عن الذاكرة الجمعية المفقودة
(١) مطلوب تضافر الجهود والنقد أيضًا
قرأت في الأيام الأخيرة عددًا من المقالات بأقلام كبيرة في صحف الحكومة وغير الحكومة، تكشف عن الخلل الكبير في العلاقات المصرية الأمريكية، وحجم خسارة مصر الاقتصادية بسبب هذه العلاقة، أو ما سميت الصداقة أو العلاقة الخاصة بأمريكا، ثم الاعتراف في الصحف الحكومية أخيرًا أن ما سميت المعونة الأمريكية لم تكن إلا ستارًا يتسلل تحته الاستعمار الجديد، بأشكاله المختلفة «ومنها العولمة»، أخيرًا نشرت الأرقام الحقيقية للخسارة الاقتصادية التي تكبدتها مصر خلال ربع القرن الماضي منذ عام ١٩٧٥، وبداية ما سمي بالانفتاح في عهد السادات.
كان معروفًا على المستوى الشعبي المصري، وعلى مستوى المعارضة السياسية أن هذه العلاقة مع أمريكا سوف تؤدي إلى تدمير الإنتاج المحلي المصري، المادي الاقتصادي والثقافي والفني على حد سواء، وسوف تغرق السوق المصرية السلع الأمريكية الباهظة الأثمان والرديئة، بل والضارة صحيًّا، أذكر أنني نشرت في إحدى صحف المعارضة في صيف عام ١٩٨١ مقالًا أشرت فيه إلى أن التسمم الغذائي للشعب المصري الذي يحدث تحت اسم الأمن الغذائي، وأن تسليح إسرائيل يتم تحت اسم معاهدة السلام، إن حمائم السلام التي يخطب عنها السادات تتخفى تحتها الطائرات الحربية والسلاح الأمريكي الجديد الذي يشحن إلى إسرائيل بما في ذلك السلاح النووي، وأن الاستبداد والعنف السياسي والديني يتخفى تحت اسم الديمقراطية وتعدد الأحزاب.
نشر هذا المقال في جريدة الشعب التي كانت تصدر عام ١٩٨١ عن حزب العمل الاشتراكي (والتي تغيرت فيما بعد وسيطر عليها التيار الديني المحافظ) أذكر أن هذا المقال ومقالات أخرى في تلك الفترة، أدخلتني سجن السادات في سبتمبر ١٩٨١، وأذكر أن المدعي الاشتراكي حقق معي في هذا المقال باعتباره مقال يضر المصالح العليا للبلاد، وأني أتآمر لقلب نظام الحكم مع دولة أجنبية هي بلغاريا.
بعد اغتيال السادات بشهرين سقطت هذه التهمة عني، وخرجت من السجن مع أكثر من ألف معارض مصري سجنوا جميعًا لمجرد كشفهم للخسارة الاقتصادية أو الثقافية أو العسكرية التي سوف تتكبدها مصر من جراء تلك العلاقات المصرية الأمريكية.
وقالوا لنا لا داعي لنقد ما مضى في عهد السادات، والمطلوب تضافر الجهود من أجل مصر، وقلت وقال غيري إن نقد الماضي ضروري حتى لا تتكرر الأخطاء، وحتى يتصحح المسار، تلافيًا للخسارة في المستقبل، وإن هذا النقد للماضي جزء لا يتجزأ من العمل على تضافر الجهود، والوحدة الوطنية مع الجدل والحوار واحترام للآراء المخالفة للسلطة الحاكمة.
لكن هذا لم يحدث، استمرت الأحوال كما كانت، والتف حول السلطة الحاكمة هؤلاء الذين أيدوا السادات في كل خطواته دون نقد، إنه الداء الذي ينخر في النخبة المثقفة في بلادنا، داء تأييد الحاكم في حياته والخوف من نقده، وإلا ضاعت الميزات والمناصب العالية وجوائز الدولة.
التقيت بالأمس بأحد القيادات الفكرية في بلادنا اليوم، وكان من أكبر المؤيدين للملك فاروق، ثم أصبح من أكبر المؤيدين لجمال عبد الناصر، ثم السادات، ثم مبارك، ولأن الناس في مصر تفقد الذاكرة فإن هذا المثقف يحمل لقب المفكر الكبير.
وأنا مع هؤلاء الذين يدعون إلى التسامح وتضافر القوى على اختلافها، لكني لست مع استمرار عمليات النفاق في كل عهد، وإخفاء الحقائق الهامة في كل عهد حتى يفوت الوقت وتضيع فرص الإصلاح الحقيقي.
كما أنني ضد تلميع المنافقين في كل عهد، وتهميش هؤلاء الذين يزهدون في المناصب والمزايا والجوائز من أجل كلمة حق واحدة، وهؤلاء الناس في بلادنا كثيرون إلا أنهم يتوارون بعيدًا عن السلطة والأضواء بحكم الثقة في النفس والكرامة والتعفف عن المكاسب.
