عن الحقوق المدنية والسياسية
(١) ملاحظة أولى
لاحظت أن عبارة الحقوق المدنية أصبحت تتردد في بعض بلادنا العربية، وخاصة في مصر أو الجزائر أو تونس أو غيرها من البلاد التي تتمتع بشيء مما أطلق عليها «الديمقراطية»، أو مما تسمح بوجود بعض الأحزاب السياسية إلى جانب حزب الحكومة، وأصبحت أفكر في هذه الظاهرة الجديدة التي فرضت نفسها في المؤتمرات والندوات، بل في الأحاديث العادية، إذ ما أن أقابل أحدًا من المثقفين في بلادنا، أو تجمعني جلسة ببعضهم حتى أسمع كلمة الحقوق المدنية، والمجتمع المدني أو القوانين المدنية.
بل إنني ذات يوم وأنا أسير في الشارع المجاور لمنزلي استوقفني أحد الجيران، وهو يعمل بمديرية الأمن، ربما مدير أو مدير عام لا أعرف بالضبط، وكان حين يقابلني لا يقرئني السلام إلا نادرًا، وقد يحرك رأسه الناحية الأخرى وكأنه لا يعرفني، لكنه هذا الصباح ابتسم في وجهي واستوقفني، وبدأ يشكو من المشاكل والأزمات التي تعاني منها الحكومة والشعب نائم لا يفعل شيئًا، واختتم كلامه قائلًا: خلاص يا دكتورة الشعب مات وموش عاوز يتحرك.
كنت عائدة لتوي من مكتب البريد لأسجل خطابًا، ورفض الموظف تسجيله، وحين سألته لماذا أشار إلى قطعة من «السيلوتيب» ألصقت بها المظروف وقال: هذا ممنوع، وقلت بدهشة: ممنوع ليه؟ قال مش عارف والله، هي دي التعليمات.
وكان عليَّ أن أطوف المكتبات في الجيزة باحثة عن زجاجة صمغ ألصق بها المظروف بدلًا من «السيلوتيب»، ولكن الصمغ كان مثل الماء وقلت لنفسي: حتى الصمغ مغشوش، وأجهدت عقلي في البحث عن أسباب منع تسجيل خطاب بالبريد لمجرد أنه مغلق بقطعة من «السيلوتيب» وليس الصمغ العادي، ولم أصل إلى شيء، وكلما أسأل واحدًا من موظفي البريد يرد عليَّ قائلًا: مش عارف والله لكن هي دي التعليمات.
كنت عائدة لتوي من مكتب البريد بعد أن ضاع مني نصف الصباح في البحث عن زجاجة صمغ غير مغشوشة، وفي تسجيل الخطاب، وما أن سمعت مدير الأمن يقول إن الشعب مات حتى قلت على الفور: طبيعي كان لازم يموت.
كنت أشعر في تلك اللحظة أن جميع حقوقي المدنية والإنسانية تُنتهك كل يوم حين أحاول ممارسة الأعمال الضرورية في الحياة؛ مثل تسجيل خطاب أو تجديد رخصة القيادة أو جواز السفر، أو دفع فاتورة الكهرباء أو التليفون، أو أي عمل آخر يتطلب عليَّ الدخول إلى مكتب من مكاتب الحكومة، أشعر كأنني عدت فجأة إلى عهود العبودية، أو أنني مثل ذبابة سقطت في عش العنكبوت، وأن التعليمات أو اللوائح أو القوانين بلا عقل وبلا منطق إلا السيطرة العمياء والرقابة الأكثر غباء، فالمفروض أن «السيلوتيب» لا يمنع الرقيب من فتح الخطابات؛ بل إنه أسهل في الفتح، ولا يترك أثرًا واضحًا، كالصمغ العادي الذي لا يفتح عادة إلا بتمزيق المظروف، أو بواسطة بخار الماء، وقد عرفت هذه الحقيقة فيما بعد من مدير الأمن الذي ابتسم في وجهي ذلك الصباح، وقال إن الشعب قد مات.
