عن استراتيجية الثقافة والإبداع
قرأت ما نشره الأستاذ سلامة أحمد سلامة بجريدة الأهرام ١٤ يناير ٢٠٠١، وأنا أتفق معه في أن محاكمة أو الحكم على الأعمال الإبداعية ليس من وظائف وزارة الثقافة.
لكني أختلف معه في أن يكون قانون العقوبات هو الحكم في مثل هذه الأمور المتعلقة بالإبداع الأدبي أو الفكري، لأن قانون العقوبات يختص بالأفعال التي تشكل اعتداءً على الآداب العامة، كالسب والقذف، قد يحكم القانون بالعدل في هذه الحالات، إلا أن المجال القانوني (في رأيي) لا يمكن أن يكون هو الدستور الأخلاقي الذي يضبط إيقاع النشاط الإبداعي والفكري كما يقول الأستاذ سلامة.
ومن هنا السؤال: مَن إذن يتولى الحكم على الأعمال الإبداعية كالروايات مثلًا؟
إن الرواية عمل إبداعي يجمع الخيال والواقع معًا، وهي تُقدم للناس أي الشعب، والمفروض أن يحكم الشعب بنفسه على الأعمال الإبداعية، وأن تكون له حرية القراءة أو عدم القراءة، أليس الأساس الأول للديمقراطية هو أن يحكم الشعب نفسه بنفسه؟ وأن تكون له حرية النقد والمعارضة، وأن يكون مسئولًا عن اختيار ممثليه في البرلمان مثلًا؟ فكيف لا يكون هذا الشعب مسئولًا عن اختيار الروايات التي يقرؤها؟
ربما يقول البعض إن الشعب في بلادنا لم ينضج بعد حتى يمكنه الحُكم على الروايات الأدبية، لكن إذا عجز الشعب عن اختيار ما يقرأ، فهل يكون في مقدوره أن يختار مَن يمثله في البرلمان أو مجلس الشعب أو المجالس النيابية الأخرى؟!
وإذا كنا نعطي هذا الشعب الحق في اختيار ممثليه الذين ينوبون عنه في وضع واتخاذ أهم القرارات السياسية والاقتصادية، فمن المنطقي أن يُعطى هذا الشعب الحق في اختيار ما يقرأ من روايات أو قصص أدبية.
إن إعراض القراء عن الرواية هو أكبر عقاب لمؤلفها، وكم من روايات سقطت بسبب إعراض الناس عنها، هذا السقوط أقوى من القرارات الإدارية أو الوزارية أو أي قرار يصدر عن المحكمة بمصادرة الرواية؛ لأن الجمهور نفسه هو الذي يصادرها بحريته واختياره دون انتظار القرارات العليا.
لقد اتضح في معظم بلاد العالم أن الأعمال الإبداعية التي تُمنع بالقوة الإدارية أو السياسية هي التي تلقى رواجًا بين الجماهير، ذلك أن الإنسان بالطبيعة والفطرة يكره الوصاية، ويُقبل على الممنوعات إرضاءً لغريزة الاستطلاع وحب المعرفة.
في الدراسات النفسية الأخيرة عن القدرات الإبداعية عند الأطفال اتضح أن الطفلة أو الطفل يولد سليم الأعضاء والخيال، إن حاجة الإنسان إلى الخيال مثل حاجته للطعام والهواء، وبالطبيعة والفطرة يولد الخيال الإنساني قويًّا لدى الأطفال، يجعلهم قادرين على الإبداع والإحساس بوجود العدل أو غيابه، هناك علاقة وثيقة بين الإبداع والخيال والإحساس بالعدل والحرية والحب؛ لذلك يغضب الأطفال ويثورون لأي ظلم يقع عليهم.
إلا أن غياب العدل والحرية في أغلب العائلات يفسد خيال الأطفال ويقتل قدراتهم الإبداعية، ويجعلهم مثل النقود، يصبحوا أدوات لغيرهم، غير قادرين على الإحساس بالعدل أو الحرية أو الحب؛ بمعنى آخر عاجزين عن الفضيلة أو الإنسانية الحقيقية ذات الضمير الحي.
وقد اتضح أن الطفلة أو الطفل الذي يتربى في جو من الحرية والعدل يكتسب القدرة على الاختيار الصحيح القائم على الحرية والعدل، يكتسب الثقة في نفسه، والحكم بنفسه على الأشياء، ولا ينتظر الأوامر أو التوجيهات من الجهات العليا.
هذا هو الحجر الأساسي السليم الذي يمكن أن نبني عليه استراتيجية جديدة للثقافة والإبداع في بلادنا، لقد اتضح أن الطفلة أو الطفل الذي يتربى على الخوف من العقاب (أو الطمع في جائزة) يعجز عن الإبداع الحقيقي؛ لأن لذة الإبداع الحقيقي تتعلق بالعمل ذاته، بالقدرة على إنجازه وتحقيقه بالشكل الذي يريده الفنان أو الفنانة.
