هذا المقال لم يَرَ النور
(١) لأنَّ النور مملوك
أدهشني مقال إبراهيم نافع في جريدة الأهرام ١١ أغسطس ٢٠٠٠، الصفحة الأولى تحت عنوان: كشف حساب العلاقات المصرية الأمريكية، يرد فيه على سؤال الصحفي الأمريكي الذي تساءل في جريدة أمريكية عما حصلت عليه أمريكا مقابل ما دفعته لمصر منذ عام ١٩٧٨ من معونة تبلغ ٣٠ مليار دولار.
ما أدهشني أنَّ مقال «إبراهيم نافع» يكشف عن حجم الخسارة الاقتصادية التي تكبدتها مصر بسبب المعونة الأمريكية، وكان ذلك معروفًا خلال ربع القرن الماضي، ليس لعلماء الاقتصاد فحسب، وإنَّما لرجل الشَّارع وامرأة الشَّارع التي تخرج لتشتري الطعام من السُّوق، فإذا بها تصرخ في البائع؛ لأنَّها لم تعد قادرة على شراء السلع الأمريكية التي ملأ بها رفوف دكانه على حين اختفت السلع المصرية.
منذ منتصف السَّبعينات وبعد ما سمي بالانفتاح الاقتصادي في عهد السَّادات أصبحت ضرورات الحياة عسيرة وشاقة ليس فقط على الملايين الكادحين، بل على الطبقات الأخرى الأكثر راحة، بدأ الفقراء يزدادون فقرًا وظهرت القطط السمان وظاهرة أصحاب الملايين، ثم ظاهرة أصحاب البلايين إلى الحال التي وصلنا إليها الآن.
لقد كشف إبراهيم نافع أخيرًا ومتأخرًا ربع قرن عن حجم الخسارة المالية والاقتصادية لمصر منذ عام ١٩٧٥، ومنذ العلاقات المصرية الأمريكية، وقبول الشروط الأمريكية المجحفة المدمرة للاقتصاد المصري والإنتاج المحلي مقابل تلك المعونة، التي كانت مجرد الطُّعم في شبكة الصياد، والتي بلغت ٣٠ مليار دولار (حسب قول الصحفي الأمريكي)، وانخفضت إلى ٢٣ مليار دولار فقط في قول إبراهيم نافع، خلال ربع القرن الماضي؛ أي بفارق ٧ مليارات دولار لم نفهم هذا الخلل الكبير في الحسابات.
المهم الآن أنَّ خسارة مصر الاقتصادية من جراء المعونة والعلاقات الأمريكية أصبحت منشورة في الأهرام بقلم رئيس التحرير، وكان محظورًا نشر هذه الحقائق (إلا في بعض صحف المعارضة الصغيرة المحدودة الانتشار)، وأذكر أنني نشرت مقالًا في أغسطس عام ١٩٨١ يُشبه المقال الذي نشره إبراهيم نافع في أغسطس ٢٠٠٠ من حيث نقد العلاقات المصرية الأمريكية وما تسببه من خسائر ليست مالية واقتصادية فحسب، إنَّما خسائر سياسية وثقافية وأدبية، وهي في رأيي غير منفصلة عن الخسائر المالية بل ربما أخطر.
إنَّ الخسائر الاقتصادية لا شك خطيرة، وهي معروفة ومنشورة في الصحف الأوروبية قبل الصحف المصرية المعارضة، ذلك أن اليسار الأوروبي والقوى الاشتراكية في العالم كانت أكثر دراية بالاستعمار الأمريكي الجديد في الشرق الأوسط، «والقارة الأفريقية» والذي حلَّ محل الاستعمار البريطاني والفرنسي في عالمنا العربي والأفريقي.
لم تكن هذه الخسائر الاقتصادية المصرية مجهولة، وقد كانت متاحة للنخبة المثقفة المصرية التي تقرأ الصحف الأجنبية، إلا أن هذه النخبة كانت عاجزة عن الكتابة في هذه الموضوعات المحظورة تحت اسم حماية الأمن القومي أو المصالح العليا لمصر وعلاقتها بالدول الصديقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
إلا القلة القليلة التي كتبت ودخلت السجون أو شردت أو تم تجاهلها وتهميشها حتى هاجرت أو عاشت المنفى خلال ربع القرن الماضي، وطفا على سطح الحياة في بلادنا هؤلاء الذين يؤيدون السياسة الاقتصادية منذ الانفتاح في منتصف السبعينيات وحتى اليوم، والتي أدت إلى هذا الفقر الخطير الذي يتحدث عنه الجميع اليوم على رأسهم هؤلاء الذين أيدوا السياسات التي أدت إليه.