(٢) التجربة الذاتية والموضوعية
سألت نفسي وأنا جالسة إلى المكتب أفكر في هذه الورقة المطلوبة مني عن الحقوق المدنية، هل أكتب شيئًا عن تجربتي الذاتية، أم أدخل في الموضوع مباشرة كما يفعل أساتذة الجامعات أو البحوث الأكاديمية؟
لكن نزعتي الأدبية أو الروائية تغلب دائمًا، وتؤكد لي أن الذات جزء من الموضوع.
وفي الثقافة العربية مبدأ يقول: ابدأ بنفسك، وفاقد الشيء لا يعطيه، وإذا كنت أريد التحدث للآخرين عن حقوقهم المدنية، فهل أنسى حقوقي أنا؟
وباختصار شديد يمكن أن أقول إن جميع حقوقي المدنية قد انتهكت تمامًا منذ الولادة، وفي جميع مراحل العمر حتى اليوم.
حين ولدت واكتشفت الناس من حولي نوع الجنس الذي أنتمي إليه تبددت الفرحة وعلا الوجوه الوجوم والهم، وقبل أن تنتهي مرحلة طفولتي كاد جدي لأمي أن يزوجني لرجل يكبرني بثلاثين عامًا لأنه يملك ثلاثين فدانًا، وفي الشارع أو الأتوبيس كانت عيون الرجال وأيديهم تنتهك حقوقي المدنية، وفي المدرسة والجامعة كان المدرسون يفرضون عليَّ الحفظ دون الفهم أو الجدل والنقاش، وفي الزواج كان عليَّ أن أخضع لسيطرة الزوج المطلقة أو الطلاق، وفي عملي داخل الحكومة كان عليَّ أن أطيع المدير أو الوزير بلا نقاش وإلا الاضطهاد والطرد، وفي الكتابة والنشر كان عليَّ ألا أمس المحظورات أو الموروثات منذ آلاف السنين، وألا أقترب من قريب أو بعيد من قمة السلطة الهرمية، أو فرعون الأكبر، وإلا فالعقاب معروف ومكتوب في القانون أو غير مكتوب، مجرد إشارة تليفونية تحملني العربة المصفحة إلى السجن.
حين أعود بذاكرتي إلى الوراء أندهش كيف مررت بكل هذه التجارب، وكيف انتهكت حقوقي المدنية دون أن أنتمي إلى حزب سياسي أو أدخل حلبة الصراع على السلطة، ولمجرد رغبتي الطبيعية في الانتماء إلى الجنس البشري وممارسة حقي الأول كإنسانة لها عقل تود التعبير عنه.
(٣) نموذج من الحياة الواقعية الحالية
حين جلست لأكتب هذه الورقة، وكان ذلك في أوائل أكتوبر الماضي دق جرس التليفون، وجاءني صوت أحد المحامين المتطوعين في القضية المرفوعة في مجلس الدولة ضد وزارة الشئون الاجتماعية؛ بسبب صدور قرار إداري في يونيو الماضي بحل جمعية تضامن المرأة ومصادرة أموالها، وتحويلها إلى جمعية أخرى اسمها نساء الإسلام.
وقال لي المحامي بصوته الواثق: سنكسب القضية يا دكتورة في الجلسة الأولى ٣١ أكتوبر ١٩٩١؛ لأن قرار الحل صدر بلا أسباب وبلا تحقيق وبلا حكم قضائي، وهذا انتهاك لجميع الحقوق المدنية، وانتهاك للدستور التي تنص المادة رقم ٦٦ منه على أنه لا يجوز فرض عقوبة دون حكم قضائي.
وتفاءلت أخيرًا وبدأت أكتب الورقة، لكن جرس التليفون دق مرة أخرى وجاءني صوت محام آخر متطوع في القضية نفسها، وقال بصوته المخضرم العجوز: لن نكسب القضية في الجلسة الأولى ولا الجلسة العاشرة، إن مثل هذه القضايا في مجلس الدولة تستغرق الشهور والسنين، وقد نخسر القضية في النهاية؛ لأن المادة رقم ٩٦ من قانون الجمعيات رقم ٣٢ لعام ١٩٦٤ تمنح وزير الشئون الاجتماعية سلطة أكبر من سلطة رجال الضبطية القضائية، الذين لا يملكون حق مصادرة الأموال إلا بأمر من النيابة العمومية، أو في حالة التلبس بجريمة قتل أو جريمة مخدرات.
