اختيار الصعب
تكشف الحوادث اليومية عن القيم الغائبة في الفكر المعاصر في بلاد العالم وفي بلادنا، ينشغل أغلب الناس بالسهل السريع العائد، مثلًا في أمريكا ينشغل أغلب المثقفين بالحمى الانتخابية بين الحزبين المتنازعين على السلطة، يتبادل المرشحون الاتهامات، يحاول كل منهم خداع أكبر عدد من الناس بالوعود التي لا يمكن تحقيقها في ظل النظام الحاكم الذي ينطوي جميعهم تحته.
ضحكت وأنا أستمع إلى وعود جورج بوش (الابن) وآل جور (نائب كلينتون)، كلاهما سوف يقضي على الفقر والبطالة.
ألم نسمع المرشحين السابقين يُقدِّمون هذه الوعود نفسها؟ هل قضى أحد منهم على الفقر في أمريكا؟ بل لقد زادت الهوة بين الفقراء والأغنياء!
بالمثل ضحكت وأنا أستمع إلى وعود المرشحين في بلادنا، يجولون في الحواري الطافحة بالمجاري، يقدمون الوعود نفسها للفقراء، سوف نقضي على الفقر والبطالة إن دخلنا البرلمان أو مجلس الشعب، يقولون ذلك في الصباح، وفي المساء يجلسون إلى مائدة العشاء مع الوزراء والمسئولين عن السياسة الاقتصادية المؤدية إلى الفقر والبطالة، دون أن يعترضوا على هذه السياسة، لأسباب متعددة منها عدم الفهم لما يسمى الإصلاح الاقتصادي، أو التنمية التي تؤدي إلى توسيع الهوة بين الفقراء والأغنياء، ومنها الخوف من نقد أصحاب السلطة، أو تجاوز حدود النقد المرسومة، أو تجاوز الخطوط الحمراء، مما قد يعرضهم للخطر، وليس فقط السقوط في الانتخابات.
أغلب الناس في بلاد العالم (ومنها بلادنا) لا يذهبون إلى صناديق الانتخاب، لقد أدركوا اللعبة على مر السنين، منذ نشوء ما سُمي البرلمان، وهل نجح البرلمان في القضاء على الفقر في أمريكا أو أوروبا أو أي بلد آخر في العالم؟ ولماذا تزيد الهوة على الدوام بين الفقراء والأغنياء وبين النساء والرجال، تعاني النساء أكثر إلى حد شيوع الظاهرة التي عرفت باسم تأنيث الفقر؟ وهل نجح البرلمان في القضاء على الفروق بين الناس (بسبب الدين أو الجنس أو العرق أو اللون أو غيرها) أم أن هذه الفروق زادت وانتشرت الحروب والنزاعات الطائفية والعرقية والعنصرية؟
ثم لماذا تشجع الحكومات الناس على المشاركة في الانتخابات؟ أليس هذا دليلًا على أن هذه الانتخابات جزء من نظام الحكم القائم على إفقار الأغلبية من النساء والرجال وخداعهم؟ وجزء من القيم التي تحكم العالم القائمة على القوة وليس الحق؟ ألسنا في حاجة إلى طرح أسئلة جديدة لنفهم لماذا يتراجع أصحاب الحق أمام أصحاب القوة المسلحة أو القوة الاقتصادية؟
انظروا كيف أصبح القرار الأعلى في يد دولة عسكرية عنصرية مثل إسرائيل، تقتل الأطفال ثم تخرج من الساحة بريئة، ويصبح الأطفال هم المدانون المعتدون؟ في ظل النظام البرلماني الديمقراطي في العالم يتحول الضحايا إلى جناة، ويطلق سراح القتلة، أسمعتم ما قاله كوفي عنان المسئول الأول في الأمم المتحدة؟ لقد أدان الأطفال وطالبهم بإيقاف عدوانهم على إسرائيل المسكينة، شيء مضحك فعلًا، لكن لماذا نذهب بعيدًا وهذا المنطق ذاته يحكم حياتنا اليومية هنا في عقر دارنا؟
منطق القوة فوق الحق!
