من وحي اجتماع القمة مع النخبة
التصفيق يدوي في أذنيك، بقايا حلم لا ينقطع بمجيء الصباح، تأتيك الدعوة المذهبة الحواف إلى الاجتماع، منقوش عليها الرمز الأبدي منذ الفراعنة، الموعد في تمام الساعة العاشرة في قاعة الاجتماعات الكبرى قبل الموعد بساعة ونصف بالملابس الرسمية وربطة العنق.
تلفين حول عنقك ربطة على شكل الإيشارب، حول رأسك تلفين الطرحة على شكل التيربون، يختفي شعرك عن عيون الرجال جميعًا، إلا عينيه، يغمضها ويتثاءب ثلاث مرات، يبتلع الحبة الزرقاء بقليل من الماء، ويعود إلى النوم، يواصل الحلم مع سكرتيرته الحسناء تدق على الكومبيوتر، تشبه المتدربة الشقراء في البيت الأبيض.
تبتلعين اللعاب المر في حلقك، تبلغين الخامسة والأربعين من عمرك بعد يومين، يرن الرقم في أذنيك مرعبًا، يسمونه سن اليأس، يكبرك بثلاثين عامًا ويبتلع الفياجرا دون يأس، تزوجك وأنت في الثامنة عشرة، تحلمين بالغلام من عمرك، المولود معك في يوم واحد عام الهزيمة.
تفرضين العزلة على نفسك وراء الحجاب، والرجال في كل مكان، في الشوارع والباصات ونوافذ الجيران، وفي أحلامك يتنافسون عليك، يجذبهم إليك التأجج في عينيك المكحلتين، والنداء المكبوت بين شفتيك الحمراوين، تضغطين عليهما بإصبع الروچ قبل أن تخرجي من البيت، تمرين بالفرشاة فوق خديك، وظلال خفيفة فوق جفنيك، وقطرات العطر ترشينها تحت إبطيك.
تسيرين بخطوة بطيئة مثل الوزيرات، يرتج جسمك المربع فوق كعبك العالي، تشدين عضلات ظهرك وعنقك، فوق رأسك يدور التيربون بإحكام، لا تفلت شعرة واحدة للعيان، كل شيء مباح لك إلا ظهور هذه الشعرة أمام عيون الرجال.
تتأهبين لحضور الاجتماع الهام، ترتدين التايير الجديد من الصوف الإنجليزي، لونه أزرق سماوي، منقوش عليه ورود حمراء، انجذبت إليه عيناك وأنت تسيرين في شارع ريجنت، حين حضرت مؤتمر الأديان منذ عامين في أكسفورد، تحتفظين به معلقًا داخل الدولاب، ملفوفًا بالنايلون الشفاف، لا يخرج إلى النور إلا في المناسبات، ترشقين فوق صدرك البروش الذهبي بالفص الألماظ، تثبتين بالدبابيس حبات اللؤلؤ حول التيربون، وبعض جواهر قليلة حول العنق والمعصمين.
تهبطين السلالم الرخامية في الفيلا الجديدة، تسمعين صوت كعبك الرفيع يدق الأرض، تنظرين إلى ساعتك الذهبية بحركة متوترة، تخافين التأخير عن الوصول في الموعد، تتحسسين الدعوة داخل الحقيبة تحت إبطك، منقوش عليها اسمك الثلاثي ولقبك الوزاري ومنصبك العالي في المجلس المنتخب والمعين بقرار واحد.
يفتح لك السائق باب سيارتك الطويلة السوداء، نوافذها محكمة الإغلاق، لا ينفذ منها ضجيج أو تراب، زجاجها داكن اللون لا يكشف الداخل، ويبقى الخارج مكشوفًا أمام عينيك، تشعرين بلذة الرؤية دون أن يراك أحد، مثل الوزراء والسفراء والملوك والرؤساء، ممن يركبون السيارات الشبح السوداء.
من وراء الزجاج الأسود ترين الأشباح تمشي في الضباب، وجوههم شاحبة ممصوصة أو مترهلة بالشحم، عيونهم نصف مغلقة فيما يشبه الغيبوبة، والجدران العالية تتغطى بالإعلانات، أجساد نساء عارية يركبن فوق السيارات، في أيديهن المسدسات، بين شفاههن سيجارة دانهيل.
منذ الزواج أصابك الزهد في كل شيء؛ الجنس وقصص الحب وقزقزة اللب في السينما، يمتد بك الزهد إلى الصمت عن الكلام، لا يبقى أمامك من ملذات الدنيا إلا الأكل والنهم للشراء، لكن ملذات الآخرة هي الأبقى، تشرئب عيناك في الحلم إلى القصر في الجنة، وأباريق الفضة يطوف بها الغلمان، تنجذب عيناك إلى الغلام من عمرك، يحوِّم طيفه حول سريرك طول الليل، تحاولين طرده بقراءة آية الكرسي، تطرد الجان والشياطين إلا هذا الغلام من عمرك.
تتوقف سيارتك عند حجاز الأمن، يحوطه الحراس وعيون السلطة والبصَّاصون من وراء النظارات السوداء، تقفين في الطابور الطويل ضمن ثلاثمائة آخرين، تندهشين لهذا العدد الكبير من المدعويين، تصورت أن النخبة هي القلة، فإذا بهم كثيرون، يحمل كل منهم لقب المفكر الكبير، يصلون قبل الموعد بساعتين، يرتدون البدل المكوية من الصوف المستورد، تتهدل عضلات سيقانهم تحت البنطال المشدود، حول أعناقهم تدور الربطة المعقودة بإحكام، شعر رءوسهم مصبوغ بلون أسود فاقع، عيونهم المتغضنة وجفونهم المتورمة تكشف عمرهم الحقيقي، تلمع أنوفهم بنشوة الفياجرا، يسيرون بخطًى وئيدة بطيئة، وأمام الباب يتقافزون على الدخول كالتلاميذ المتنافسين.