وتساءلت بدهشة: فين الحقوق المدنية؟
وقال المحامي ساخرًا: حقوق مدنية إيه يا دكتورة؟ إن وزارة الشئون الاجتماعية وهي الجهة الأساسية المعنية بالحقوق المدنية للشعب تسلب هذه الحقوق من الشعب بواسطة قانون الجمعيات، اقرئي المادة رقم ٩٧ من هذا القانون، فهي تنص على الحبس مع الأشغال الشاقة لكل من أنشأ أو نظم أو أدار جمعية تدعو إلى مناهضة نظام الحكم، أو الحض على كراهيته! حتى الكراهية يا دكتور غير مطلوبة، وعليك أن تفتحي قلبك لحب نظام الحكم!
وقلت لنفسي: إذا كان هذا هو حال الحقوق المدنية في مصر، فما بال تلك البلاد العربية التي لا تعرف شيئًا اسمه حقوق مدنية، ولا يسمح فيها للرجال بتكوين الجمعيات أو المؤسسات الشعبية لحل مشاكلهم، ولا يسمح فيها للنساء بالخروج من البيت للاشتراك في الجمعيات أو الأنشطة المدنية العامة أو حتى مجرد قيادة سيارة؟
(٤) ما الفرق بين الحقوق المدنية والحقوق السياسية؟!
منذ ولدت وأنا أسمع كلمة الحقوق السياسية تردد من حولي، ثم عرفت حين كبرت قليلًا أنني محرومة من هذه الحقوق؛ لأنني أنتمي إلى جنس آخر، وأن النساء يطالبن بهذه الحقوق من خلال الجمعيات النسائية، وأن هذه الحقوق تتعلق بحق الترشيح والانتخابات في البرلمان، وفي عام ١٩٥٦ حصلت النساء في مصر على هذه الحقوق، وحدث أيضًا في عدد من البلاد العربية فيما عدا بعض البلاد العربية في الخليج العربي، حيث لا تزال النساء محرومة من التصويت في البرلمان.
وفي بلادنا العربية نشأ مفهوم الحقوق السياسية بمعناها المعاصر المتعلق بدخول البرلمان أو الأحزاب السياسية، والحكم نتيجة الصراع بين الحركات الوطنية والقوى الاستعمارية الخارجية وأعوانها من الحكومات الدكتاتورية المحلية.
وقد سيطرت نخبة المثقفين من الرجال على الحركات الوطنية في بلادنا بحكم النظام الطبقي الأبوي؛ الذي أبعد النساء والفلاحين والعمال والفقراء عن النشاط السياسي.
وتنتمي هذه النخبة في معظم الأحيان إلى الطبقات أو الشرائح العليا أو الوسطى الرأسمالية بجذورها الإقطاعية أو القبلية أو العائلية، وبالتالي كانت نظرتها إلى الحقوق السياسية محدودة بحدود مصالحها التي تساعد على الوصول إلى الحكم بأسرع الطرق وأقصرها، وهو طريق الانتخابات للبرلمان، وتكوين الأحزاب السياسية وإصدار الصحف، بمعنى آخر الليبرالية التي تشبه في بعض الوجوه الليبرالية في البلاد الصناعية الرأسمالية في الغرب، ولم تهتم هذه الطبقة المثقفة بحقوق الطبقات والفئات الأخرى في المجتمع كالنساء والشباب والفقراء والأجراء في الريف والمدن، والتي كانت تمكنهم لو حصلوا عليها من المشاركة معهم في الحكم، وفي تسيير شئون البلاد وشئونهم الخاصة، وتغيير المجتمع، وبناء المؤسسات الشعبية التي تساعد على هذا التغيير؛ أي خلق الأدوات والمنظمات التي تسمح لهم بالحصول على حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية وغيرها.