أكثر ما أدهشني في هذه الأيام الأخيرة التي تأزمت فيها العلاقات المصرية الأمريكية بسبب التعنت الأمريكي والإسرائيلي الواضح في مفاوضات كامب ديفيد الثانية، أن هذا التعنت معروف وواضح منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ولم نكن في حاجة إلى كامب ديفيد أخرى لنعرف أن العلاقات المصرية الأمريكية الإسرائيلية «منذ كامب ديفيد الأولى» لم يكن نتيجتها إلا الخسارة الفادحة لمصر، ليس في مجال الاقتصاد فحسب، ولكن أيضًا في السياسة وفي الثقافة وفي الإعلام، وفي الأمن القومي والتسلح العسكري في الشرق الأوسط، لقد أصبحت إسرائيل هي القوة النووية العظمى في المنطقة، إنها تتفاوض معنا من منطلق القوة؛ ولهذا يضيع الحق على الدوام، وتزيد التنازلات على الدوام، حتى أصبحت كلمة الوحدة العربية كأنما هي عيب أو عورة لا يصح النطق بها.
إن حجم الخسارة الاقتصادية المصرية أصبح منشورًا في صحف الحكومة مثل الأهرام، بفضل الأزمة الأخيرة في العلاقات المصرية الأمريكية، عرف الشعب المصري اليوم أن المعونة الأمريكية لمصر كانت خدعة لاستغلال مصر اقتصاديًّا، كانت المعونة لصالح اقتصاد أمريكا على حساب مصر، مثال واحد: أصبح العجز التجاري المصري لصالح أمريكا ٧٥٪ من التجارة بين البلدين منذ ١٩٧٤، ندفع دماءنا مواردنا وحققت أمريكا أرباحًا وفائضًا تجاريًّا بلغ أكثر من ٤٤ مليار دولار، تكاد تبلغ ضعف المعونة الأمريكية لمصر خلال هذه المدة ذاتها.
وقد صاحب هذا الخلل الاقتصادي الكبير بين البلدين خلل في المجالات الحيوية الأخرى؛ ومنها الأمن القومي في مواجهة إسرائيل، لم توقع إسرائيل على معاهدات حظر انتشار الأسلحة النووية على حين وقَّعت مصر على عدد من هذه المعاهدات «تحت الضغط الأمريكي» منها المعاهدة في ٢٦ فبراير ١٩٨١، والمعاهدة في ١٤ أكتوبر ١٩٩٦، والمعاهدة في ١٠ أبريل ١٩٧٢، وقد سارت عدد من البلاد العربية والأفريقية وراء مصر ووقعت مثل هذه المعاهدات، أصبحت بلادنا العربية والأفريقية محظور عليها القوة النووية حتى في الأغراض العلمية والسلمية، أما إسرائيل فقد انطلقت في تطورها النووي العسكري حتى امتلكت طرازًا جديدًا من صواريخ جيركو تم تحميلها برءوس نووية أخطر، وإلى جانب البرنامج الإسرائيلي العلني أرو مع أمريكا، أصبح لإسرائيل ترسانة نووية متعددة الأذرع، يمكن لذراع إسرائيل أن يطوي أي بلد في المنطقة تعصي أمرها.
وفي المجال الثقافي والفني هل يمكن لأحد أن يحسب خسارة مصر منذ بداية العلاقات المصرية الأمريكية عام ١٩٧٤ وحتى اليوم؟
ويتساءل أحد النخبة المثقفة في صحيفة حكومية كبيرة عن سبب تدهور الأفلام المصرية، وهو بالطبع لا يربط بين ركود الثقافة في بلادنا وركود الاقتصاد، وكان أحد المدافعين منذ ١٩٧٥ عن العلاقات المصرية الأمريكية وعن الانفتاح الساداتي، ثم به يسبق الآخرين في الأزمة الأخيرة للتنديد بالعلاقات المصرية الأمريكية، وكيف غزت الأفلام الرديئة السوق المصرية، حتى الأفلام المنتجة في مصر أصبحت مثل الأفلام الأمريكية المنحطة، القائمة على الجنس والجريمة والإضحاك الرخيص السطحي القائم على النكت السوقية، والخالي من أي موضوع اجتماعي مفيد.
بل أن مشكلة تزايد الفقر والبطالة هي النتيجة المنطقية للسياسة الاقتصادية منذ ١٩٧٤، فقد أصبح الجميع يكتبون عنها دون إرجاعها لأسبابها الحقيقة، وكأنما تزايد الفقر والبطالة ظاهرة منفصلة في التاريخ عن أسبابها في الماضي.
كأنما هذا الماضي مقدس، ولا يجوز لأحد أن يذكره أو ينقده؛ لأنه ينقد شخصية مقدسة عند البعض، السادات مثلًا أو بعض أعوانه الكبار الذين يمتلكون كثيرًا من النفوذ حتى اليوم.
لكن النقد ضروري للماضي، لأن الحاضر يُبنى على الماضي، والمستقبل يُبنى على الحاضر ولا يمكن الفصل بينها الثلاثة، إن النقد لا يعني الانشقاق والحرب أو عدم التضامن من إنقاذ بلادنا من الركود الاقتصادي والثقافي والفكري، ومن الخضوع للشروط الأمريكية والإسرائيلية المجحفة.
