على العكس، إنه لم ينقطع عن أن يصعد دخان التأفف من أنه مثقل
بالضرائب، ولكن أأنت واثق من ذلك يا بيتر تمام الثقة؟
بيتر
:
أعرف الأمر من مصدر لا شك عندي في صدقه.
الدكتور
:
إذن فالشكر لله. لقد ضمنت معيشة كاترين والأولاد كذلك. لا بد لي أن أطلعها على
ذلك من فوري (ينادي) كاترين، كاترين …
بيتر
(يمانعه)
:
هش، لا تقل لها الآن شيئًا.
كاترين
(فاتحة الباب)
:
ما الخبر؟
الدكتور
:
لا شيء. لا شيء، لا بأس، عودي (تقفل كاترين الباب ويمشي
الدكتور في الغرفة في اضطراب) ضمان العيش، قدر هذا الحال، عيشنا
جميعًا مضمون، وذلك طول الحياة، ما أشد سعادة الإنسان بمعرفة أن عيشه مضمون
له!
بيتر
:
أجل، ولكن هذا بالتحقيق ما لست فيه، في إمكان السيد مورتن كيل أن يغير وصيته أي
يوم يريد!
الدكتور
:
ولكنه لن يفعل ذلك، يا عزيزي بيتر، إن أليغر مرتاح تمام الارتياح، لحملتي عليك
وعلى إخوانك الراشدين.
بيتر
(يؤخذ وينظر إليه متمعنًا)
:
آه، هذا يلقي نورًا ويكشف لي كثيرًا من الأمور.
الدكتور
:
أية أمور؟
بيتر
:
أرى الآن أن المسألة برمتها مؤامرة بينك وبينه. هذه الحملات العنيفة الحمقاء التي
طالعت بها قادة البلد تحت ستار الحق …
الدكتور
:
ما لها؟
بيتر
:
أرى أنها لم تكن إلا العوض المشروط في مقابل ما تضمنته وصية ذلك الرجل
الضغين.
الدكتور
(وهو يكاد يكون مقطوع الأنفاس)
:
بيتر، أنت أقبح عامي لقيته في حياتي برمتها.
بيتر
:
لقد انتهى كل شيء بيننا الآن، إن عزلك لا مرد له … في يدنا اليوم سلاح ضدك.
(يخرج).
الدكتور
:
قبحًا لك! قبحًا لك! (ينادي) كاترين، امسحي
البلاط وراءه، دعي — ما اسمها — خسئت، البنت التي على أنفها هباب دائمًا.
كاترين
(في غرفة الاستقبال)
:
هس توماس، أمسك.
بترا
(آتية إلى الباب)
:
أبي، جدي هنا، يتساءل هل يستطيع أن يلقاك على انفراد؟
الدكتور
:
نعم (ذاهبًا إلى الباب) ادخل يا سيد كيل
(يدخل مورتن كيل، ويقفل الدكتور باب الغرفة
وراءه) ماذا أستطيع فعله لك؟ ألا تجلس؟
كيل
:
لا أريد الجلوس (يلتفت حوله) أراك على راحة
تامة اليوم هنا، يا توماس.
الدكتور
:
نعم، أليس كذلك؟
كيل
:
تمام الراحة، قدر وافر من الهواء النقي، فيما أعتقد. عندكم اليوم كثير من ذلك
الأوكسيجين الذي كنت تتكلم عنه ليلة أمس. لا بد أن يكون ضميرك اليوم رائقًا جدًّا
ولا مراء.
الدكتور
:
بلا شك.
كيل
:
هذا ما أعتقد (يقرع صدره) أتعرف ما الذي
هنا؟
الدكتور
:
ضمير رائق أيضًا فيما أؤمل.
كيل
:
ها، لا، شيء أفضل من هذا (يخرج من جيب صدره دفترا
سميكًا ويفتحه ويظهر منه ربطة من الورق).
الدكتور
(ناظرًا إليه بدهشة)
:
سهوم في الحمامات؟
كيل
:
لم يكن من الصعب الحصول عليها اليوم.