لكن الحقوق السياسية ظلت مقصورة على الشريحة العليا الصغيرة في المجتمع، وأطلق عليهم اسم رجال السياسة أو الساسة أو القيادات، وسقطت الأغلبية الساحقة من الرجال والنساء تحت اسم آخر مثل الناس العاديين أو المدنيين أو القطاع المدني.
ومن هنا جاء اصطلاح الحقوق المدنية، وهي الحقوق السياسية التي حرمت منها الملايين أو أغلبية الرجال والنساء والشباب؛ لأنها تنطبق على ذلك القطاع المدني أو القواعد المحرومة من المشاركة السياسية الحقيقية.
وأصبحت الحقوق المدنية هي التي تعطي هذه الفئات والطبقات الشعبية قدرًا من الحرية يساعدها على التغيير في بناء المجتمع وتطويره من داخل مؤسساتها، ثقافية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، والتي تخرج عن نطاق الأحزاب السياسية والبرلمان ومؤسسات الحكم التشريعية والتنفيذية والقضائية.
(٥) السلطة الرابعة
هذه هي السلطات التقليدية الثلاث للحكم، وقد أضيف إليها في عصرنا الحديث سلطة رابعة هي الصحافة والإعلام.
وتمثل هذه السلطة الرابعة تطويرًا خطيرًا في سيطرة المؤسسات الحكومية على عقول الناس، سواء في بلادنا أو في العالم أجمع.
لقد دخل «التليفزيون» إلى كل بيت في القرى والمدن، وأصبح لأي سلطة مركزية محليًّا وعالميًّا أن تتحكم في عقول ونفوس الملايين من البشر، رجالًا ونساءً، شبابًا وأطفالًا، ويمكن عن طريق احتكار وسائل الإعلام الإلكترونية أن تغير العقول أو تغسلها تمامًا، وتملؤها بالأفكار المزيفة والحقائق المعكوسة مما يخدم مصالح القلة الحاكمة محليًّا وحلفائهم في الخارج.
في بلادنا العربية لا يمكن للقطاع المدني أن تكون له قناة تلفزيون خاصة غير تلك التي تملكها الحكومة، ولا يمكن أن تكون له محطة راديو غير تلك التي تملكها المؤسسات الحاكمة.
كذلك الصحف الكبرى والمجلات ودور النشر الكبيرة لا تزال كلها مؤسسات حكومية، وتعمل وزارات الثقافة مثل وزارات الإعلام مثل وزارات الشئون الاجتماعية والداخلية على الرقابة والتحكم في البشر أكثر مما تعمل على نشر الثقافة الحقيقية، التي لا تتحقق إلا بتبادل الأفكار وحرية الجدل والنقاش.
وقد حاولنا أن نصدر مجلة المرأة «نون» عن جمعية تضامن المرأة، لكن قانون الصحافة في مصر وقف لنا بالمرصاد، وجاءنا خطاب رسمي من المجلس الأعلى للصحافة بتاريخ ١٣ مارس ١٩٨٩ برفض الترخيص للمجلة لعدم توافر الشروط القانونية التي تستلزمها الفقرة الثانية من المادة ١٩ من القانون رقم ١٤٨ لسنة ١٩٨٠ بشأن سلطة الصحافة.
وهكذا يحرم القطاع المدني في مصر من وسائل تبادل الرأي أو الثقافة عن طريق عدم القدرة على إصدار المجلات إلا لمن يملكون السلطة والأموال.
أما الجدل في الأمور السياسية فهو ممنوع أيضًا عن القطاع المدني في مصر، إذ ينص البند رقم ٣ من لائحة النظام الأساسي للجمعيات «أنه لا يجوز للهيئة أن تجادل في الأمور السياسية أو العقائد الدينية»، وقد أرسلت إلينا وزارة الشئون الاجتماعية خطابًا رسميًّا في ٢٢ نوفمبر ١٩٩٠ يؤكد لنا هذا المعنى على شكل تحذير أو إنذار.
وكنا قد رأينا في جمعية تضامن المرأة على أن نربط بين قضايا المجتمع من النساء بالقضايا الأخرى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والدينية وغيرها من مجالات الحياة غير المنفصلة في الواقع والحقيقة، وأدركنا أن هذا الربط «شرط ضروري» للوعي بحقوق النساء والرجال على حد سواء، خاصة ذلك القطاع الذي يطلق عليه اسم القطاع المدني.
