الفتاة الفلسطينية التي تتحدى الحكومات العربية
قرأت اسمها في الصحف الصادرة في نيويورك يوم ٣٠ مارس ٢٠٠٢، وصورتها التي ذكرتني بالملامح العربية العريقة الجذابة، والعينين السوداوين الخارقتين في قوتهما لمعاقل الكذب الدولي والعربي، ونفاق الحكومات في الغرب والشرق، اسمها كما قرأته بالإنجليزية آيات أو حياة الأخرس، عمرها ثمانية عشر عامًا، فجرت نفسها وماتت شهيدة الوطن والعدل والحرية والسلام الحقيقي، وليس المزيف الذي يلوكونه كل يوم، قتلت معها اثنين فقط من الجنود الإسرائيليين (أو ربما اثنين من المدنيين في السوق في مدينة القدس)، وجُرح ثلاثون شخصًا كما قالت الصحف الأمريكية.
وكنت مثلها تمامًا، رغم أنني أعيش هذه الأيام في نيويورك وليس فلسطين، لكني أحلم كل ليلة أنني فجرت نفسي في معقل الجيش الإسرائيلي، وقتلت معي الجيش كله وليس اثنين فقط.
ويعلن جورج بوش وأعوانه أن هذا هو الإرهاب الفلسطيني الذي يُفسد مسيرة السلام، أي مسيرة، وأي سلام أيها القتلة في إسرائيل وأمريكا؟ أهو سلام السيد شارون القائم على الظلم واحتلال الأراضي وإقامة المستوطنات؟ أهو السلام المبني على إبادة الشعب الفلسطيني حتى يتحول إلى حفنة من اللاجئين الخاضعين لمنطق القوة العسكرية الباطشة؟
أليس الموت أفضل من الإهانة المتكررة كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة؟ ألا يفعل ياسر عرفات وغيره من القيادات العربية ما فعلته آيات أو حياة الأخرس؟ أن يلفوا حول أجسادهم المفرقعات ويموتون فداء الوطن بدلًا من إدلاء الخطب والبيانات؟ بدلًا من ضرب الشباب والشابات العربيات اللائي يرغبن في السفر إلى رام الله وتفجير أنفسهن هناك في مواجهة الجيش الإسرائيلي!
لو أن الحكومات العربية بما فيها الحكومة المصرية فتحت أبوابها ليخرج الشباب والشابات إلى فلسطين للدفاع عنها ضد الدبابات الإسرائيلية؟
وقد تركت حياة الأخرس شريط تسجيل تقول فيه: أيتها القيادات العربية أتواصلون الفرجة علينا، ونحن النساء نقاوم العدوان الإسرائيلي؟ ألا تخجلون؟
حين تصل الثورة الشعبية إلى النساء والبنات؛ فلا بد أن ينتصر الشعب على أقوى قوة في العالم وإن كانت نووية!
(١) أوقفوا مسيرة القتل والموت
وتغلى الدماء في عروقي إلى حد الانفجار، أكاد أنفجر أو أخطف قنبلة أو طائرة وألقي بها على رأس هؤلاء الذين يقلبون الأوضاع، الذين يتعامون عن الحقيقة الواقعة، الذين يصرِّحون في الصحف الأمريكية أن مشكلة العنف والدماء المراقة كل يوم في الأرض المحتلة وقطاع غزة تقع على عاتق الفلسطينيين، أما إسرائيل الدولة المحتلة التي تدك البيوت وتقتل الشباب والنساء والأطفال بالدبابات فهي بريئة؛ لأنها تدافع عن نفسها في مواجهة الإرهاب الفلسطيني! أوليس هذا هو الكذب أو الجنون؟!