الدكتور
:
وقد كنت تشتري …؟
كيل
:
أكثر ما كنت أستطيع دفع ثمنه …
الدكتور
:
ولكن يا عزيزي كيل، فكِّر في حالة الحمامات.
كيل
:
إذا أنت سلكت في الأمر مسلك رجل رشيد فإن في استطاعتك ردها سيرتها الأولى.
الدكتور
:
لقد رأيت بعينك أنني بذلت كل جهدي ولكن إنهم جميعًا مجانين في هذه البلدة.
كيل
:
قلت أمس إن أكبر الشر في ذلك التلويث متأت من مدبغتي، فإذا كان الأمر كذلك، فلا
بد أن جدي وأبي وأنا منذ عهد بعيد كنا نسم البلدة، كأننا ثلاثة ملائكة موكلين
بالهلاك. أتظن أني سأصبر على هذه التهمة؟
الدكتور
:
أشفق لسوء الحظ أن هذا ما لا بد لك منه.
كيل
:
لا يا سيدي. شكرًا لك، إني أغار على اسمي وسمعتي. يقولون إنهم يسمونني «أليغر»
وهي نوع من الخنزير، ولكني لا أريد أن أعطيهم الحق في تسميتي بذلك، إني أريد أن
أعيش رجلًا نظيف اليد، وأن أموت كذلك.
الدكتور
:
وكيف تستطيع ذلك؟
كيل
:
عليك أن تنظفني يا توماس.
الدكتور
:
أنا!
كيل
:
أتعرف بأي قدر من المال اشتريت هذه السهوم، كلا. إنك لا تستطيع بالطبع أن تعرف،
ولكني سأخبرك. إنه المال الذي تصيبه كاترين وبترا والولدان حين أقضي نحبي؛ لأني
استطعت كما تعرف أن أدخر بعض الشيء.
الدكتور
(ذهابًا)
:
وأنت ذهبت فأخذت مال كاترين من أجل هذا.
كيل
:
أجل. جميع المال موظف في الحمامات. والآن أريد أن أعرف هل أنت أحمق حمقًا صريحًا
يا توماس؟ فإذا أصررت على رأيك أن تلك الحيوانات وغيرها من الهنات القذرة التي من
هذا القبيل، ناشئة من مدبغتي، فكأنما أنت تسلخ من جلد كاترين وبترا والولدين سلخة
كبيرة، ولا يفعل أحد هذا الفعل إلا إذا كان مجنونًا.
الدكتور
(متمشيًا)
:
حقًّا، ولكني مجنون، أنا مجنون!
كيل
:
لا يمكن أن تكون عند هذه الدرجة البالغة من الجنون، وأنت في صدد أولادك
وامرأتك.
الدكتور
(يقف ساكنًا أمامه)
:
ولماذا لم تستشرني في الأمر قبل أن تذهب وتشتري كل هذه الأوراق الوسخة.
كيل
:
ما أبرم لا ينقض.
الدكتور
(يتمشى وهو ثائر النفس)
:
لو أنني لم أكن متأكدًا من الأمر! ولكني مقتنع تمام الاقتناع أني على
صواب.
كيل
(وازنًا الدفتر في يده)
:
إذا تمسكت برأيك الأحمق، فلن يكون لكل هذا الورق أدنى قيمة، كما تدري (يضع الدفتر في جيبه).
الدكتور
:
ولكن … خسئت، قد يكون في طاقة العلم استنباط دواء واق، أو ترياق من نوع ما
…
كيل
:
لقتل تلك الحيوانات تعني؟
الدكتور
:
أجل ليجعلها غير مضرة.
كيل
:
ألا يمكن أن تجرب سم الفأر؟
الدكتور
:
لا تتكلم كلامًا فارغًا. كلهم يقولون إن المسألة كلها أوهام إذن فلتكن كذلك،
وليتصرفوا فيها على هواهم. ألم يسمني أولئك الكلاب الجهلة الضيقة العقل، عدو الشعب؟
ثم ألم يكونوا على وشك أن يمزقوا ثيابي عن ظهري أيضًا؟
كيل
:
ويكسروا نوافذ بيتك كلها.
