تخبط النخبة المثقفة
رأيت صور الفتاة في الصحف التي فقدت عيناها في مظاهرات الإثنين ٨ مايو ٢٠٠٠ بجامعة الأزهر، وهي لم تقرأ الرواية للمؤلف السوري التي أثارت المظاهرات، ولا تعرف شيئًا عن المعركة السياسية الدائرة تحت شعارات دينية.
ثم قرأت أن البوليس سيطر على الموقف، وتم حبس بعض الشباب رهن التحقيق.
- (١)
ألا تعرف الحكومة الرءوس الكبيرة التي حرضت الشباب على المظاهرات؟ ألا تظل هذه الرءوس الكبيرة حرة طليقة تكتب في الصحف، وتخطب على المنابر وفي الأحزاب وفي أجهزة الإعلان المحلية والعربية والدولية؟!
- (٢)
ألا تشترك النخبة المثقفة في هذه اللعبة السياسية الدينية، سواء النخبة في الحكومة أو المعارضة أو الهيئات غير الحكومية، أو ما يطلقون على أنفسهم «المستقلون»؟!
- (٣)
ألم تتكرر هذه الأحداث المؤسفة الدامية، والتي يروح ضحيتها الأبرياء وينزف المغمورون الدماء، على حين تزداد النخبة تألقًا تحت الأضواء، يريقون الحبر الأسود فوق الورق بدلًا من الدماء الحمراء.
- (أ)
تعلن الحكومة ومؤسساتها الثقافية أنها لم تصدر أي كتاب يمس الدين أو المقدسات، بل العكس هو الصحيح، لقد تم نشر العديد من الكتب الدينية وكتب التراث بأسعار زهيدة، وقد تم إحالة رواية الكاتب السوري إلى لجنة لإعداد تقرير حولها.
- (ب)
لقد تم سحب الرواية، كما تم منع تداولها من الأسواق لأن بها عبارات تمس الدين والمقدسات.
- (جـ)
أكدت وزارة الثقافة أن الرواية لم تسحب من الأسواق ولا أي كتاب آخر، وأن اللجنة التي شكلتها لا تهدف للتحقيق في الرواية بقدر ما تهدف لتقديم قراءة متكاملة لها.
- (د)
أصدرت اللجنة المُشكَّلة من المثقفين المستقلين بيانًا يرفض لغة التحريض على العنف واغتيال الثقافة والمثقفين، ووقع على البيان عدد كبير من كبار المفكرين والمثقفين والأدباء.
- (هـ)
أصدر رئيس الوزراء حكمه بأن رواية الكاتب السوري تسيء إلى الإسلام، كما أن البيان الرسمي لوزارة الداخلية أصدر حكمه أيضًا بأن الرواية تضمنت عبارات ماسة بالمعتقدات الدينية، وقرر رئيس جامعة الأزهر أن الرواية تضمنت عبارات تسيء للمقدسات الإسلامية، وقدَّم احتجاجًا رسميًّا لوزير الثقافة، ولمجلس الشعب، طالب فيه مصادرة الرواية، وإجراء محاكمة لمؤلفها السوري أمام القانون الدولي.
- (و)
إن المحرضين على اغتيال المثقفين وإهدار دمهم كانوا يعرفون من قبل أن الحكومة سوف تتراجع، وقد تراجعت بالفعل.
- (ز)
حين تواجه الحكومة هذه الأزمات فهي لا تستخدم إلا الرصاص والهراوات والقنابل المسيلة للدموع، أي الوسائل الأمنية، ولا يسقط إلا الضحايا الأبرياء، الذين ليسوا في الحكومة ولا في أحزاب المعارضة، ولا من النخب المثقفة، ولا من دعاة التكفير والاغتيال، ولا من المستقلين، بل تُراق دماء الصغار الأبرياء، ومنهم أطفال وبنات لم يقرأن الرواية.