ويعقد الطلبة والطالبات اجتماعهم في اللجنة الثورية ضد الحرب، جيش الاحتلال في إسرائيل يهدم البيوت بالدبابات ويقتل النساء والأطفال والشباب، وحكومتنا الأمريكية برئاسة جورج بوش تُلقي اللوم على الفلسطينيين، إنهم يلومون الضحية أيها الزملاء والزميلات؛ لأنهم خائفون من «اللوبي اليهودي» هنا في نيويورك وفي جميع الولايات الأمريكية، إنهم حريصون على «أصوات اليهود» في الانتخابات؛ ولهذا يقلبون الحقائق ويكذبون، ونحن نشاركهم هذه الجريمة، هذه المؤامرة لإبادة الشعب الفلسطيني صاحب الأرض وصاحب الحق في دولة مستقلة حرة مثل غيره من الشعوب، ما جدوى هذه الاجتماعات والخطب والكلام؟ علينا أن نفعل شيئًا!
وصاح طالب من الصفوف الخلفية يرتدي الكوفية الفلسطينية: علينا أن نسافر إلى فلسطين، نسافر إلى رام الله أيها الزملاء كما سافر إليها ستمائة شاب من فرنسا من الفلاحين والعمال والطلبة، ذهبوا إلى رام الله ليواجهوا الدبابات الإسرائيلية بأجسادهم، ويناضلون مع الأطفال الفلسطينيين ضد الاحتلال الأجنبي والاستعمار، هيا أيها، الشباب الأمريكي، تحركوا إلى رام الله!
وصاح طالب آخر واسمه «جورج» وهو طالب عندي في فصل الإبداع والتمرد: ولماذا نسافر إلى رام الله يا زميل، وليس معنا سلاح ولا دبابات ولا قنابل ولا طائرات حربية، الأفضل أن نجمع أنفسنا بالآلاف ونحاصر البيت الأبيض في واشنطن هنا في بلدنا، إن حكومتنا في واشنطن هي التي تحارب الشعب الفلسطيني، وهي التي تشجع إسرائيل على إبادة هذا الشعب الفلسطيني في بداية القرن العشرين، وأقاموا دولة دينية عنصرية هي إسرائيل، أنا من أصل يهودي أيها الزملاء والزميلات، وقد هاجر جدي من ألمانيا النازية بسبب العنصرية؛ ولهذا أرفض أي دولة عنصرية قائمة على الدين أو العرق أو أي عنصر آخر، علينا أن نجمع ألف طالب وطالبة، ونركب القطار إلى واشنطن ونحاصر البيت الأبيض!
وبدأت لجنة الطلبة ضد الحرب توزع علينا الإعلان عن المظاهرة الكبيرة في واشنطن يوم ٢٠ أبريل القادم، ستبدأ المظاهرة الساعة العاشرة والنصف صباحًا في قاعة مسرح سيلفان، على الجانب الجنوبي الغربي لتمثال واشنطن التذكاري، سيبدأ الاجتماع الساعة الحادية عشرة صباحًا، ثم تتحرك المظاهرة الساعة الواحدة بعد الظهر إلى الكابيتول مركز الحكومة.
ينظم المظاهرة عدد من المنظمات الشبابية والعمالية والنسائية في نيويورك وغيرها من المدن، منهم:
– الجبهة الطلابية من أجل السلام القائم على العدل.
– الجبهة العمالية ضد الحرب.
– جبهة النساء الاشتراكيات الراديكاليات.
– حزب الخضر في الولايات المتحدة الأمريكية.
– جماعة الشباب من أجل عدالة عالمية.
– رابطة الشباب الاشتراكي الديمقراطي.
– جمعية الطبقة العاملة في مدينة نيويورك المناهضة للحرب.
– جمعية الطلبة المسلمين.
– جبهة الشباب المناهضة لتلوث البيئة.
– الشبكة الدولية ضد الأسلحة النووية.
– جبهة نيويورك ونيوجيرسي من أجل عالم عادل ديمقراطي.
– الاتحاد الدولي ضد العولمة والمؤسسات الرأسمالية.
– الرابطة النسائية الدولية من أجل السلام والحرية والعدل.
ولا يتسع المجال لذكر الهيئات الأمريكية والدولية المشاركة في هذه المظاهرة في واشنطن (يوم ٢٠ أبريل ٢٠٠٢) لإيقاف الحرب داخل أمريكا وخارجها، في أفغانستان، وفلسطين، والعراق، والصومال، وكوريا، وغيرها وغيرها من الحروب في جميع أنحاء العالم، ومن أجل ماذا كل هذه الحروب؟ من أجل جشع حفنة من التجار في الشركات الرأسمالية ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي؟!