الدكتور
:
وبجوار ذلك يقف واجبي حيال عيلتي. لا بد أن أتكلم في الأمر مع كاترين. إنها سديدة
الرأي في هذه المسائل.
كيل
:
هذا في محله. اهتد دائمًا بنصيحة المرأة الرشيدة.
الدكتور
(متقدمًا نحوه)
:
كلما فكرت في أنك تقدم على هذا العمل الأحمق إذ تخاطر بأموال كاترين بهذه
الطريقة، وتضعني في هذه الحيرة المؤلمة الشنيعة! عندما أنظر إلى المسألة يخيل إلي
أني أرى الشيطان بعينه.
كيل
:
إذن فخير لي أن أنصرف. ولكن لا بد أن يصلني منك رد قبل الساعة الثانية، إما نعم
أو لا، فإن كان لا ذهبت السهوم إلى جهات الإحسان ويكون ذهابها في هذا اليوم
نفسه.
الدكتور
:
وماذا تأخذ كاترين؟
كيل
:
ولا فلسًا واحدًا (ينفتح الباب المؤدي إلى البهو ويبدو
هوفستاد وأسلاكسن) انظر إلى هذين الاثنين.
الدكتور
(محملقًا فيهما)
:
يا للشيطان! ألكما وجه تجيئان به إلى بيتي؟!
هوفستاد
:
نعم.
أسلاكسن
:
لدينا شيء نقوله لك.
كيل
(همسًا)
:
نعم أو لا قبل الساعة الثانية.
أسلاكسن
(ناظرًا إلى هوفستاد)
:
آها! (مورتن كيل يخرج).
الدكتور
:
نعم! ماذا تريدان مني، أوجزا.
هوفستاد
:
إني أرى وجه غضبك علينا لموقفنا في الاجتماع ليلة أمس.
الدكتور
:
موقفكما! تسميانه موقفًا. نعم لقد كان موقفًا ساخرًا، إني أسميه موقفًا خاسرًا
نسويًّا، مزريًا إلى حد يستوجب اللعنة.
هوفستاد
:
سمه ما شئت. لم نكن نستطيع أن نفعل غير ذلك.
الدكتور
:
لم تجرؤا أن تفعلا غير ذلك، أليس هذا هو الواقع؟
هوفستاد
:
إذا أردت أن تعبر عنه بهذا التعبير …
أسلاكسن
:
ولكن لماذا لم تعطنا خبرًا عن هذا من قبل؟ إشارة تلميح بسيطة إلى السيد هوفستاد
أو إليَّ.
الدكتور
:
إشارة تلميح إلى ماذا؟
أسلاكسن
:
إلى ما هو وراء كل هذه المسألة.
الدكتور
:
لست أفهم ما تعني بتاتًا.
أسلاكسن
(يحني رأسه إحناء الواثق)
:
بل إنك تفهمه يا دكتور ستوكمان.
هوفستاد
:
لم تعد هناك فائدة من كتمان الأمر.
الدكتور
(ناظرًا مرة إلى أحدهما وأخرى إلى الآخر)
:
يا للشيطان ماذا تعنيان كلاكما؟
أسلاكسن
:
أتسمح لي أن أسألك أليس حموك مطوفًا في البلد يشتري كل سهوم الحمامات؟
الدكتور
:
بلى، لقد كان يشتري اليوم سهومًا من سهوم الحمامات ولكن …
أسلاكسن
:
كان أحكم لو أنه كلف غيره شراءها، شخصًا قرابته منك أبعد من قرابته.
هوفستاد
:
وكان يجب أن لا يظهر اسمك في المسألة. ما كانت هناك ضرورة لأن يعرف الناس أنك أنت
صاحب الحملة الموجهة إلى الحمامات. كان يحسن بك أن تستشيرني يا دكتور.