(٦) أهمية الحقوق المدنية اليوم
رغم خطأ الفصل بين الحقوق المدنية والحقوق السياسية إلا أنها ذات أهمية بالغة في المرحلة الحالية؛ لأنها يمكن أن تتيح للمدنيين من الرجال والنساء فرض تنظيم أنفسهم داخل الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويمكنها — رغم القيود الحالية — أن تغلب دورها السياسي وتقلل من احتكار السلطة بواسطة رجال الحكم والأحزاب والساسة ورجال الصحافة والإعلام.
وربما تستطيع أيضًا في بعض البلاد العربية المتقدمة نسبيًّا، والتي تسمح بتعدد الأحزاب أن تغير طبيعة هذه الأحزاب ونظام الحكم والبرلمان، وبالتالي تحقيق الديمقراطية عن طريق المشاركة الأوسع لجميع فئات الشعب من القاعدة إلى القمة.
(٧) علاقة الثقافة العربية بالحقوق المدنية والسياسية
لا يمكن للإنسان أن يمارس حقوقه دون أن تكون له إرادة قوية واعية بهذه الحقوق والمسئوليات، وقدرة على تحقيقها من خلال حركته الفردية والجماعية داخل المؤسسات التي يعمل فيها أو ينظمها مع غيره من الناس.
لكن هذه البديهية غائبة تمامًا أو مغيبة في المؤسسات الثقافية والتعليمية الرسمية، وفي الأحزاب السياسية أيضًا حتى المتقدمة منها الواعية بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للناس، فإن الثقافة ظلت بعيدة، منفصلة وهامشية.
وقد أدت الحقوق السياسية دون الحقوق المدنية والثقافية الحقيقية إلى ديمقراطية شكلية، أبعدت أغلبية الرجال والنساء عن المشاركة الحقيقية في السياسة أو الحكم أو الثقافة أو غيرها.
وأفرزت هذه الديمقراطية الشكلية في بلادنا رجالًا أقل ثقافة وأقل ذكاء على الدوام؛ بسبب انشغالهم الدائم في الصراع حول السلطة ولعبة السياسة والانتخابات، لكنهم كانوا دائمًا أكثر قدرة من غيرهم على الصعود إلى مقاعد الحكم ومراكز السلطة وصنع القرار، بسبب قدرتهم الاقتصادية ونفوذهم الاجتماعي والسياسي الناتج عن سوء توزيع السلطة والثروة في البلاد.
وترتبط مشكلة الثقافة في بلادنا العربية بمشكلة السلطة الحاكمة المستبدة غير المؤمنة بالحرية أو الديمقراطية الحقيقية، والتي تعتبر الثقافة والإعلام من شئونها الخاصة تفرض من خلالها أفكارها على الناس.
وهكذا تنتشر القيم الأبوية الطبقة، الإقطاعية، أو القبلية، أو الرأسمالية، أو الاشتراكية القائمة على الدكتاتورية، أو التسلط البيروقراطي أو التستر تحت شعارات دينية لفرض الطاعة لأولي الأمر، والولاء للملك أو الحاكم، ووضع الحجاب على العقول والرءوس واعتبار المعارض للسلطة خارجًا على القانون أو مسيئًا للوطن، وفرض سيطرة الرجل داخل الأسرة على النساء والأبناء والبنات.
(٨) الحقوق الدينية ومشكلة التربية
تتعاون السلطة المطلقة في الدولة مع السلطة المطلقة للرجل داخل العائلة على قتل أي مبادرة أو نشاط، أو حقوق للملايين من النساء والرجال والشباب.
ويعتبر النظام الطبقي الأبوي وما يفرزه من قيم وأفكار داخل الأسرة وخارجها معاديًا للحقوق المدنية للنساء والشباب والأطفال؛ لأنه يصادر حرياتهم، ويخضعهم لسلطة الفرد الواحد أو الرأي الواحد في الدولة، ولسلطة الأب المطلقة في البيت أو الزوج، ويغرس فيهم منذ الطفولة مفهوم مركزية القرار والطاعة والخوف من الجدل، وبالتالي يقضي على بذور الحرية أو الديمقراطية، ويقتل فكرة الحقوق المدنية في مهدها، فلا يمكن لمن تربى على الطاعة والخوف أن يمارس الجدل والشجاعة بقرار إداري.