- (١)
إيقاف حرب «بوش» داخل أمريكا وخارجها.
- (٢)
توجيه الأموال التي ندفعها من عرقنا (على شكل ضرائب) لإصلاح حال التعليم والصحة والسكن وتوفير فرص العمل للعاطلين وليس للحرب والسلاح.
- (٣)
إيقاف صرف أموالنا الموجهة للتسليح والحروب والبحوث العسكرية.
- (٤)
إيقاف الاضطهاد العنصري داخل أمريكا وخارجها تحت اسم الدين أو اللون أو العرق أو الجنسية أو الجنس أو غيرها.
- (٥)
الدفاع عن حقوق المهاجرين ومساواتهم بالآخرين في الحقوق والواجبات، وتعديل القوانين لتحقيق العدالة بين المهاجرين والسكان الأصليين.
- (٦)
المساواة بين المواطنين جميعًا، بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو العقيدة أو الدين، وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجنسية لجميع الأفراد دون أي تفرقة بينهم.
- (٧)
إيقاف الأموال التي وجهها إدارة جورج بوش لتدعيم الأديان باختلاف أشكالها في المدارس والكنائس والجوامع، وفصل الدين عن الدولة في كل شيء.
- (٨)
إلغاء التعليم الديني في المدارس العامة والخاصة، بحيث ينشأ الأطفال بروح إنسانية عالية خالية من التعصب والعنصرية.
وينشط الطلبة والطالبات في توزيع هذا الإعلان عن المسيرة الكبيرة في واشنطن، وتسألني إحدى طالباتي في فصل الإبداع الروائي واسمها «كاترين»: «هل تشاركين معنا في مظاهرة واشنطن يا دكتر ساداوي؟» وقلت لها: نعم، بالطبع سأكون معكم في مسيرة واشنطن يوم ٢٠ أبريل القادم، سأغادر بالقطار محطة نيوجيرسي «نيويورك» للسكة الحديدية صباح يوم ١٧ أبريل، لأشارك في المحكمة الشعبية الدولية للديون التي تعقد في واشنطن يوم ١٨ أبريل ٢٠٠٢، وهي الجلسة النهائية لهذه المحكمة التي قررنا عقدها في ختام اجتماعاتنا في «بورت أليجري» بالبرازيل يوم ٢ فبراير ٢٠٠٢، بعد أن أخطرنا المتهمين (البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والحكومات المساندة لهم) بقرار هيئة المحلفين ضد سياساتهم الاقتصادية التي تسبب الديون الخارجية للبلاد الفقيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما تسبب الحروب العسكرية أيضًا من أجل الاستغلال الاقتصادي ونزف موارد الشعوب الطبيعية، وقالت كاترين: هل يمكنني أن أشهد هذه الجلسة؟
قلت لها: بالطبع، يمكنك الحضور.
وسألتني: وما دورك في هذه المحكمة؟
قلت: أنا واحدة من القضاة الستة الذين تم اختيارهم من شعوب العالم للحكم بشأن مشكلة الديون الخارجية التي تتراكم على كاهل البلاد الفقيرة فيما يسمى العالم الثالث، وقد قلت في مناسبات سابقة أن إلغاء الديون لا يكفي، بل يجب القضاء على «الأسباب» التي تؤدي إلى وجود هذه الديون، وعلى رأسها النظام التجاري العالمي القائم على القوة العسكرية، تحت اسم حرية التجارة، أو حرية السوق، إنها حرية الأقوى ليبطش بالأضعف، وليست الحرية القائمة على العدالة بين الدول أو الأفراد أو الجماعات.