الدكتور
(ناظرًا أمامه، ثم كأنما أشرق عليه نور فيقول في ذهول)
:
أمثل هذه الأمور مما يمكن إدراكه؟ أمثل هذه الأمور ممكنة الحدوث؟
أسلاكسن
(بابتسامة)
:
يظهر أنها كذلك، ولكن يحسن أن يستعمل الإنسان فيها شيئًا من اللباقة.
هوفستاد
:
ويحسن جدًّا أن يكون في مثل هذه الأمور أشخاص متعدِّدون؛ لأن التبعة التي تقع على
عاتق كل واحد منهم تخِفُّ عندما يكون معه غيره!
الدكتور
(وقد استجمع نفسه)
:
الخلاصة يا سادة، ماذا تريدون؟
أسلاكسن
:
لعله يحسن أن السيد هوفستاد …
هوفستاد
:
كلا، خَبِّرْهُ أنت يا أسلاكسن.
أسلاكسن
:
نعم، الواقع أننا نرى — وقد عرفنا القصد الذي وراء المسألة برمتها — أن نجرؤ فنضع
جريدة «رسول الشعب» في خدمتك.
الدكتور
:
أتجرءون أن تفعلوا ذلك الآن؟ وماذا تصنعون بالرأي العام؟ ألا تخشون أن تسقط
الصواعق على رءوسنا؟
هوفستاد
:
سنحاول أن نردها عنا.
أسلاكسن
:
ويجب أن تكون مستعدًّا لأن تولِّي وجهك شطر ناحية أخرى يا دكتور، فمتى تبينت أن
طعنتك أصابت الكبد …
الدكتور
:
تعني أنه عندما أكون أنا وحماي قد وضعنا يدنا على سهوم الحمامات بأبخس ثمن
…
هوفستاد
:
أفهم أن ما دعاك إلى المطالبة بجعل رقابة الحمامات في يدك، أسباب في جوهرها علمية
بحتة.
الدكتور
:
بالطبع؛ لم يكن إلا لأسباب علمية إقناعي الخنزير العجوز أن يقف إلى جانبي في هذه
المسألة، على أن نعود فنجري شيئًا من أعمال السمكرة في أنابيب المياه، ونقوم بشيء
من أعمال الحفر في الشاطئ، وينتهي الأمر دون أن نتكلف عند ذلك قرشًا، أترون هذا
يكفي؟
هوفستاد
:
أظن ذلك، إذا وقفت الجريدة من ورائك تشد أزرك.
أسلاكسن
:
الصحافة في البلد الحر قوة عظيمة يا دكتور.
الدكتور
:
نعم، في الواقع، وكذلك الرأي العام، وأنت يا سيد أسلاكسن فيما أرى تتحمل مواجهة
جماعة أرباب المساكن؟
أسلاكسن
:
جماعة أرباب المساكن، وجمعية الاعتدال في تعاطي المسكر، اعتمد عليَّ في
ذلك.
الدكتور
:
ولكن يا سادة، في الواقع أنا خجل أن أسأل، أي مقابل ترون أن …
هوفستاد
:
كنا نفضل أن نساعدك بلا مقابل بتاتًا. صدقني يا دكتور، ولكن جريدة «رسول الشعب»
في حالة متداعية. فهي غير سائرة كما يجب. ولا أطيق أن أقطع الجريدة عن الظهور في
هذه الأيام التي تتطلب فيها الحالة السياسية جهدًا كبيرًا.
الدكتور
:
نعم، نعم، قطعها يكون في الواقع مؤلمًا لنفس رجل مثلك، محب للشعب (يهب في وجهه) أما أنا فعدو للشعب، تذكر ذلك،
(يتمشى في الغرفة) أين وضعت عصاي؟ أين،
للشيطان، عصاي؟
هوفستاد
:
ما هذا …
أسلاكسن
:
حقًّا إنك لا تعني أن …
الدكتور
(يقف ساكنًا)
:
وإذا أنا لم أعطكم فلسًا واحدًا مما أستفيده من هذه المسألة؟ ليس من السهل الحصول
على نقود منا نحن الأغنياء، تذكروا ذلك من فضلكم!