إن الوحدة الوطنية مطلوبة، لكن النقد البنَّاء أيضًا مطلوب، ولا بد أيضًا من كشف المنافقين في كل عهد حتى لا تتكرر الأخطاء وندور في تلك الحلقة المفرغة، ولا تكاد تعرف من المسئول عن هذا الخطأ أو ذاك، ويختلط الحابل بالنابل كما هو حالنا اليوم.
(٢) عن تاريخ الفدائيين عام ١٩٥٢
دهشت حين قرأت مقال سعد زغلول فؤاد في جريدة الأهرام ١٢ أغسطس ٢٠٠٠ ص١٠، تحت عنوان: سراج الدين والكفاح الشعبي المسلح، فهو يسوق لنا معلومات مغلوطة عن العمل الفدائي ضد الإنجليز في التل الكبير ومدن القنال قبل حريق القاهرة ٢٦ يناير ١٩٥٢، ولأنني عشت هذه الفترة وعاصرت كتائب الطلبة الفدائيين في كلية الطب خلال ١٩٥١، ١٩٥٢، وانعكست مأساة الفدائيين على حياتي الشخصية، إذ إن زوجي الأول الدكتور أحمد حلمي، والذي كان زميلًا لي في كلية الطب، قد تطوع في كتائب الفدائيين، وسافر إلى الحرب في القنال في تلك الفترة التي شجعت فيها حكومة الوفد الشباب على الكفاح المسلح ضد الإنجليز في منطقة القنال، لقد قُتل من الفدائيين في هذه الحرب أكثر من مائتي فدائي (كما ذكرت التقارير التي نُشرت عام ١٩٨١، بعد ثلاثين عامًا من الأحداث) ومن هؤلاء زميلي في كلية الطب أحمد المنسي، وفدائي آخر اسمه عباس الأعسر وآخرين.
لقد مات الدكتور أحمد حلمي ليس في الحرب أو أثناء المعارك التي نجا منها بأعجوبة، وإنما مات أحمد حلمي نفسيًّا (قبل أن يموت جسديًّا) بسبب تخلي الحكومة المصرية عن الفدائيين في القنال بعد حريق القاهرة، أصبح الفدائيون يواجهون الجيش البريطاني وحدهم، وكان من الممكن سحقهم جميعًا لولا قدرتهم النضالية بأقل الأسلحة، ولولا حماية أهل القنال لهم وتدعيمهم بالمؤن والسلاح.
من هنا ندرك أن مقال سعد زغلول فؤاد في الأهرام لم يقل الحقيقة؛ لأنه أغفل ما حدث في الواقع، ربما أراد بالمقال أن يرفع فؤاد سراج الدين إلى البطل الوطني العظيم بمناسبة وفاته، وكما هي عادة المصريين من تقديس الموتى، وذكر محاسنهم فقط، ولا أحد ينكر أن حكومة الوفد، ومنها سراج الدين كان لها مواقف وطنية مهمة في تلك الفترة بعد إلغاء معاهدة ١٩٣٦، ولكن لا يمكن أيضًا أن ننكر تعاون حكومة الوفد مع السراي والإنجليز ضد مصالح الشعب المصري، وتخاذلها، بل وضربها العمل الفدائي الذي كانت تشجعه، هذا التناقض معروف عند جميع الحكومات، وليس حكومات الوفد فقط.
لكن ما حدث للفدائيين في القنال في شتاء ١٩٥٢ كان خطيرًا، ولم يحاول أحد أن يراجع التاريخ بحيث نعرف من المسئولين عن مأساة العمل الفدائي، واختفاء أسماء المقاتلين الحقيقيين الذين قتلوا جسديًّا أو نفسيًّا، واندثرت أسماؤهم في التاريخ، على حين برزت أسماء أخرى أصبحوا هم أبطال العمل الفدائي، ومنهم وزير الداخلية فؤاد سراج الدين وأسماء أخرى كبيرة في السلطة شملت أنور السادات ووجيه أباظة، وأيضًا بعض ضباط البوليس السياسي الذين أرسلتهم الحكومة ليكونوا ضمن الفدائيين كعيون للحكومة.
هناك حقائق كثيرة غابت في مقال سعد زغلول فؤاد في الأهرام، يستمد سعد زغلول فؤاد سلطة لأنه صحفي في الأهرام يمكن أن ينشر أي شيء، ويغير في التاريخ كما يشاء دون أن يرد عليه أحد، فهناك حصانة للصحفي في الأهرام، وقد رفض المحرر في الأهرام نشر ثلاث مقالات لي أرد فيها على بعض الكُتَّاب المعينين في الأهرام ومنهم رئيس التحرير.
المسألة إذن هي القوة وليس الحق، وهي الاستبداد بالرأي وليس الديمقراطية، والغريب أيضًا أن الصحف الأخرى تمتنع عن نشر هذه المقالات تحت اسم عدم الوقوع في مشاكل مع جريدة كبيرة، ولها سلطة ضخمة مثل جريدة الأهرام، فأين إذن يمكن نشر الآراء المخالفة لهؤلاء المحصنين داخل السلطة الصحفية في بلادنا.