(٢) قاعة بريخت الثورية
وفي قاعة «بريخت» يتجمع النساء والرجال من أحياء نيويورك الفقيرة، من بروكلين، وهارلم، وكونييير، والبرونكس، ومن مانهاتن السفلى حيث حكام مركز التجارة الدولية وما يسمى اليوم «الأرض زيرو»، ومن مانهاتن العليا أيضًا حيث انتشر الفقر بين سكان المدينة كلها في الأجزاء العليا والسفلى من نيويورك، لقد هرب الأثرياء بأموالهم من مدينة نيويورك إلى الضواحي الهادئة الخالية من تلوث الهواء فيما وراء نهر هدسون والنهر الشرقي، بعيدًا عن مظاهرات الشباب والسود والنساء والصفر والحمر وغيرهم وغيرهم، تضاعف أعداد الفقراء والفقيرات في نيويورك وتناقص عدد الأثرياء، فالأموال الرأسمالية تتركز أكثر وأكثر في أيدي الأقل فالأقل من الأفراد والشركات.
(٣) إجهاض الثورة في الأفلام الأمريكية
وقد اخترقت الرصاصات صدر مارتن لوثر كينج وهو يخطب في جماهير نيويورك عام ١٩٦٨، كما قتل من قبله بثلاث سنوات مالكوم إكس، في عام ١٩٦٥، حين كنت طالبة في جامعة كولومبيا في نيويورك، أيقظتني زميلتي الأمريكية ماريون فورر، وهي تصيح: قتلوه يا نوال؟
قلت: مَن هو؟
قالت: مالكوم إكس.
كان شابًّا من السود المهرجين البائسين، إلا أن الثورة جذبت، فأصبح أحد قيادتها ضد قهر الزنوج، ومات مقتولًا مثل «بياتريس لومومبا» في الكونجو، وقد رأيت الفيلمين عن «مالكوم إكس» وعن «لومومبا»، إلا أن السينما عجزت عن تصوير الدراما الحقيقية لحياة أيٍّ منهما، فالواقع أكثر تأثيرًا من الخيال، أو ربما لأن السينما الأمريكية لا تزال خاضعة لتأثير هوليود، والإثارة السطحية على حساب الفن الرفيع.
لقد بحثت عن مسرحية أو فيلم يستحق الرؤية في نيويورك، في شارع بروداوي أو الشوارع الأخرى الممدودة خارج برودواي، لم يعد شارع برودواي اليوم هو المكان حيث المسارح والأفلام الجيدة، أصبحت شوارع أخرى كثيرة تنافس بروداوي، حول حي جرينتش وواشنطن سكوير بالقرب من جامعة نيويورك، وحول ميدان التايمز وشارع ٤٢، وغير ذلك من الأماكن الجديدة والقديمة المجددة.
(٤) سلاح البترول والمقاطعة
ولماذا لا تستخدم الحكومات العربية سلاح البترول كما استخدم في حرب ١٩٧٣ وكاد يقلب ميزان الحرب لصالح فلسطين والبلاد العربية؟ وفي القمة العربية الماضية (في بيروت) كان يمكن استخدام سلاح البترول، فلماذا لم يحدث ذلك؟ ومَن هي الحكومات أو القوى العربية الحاكمة التي وقفت ضد استخدام سلاح البترول؟!
مَنْ هي الحكومات العربية التي وقفت ضد مصالح شعوبها، وخضعت لمصالح الولايات المتحدة وإسرائيل؟!
لكن الشعوب في النهاية قادرة على المقاومة والانتصار، وأمام الشعوب العربية اليوم اختبار كبير لمدى وعيها وقوة إرادتها على الاستمرار وعدم التراجع أمام الغاز المسيل للدموع أو الرصاص المسيل للدماء.
ويمكن للشعوب العربية أن تضرب المصالح الأمريكية الإسرائيلية في بلادنا بالاتحاد والتضامن لمقاطعة جميع البضائع الأمريكية والإسرائيلية في بلادنا، وهذا سلاح في أيدي الناس جميعًا، نساءً ورجالًا، شبابًا وشيوخًا، أن يمتنع الناس عن شراء البضائع الأمريكية والإسرائيلية، هذه المقاطعة الاقتصادية الجماعية ربما تكون أقوى الأسلحة للقضاء على الهيمنة الاستعمارية الأمريكية، وبالتالي الهيمنة العسكرية والإسرائيلية.