قضية المرأة في الحوار القومي
من الأفكار التي شاعت في التاريخ، خاصة خلال القرن الماضي العشرين أن قضية المرأة لا تهم إلا فئة النساء، الأمهات والزوجات والأطفال؛ أي أمور الأسرة الصغيرة، ولا علاقة لها بأمور المجتمع الكبير وقضاياه الكبرى المتعلقة بالسياسة أو الاقتصاد.
هذه الفكرة الخاطئة انتشرت في البلاد الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، روَّجت لها القوى الأبوية الطبقية التي تحكم المجتمع، ثم انتقلت الفكرة إلى البلاد الأخرى ومنها بلادنا العربية، ومن هنا الفكرة الخاطئة التي سادت بأن الحركة النسائية التحريرية قد نشأت في الغرب ثم انتقلت إلى الشرق.
حقائق التاريخ تؤكد أن النساء والعبيد اتحدوا معًا في الثورة ضد النظام الفرعوني العبودي في مصر القديمة، لقد حاربوا معًا نساء وفقراء وأُجراء ضد بطش الفراعنة والآلهة القدامى، كان النظام العبودي أو الطبقي الأبوي قائمًا على السلطة المطلقة للرجل في العائلة، والسلطة المطلقة للفرد الحاكم في الدولة، الإله فرعون، لقد حدثت ثورات عديدة ضد هذا النظام شارك فيها النساء والرجال والشباب والأطفال، لولا هذه الثورات الشعبية لم يكن للعصر العبودي أن يزول، ويحل مكانه العصر الإقطاعي، ثم العصر الرأسمالي القديم، ثم الحديث وما بعد الحديث الذي نعيشه اليوم، وهو نظام طبقي أبوي في الأساس يقوم على سلطة الرجل المطلقة في الأسرة، وسلطة الفرد أو مجموعة من الأفراد في الدولة، تطورت القوانين العامة والخاصة مع مرور السنين، ومع ازدياد القوة السياسية للنساء والفقراء، أصبحت السلطة المطلقة للزوج تناقش في البرلمانات، في محاولة للحد من هذه السلطة المطلقة، وقد شهدنا مؤخرًا الصراع داخل البرلمان المصري للحد من سلطة الزوج في الطلاق، أو في منع زوجته من السفر، وإعطاء المرأة بعض حقوقها الشرعية القديمة مثل الخُلع، كما شهدنا أيضًا الصراع من أجل الحد من السلطة الدكتاتورية في الدولة، ومنح بعض الحريات للشعب أي بعض الديمقراطية.
خلال القرن العشرين بدأت قضية تحرير المرأة في بلادنا تخرج من مفهومها الضيق المحدود بأمور الأسرة والأمومة والأطفال إلى مجالات السياسة والاقتصاد والجنس، ذلك المجال الذي كان محرَّمًا الكلام فيه، رغم أن القهر الجنسي للنساء والفقراء الرجال هو الوجه الآخر من القهر الاقتصادي والسياسي.
حسب نظرية المعرفة الجديدة لا يمكن فصل الاقتصاد عن الجنس، ولا يمكن فصل الحياة العائلية الخاصة عن الحياة العامة السياسية والاجتماعية الشاملة لنواحي الحياة جميعًا.
إذا رجعنا إلى التاريخ ندرك أن هذا الفصل قد نشأ مع نشوء النظام الطبقي الأبوي، من أجل تجزئة المعرفة، وبالتالي تجهيل الناس بما يحدث لهم، أصبحت المعرفة الكلية نوعًا من الإثم، وقد تم تحريمها على النساء والفقراء والعبيد.
لا شيء يؤهل المرأة والعبد للثورة ضد النظام الظالم إلا المعرفة الكلية الحقيقية التي لا تفصل بين الخاص والعام، ولا تجعل الازدواجية أو الثنائية هي أساس القوانين والأخلاق والفلسفة، هذه الثنائية الراسخة في التاريخ منذ العبودية، والتي قسمت المجتمع إلى نساء وعبيد، وأصبحت الأسرة هي النواة الصغيرة التي يسيطر فيها الرجال على النساء، والدولة هي المجتمع الأكبر الذي تسيطر فيه القلة المالكة للثورة والسلطة على الأغلبية الساحقة من الفقراء.