ولهذا تتحول الديمقراطية في بلادنا العربية والحقوق المدنية إلى مجرد حبر على ورق، أو كلام في الخطب تحت قبة البرلمان.
(٩) بعض خصائص الثقافة العربية
تتميز الثقافة العربية الشعبية المتوارثة عبر الأجيال شفهيًّا بأنها أكثر إنسانية وأكثر مرونة وحرية، من الثقافة المكتوبة في سجلات المؤسسات الرسمية والمدارس الحكومية.
وفي الثقافة الشعبية الشفهية مفهوم للدين الإسلامي أكثر حرية وإنسانية من المفهوم الرسمي الحكومي، الذي يُدرِّس الدين للتلاميذ على أنه نصوص تُحفظ عن ظهر قلب وطاعة ولا تقبل الجدل.
وتتسم الثقافة الرسمية بالجمود والثبات، لكن الثقافة الشعبية الشفهية متغيرة لأنها غير ثابتة في الكتب، ولأن الشعب العادي يستطيع دائمًا أن يطور تفكيره وفقًا لاحتياجات حياته العملية المتغيرة؛ ولهذا فهو أكثر مرونة من حكامه.
وكانت جدتي لأبي امرأة ريفية فقيرة لا تعرف القراءة، لم تذهب إلى المدرسة، ولم تقرأ القرآن، وكنت أسمعها تقول: ربنا هو العدل عرفوه بالعقل، وقد أثرت هذه الثقافة الأولية في تفكيري، وأدركت أن الله هو العدل، وليس نصوصًا تتنازع على تفسيرها المؤسسات الدينية والتيارات السياسية المتصارعة على الحكم.
وتساعد الثقافة الشعبية على أن يكون كل رجل وكل امرأة — وإن كانت لا تعرف القراءة ولا الكتابة — مشاركة في إنتاج الثقافة، فالثقافة هي تبادل الرأي والخبرة والمعرفة بشئون الحياة، وفي هذا المجال تتفوق الثقافة الشعبية، لكن هذه الثقافة الشفهية غير المكتوبة تنقرض على الدوام، وتحل محلها الثقافة الرسمية المكتوبة، المفروضة من أعلى بلا حوار ولا جدل، والتي تحول الأغلبية الساحقة من الرجال والنساء إلى مستمعين فحسب أو متفرجين، أو مستهلكين للثقافة لا يشاركون في إنتاجها، ولا يملكون وسائل المشاركة فيها.
إن الثقافة العربية السائدة في معظم بلادنا لا تسود من موقع التبادل في الرأي أو الحرية أو القدرة على الإقناع؛ بل من موقع القهر السياسي والاقتصادي، واحتكار جميع أجهزة الإعلام والثقافة.
وفي التراث الثقافي الإسلامي مدرستان، واحدة رسمية تفرض القيود على العقل، والأخرى معارضة تقاوم القيود، وتتبنى الأفكار المرنة المتحررة مثل: «لا إِكراه في الديِنِ»، «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، وإذا تعارض النص مع المصلحة غلبت المصلحة على النص لأن النص ثابت، والمصلحة متغيرة، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، وخلقناكم من نفس واحدة ذكر وأنثى، وأن الله هو العدل والحق، وداخل كل إنسان قبس من روح الله، وإن كان امرأة فقيرة أو رجلًا أجيرًا، والشريعة من وضع البشر، ومصدر القوانين العقل والمصلحة وليس الدين، والإمامية عقد يتم برضاء الناس وينفسخ بإرادتهم، والشورى ملزمة وليست معلمة فحسب، والإنسان سيد نفسه وله عقل يرشده، ومقارعة الحجة بالحجة وليس بالسيف، والتعددية في الآراء أو الاختلاف سُنَّة من سنن الكون، وإقامة المجتمع المدني، وفصل الدين عن الدولة ضرورة «أنتم أعلم بشئون دنياكم»، وكان الشيخ محمد عبده في بداية هذا القرن يُنادي بالمجتمع المدني والحقوق المدنية للنساء والرجال.