اقرءوا معي هذا الخبر الذي نشرته الصحف دون أن يعلق عليه أحد:
قتل موظف ابنته عمرها ١٧ عامًا؛ لأن أحد أقاربه عنده ٥٧ عامًا استدرجها داخل الحقول واعتدى عليها مستغلًّا صغر عمرها وضعف بنيانها، ماذا نتوقع من محكمة عادلة؟ لكن العدل يغيب أمام القوة، تقف المحكمة مع الأب القاتل تتعاطف معه، تقول إنه فقد وعيه لحظة دفاعه عن شرفه! هكذا ضاع حق البنت المقتولة ظلمًا وغدرًا، لكن هذه المحكمة ذاتها تحكم بالأشغال الشاقة عشر سنوات على أم صغيرة عمرها ١٨ عامًا قتلت مولودها، الذي أنجبته من رجل أخذها عنوة، خدعها بالزواج ثم هرب، وهي فتاة صغيرة فقيرة ليس لها أحد، من شدة حبها لمولودها وخوفها عليه من قسوة المجتمع حوطته بذراعيها حتى مات في حضنها وهي تبكي، لم تتعاطف المحكمة مع الأم الصغيرة الضحية كما تعاطفت مع الأب الكبير الأقوى، وقالت المحكمة إن الأم التي تقتل طفلها امرأة تجرَّدت من العواطف الإنسانية، لماذا لم تقل المحكمة هذا الكلام عن الأب الذي قتل ابنته؟ صورت المحكمة هذا الأب القاتل على أنه ضعيف وفاقد الوعي في لحظة القتل! أما الأم الفتاة الصغيرة الضحية فهي ليست ضعيفة، ولا يجوز لها أن تفقد الوعي مثل الرجل الكبير! كأنما الرجل هو الجنس الضعيف اللطيف الذي يستحق الرحمة، وليس المرأة أو الفتاة الصغيرة، أي قلب الأوضاع!
لم ينطق أحد مدافعًا عن حق هذه الفتاة الصغيرة التي حكم عليها بالسجن مع الأشغال الشاقة عشر سنوات، ولم ينطق أحد دفاعًا عن الابنة الصغيرة التي أهدر دمها، وكم من حوادث من هذا النوع تهدر فيها دماء البنات الصغار ظلمًا وغدرًا دون أن يعترض أحد داخل البرلمان أو خارجه من المدافعين عن حقوق الإنسان.
أليس دم هؤلاء البنات الأطفال مقدسًا وثمينًا مثل دم الأطفال في فلسطين؟ أليس دم البنت الطفلة المقتولة بيد أبيها مثل دم الطفل المقتول بيد إسرائيل؟ لقد غضبنا عن حق لمقتل الطفل الفلسطيني، فلماذا لم نغضب أيضًا لمقتل البنت المصرية؟ هل لأنها تعيش في قرية فقيرة مجهولة؟ هل لأن صورتها لم تظهر في الصحف أو على شاشة السي إن إن؟
في طفولتي سمعت أبي يقول: احترمت نفسي حين خيرتها بين السهل والصعب فاختارت الصعب، ربما لهذا السبب لا أنظر بإعجاب كبير لهؤلاء الذين يركبون الموجة، وإذا كان الجميع على رءوسهم الحكومات قد بكوا ولطموا الخدود حزنًا على إهدار دم الطفل محمد الدرة، فلماذا لم يذرف أحد دمعة واحدة على هذه الطفلة المقتولة وغيرها من البنات الصغيرات المقتولات؟ بالطبع كان البكاء الجماعي سهلًا وميسورًا لا يعاقب عليه أحد، ومن السهل البكاء في الصباح ثم السهر في الليل مع الوزراء وأصحاب السياسة التي أدت إلى إهدار دم الطفل الفلسطيني البريء.