وأصبحت المرأة ترمز إلى الجسد أو الجنس غير المحترم، وأصبح الرجل يرمز إلى العقل أو الروح الأعلى السامي، أصبحت القضايا العامة هي القضايا المحترمة، أما القضايا الخاصة فهي غير محترمة، ومن هنا النظرة الدونية إلى مشاكل الجسد والجنس والمرأة، والنظرة السامية الرفيعة إلى المشاكل السياسية والاقتصادية والثقافية العامة.
لا بد لنا من دراسة الماضي وربطه بالحاضر حتى ندرك أن الاقتصاد لا ينفصل عن الجنس، وأن الجسد لا ينفصل عن العقل عن الروح، وأنه لا يمكن بحال من الأحوال فصل قضايا تحرير النساء عن قضايا تحرير المجتمع كله.
إلا أن النخبة المثقفة في بلادنا من الرجال أو النساء لا تدرك هذه الحقيقة، وتكرر أخطاءها في فهم قضية المرأة منذ القرن القديم وحتى القرن الجديد الواحد والعشرين.
وقد اتُّهِمَت النساء رائدات الحركة النسائية المصرية في بداية القرن العشرين بالاتهام ذاته الذي اتُّهِمت به الرائدات في منتصف القرن العشرين، وهو الاتهام ذاته الذي يوجه إلى رائدات الحركة النسائية اليوم، ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين.
حين تكلمت مي زيادة وملك حفني ناصف عن تحرير المرأة من القهر الخاص داخل الأسرة، تم اتهامها بالقصور عن إدراك القضايا العامة الهامة الخاصة بالوطن والمجتمع، وحين تكلمت درية شفيق عن قضية المرأة المصرية خرجت بعض النساء توزع المنشورات ضدها تتهمها بالبرجوازية وتقليد الغرب، وحين تكلمت بعض النساء المصريات في منتصف القرن العشرين ضد ختان الإناث وربطن بين المشاكل الجنسية والمشاكل الاقتصادية قامت الدنيا ضد هؤلاء النساء، كيف ينطقن كلمة جنس؟ أو كلمة ختان؟ وتم اتهامهن بالفساد، وتحريض البنات على الحرية الجنسية على غرار الإباحية في الغرب.
وفي يومنا هذا يتكرر الاتهام ذاته ربما على نحو مختلف، إلا أن جوهر الاتهام واحد، والقصور في فهم قضية المرأة واحد، والفصل بين الخاص والعام واحد، واعتبار قضية المرأة قضية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية عامة، وليس لها علاقة بذلك الشيء المستورد من الغرب الذي يندرج تحت اسم جنس أو المشاكل الجسدية للنساء، وهي في نظرهم مشاكل ثانوية أو هامشية أو تافهة وليست مشاكل حقيقية محترمة مثل مشاكل الاقتصاد والتنمية الاقتصادية أو الإصلاح الاقتصادي وغير ذلك من القضايا العامة.
رغم مرور أكثر من نصف قرن لا تزال هذه النغمة سائدة، تهيمن على عقول النساء والرجال من النخبة المثقفة في بلادنا؛ بل كثيرًا ما تقع النساء المتعلمات أنفسهن في هذا المأزق، وبصرف النظر عن الاتجاهات السياسية أو الحزبية، يسار أو يمين أو وسط، فإن قضية المرأة لا تزال غير مفهومة، ولا يزال الفصل بين الاقتصاد والجنس قائمًا، وكذلك الفصل بين الحياة الخاصة والحياة العامة، أو ما يندرج تحت أمور الدولة وأمور العائلة أو الأسرة، رغم أن الأسرة هي النواة والحجر الأساسي الذي تقوم عليه الدولة والمجتمع.