لكن هذه المدرسة الثقافية حوربت على الدوام من جانب المؤسسات الحاكمة في بلادنا العربية، وطغت المدرسة الدينية الرسمية التي فرضت الموت على المرتدين والكفرة، وقدست النص المكتوب لذاته، واختارت من النصوص ما يلائم مصالحها، وجعلت الحاكم مندوب الله على الأرض، وحاربت التعددية والمعارضة والمبادرات الجماهيرية للمشاركة في الحكم، وحرمت التجديد والإبداع، من أبدع فينا فليس منا، كل بدعة ضلالة، ونشرت الأفكار التي تشجع القدرية والسلبية وترك الأمور لأولي الأمر، باعتبار أن الخير يأتي من فوق على شكل هبة أو منحة من الحاكم أو علاوة، والأرزاق بيد الله، يعطي من يشاء بغير حساب، وبالتالي لا دور للناس في تحسين أوضاعهم الاقتصادية أو المشاركة في الحكم لإعادة توزيع السلطة والثروة، وتشجيع فكرة إذا بليتم فاستتروا، واستخدامها في غير موضعها، من أجل تشجيع إخفاء العيوب والانغلاق على النفس، وعدم إباحة المكاشفة أو الصراحة أو النقد للأخطاء، وخاصة أحكام الحكام.
(١٠) الازدواجية وفصل السلطة عن المسئولية
تحرم الثقافة العربية الرسمية الكشف عن أخطاء الحاكم أو نقده في حياته وبعد موته أيضًا، اذكروا محاسن موتاكم، ولا داعي لنبش القبور، وهكذا يعيش الحاكم ويموت دون أن يحاسبه الناس عن أخطائه.
والمفروض أن المسئولية تزداد بازدياد السلطة، لكن العكس هو الصحيح في بلادنا العربية، إذ تقل المسئولية بازدياد السلطة حتى تنعدم المحاسبة تمامًا عند القمة حيث يتربع الحاكم على العرش، فلا يمكن لأحد أو هيئة أن تحاسبه على الخطأ، بل تخفى الأخطاء تحت وابل من التبريرات، فإن فشلت وانكشف الخطأ تحت وطأة الأزمة الاقتصادية أو الهزيمة العسكرية يقدم كبش فداء يتلقى العقاب.
وقد روجت الثقافة الرسمية في بلادنا لكلمة «الفداء» وكنا في طفولتنا نغني كل صباح للملك المُفدى، واندرجت في مدارسنا كلمة «الولاء» و«الطاعة» ضمن الفضائل، مع أنها بعض الكلمات المتوارثة من النظم العبودية والإقطاعية حين كان العبد أو الأجير يذبح ويقدم قربانًا لصاحب الأرض، أو فدية للملك، وكلها موروثات العصور العبودية، التي قلبت القيم الإنسانية الطبيعية رأسًا على عقب، واندرجت النساء مع البقر مع العبيد في قائمة الأشياء وليس البشر، وأصبحت «العبودية» مرادفة لكلمة «الولاء» والاستكانة للذل فضيلة، ومحاولة إصلاح الحكم رذيلة أو شذوذ أو نوع من الجنون.
وأصبحت المعرفة إثمًا، يعاقب عليه الإنسان كما عوقبت حواء في العصر العبودي الأول حين مدت يدها إلى شجرة المعرفة.
(١١) التيارات الدينية المتطرفة
بالرغم من أن الثقافة الإسلامية في أصولها الأولى لا تعرف شيئًا عن شجرة المعرفة، فالقرآن لم يذكر في قصة آدم إلا كلمة الشجرة فقط دون أن يسميها، وحاول بعض المفسرين الأوائل تخمين نوع الشجرة، وقال بعضهم إنها شجرة تين أو عنب أو فاكهة أخرى، لكن القرآن لم يذكر أنها شجرة المعرفة كما جاء في التوراة، وبالتالي فإن تأثيم المعرفة لم يُعرف في التراث الإسلامي بمثل ما عُرف في التراث المسيحي واليهودي.