ورب ضارة نافعة، ومن تأزم العلاقات المصرية الأمريكية الأخيرة (بسبب كامب ديفيد الثانية والتي هي النتيجة المنطقية لكامب ديفيد الأولى) أصبح في مقدور الشعب المصري أن يقرأ في جريدة الأهرام اليوم أن المعونة الأمريكية لمصر خدعة كبيرة، أو أنها كانت لصالح أمريكا على حساب الصالح المصري، يكفي أن نعلم أن العجز التجاري المصري (لصالح أمريكا) بلغ ٧٥٪ من قيمة التجارة بين البلدين، هذا الاحتلال الخطير الاقتصادي منذ عام ١٩٧٤، والذي يقول إبراهيم نافع أنه مسئولية أمريكا، وكأنما السياسة المصرية غير مسئولة أيضًا عن هذا الخلل الذي فتح الأسواق المصرية أمام السلع الأمريكية، وحققت أمريكا من ذلك أرباحًا وفائضًا تجاريًّا بلغ أكثر من ٤٤ مليار دولار (أي ضعف المعونة الأمريكية لمصر خلال هذه الأعوام نفسها).
هذا من الناحية الاقتصادية فقط، ولم يتعرض إبراهيم نافع للخسائر المصرية في المجالات الأخرى، إذ أنَّ الاقتصاد غير منفصل عن السياسة وعن الأمن القومي وعن الإعلام والثقافة وغيرها من مجالات الحياة.
والسؤال الوارد الآن: ألم يصحب الخلل الاقتصادي خللًا في المجالات الأخرى الهامة على رأسها الأمن القومي في مواجهة إسرائيل؟
ألم تصاحب الشروط التجارية المجحفة لمصر اقتصاديًّا شروط أخرى سياسية أدت إلى الخلل الحادث اليوم بين مصر وإسرائيل بالنسبة لواقع التسلح الاستراتيجي في الشرق الأوسط؟
أصبحت جريدة الأهرام تكشف عن هذا الخلل أخيرًا «لكن في انفصال عن الخلل الاقتصادي.»
في الأهرام ١٢ أغسطس يظهر أخيرًا مقال تحت عنوان: تقارير المخابرات الأمريكية وواقع التسلح الاستراتيجي في الشرق الأوسط، بقلم محمد عبد السلام، يكشف فيه عن الخلل الذي حدث بين إسرائيل ومصر عسكريًّا، وفي الوقت الذي وقعت فيه مصر على عدد من الاتفاقيات أو معاهدات حظر أو منع انتشار الأسلحة النووية (في ٢٦ فبراير ١٩٨١) ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (في ١٤ أكتوبر ١٩٩٦) وسبق ذلك الموافقة على حظر تطوير الأسلحة البيولوجية أو إنتاجها (في ١٠ أبريل ١٩٧٢).
صدقت مصر على كل هذه المعاهدات تحت ضغط أمريكا التي لم تضغط على إسرائيل، وبالتالي لم توقع إسرائيل على هذه المعاهدات مما أدى إلى خلل وعدم توازن بين قوة إسرائيل النووية وقوة مصر النووية؛ بل لأن مصر دولة محورية في العالم العربي والأفريقي، فقد أثرت مصر على هذا العالم الذي وقع مثل مصر على هذه المعاهدات المجحفة، وتزايدت ترسانة إسرائيل النووية خلال الأعوام الأخيرة، بل أصبحت تملك طرازًا جديدًا من صواريخ جيركو تم تطويرها وتحميلها برءوس نووية أكبر، بل إضافة على البرنامج الإسرائيلي العلني «أرو» بالمشاركة الأمريكية والذي أصبح في السنين الأخيرة أخطبوط متعدد الأذرع (حسب المقال في الأهرام).
أما الخلل الإعلامي والثقافي فهو معروف وأكثر ظهورًا من الخلل الاقتصادي أو العسكري أو غيرها من المجالات الحساسة المحظور نشرها في معظم الأحيان.
وهل نتكلم عن سلبيات الاتفاقات الثقافية المجحفة في الجات وغيرها، والتي أدت مثلًا إلى انتشار الأفلام الأمريكية على حساب الأفلام المصرية؟
هل نقول إن التبعية الإعلامية والثقافية لا تنفصل عن التبعية الاقتصادية وغيرها من المجالات الحيوية في البلاد، ألم تجف حلوقنا منذ ربع قرن ونحن نقول ذلك، حتى في المقالات عن قضية المرأة، ألم نربط الفقر المتزايد والقيود المتزايدة على النساء تحت اسم الدين والأخلاق؟ ألم يكن الإرهاب الديني وقهر النساء جزءًا لا ينفصل عن الإرهاب الاقتصادي والإعلامي، وما أكثر من يتكلمون اليوم عن ظاهرة تأنيث الفقر كأنما هي ظاهرة منفصلة في التاريخ وهابطة فجأة من السماء؛ وليست نتيجة منطقية لما سُمِّي الانفتاح الاقتصادي والذي أصبح يُسمى اليوم الإصلاح الاقتصادي.
إن هذا الفصل بين المجالات هو الذي يؤدي إلى التجهيل بما يحدث لنا، ويعيش الشعب المصري نهبًا لموارده المادية والمعنوية في آن واحد، بالإضافة إلى إخفاء الحقائق وعدم إظهارها في وقتها بل بعد فوات الأوان.
والسؤال: من المسئولون عن ذلك؟ في الماضي والحاضر، ذلك أن الماضي لا ينفصل عن الحاضر ولا ينفصل عن المستقبل.