إبليس في أرض الخوف
(١) قبل أن أرى الفيلم
وأنا لست ممن يحكمون على الأعمال الإبداعية بالجوائز في المهرجانات أو تكريم الدول، إن أعظم المبدعين والمبدعات في التاريخ البشري ماتوا دون أن يطرف جفن العلم ودون أن يمشي في جنازاتهم أحد، وبعضهم مات في السجون أو المنفى أو أقدم على الانتحار.
مع ذلك قررت أن أرى هذين الفيلمين، فأنا أعيش حالة من البحث المرهق عن عمل فني جيد أطرد به القبح والأعمال الهابطة، لقد سافرت غربًا وشرقًا وشمالًا وجنوبًا، وفي كل بلد أبحث عن فيلم جيد دون جدوى، ماذا حدث للعالم؟ كيف تطغى الأفلام الأمريكية على سطح الشاشة الكبيرة والصغيرة بهذا الإسهال المريض؟ حتى مدينة باريس التي كانت تزهو باستقلالها الفني أصبحت أفلامها أمريكية أبطالها رعاة البقر، ومدينة لندن الأكثر رصانة غرقت أسواقها بأفلام بطلاتها العاريات يمسكن المسدسات، ومدينة القاهرة أصبحت كأنما هي مدينة أخرى لا أكاد أعرفها تغطي جدرانها الأفلام الأمريكية أو المصرية، لا أكاد أعرف هذه من تلك، فالكل يدور حول قصص غارقة في الخيال، أو في دخان المخدرات، وبطلات لا همَّ لهن إلا الرجال، ورجال لا همَّ لهن إلا النساء! أتكون هذه هي حياة الملايين من الرجال أو النساء أمثالي أنا؟
تذكرت أنني رأيت فيلمًا منذ سنوات أخرجه داود عبد السيد، وقررت المجازفة والخروج من بيتي إلى الشارع، والسير على القدمين حتى السينما التي تعرض فيلم أرض الخوف، لن أتحدث عن الشارع وما فيه وما خرق أذني من كلمات السباب، تنطلق من أفواه الصبية الجالسين على المقاهي، أو السائرين على الأرصفة، كيف يعاكسون البنات في الطريق، السافرات والمحجبات على قدم المساواة، الشابات والكهلات من مثلاتي، صفعت رجلًا على وجهه حاول مغازلتي، وشتمت ولدًا يركب دراجة حاول أن يدهسني، كدت أعود إلى البيت، لكني واصلت السير، إن التحدي يجري في دمائي منذ الطفولة، ولن أتراجع عن هدفي مهما صادفني من مشاق.
(٢) خلال رؤية الفيلم
دفعت خمسة وعشرين جنيهًا ثمن التذكرة، كدت أردها وأسترد أموالي، كيف تتضاعف الأسعار بهذا الشكل؟ وهي سيما عادية، المقاعد فيها عادية، والبراغيث أيضًا عادية، والجمهور عادي، أغلبه من الشباب والصبيان، إلى جواري فتاة ترتدي الحجاب يحوطها رجل بذراعه ويقبلها في الظلمة.
وظهر أحمد زكي، له وجه مصري صميم وذكورة واضحة تقليدية، الرجولة المتحفزة للدفاع عن نفسها في أي لحظة، التي تتصور أن ما امرأة في العالم إلا وتسقط بين ذراعيه هيامًا وعشقًا، لكن المخرج داود عبد السيد استطاع أن يُقلم قليلًا من أظافر هذه الرجولة، رأيت مشاهد تفيض بالحنان والرقة حين يتعامل أحمد زكي مع النساء، حتى تلك المرأة التي عاشرها لمدة ليلة واحدة، بمقدم الصداق ثم طلقها في اليوم التالي بمؤخر الصداق، والتي أحبته دون أن تعرفه، وبكت بالدموع لأنه سيفارقها، كيف أحبته في ليلة واحدة؟ أهي الرجولة الفتاكة؟! وتلك المرأة الأخرى الفنانة المستقلة التي تترك بابها مفتوحًا فيدخل أحمد زكي فإذا بها تقع صرعى الحب من أول نظرة، وتلك الأخرى والأخرى، نماذج من النساء فوق الشاشة المصرية والأمريكية، نساء يتلاشى استقلالهن في لحظة خاطفة أمام نظرة ذكورية مقتحمة من نوع نظرات أحمد زكي، لم تظهر امرأة واحدة في الفيلم بشخصية أخرى غير تقليدية، وهذا عيب عام في الأفلام المصرية والأمريكية على حد سواء، فالرجل تتغير شخصيته مع تغير الصراع الذي يعيشه مع النظام الحاكم في الدولة، لكن المرأة هي المرأة ولا شيء يشغلها إلا الرجل، وإن كانت فنانة مبدعة مثل بطلة الفيلم.