لكن المشكلة ليست في الدين، وإنما في الأنظمة السياسية والمؤسسات الحاكمة المستبدة التي تستخدم الدين وسيلة لتحريم المعرفة أو الوعي، وضرب القوى الشعبية المدنية أو السياسية، الأخرى، التي تحاول إعادة توزيع السلطة والثروة في البلاد بشكل أقل ظلمًا أو إجحافًا بالأغلبية الساحقة من الناس.
- (١)
مزيد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
- (٢)
ازدياد الهوة بين الأثرياء والفقراء.
- (٣)
مزيد من التبعية للقوى الاستعمارية الغربية.
- (٤)
مزيد من التيارات الدينية المتطرفة.
- (٥)
مزيد من الشعارات عن الديمقراطية والحقوق السياسية والمدنية وحقوق الإنسان.
وهذه النتائج الخمس مترابطة كالحلقات في سلسلة واحدة، وقد يحدث التناقض بين الواحدة والأخرى، كالتناقض الذي يحدث أحيانًا بين المؤسسات الحاكمة والتيارات الدينية المتطرفة أو المعتدلة نسبيًّا، تحاول كل منها ضرب الأخرى، إلا أنها فترات مؤقتة، حين تتعارض المصالح، وسرعان ما يعود التعاون علنًا أو سرًّا، ذلك أن العوامل التي تجمعها أكثر من العوامل التي تفرقها، وعلى رأسها الميل للاستبداد بالرأي ومركزية السلطة وقدسية الحاكم أو الأمير، وسيطرة فرد على الجماعة، وإخضاع النساء للذكور في الأسرة.
(١٢) ملاحظة أخيرة
في ختام هذه الورقة عادت إلى صورة مدير الأمن الذي ابتسم في وجهي على غير العادة ذات صباح، وأخذ يشكو من سلبية الشعب، وعدم تحركه للتعاون مع الحكومة في حل المشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الملحة، ومنها مشكلة الفتنة الطائفية وانتشار التيارات الدينية المتطرفة، وقال لي بالحرف الواحد: خلاص الشعب مات.
وأدركت أن المؤسسات الحاكمة في بلادنا تريد من الشعب أن يتحرك ويحل المشاكل التي عجزت عن حلها، لكنها في الوقت نفسه تخشى إن تحرك الشعب ألا يكتفي بحل المشاكل فحسب، ولكنه يحاول القضاء على أسباب هذه المشاكل، وأولها هذه المؤسسات الحاكمة ذاتها.
ومن هنا ذلك التناقض بين الشعارات المرفوعة عن الديمقراطية والحقوق المدنية وتشجيع مبادرة الجماهير، وتلك القيود المكتوبة وغير المكتوبة التي تقيد حركة الجماهير.
وتذكرت أن بعد أحداث الفتنة الطائفية في أبي قرقاص منذ عامين أنِ اجتمع في مقر تضامن المرأة ما يزيد عن المائة وخمسين من المثقفين في مصر، رجالًا ونساءً مسلمين وأقباطًا، وشرعنا في تكوين جمعية لمحاربة الفتنة الطائفية سميناها جمعية الوحدة الوطنية.
لكن وزارة الشئون الاجتماعية رفضت إشهار هذه الجمعية، وتعرض بعض أعضائها الذين نشطوا لمطاردة رجال الأمن.
كنت أنوي إنهاء الورقة عند هذه الفقرة، لولا أنني تذكرت الابتسامة التي رأيتها ذلك الصباح على وجه مدير الأمن، لقد أدركت بعد أن تأملتها أكثر أنها كانت ابتسامة متناقضة، لم تشمل إلا بعض عضلات الفم، لكن ملامح الوجه كانت جامدة، وصوته كان أشد جمودًا وهو يقول بغضب: خلاص الشعب مات!
وكأنما الشعب هو المسئول عن موت نفسه، أو كأنما أن المسئولة عن موت الشعب وليس هو، أو المؤسسة الحاكمة!