هوفستاد
:
وأنت من فضلك تذكر أن مسألة الحمامات ممكن عرضها في صورتين مختلفتين.
الدكتور
:
نعم، وأنت عين الرجل الذي يستطيع ذلك. فإذا أنا لم أبادر بإنجاد رسول الشعب فإنك
لا شك تلمح وجه السوء من المسألة وتطاردني، هذا ما أتصوره، وتقتفي أثري، وتحاول أن
تخنقني كما يخنق الكلب أرنبًا.
هوفستاد
:
هكذا حال الدنيا وشرعتها، توجب على كل حيوان أن يجاهد في سبيل عيشه.
أسلاكسن
:
ويحصل على طعامه من حيث قدر.
الدكتور
(متمشيًا في الغرفة)
:
إذن فاذهبوا وابحثوا عن طعامكم في مجاري المراحيض، لأني سأريكم أنني الحيوان
الأقوى، (يجد مظلته فيرفعها فوق رأسه ويهزها)
آه، الآن.
هوفستاد
:
لا تعني بالطبع أن تستعمل العنف معنا.
أسلاكسن
:
احذر ما أنت صانع بهذه المظلة.
الدكتور
:
اخرج من النافذة، يا سيد هوفستاد.
هوفستاد
(عند الباب)
:
أأنت مجنون؟
الدكتور
:
من النافذة! يا سيد أسلاكسن، اقفز أقول لك. لا بد لك من ذلك عاجلًا أو
آجلًا.
أسلاكسن
(جاريًا وراء منضد الكتابة)
:
الاعتدال يا دكتور إني رجل ضعيف لا قدرة لي على تحمل … النجدة! النجدة!
(تدخل كاترين وبترا وهورستر من غرفة الجلوس.)
كاترين
:
يا إلهي! توماس ما هذا؟!
الدكتور
(هازًّا المظلة)
:
اقفز إلى الخارج، هلم اقفز، إلى المجاري.
هوفستاد
:
هذا اعتداء على رجل لم يسئ! أدعوك للشهادة يا قبطان هورستر. (يخرج مسرعًا من البهو).
أسلاكسن
(يتردد)
:
لو أنني أعرف الطريق في هذا البيت.
(يسترق نفسه ويخرج من غرفة الجلوس.)
كاترين
(مانعة زوجها)
:
اضبط نفسك يا توماس.
الدكتور
(ملقيًا المظلة)
:
أما وحقي لقد فرا في النهاية.
كاترين
:
ماذا كانا يريدان منك؟
الدكتور
:
سأخبرك فيما بعد، عندي شيء آخر أفكر الآن فيه (يذهب إلى
منضد الكتابة ويكتب شيئًا على بطاقة زيارة) انظري إلى هذا يا كاترين،
ماذا كتبت على البطاقة.
كاترين
:
كتبت «كلا» بالثلث ثلاث مرات، ما معنى هذا؟
الدكتور
:
سأخبرك عن ذلك أيضًا فيما بعد (يمد يده بالبطاقة إلى
بترا) إليك يا بترا؛ قولي لذات الوجه المهيب، تجري بهذا إلى أليغر
بأسرع ما يمكنها. أسرعي (تأخذ بترا البطاقة وتخرج إلى
البهو) نعم، أظن أني حظيت بزيارة من كل فرد من رسل الشيطان اليوم،
ولكني سأرهف قلمي حتى يشعروا بسنه، سأغمسه في السم والمرارة. وسأقرع رءوسهم
بدواتي!
كاترين
:
نعم، ولكنا راحلون يا توماس عن هذا البلد.
(تعود بترا.)
الدكتور
:
ها …
بترا
:
لقد انطلقت بها.
الدكتور
:
حسن، راحلون؟ هل قلت ذلك؟ كلا، الموت ولا أن نرحل! سنبقى حيث نحن يا
كاترين.