نشهد هذا التناقض في حياتنا كل يوم، ينتابني الغثيان وأنا أشهد الصراع الدامي حول السلطة تحت اسم النيابة عن الشعب، أصبح البرلمان هو المكان، والانتخابات هي الوسيلة، ويكيل المرشحون الوعود للفقراء والمُعدمين، يُعبئون لهم الوهم في الزجاجات، من أجل المقعد تحت القبة ألا تتكرر هذه الحمى في مواسم الانتخابات مثل مواسم الدودة والكوليرا والحمى الصفرا؟ وهل تحقق وعد واحد من هذه الوعود؟
المسرحية تتكرر ربما يتغير الممثلون والممثلات، إلا أن المسرحية هي هي، والوعود هي هي، القضاء على الفقر والبطالة، ويظل الفقر بل يزداد ضراوة، والبطالة تزيد عامًا وراء عام، ألم تسمعوا عن الشباب المصري الذين يسافرون إلى إسرائيل بحثًا عن عمل؟ ألم تسمعوا عن أم قتلت طفلها لتحميه من الجوع أو الفضيحة، فإذا تُعاقب بالسجن مع الأشغال الشاقة؟
هل دافع عضو واحد أو عضوة واحدة في البرلمان عن هذا القطاع من الأمهات المقتولات، أو البنات البريئات اللائي يُهدر دمهنَّ وهن الضحايا؟ هل أدخلهن أحد المرشحين أو إحدى المرشحات ضمن برنامج الدفاع عن حقوق الشعب؟ ألا يدخل هذا القطاع المتزايد العدد على الدوام ضمن قطاعات الشعب؟
لا يمكن، فهذا هو الطريق الصعب الذي يدفع فيه الإنسان ثمنًا باهظًا، وليس الطريق السهل الذي يمشي فيه الجميع، ليس الكورس الذي يشارك في المسرحية المعروضة بتصريح، والذي ينتهي دوره بإنزال الستار والحصول على الأجر.
لا شك أن دماء الأطفال والنساء والشباب المهدرة على أرض فلسطين تستوجب العمل الجاد والمقاومة الفعلية، وتجميع القوى العربية وغير العربية ضد الاعتداء الإسرائيلي العسكري وغير العسكري، أصبحت هذه المقاومة ضرورية لحياتنا نحن وليس فقط من أجل فلسطين، إن الزحف الإسرائيلي والأمريكي لن يترك بلدًا واحدًا مستقلًّا، ولكن إن فاقد الشيء لا يعطيه، وإصلاح البيت من الداخل لا ينفصل عن إصلاحه من الخارج، والدفاع عن الدم المهدر في الداخل، فالدم هو الدم بصرف النظر عن المكان، والطفلة الفقيرة في القرية المجهولة بالصعيد لها حقوق الإنسان مثل ابنة الملك أو الرئيس في أي دولة من الدول الكبرى أو الصغرى.
أصبحت أتابع صفحات الحوادث اليومية في الصحف أكثر من أخبار النجوم والملوك والرؤساء، فهي تكشف المآسي التي يعيشها المهمشون في الأرض، عن قاع المجتمع حيث تعاني البنات الفقيرات، اللائي يتعرضن للموت سرًّا دون أن ينطق أحد، بسبب حساسية ما نسميه الشرف، وهو ليس الشرف الحقيقي النابع من العدل والصدق، بل الازدواجية الأخلاقية على المستوى العائلي والمستوى الدولي في آن واحد، الازدواجية التي تجعل القوة فوق الحق، القوة الغاشمة التي تقتل تحت اسم الدفاع عن أمر الله أو الأرض الموعودة، بمثل ما تقتل تحت اسم الشرف، أليس الشرف المزيف مثل الأرض الموعودة وشعارها الديني المزيف؟
قال أبي وأنا طفلة في السابعة من العمر: من السهل أن نركب موجة الغضب مع الجميع، لكن من الصعب أن نغضب ضد الظلم حين يصمت الجميع، إنه أمر صعب، لكني احترمت نفسي حين خيرتها بين السهل والصعب فاختارت الصعب.