بالأمس فقط قرأت في الصحف كلامًا عن قضية المرأة المصرية يفصل بين قضايا الاقتصاد وقضايا الأسرة والجنس، يشبه الكلام الذي قرأته منذ نصف قرن، والذي يتكرر دائمًا في الأزمات أو في الانتخابات، حين تصبح قضية المرأة كبش الفداء في الصراعات على المقاعد ومراكز القوة في المجتمع والدولة.
كتبت إحدى القيادات النسائية من النخبة المثقفة تقول إن قضية المرأة في بلادنا هي قضية تتعلق بالفقر والأمية، والمطلوب هو إدماج المرأة في مشاريع التنمية والإصلاح الاقتصادي، أما مشاكل الأسرة والجنس فهي مشاكل تهم النساء في الغرب وليس النساء في بلادنا، نحن نعيش في بلاد إسلامية لها قيمها وتقاليدها وتراثها وهويتها الأصيلة وخصوصيتها الثقافية.
يذكرني هذا الكلام بما تكتبه النساء الأمريكيات المستشرقات عن قضية المرأة في بلادنا، وما صدر من كتب جديدة بأقلامهن عن المرأة والإسلام، وقد أكدت بعضهن على أن ختان المرأة وحجابها جزء من هويتها الأصلية، ويجب عدم التخلي عن هذه الهوية الثقافية في بلاد العالم.
هكذا يتم التضليل فيما يخص قضية المرأة، وكأنما التقاليد القديمة كلها إيجابية ولا بد من الحفاظ عليها، ولا توجد تقاليد سلبية يجب الإقلاع عنها، وهل الغرب كله فاسد الأخلاق مشغول بالجنس والإباحية والشذوذ؟! وهناك رجال ونساء في الغرب يكدون ويخترعون في مجالات العلم والفن والأدب، وأغلب الاختراعات والإبداعات العلمية والفنية حدثت في الغرب، فكيف نطلق هذا التعميم الخاطئ على الغرب؟!
كما أن الشرق ليس كله طاهر ونقي ومشغول بالقيم والفضيلة، وهناك رجال ونساء في الشرق يتاجرون بالجنس، ويتاجرون بالقيم الأخلاقية والدينية في السوق المالية.
لقد أصبح تقسيم العالم إلى غرب وشرق مضللًا لا يكشف عن الحقائق أو التنوع بل هي نظرة أحادية تعتمد على التعميم من أجل التعتيم على الحقيقة، وقد حدثت في الغرب مظاهرات شعبية ضد العولمة وضد البنك الدولي وضد منظمة التجارة الدولية وغيرها من المؤسسات الاستعمارية الجديدة، هذه المظاهرات لم تحدث في الشرق، لم تحدث في بلادنا رغم أن بلادنا تعاني من هذه المؤسسات أكثر من غيرها، وينالها من الفقر والبطالة أكثر مما يحدث في بلاد أخرى.
كما أن مفهوم الجنس قد تغير منذ القرن الماضي، لم يعد الجنس مجرد عملية بيولوجية أو كيميائية يمكن تنشيطها بالعقاقير أو الفياجرا، بل أصبح الجنس عملية إنسانية يشعر فيها الإنسان (الرجل أو المرأة) أنه لا يوجد انفصال بين الجسد والعقل والروح، أصبحت العلاقات بين الجنسين أكثر إنسانية وأكثر عدالة ووعيًا، وأصبح علم الجنس في كليات الطب في العالم لا يقل احترامًا عن علم النفس، وتم الترابط في الطب الحديث بين الأمراض النفسية والجسدية والجنسية لا فاصل بينها، كما أن مفهوم الاقتصاد قد تغير منذ القرن الماضي، وسقوط الفكر الجامد، الذي كان يرى أن الاقتصاد وحده محرك التاريخ، وأن رأس المال وحده مشكلة الرأسمالية، لقد تم الربط بين علم الاقتصاد وعلم الاجتماع والثقافة والتاريخ والفلسفة والطب، وفي جامعات العالم بدأت أقسام جديدة تربط بين العلوم الإنسانية وبين العلوم الطبيعية، بين الاقتصاد والفيزياء وعلم النفس وعلم الجنس، وأصبح التاريخ الاجتماعي للبشر يشمل التاريخ الجنسي والتاريخ الاقتصادي في آن واحد.
وفي علم الحضارات الجديد بدأ العلماء يرون أنه ما من حضارة نقية خالية من السلبيات، فالحضارات الإنسانية متداخلة لا يمكن الفصل بينها، والهوية متعددة الجوانب والأبعاد وليس لها جانب واحد، وتم الفصل بين الهوية الأصلية وبين استئصال الأعضاء الجنسية في عمليات الختان.
إن الأصالة أو القيم أو الأخلاق لا علاقة لها بالعمليات الجراحية التي تقطع من أجساد الإناث أو الذكور.
رغم كل ذلك لا يزال في بلادنا بعض النخبة المثقفة من الرجال والنساء الذين يرددون المفاهيم القديمة، أو الأفكار الاستشراقية الأمريكية الجديدة التي تحاول إعادتنا إلى الوراء تحت شعارات براقة جميلة، منها الهوية والأصالة والدين والخصوصية الثقافية أو التراث أو الاقتصاد وغيرها.
ولا تختلف لهجة النساء في النخبة المثقفة عن الرجال، وفي الطريقة التي ينطقون بها الحروف والكلمات، خاصة كلمة «الفقر».
لا شك أن مشكلة الفقر أصبحت خطيرة في كثير من البلاد ومنها بلادنا، لكن بدلًا من ضرب القوى العالمية والمحلية التي تؤدي إلى الفقر فإنهم يضربون قضية المرأة، كبش الفداء؛ لأنها الأضعف في ساحة الصراعات الدولية والمحلية، وتحت اسم الفقر يتم اختزال قضية المرأة، وفصل المشاكل السياسية والاقتصادية العامة عن المشاكل الخاصة داخل الأسرة أو بين الجنسين.
كلمة واحدة ينطقها الجميع بلهجة واحدة هي «الفقر»، كلهم يتحدثون عن الفقر، فمن ذا الذي يمكن أو يعترض أو يفتح فمه؟! أقل اتهام إليه أنه يقلد الغرب أو يتحدث في أمور الجنس أو الأمور الهامشية.
ألهذا صمت جميع الفقراء من النساء والرجال خجلًا وتعففًا؟! لقد عانينا منذ فترة قصيرة من محاولات إهدار دم الأدباء تحت دعاوى دينية وشعارات أخلاقية، ونحن نعاني اليوم من محاولات وأد قضية المرأة تحت دعاوى اقتصادية، أو تحت شعار «محاربة الفقر»، وهذه محاولة جديدة لاختزال قضية المرأة إلى بُعد واحد هو الاقتصاد، بعد عزله عن المشاكل الاجتماعية والأسرية والنفسية والجنسية والتاريخية التي تعاني منها الأغلبية الساحقة من النساء في بلادنا وفي بلاد أخرى من العالم.
إن كلمة «الفقر» أصبحت براقة وجميلة ورقيقة لا تخدش حياء أحد، وإن كان من رجال أو نساء الأعمال (البيزنيس)، فهي لا تكلف شيئًا، كما أن الحديث عن الاقتصاد والتنمية والإصلاح الاقتصادي إلى مزيد من الفقر أم مزيد من الثراء؟ ولمَن؟!
رأيت بعض الشابات الفقيرات جالسات فوق الرصيف في الشارع يقرأن عن الفقر في الصحف، بعد أن رفضت وزارة الشئون الاجتماعية تسجيل جمعيتهن الجديدة للنهوض الفكري لدى الشابات المصريات، لماذا رفضت الوزارة تسجيل الجمعية؟ لأنهن فقيرات لا يملكن إيجار شقة خالية تكون مقرًّا للجمعية.
طلبت مني الشابات التدخل لحل المشكلة، وذهبت معهن إلى وزارة الشئون الاجتماعية، لنكشف أن القانون الجديد للجمعيات يرفض تسجيل أي جمعية لا تملك إيجار أو شراء شقة خالية، كيف إذن تدافع الفقيرات أو الفقراء عن حقوقهم الفكرية؟!