بترا
:
نبقى هنا؟
كاترين
:
هنا في هذه البلدة؟
الدكتور
:
نعم هنا؟ هنا ساحة القتال، هذا هو المكان الذي ستجري فيه الموقعة. هذا هو المكان
الذي سأحرز فيه النصر. عندما تخيطي بنطلوني سأخرج لأبحث عن بيت آخر، لا بد لنا من
سقف فوق رءوسنا يقينا الشتاء.
هورستر
:
هذا ميسور في بيتي.
الدكتور
:
حقًّا؟
هورستر
:
نعم، على أحسن حال. المكان متسع جدًّا وأنا قلما نزلت به.
كاترين
:
ما أكرم نفسك يا قبطان هورستر!
بترا
:
شكرًا لك.
الدكتور
(قابضًا على يد هورستر)
:
شكرًا، شكرًا. هذي متعبة تجاوزناها، يمكنني الآن أن أنصرف إلى العمل على الفور.
أمامك عمل لا نهاية له هنا يا كاترين، ولكن من حسن الحظ أن الوقت كله ملكي لأني
عزلت من وظيفتي في الحمامات، كما تعلمين.
كاترين
(بتنهد)
:
نعم، هذا ما توقعته.
الدكتور
:
وهم يريدون أن يحولوا مرضاي عني، ليفعلوا! يبقى لي جماعة الفقراء على كل حال،
أولئك الذين لا يدفعون شيئًا، وهم مع ذلك في أشد الاحتياج إليَّ، ولكنهم سينصتون
إليَّ وربي، سأخطبهم في وقته وغير وقته كما ورد في بعض الأسفار.
كاترين
:
ولكن يا عزيزي توماس، لقد كان يخيل إلي أن الحوادث عرفتك قدر ما تفيء عليك
الخطابة.
الدكتور
:
أنت عجيبة في الحقيقة يا كاترين! أتريدين مني أن أترك نفسي مهزومًا مدحورًا من
الميدان بسوط الرأي العام، والغالبية المتراصة وكل تلك الأكاذيب الشيطانية؟ لا، لا.
شكرًا لك، إن ما أريد أن أفعله أمر بسيط وبين، لا عوج فيه. لا أريد إلا أن أفرغ في
رءوس أولئك الكلاب وأثبت أن الذين يسمون أنفسهم أحرارًا ليسوا إلا أنكى أعداء
الحرية، إن المبادئ الحزبية ليست إلا وسائل خنق لكل حق فطير قوي، وإن ما يسمونه
مستلزمات الضرورة تقلب الفضيلة والعدالة على وجهها، وإنهم في نهاية الأمر سيجعلون
الحياة هنا لا تطاق، ألا ترى يا قبطان هورستر أن في إمكاني جعل الناس يفهمون
هذا؟
هورستر
:
محتمل. ولكني لا أعرف شيئًا كثيرًا عن هذه المسائل.
الدكتور
:
لا بأس، تنبه، سأشرح لك، رؤساء الأحزاب هم الواجب أن يبادوا، ليس رئيس الحزب إلا
كالذئب، اسمع كالذئب الضاري، يحتاج إلى عدد ما من الفرائس الصغيرة ليلتهمها كل عام،
لكي يستطيع أن يعيش. انظر إلى هوفستاد وأسلاكسن، كم من الفرائس الصغيرة أبادا، أو
على الأقل شوها وبترا حتى لم يعودوا يصلحون لشيء إلا ليكونوا من أرباب البيوت
الصغيرة أو المشتركين في جريدة «رسول الشعب». (يجلس على
حافة المكتب) قربي مني يا كاترين، انظري كيف تشرق الشمس في هذا اليوم
باهية وإلى هذا النسيم الجميل، نسيم الربيع الذي أحتسيه.
كاترين
:
نعم، لو أننا نستطيع أن نعيش على ضوء الشمس ونسيم الربيع يا توماس.