والباب صغير ضيق يشبه أبواب السجون، لا يسمح بدخول الجسم والرأس مرفوع، لا يتسع لدخول الفرد الواحد إلا بالجنب، وأنت واقفة في مؤخرة الطابور، تصورت أنك أول الواصلين فإذا بك آخرهم، تسبقك النخبة دائمًا إلى حيث تذهبين، يلتقطون قبلك رائحة السلطة حيثما تكون، بحكم الموروث منذ عصر العبيد، وخريطة الجينوم الذكوري المدرب عبر القرون.
تجدين رأسك ينحني عند الدخول، وجسدك ينثني ويلتوي، تبتلعين المهانة مع لعابك المرِّ، لا شيء يواسيك إلا أنك لست وحدك، وإذا كان الوباء عامًّا فليس عليك حرج، أمامك في الطابور جميع الوجوه التي تظهر في الصحف، وفوق الشاشات وأغلفة المجلات والكتب.
مراسم الدخول طويلة بطيئة، بسبب الزحام وتعطل العين الإلكترونية، وحرص رجال الأمن على التفتيش الدقيق، يجردونك من ملابسك دون أن تخلعيها، وتدخلين بعد الفحص إلى القاعة الكبيرة، يعلوها الوجه بحجم الكرة الأرضية، معلق قرب السقف، مثبت بالمسامير مثل ثوابت الأمة، يختفي مثل الإله وراء عمود من الدخان، ونظارة سوداء فوق العينين.
الصفوف الأمامية كلها محجوزة، مقاعدها مذهبة الحواف من القطيفة الحمراء، فوق ظهر كل مقعد قطعة ورق، مكتوب عليها الاسم واللقب، يجلسون في الصفوف حسب الدرجة، يأتي في المقدمة الوزراء والسفراء والمستشارون، ورجال الدين والشرطة والإعلام، يأتي بعدهم المطربون والمذيعون والمذيعات، والنافخون في الآلات، وبعض العلماء والمنجمون والأطباء النفسانيون وضاربو الودع، يأتي بعدهم الأدباء والروائيون الواقعيون والحالمون، لا يمكن أن يتخلف أحد، وإن كان نزيل المستشفى لتغيير صمامات القلب، سرعان ما يفيق من المخدر ويأتي قبل الموعد بساعتين، مرتديًا البدلة الرسمية وربطة العنق، والأزرار مغلقة حول قفصه الصدري، يجلس مع القاعدين مكتوف الذراعين والساقين، قدماه داخل الحذاء اللامع مشبوكتان تحت المقعد، تتورمان من طول الجلوس، تمر الساعة وراء الساعة دون الخروج لقضاء الحاجة، فالأبواب كلها أصبحت مغلقة، ولا أحد يدخل ولا أحد يخرج.
ثم تدوي الصيحة العالية، تنتفض الأجساد واقفة والأيادي ترتفع بالتصفيق، تجدين نفسك واقفة تصفقين، يدك اليمنى تضرب يدك اليسرى في قوة دون توقف، الدقات تحت ضلوعك تفقد انتظامها، صدرك يعلو ويهبط بحركة مرئية، تنقضي الدقائق والتصفيق مستمر، وتمتد أيدي سحرية تفتح بابًا خفيًّا في الجدار، تتعلق العيون بالباب المفتوح والأنفاس مكتومة، ثم يبدأ الموكب يدخل على مهل، يأتي الحرس الخاص في المقدمة بالملابس المدنية، ويظل الباب مفتوحًا دون أن يظهر أحد، يدب الصمت العميق بضع لحظات كأنما كل شيء مات.
ثم تظهر الكتلة المتلألئة بالأضواء، تومض الفلاشات والعدسات والآلات اللاقطة، لا يمكن للعين أن ترى الوجه وإن امتد العنق إلى آخره، الأضواء الفضية تذوب داخل نسيج البدلة المكوية، الكتفان المحشوان والصدر العريض يشبه الدرع.
تجلسين في الصف الخلفي تحملقين نحوه، يكاد يشبه الوهم، رغم المسافة الطويلة تبدو الملامح قريبة، عضلاته متهدلة يكاد يشبه زوجك، الجفون متورمة مع انتفاخ الخدين والشفتين وما تحت العينين، نظراته هائمة ما بين السقف والجدران ولا تستقر على وجه، كأنما الضوء يعميها عن الرؤية.
يستمر التصفيق يدوي وأنت نائمة، لا ينقطع بمجيء الصباح، لا تعرفين الحقيقة من الحلم، وأنت جالسة تصفقين مع الجالسين، الأيادي كلها مرفوعة تصفق، لا أحد يشذ عن المجموع، تشعرين بالمهانة وأنت تصفقين، تبتلعين المهانة مع لعابك المرِّ، لا شيء يواسيك إلا أن الجميع يصفقون، وإذا كان الوباء عامًّا وشاملًا فليس عليك حرج، تدور عيناك في القاعة تبحثين عن شخص واحد لا يصفق، ترينه جالسًا في الطرف البعيد من الصف الأخير، الغلام من عمرك المولود معك عام الهزيمة، يداه إلى جواره لا ترتفعان، هو الوحيد الذي لا يصفق.