ألا يتكرر هذا الكلام في كل أزمة مرت بنا منذ ولدنا وحتى نموت؟ والوجوه التي تتصدر دائمًا هي الوجوه، نراها على الشاشة والمجلات والصحف حكومية وغير حكومية؟! ربما تتغير مناصبها العليا من حين إلى حين، أو تتغير شعاراتها ومقاعدها مع تغير اللحن الموسيقي، من الحكومة والمعارضة إلى اللاحكومة أو اللامعارضة! يمسكون العصا دائمًا من المنتصف ولا نعرف موقفهم في وضوح، ونراهم في كل مكان بارز تحت الأضواء، سواء في المجالس الحكومية أو الشعبية أو القومية العليا، سواء كانت مجالس تخص الديمقراطية أو التنمية أو المرأة أو الشباب أو حقوق الإنسان! تصدر قرارات التعيين فيها بقرار حكومي في أغلب الأحيان.
منذ أيام قليلة، بالضبط يوم ٢٤ مارس ٢٠٠٠ جاءني خطاب رسمي مسجل من وزارة الشئون الاجتماعية ترفض تسجيل جمعية النهضة الفكرية للمرأة المصرية، لماذا؟ لأن المقر لا يصلح! المقر به كمبيوتر وفاكس وتليفون ومقاعد للجلوس ونوافذ على الهواء الطلق والسماء، لم يذكر الخطاب الرسمي لماذا لا يصلح المقر، إلا أننا سمعنا شفاهة أن المقر ليس به مدخل مستقل عن صاحبة البيت وهي عضوة بالجمعية!
كانت الحكومة المصرية منذ سبعة وسبعين سنة أكثر تقدمًا منها اليوم، فيما يخص النهوض بالمرأة، وفي منزل هدى شعراوي عام ١٩٢٣ تكون الاتحاد النسائي المصري، وفي منزلها ذاته الواقع في شارع قصر النيل رقم ٢، وفي الساعة الخامسة مساء يوم الجمعة ١٦ مارس ١٩٢٣، تشكلت لجنة دائمة من النساء بلغ عدد عضواتها ٢٤ امرأة، انتخبن مجموعة منهن لحضور المؤتمر النسائي الدولي في روما، وعلى رأسهن صاحبة المنزل (راجعوا جريدة الأهرام الصَّادرة في ١١ مايو ٢٠٠٠ صفحة ٧).
واليوم كيف تتخبط الحكومة هكذا؟ وهل ننسى الهجوم الضاري الذي شنته وزارة الشئون الاجتماعية خلال العام الماضي (١٩٩٩) ضد تكوين الاتحاد النسائي المصري، والذي تشكلت من أجل تكوينه لجنة تحضيرية تزيد عن المائة عضوة وعضو، وكانت وزيرة الشئون الاجتماعية (حينئذ) قد سمحت للفكرة منذ بدايتها، وأمدت اللجنة بقائمة الجمعيات النسائية في مصر التي يمكن أن تنضم إلى هذا الاتحاد النسائي المصري؟!
ربما يكون هذا التخبط هو حال الحكومات في معظم بلاد العالم، إن طبيعة تكوين الحكومات من الموظفين المطيعين أساسًا لا تؤهلها للقيام بعمل خلَّاق أو جديد، يقتضي إعمال العقل المستقل عن عقول الرؤساء أو أصحاب السلطة والنفوذ.
إن المشكلة الحقيقية في هؤلاء النخب المثقفة الذين يتخبطون مع الحكومة، ويحملون لقب مفكرين أو مثقفين — رغم أن معظمهم ليس له فكر مستقل أو رؤية فلسفية أو ثقافة أو موقف نابع من الاقتناع الحقيقي، وليس الولاء لحكومة ما أو حزب أو فرد.
نحن نعيش هذه المأساة على الدوام، تتكرر في كل عهد منذ الملكية القديمة حتى الجمهورية الحديثة، ولا يروح ضحيتها إلا الأبرياء من الشباب أو الشابات، على حين يتألق الكهول من النخب المثقفة ويزدهرون، وتطاردنا صورهم الليل والنهار، وأصواتهم تعلو وتعلو مع الأزمات.