هذا هو الضمير الإبداعي النابع من الحرية والعدل، وهو الذي يوجه الإنسان المبدع أو الإنسانة المبدعة، بمعنى آخر هو الذي يضع الضوابط لصاحبه، هو الذي يجعله يختار هذه العبارة للتعبير عن فكرته، وليس عبارة أخرى خالية من الجمال أو الذوق.
لا شك أن الإبداع هو الجديد، وهو يختلف عن القديم، وقد يصطدم به إلا أن الحساسية للعدل والحرية النابعة من الخيال السليم غير المبتور تساعد الإنسان المبدع على إدراك التوازن والانسجام الفني بين القديم والجديد، أو بين العدل والظلم.
وقد قرأت رواية وليمة لأعشاب البحر، وكتبت عنها مقالًا في جريدة الحياة الصادرة في لندن يوم ١١ يوليو ٢٠٠٠ تحت عنوان «الخيال المبتور في الأدب الشائع»، ليس معنى ذلك أن مِن حق الجهات الإدارية أو القانونية مصادرة الرواية أو منعها؛ لأنها (في رأيي) تمنع نفسها، ليس لأنها تمس المقدسات كما قيل عنها، ولكن لأن الخيال فيها مبتور، بحكم التربية التي يعيشها أغلب المؤلفين في طفولتهم.
منذ الطفولة ندرك أن الرجل بطل القصة، قد تربى على القنص والصيد، وقتل الطيور والحيوانات، وقد امتدت نزعة الصيد إلى جنس النساء، مع ذلك يقدم نفسه كمناضل وطني يؤمن بالاشتراكية والعدالة، إلا أنها عدالة نظرية فحسب أو لغوية في الخطب والروايات، ولا تمتد أبدًا إلى حياته الحقيقية، ولا تدخل بينه ولا غرفة نومه.
تمتلئ غرف نوم الرجال في الرواية بالدكتاتورية والأحادية الفكرية والانفصام بين الحياة العامة والحياة الخاصة، هذا التناقض أو الازدواجية الأخلاقية هي التي تفسد العمل الإبداعي كما تفسد الخيال والواقع؛ إن الواقع المشوه بالظلم في العلاقات بين الناس (ومنها علاقة الرجال بالنساء) يؤدي إلى تشويه الخيال وبتره منذ الطفولة.
الخيال المبتور في نظري أكثر خطورة من الجسد المبتور الأعضاء، لأن الناس ترى الجسد المبتور وتتألم لألمه، لكن الخيال أو الضمير الإبداعي لا تراه العين ولا ينزف الدم عند البتر.
لقد أدت الضجة التي أثيرت حول رواية «وليمة لأعشاب البحر» إلى انتشارها، وإقبال الناس على شرائها بسبب حب الاستطلاع، لكني لم أقابل أحدًا قرأ الرواية إلا وقال لي إنه لم يكملها، وتركها منذ الصفحات الأولى، وقد شعرت بهذا الإحساس ذاته وأنا أقرؤها، إلا أنني واصلت القراءة بجهد كبير من أجل أن أكتب عنها.
وأنا لم أقرأ الروايات الثلاثة التي سببت الأزمة الأخيرة بين وزير الثقافة وبعض المثقفين والأدباء والأديبات، ذلك أن الضجة التي أثيرت حولها ربما جعلت الناس تتسابق إلى قراءتها، ومن ثم عدم وجودها في المكتبات.
لهذا لا يمكن لي الحكم عليها كقارئة، إلا أن الصراع الذي حدث لا يخلو من إيجابيات، لقد تأكد الآن أن وزارة الثقافة يجب ألا تكون هي الحكم على الأعمال الإبداعية، كما يقول الأستاذ سلامة أحمد سلامة.
لكن قانون العقوبات أيضًا لا يمكن أن يكون الحكم على أعمال تتعلق بالخيال، إن مجال القانون هو الواقع وليس الخيال.
نحن في حاجة إلى قيم جديدة في تربية أولادنا وبناتنا، قيم قائمة على العدل والحرية والحب، ولا بد أن تمتد هذه القيم إلى الوزارات جميعًا، وليس وزارة الثقافة وحدها، وإلى جميع المجالات السياسية والاقتصادية، وجميع الأحزاب، حكومة ومعارضة، وجميع المنظمات غير الحكومية، بحيث يصبح المناخ الثقافي الذي نعيشه صحيًّا، والضمير الإبداعي حيًّا منذ الولادة حتى الموت.