الدكتور
:
آه. سيكون عليك أن تدبري وتقتصدي قليلًا، عندئذ نستطيع أن نسير بسلام، هذا لا
يهمني إلا قليلًا جدًّا. إن الذي يحزنني أكثر من سواه هو أنني لا أعرف أحدًا من
سماحة العقل وسمو الحجى بحيث يستطيع أن يتناول العمل من بعدي.
بترا
:
لا تفكر في ذلك يا أبي. إن أمامك متسعًا من الوقت. مرحبًا، لقد حضر الصبيان
مبكرين (يدخل إيليف ومورتن من غرفة
الجلوس).
كاترين
:
أعندكما اليوم عطلة؟
مورتن
:
كلا، كنا نتشاجر مع الأولاد بين أوقات الدروس.
إيليف
:
ليس هذا حقيقيًّا، الأولاد هم الذين كانوا يتشاجرون معنا.
مورتن
:
فقال السيد رولاند عندئذ إنه يحسن بنا أن نبقى في المنزل يومًا أو يومين.
الدكتور
(قاصفًا أصابعه بعضها على بعض وناهضًا)
:
ألهمتها، ألهمتها وربي؛ لن تضعا قدميكما في المدرسة بعد اليوم.
الولدان
:
لن نذهب إلى المدرسة!
كاترين
:
ولكن يا توماس …
الدكتور
:
أبدًا، أبدًا، سأعلمكما أنا نفسي أي أنكما لن تتعلما شيئًا مقدسًا.
مورتن
:
مرحى!
الدكتور
:
ولكني سأصوغ منكما رجلين على سماحة في العقل وسمو في الحجى، عليك أن تساعديني في
ذلك يا بترا.
بترا
:
أجل يا أبي، ثق أنني معك.
الدكتور
:
وستكون مدرستي في البهو الذي أهانوني فيه وسموني عدوًّا للشعب، ولكننا قليلون
جدًّا. يجب أن يكون عندي في البداية اثنا عشر صبيًّا.
كاترين
:
محال ولا شك أن تجدهم في هذه البلدة.
الدكتور
:
سنجدهم (إلى الولدين) ألا تعرفان جماعة من
عفاريت الشوارع، من كل سافل رث الثوب؟
مورتن
:
بلى يا أبي، أعرف منهم عديدًا.
الدكتور
:
شيء عظيم، أحضر لي بعضًا منهم، سأقوم بعمل تجارب على الكلاب، ولو مرة. فقد توجد
فيهم رءوس ممتازة.
مورتن
:
وماذا يكون عملنا يوم تكون قد خلفت منا رجالًا ذوي سماحة في العقول وسمو في
الحجى؟
الدكتور
:
يومئذ ستزجران جميع الذئاب عن هذه البلاد يا ولدي، (ينظر إيليف بشيء من الشك في ذلك ومورتن يقفز ويصيح) مرحى!
كاترين
:
عسى أن لا يكون الذئاب هم الذين يزجرونك عن هذه البلاد يا توماس!
الدكتور
:
أزايلك الصواب يا كاترين؟ يزجرونني الآن وأنا أقوى رجل في البلد؟
كاترين
:
أقوى رجل، الآن؟
الدكتور
:
نعم وسأذهب إلى مدى القول بأني أقوى رجل في الدنيا برمتها.
مورتن
:
أنا أقولها!
الدكتور
(خافضًا صوته)
:
هس، لا يجوز أن تقول عن ذلك شيئًا بعد، ولكني وفقت إلى استكشاف عظيم.
كاترين
:
استكشاف آخر؟
الدكتور
:
أجل (يجمعهم كلهم حوله ويقول لهم في السر قولة
واثق) هو هذا فثقوا، إن أقوى رجل في العالم هو الذي يقف في الدنيا وحيدًا.١
كاترين
(باسمة وهازة رأسها إعجابًا)
:
توماس، توماس!
بترا
(بروح التشجيع حين تقبض على أيدي أبيها)
:
والدي!
١
قال الطغرائي:
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل