وهذه ورقة أيضًا لم تُقدَّم في مؤتمر المرأة والإبداع، الذي عقد بالقاهرة خلال أكتوبر
٢٠٠٢؛
لأنه:
صباح اليوم الأول للمؤتمر تم العثور على جثة الكاتبة الفاضلة «أ. د. المصري»، فوق
دكة
خشبية بحديقة كازينو النيل، وتم العثور بجوار الجثة على أوراق بخط يدها، وقلمها الذهبي
المعروف، مما يدل على أن الموت فاجأها بينما كانت تكتب الورقة المزمع تقديمها في المؤتمر،
وأمرت النيابة بالإفراج عن فتاة الليل التي رآها بعض شهود العيان جالسة إلى جوار الفقيدة
الفاضلة فوق الدكة الخشبية.
(١) فتاة الليل والكاتبة الكبيرة
كانت الكاتبة الفاضلة «أ. د. المصري» تقضي السَّاعات جالسة فوق هذه الدِّكة، تحاول
أن
تقتل الوقت بالكتابة، تحملق في الأوراق طويلًا، ثم ترفع رأسها وتحملق في الظلمة، وفي
تلك
الليلة من شهر أكتوبر كان الهواء البارد قادمًا من الشمال، ينذر برياح مُتربِّصة على
الأبواب، وحرب موشكة على الهبوب.
الجو كان مُلبَّدًا بسحابة سوداء تزيد من الظُّلمة، وانقباض القلب، والتَّوجُّس من
حدوث
جريمة أو أي شيء آخر يزيد الرُّعب، وقعقعة الهواء تمتزج بقعقعة الميكروفونات المثبتة
فوق
الجوامع والمآذن، تنطلق منها الأصوات كالمفرقعات أو الرَّصاصات من فوهات المدافع.
كانت الكاتبة الفاضلة جالسة في يدها القلم، يلمع غطاؤه الذهبي في الظُّلمة، تحوطها
هالة
من الرَّهبَة مثل كبار الأدباء، لا يظهر منها إلا الرَّأس الملفوف بحجاب، أبيض مثل هرم
من
الثلج، مطرقة قليلًا فوق أوراقها تكتب.
من قلب الظُّلمة تظهر فتاة صغيرة، تسير ببطء شديد وإعياء واضح، نحيفة الجسم ترتدي
ثوبًا
أسود ضيقًا مكشوف العنق حتى الشق العميق بين النهدين، تتوقف أحيانًا لتلتقط أنفاسها،
وتستدير برأسها الصغير يحوطه شعر كثيف أسود، منكوش قليلًا، تتطلع إلى السماء تخاطب الرب
بصوت غير مسموع يشبه التمتمة المكتومة.
تراقبها الكاتبة الفاضلة لحظة ثُمَّ تنكفئ فوق الورقة تكتب، وتمرُّ الفتاة دون أن
تُلاحظها، ثم تنتبه إلى وجودها، فتعود إليها وتجلس على طرف الدكة بحيث تترك مسافة كبيرة
بينها، ترفع الكاتبة «أ. د. المصري» عينيها نحوها بشيء من الفضول دون أن تقول شيئًا،
الفتاة
ترمقها بنوع من الاستطلاع الطفولي، تتأمل من بعيد حروفها فوق الورقة، تبتسم قليلًا ثم
تقول …
الفتاة
:
يبدو أنك منشغلة بالكتابة يا سيدتي.
الكاتبة
(بصوت خشن)
: آسفة، أنا مشغولة جدًّا ولا أخاطب بنات الليل.
الفتاة
(في حرج)
:
عندك حق يا سيدتي أعتذر لك.
(تهم الفتاة بالنهوض لتغادر المكان، لكن الكاتبة الفاضلة تشعر
بتأنيب الضمير أو شيء من الشفقة.)
الكاتبة
:
يمكنك الجلوس إن شئت.
الفتاة
:
سأستريح قليلًا ثم أواصل المشي.
الكاتبة
: أنا لا أملك هذه الدكة ويمكنك الجلوس كما تشائين.
(تعود الفتاة إلى الجلوس وهي تمسح حبات العرق عن وجهها بمنديل صغير أبيض، ترمقها الكاتبة
الفاضلة بطرف عين، تتطلع الفتاة إلى السماء السوداء وتهمس مخاطبة الرب.)
الفتاة
:
أنت شاهد على أنني لم أكن من بنات الليل.
الكاتبة
:
كنت إذن فتاة شريفة؟
الفتاة
(تبتسم)
:
أشكرك على هذه الكلمة الرقيقة، وإن كانت عن الماضي وليس الحاضر، في حياتي
كلها لم أسمع هذه الكلمة «شريفة»، يا لها من كلمة جميلة!
(الكاتبة تنصرف عنها إلى كتابة الورقة، ترمقها الفتاة طويلًا وهي تكتب، يبدو أن الكاتبة
متعثرة قليلًا والقلم الذهبي لا يتحرك في يدها، وإن كان يلمع في الظلمة.)
الفتاة
:
هل تسمحي لي أن أسألك سؤالًا صغيرًا يا سيدتي؟
الكاتبة
:
ما هو هذا السؤال؟ (دون أن ترفع رأسها عن الورقة).
الفتاة
:
هل أنت كاتبة يا سيدتي؟
(الكاتبة ترفع وجهها ناحيتها وترد بصوت ينم عن الضيق قليلًا.)
الكاتبة
:
بالطبع! ألا تعرفين ذلك؟ ألم ترين صورتي في الصحف وفوق شاشة التليفزيون؟
الفتاة
:
أعتذر لك يا سيدتي، ليس عندي تليفزيون ولا أستطيع شراء الصحف.
الكاتبة
:
آه، هذا مفهوم بالنسبة لك.
الفتاة
:
لكني أحرم نفسي من الطعام أحيانًا لأشتري كتابًا.
الكاتبة
:
لا بد أنك قرأت كتابًا من كتبي.
الفتاة
:
هل لك كتب يا سيدتي؟
الكاتبة
(بحماس)
:
عندي الكثير من الكتب، وحصلت على جائزة الدولة ولقب كاتبة كبيرة.
الفتاة
:
أعتذر لك عن جهلي يا سيدتي، لكن …
الكاتبة
:
لكن ماذا؟
الفتاة
:
لا بد أن عندك مكتبًا كبيرًا وبيتًا جميلًا فيه مكتب أيضًا.
الكاتبة
:
بالطبع.
(تصمت الفتاة مترددة ثم تقول بشيء من الحرج …)
الفتاة
:
أعتذر عن تطفلي يا سيدتي، كيف لكاتبة كبيرة مثلك أن تجلس في الليل فوق هذه الدكة
وتكتب؟
(تطرق الكاتبة وتعود إلى الورقة في صمت، الفتاة أيضًا تصمت،
وتشرد عيناها بعيدًا وهي تهمس لنفسها …)
الفتاة
:
في الماضي البعيد وأنا طفلة كان لي مكتب صغير في غرفة نومي، وكانت لي مفكرة أكتب
فيها.
الكاتبة
(دون أن ترفع رأسها عن الورقة)
:
كنت تكتبين؟!
الفتاة
(شاردة دون أن تنظر إليها)
:
في الماضي البعيد حين كنت فتاة شريفة.
الكاتبة
:
آه، هذا مفهوم.
(تحرك الفتاة رأسها نحو الكاتبة وتتسع عيناها السوداوان ويملؤهما بريق خاطف مع
السؤال …)
الفتاة
:
ما هو المفهوم يا سيدتي؟
الكاتبة الفاضلة
:
علاقة الكتابة بالشرف أتفهمين؟!
الفتاة
:
أبذل كل جهدي لأفهم، وإن كنت لا أفهم، فأنا مرهقة من طول المشي، لا أستطيع أن
أقول لك متى يبدأ المشي ومتى ينتهي، يبدو أنه بلا نهاية، خالد إلى الأبد مثل الرب.
الكاتبة
(في ضيق)
:
أستغفر الله العظيم، ألست مؤمنة وموحِّدة؟!
الفتاة
:
معذرة يا سيدتي إن جرحت إحساسك، وقد تقولين عني غير مؤمنة كما قلت عني غير شريفة،
ولكن … آه من هذه الكلمات الجارحة، إنها مؤلمة للجسم أكثر من الصفعات باليد أو القدم،
آه من
هذه الكلمات يا سيدتي، إنها كارثة …
الكاتبة
:
ما هي الكارثة؟
الفتاة
:
نعم يا سيدتي، الكلمات هي اللغة، وهي وسيلة الكتابة الوحيدة، ومع ذلك لا تسمح بها
… نعم لا تسمح بها …
(تصمت الفتاة وهي شاردة، الكاتبة الكبيرة ترمقها باهتمام بعد أن كانت غير مبالية
بها.)
الفتاة
:
هل أضيع وقتك الثمين يا سيدتي بهذا الكلام الفارغ؟
الكاتبة
:
لا … استمري … أنا أستمع إليك.
الفتاة
:
أشكرك على حسن استماعك، كل ما أريد أن أقول: إن الكتابة … آه، هذه الكتابة أمرها
عجيب، أرجوك صدقيني، إنها ليست شيئًا واضحًا يمكن كتابته على الورق، كانت هي هكذا دائمًا
منذ طفولتي، ولم يكن هناك شيء يؤنسني في وحدتي إلا هي، أنا أحبها يا سيدتي لأنها تواسيني
بطريقتها الخاصة، وأنا بحاجة إليها وأنا في الليل وحدي، والريح تعوي كالذئاب، وهذه الأصوات
المفرقعات من فوهات الميكروفونات، ولا شيء لا شيء، يبعث على الراحة، وأنا أمشي وأمشي
حتى
أشعر بالإعياء، فأستريح فوق أي دكة في الطريق، وأقول لنفسي كم أنا فتاة محظوظة، لأنني
أستطيع الجلوس في النهاية، وأفتح مفكرتي الصغيرة منذ الطفولة، وأكتشف حروفي المختفية
بين
السطور، والموسيقى الخافتة للكلمات.
(تتوقف الفتاة عن الحديث، يبدو عليها الإعياء الشديد، تمسح حبات العرق عن وجهها بالمنديل
الأبيض الصغير، تلتقط أنفاسها.)
الكاتبة
(باهتمام)
:
لماذا توقفت؟ هذا حديث جميل يا ابنتي.
الفتاة
(تبتسم)
:
آه، هذه الكلمة «يا ابنتي» تثير حنيني إلى أبي.
الكاتبة
:
كنت أتصور أنني بصفتي امرأة تثير حنينك إلى الأم.
الفتاة
:
لم يكن لي أم يا سيدتي.
الكاتبة
:
آه آسفة لهذا.
(تصمت الفتاة لحظة وهي تبتلع دموعها خلسة وتعدل من فتحة ثوبها لتخفي الشق بين نهديها،
ثم
تقول …)
الفتاة
:
وأنت يا سيدتي، هل كان لك أم؟
الكاتبة
(في أسى)
:
نعم كان لي أم.
الفتاة
:
وأب.
الكاتبة
:
نعم بكل أسف.
الفتاة
:
وهل أنت متزوجة؟
الكاتبة
:
نعم بكل أسف.
الفتاة
:
أعتذر لك إن كانت أسئلتي تؤلمك.
الكاتبة
:
لا بالعكس، أشعر بشيء من الراحة في الحديث معك.
الفتاة
:
وهل بيتك بعيد؟
الكاتبة
:
لا، بيتي قريب، إنه هنالك في الناحية الأخرى من هذه الحديقة، وأنا أجلس هنا أطل
عليه، انظري، إنه هناك، ذلك البيت الأبيض الكبير، إنه بيتي وأنا أنتظر ظهور الفجر لأعود
إليه وأنام.
الفتاة
(تتطلع نحو البيت في صمت طويل وشرود ثم تقول)
:
آه، كم هو صعب الانتظار، حتى طلوع الفجر، أصعب شيء في حياتي هو الانتظار، رغم
التعب أنا أفضل المشي على الانتظار؛ ولهذا أنا أكتب يا سيدتي، فالوقت يمضي بسرعة ونحن
نكتب.
الكاتبة
:
هذا صحيح تمامًا، لكن كيف أدركت كل هذا وأنت في مقتبل العمر؟!
الفتاة
:
كنت مجبرة على ذلك، وقد بلغت العشرين من عمري منذ ثلاثة أيام، وأشعر كأنني في
الستين أو السبعين، وكلما أمشي أحس كأن قدمي مقيدتان بسلسلة من الحديد.
الكاتبة
:
وأبوك أين هو؟
الفتاة
:
أبي تزوج امرأة شريفة تملك بيتًا، وهو بيت ضيق تجبره زوجته فيه على أن ينام على
كليم فوق الأرض وهي تنام على السرير.
الكاتبة
:
ألا يمكنك النوم في بيت أبيك بدلًا من هذه الدكة؟!
الفتاة
:
لا يا سيدتي، أنا غير مسموح لي بزيارة أبي.
الكاتبة
:
أليس لك أقارب أو قريبات، عمتك مثلًا أو خالتك؟ ألا ترين أنك لا تستطيعين
الاستمرار هكذا؟
الفتاة
:
لم لا يا سيدتي؟ ألست مثلي تقضين الليل فوق هذه الدكة؟
الكاتبة
:
نعم، ولكني عند الفجر أعود إلى بيتي، وأتناول طعام العشاء، ثم أدخل إلى الفراش
بلا صوت حتى لا أوقظ زوجي.
الفتاة
:
أنت إنسانة حساسة، لكن ماذا يفعل زوجك في الليل، أهو يكتب مثلك؟
(الكاتبة الكبيرة تصمت شاردة بعينيها في الظلمة، تمسح حبات العرق عن وجهها بطرف حجابها
الأبيض.)
الكاتبة
:
لو كان يكتب ربما هان الأمر.
الفتاة
:
أرجو المعذرة، لا تتكلمي إن كان ذلك يؤلمك.
الكاتبة
:
بالعكس، ربما أشعر بشيء من الراحة لو حدثتك عن أشياء أخفيها عن نفسي.
الفتاة
:
هذا يذكرني بطفولتي حين كنت أعترف لمفكرتي بأشياء لا أعترف بها لنفسي، وكنت أسمع
من الناس أن أبي رجل غير شريف، وأود أن أقتله لأمسح العار بالدم، لولا أنه كان يضحي بشرفه
من أجل إطعامي.
الكاتبة
:
كلنا بشكل أو بآخر نتحمل الإهانة من أجل هدف نبيل.
الفتاة
:
وماذا كان هدف حياتك؟ الكتابة؟!
الكاتبة
:
آه، الكتابة، نعم يا ابنتي، لكن ما جدوى الكتابة إذا بقيت في الدرج دون أن ترى
النور؟ وهذا أمر بالغ الصعوبة، أتفهمين ما أقول؟
الفتاة
:
نعم أفهم يا سيدتي، وعندي قصة قصيرة لم يمكن لها أن ترى النور إلا بعد أن قدمت
نفسي لأحد الرجال، كانت الأبواب مغلقة في وجهي وليس أمامي طريق آخر، أتقولين عني غير
شريفة؟
(تصمت الكاتبة طويلًا وهي تمسح وجهها بطرف طرحتها البيضاء ثم
تقول متلعثمة …)
الكاتبة
:
لا … لا أقول عنك هذه الكلمة القاسية؛ لأن هدفك كان نبيلًا، وهو أن
ترى كلماتك النور، هذا هو حال الدنيا يا ابنتي.
الفتاة
:
أتقولين إن الدنيا نفسها غير شريفة؟
الكاتبة
:
نعم لا، لا أعرف الحقيقة تمامًا؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم …
(يبدو الإعياء الشديد على الكاتبة الكبيرة، يسقط القلم من يدها والورقة على الأرض، تنظر
في
ساعة يدها بعينين غائمتين، أطراف أصابعها ترتعش، لا تكاد ترى أرقام الساعة.)
الكاتبة
(في إعياء شديد)
:
لم أعد أرى الأرقام كما كنت، انظري يا ابنتي كم تكون الساعة؟
لكن الظلمة لا تزال شديدة والفجر لم يطلع بعد لأعود إلى البيت.
(الفتاة تساعد الكاتبة في تجميع الورق الساقط على الأرض، وأنفاس الكاتبة اللاهثة تنم
عن
الإعياء القريب من الإغماء، تساعدها الفتاة على تمديد ساقيها المتورمتين فوق الدكة، تستعيد
الكاتبة أنفاسها مستريحة قليلًا، ترمق الفتاة البيت الأبيض في الناحية الأخرى من الحديقة
وتسأل في حرج …)
الفتاة
:
بيتك قريب، هل آخذك إلى بيتك لتستريحي يا سيدتي؟
الكاتبة
:
لا، لا أريد العودة حتى يطلع الفجر.
الفتاة
(في حيرة)
:
ألا يمكنك العودة قبل ذلك؟
الكاتبة
:
يمكنني العودة في أي وقت، لكني أفضل البقاء هنا حتى يخلو البيت وينام زوجي،
أتفهمين؟
الفتاة
:
أبذل كل جهدي لأفهم يا سيدتي، وهذا يذكرني بطفولتي حين كنت أفضل عدم العودة إلى
البيت حتى يخلو تمامًا ويغيب أبي في النوم، ولا بد أنك عرفت الحزن مثلي يا سيدتي.
الكاتبة
:
الحزن؟ نعم، ربما هناك علاقة بين الحزن والكتابة، لكني قاومت الحزن حتى
نجحت.
الفتاة
:
أنت سعيدة إذن يا سيدتي.
(الكاتبة وهي تغمض عينيها كأنَّما تروح في الغيبوبة أو في
النَّوم، وصوتها يهمس …)
الكاتبة
:
الحمد لله على كل شيء، وسوف يعوضني في الآخرة عن ألم
الدنيا، وأنا لم أضمر الشر لأحد حتى لهذه الفتاة اللعوب التي أكلت عقل زوجي بعد أن
تجاوز السبعين، وكتب البيت باسمها الذي دفعت فيه مدخرات عمري، إنها في العشرين من
عمرها مثلك، وكانت من بنات الليل، واليوم أصبحت تحمل لقب السيدة الفاضلة حرم
الوزير.
الفتاة
:
هل أستدعي لك طبيبًا يا سيدتي؟!
الكاتبة
(في ذعر)
:
لا لا لا أريد أن يراني أحد هنا.