يدور فيلم أرض الخوف حول موضوع هام وخطير، وقد نجح داود عبد السيد في تصويره، من خلال قصة تقليدية، أحمد زكي ضابط بوليس يتلقى أمرًا من رئيسه، أن يسعى لاكتشاف أوكار تجار المخدرات متنكرًا في شخصية أخرى مثلهم، يؤدي أحمد زكي يمين الطاعة والولاء من أجل خدمة الوطن وإنقاذ الشباب من براثن المخدرات، لكنها مهمة شاقة خطيرة يؤديها مدى الحياة، فلا طريق للعودة، ولا أمل في الخلاص، لقد صدر الأمر الأعلى وانتهى الأمر، عليه أن يؤدي دورًا شريرًا أشبه بدور إبليس، وهو إنسان لا يحب الشر، قلبه دافئ يحن إلى الحب والحياة الآمنة المستقرة، لكن الدور الشيطاني قد فُرض عليه بقرار أعلى، كالمصير المحتوم يؤدي المهمة، يحاول التمرد أحيانًا من شدة التعب إلا أنه لا يملك حياته، فالقرار بيد سلطة كبرى لا يكاد يعرفها ولا يصل إليها مهما سعى، إنه مثل البطل في قصص فرانز كافكا، الإنسان المحكوم عليه دون أن يعرف من أصدر الحكم، لكن الحكم ينفذ، كيف يكون الإنسان قشة في مهب الريح، أداة في يد الجهاز السلطوي الأكبر، جهاز غامض الوجوه والأسماء، كل شيء فيه مجهول، جو المخابرات العامة والمباحث، الوجوه المتنكرة ذات الأقنعة تتحرك كالعرائس الممسوكة من أعلى المسرح بخيوط غير مرئية، لكنها خيوط قوية متينة تربط الإنسان بمصيره الأبدي حتى الموت مقتولًا أو قاتلًا، أو مهاجرًا متنكرًا، مطاردًا.
هذا هو حال أحمد زكي في الفيلم، وقد أدى الدور ببراعة وإتقان، أصبح تاجر مخدرات ناجحًا، لكنه لم يفقد قلبه الدافئ والحنين إلى الحب الجميل والصدق والحرية، وكلها تبدو كالأحلام المستحيلة، مثل أحلام إبليس حين أراد أن يعلن التوبة، لكن الإرادة الإلهية الأعلى لم تقبل توبته، وإلا كيف يعيش الناس بدون شيطان؟!
لقد تجاوز داود عبد السيد في هذا الفيلم بعض الحدود المفروضة على الفكر الإنساني — على الأقل في بلادنا — تذكرت وأنا أشهد الفيلم قصة قصيرة لتوفيق الحكيم، تدور القصة حول مأساة إبليس حين قرر أن يتوب عن الشر، وذهب إلى الأنبياء جميعًا، واحدًا وراء الآخر، يطلب منهم التوسط بينه وبين الإله الأعلى من أجل أن يقبل توبته، تنتهي القصة كما انتهى فيلم أرض الخوف، أن إبليس يظل إبليس بالأمر ولا سبيل إلى الخلاص، إنه القضاء والقدر الذي لا راد له.
لكنها في الفيلم إرادة عليا أخرى ليست دينية، إرادة الدولة، أو إرادة الجهاز الأكبر في الدولة الذي أصدر القرار، المخابرات.
في نهاية الفيلم يدور الحوار بين أحمد زكي ورئيسه، يتمرد أحمد زكي (إبليس) على رئيسه ويصفعه ويركله يود أن يقتله، لكن ماذا يفيد ذلك، فهناك رئيس آخر فوق هذا الرئيس، وهناك فوق ذلك رئيس آخر، ولا يمكن لأحد أن يصل إلى قمة الهرم فهي تختفي وراء السحاب كما تختفي الآلهة.
يكشف الفيلم في مواقف متعددة عن كيف تتعاون الشرطة مع تجار المخدرات وكيف يتاجر الرجل في المخدرات، ثم يركع ويصلي لله يطلب التوبة، وكيف يستخدم تاجر المخدرات ورقة الدين ليبرر أعماله، كيف يتزوج المرأة ليلة واحدة فقط ثم يطلقها في اليوم التالي بعد أن يدفع لها المقدم والمؤخر، أي تلاعب بورقة الدين وفكرة التوبة والصلاة ومسح الذنوب أولًا بأول.
الفكرة جيدة تكشف الكثير من الزيف في حياتنا السياسية والدينية، أراد لها داود عبد السيد أن تصل إلى قلوب الناس وعقولهم فهل وصلت؟! ربما، وربما لا؛ لأنه كان يمشي بحذر شديد فوق الألغام، لم يشأ أن ينفجر فيه لغم، وكان الإخراج ناعمًا رقيقًا بلا صدمات ولا دم كثير، ولا خدش أصاب أحمد زكي رغم حياته الخطرة، لقد نال كل شيء في الحياة عن طريق الشر، نال المال والنساء، إلا أنه فقد السعادة وراحة البال، مثل إبليس الشقي الذي أصابته لعنة الله إلى الأبد.
أتوقع أن يفوز هذا الفيلم بجائزة في البحرين بسبب الإخراج الناعم المتقن وجاذبية أحمد زكي الشيطانية، ولِمَ لا؟ لقد تمتع إبليس بجاذبية كبيرة لإفساد النساء والرجال، وإلا فلماذا هو بالذات الذي صدر له الأمر الإلهي؟ ولماذا أصبح الإبداع أو الفن يحمل اسم الشيطان؟! ألا نقول «شيطان الفن» أو «شيطان الشعر»؟!
هذا فيلم جيد في السينما المصرية يستحق الرؤية، وهو فيلم طويل ربما يكون أفضل لو تم اختصاره قليلًا، وحذفت بعض الأجزاء غير الضرورية والتي تجعل الفيلم مملًّا أحيانًا، خاصة الاستعراض المصنوع لذكورة أحمد زكي وعلاقاته النسائية المتعددة، وتلك المبالغة في إظهار بطولته الخارقة وكأنه طرزان.
لولا هذه الأجزاء لأصبح هذا الفيلم حدثًا في تاريخ السينما المصرية.