نحو تحرير العقل المصري
(١) الفكر النظري المنفصل عن الواقع
خلال السنوات الخمس التي كنت فيها أستاذة زائرة في جامعة ديوك بمدينة ديرهام في ولاية نورث كارولاينا، التقيت مع بعض المفكرين الأمريكيين الماركسيين، وكان أحدهم وهو فريدريك جيمسون زميلًا في ديوك — وهو لا يزال أستاذًا في ديوك — وله عدد من المؤلفات في الثقافة ينتقد فيها العولمة والرأسمالية الأمريكية الأخيرة أو المتأخرة.
كان فريد (وهو اختصار اسم فريدريك جيمسون) يستمد سلطته الفكرية على الأساتذة الآخرين في الجامعة من سلطته الإدارية، فهو رئيس القسم الأدبي والفني، وهو صاحب القرار بشأن تجديد عقود العمل للأساتذة الآخرين، وكان الأساتذة من العالم الثالث يتحاشون نقد أفكاره خوفًا من عدم تجديد العقد.
لا شك أن بعض أفكار فريد جيمسون متقدمة وناقدة بشدة لعيوب الرأسمالية الأمريكية والعولمة، إلا أن أفكاره تظل قاصرة عن فهم المشاكل الحقيقية التي تواجهها البلاد فيما يسمى العالم الثالث، إن التسمية نفسها «عالم ثالث» تؤكد النظرة الاستعلائية الأمريكية للبلاد الأخرى في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وبلادنا العربية، وكان فريد جيمسون يعتبر عقله وفلسفته هي الحقيقة غير الأوروبيين أو اليابان وغيرهم مما يسمى العالم الأولى، وهذه نظرة رأسمالية تعتبر المفكرين في العالم الثالث أدنى من زملائهم في العالم الأول.
إلى جانب ذلك فإن أفكار فريد جيمسون نفسها كانت مليئة بالثغرات غارقة في التجريدات والنظريات المنفصلة عن الواقع، فهو يعيش في أمريكا، ولا يكاد يعرف شيئًا عن الواقع في بلادنا، رغم ذلك هو يتحدث معنا كأنما هو يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا وواقعنا الذي نعيشه.
وهو أيضًا ورغم نقده للعولمة إلا أنه يرى أنها حتمية مثل القضاء والقدر، وأنه لا يمكن مقاومتها، وبالتالي يسود جو من العجز واليأس ثم الاستسلام لهذا الإخطبوط الذي اسمه العولمة، (بالطبع يتم تجاهل المقاومة الشعبية وغيرها من أنواع المقاومة الأخرى).
وقد انتقل هذا الفكر اليائس العاجز إلى النخبة المثقفة في بلاد العالم الثالث؛ الذين يقرءون لفريد جيمسون وغيره من المفكرين الأمريكيين والأوروبيين الماركسيين أو الناقدين للرأسمالية والعولمة.
بالإضافة إلى انتقال هذا العجز واليأس انتقلت إلينا أيضًا الثغرات في هذا الفكر، أهمها الفصل بين الاقتصاد والثقافة، والتركيز على الثقافة فقط، أو الهوية أو الخصوصية الثقافية أو الشخصية الأصلية، والأصالة مما يقودنا بالضرورة إلى الأصولية الثقافية ثم الأصولية الدينية، هكذا أصبحت الدعوة إلى الأديان والتقاليد والعادات القديمة لكل شعب هي الوجه الآخر لفلسفة فريد جيمسون وغيره من المفكرين الأمريكيين، الذي ينظر إليهم المفكرون الماركسيون في العالم الثالث وكأنهم جابوا الديب من ديله، أو كأنهم يدافعون عن هويتنا وخصوصيتنا الثقافية، وعاداتنا وتقاليدنا والقيم التي درجنا عليها ولم تلوثها الثقافات الأخرى، خاصة الثقافة الغربية الإباحية التي لا تراعي الأخلاق.
من هنا نرى بعض المفكرين المتقدمين في بلادنا الذين يعارضون الأمركة والرأسمالية والعولمة، إلا أنهم يتمسكون بالتقاليد القديمة، ومنها بل وعلى رأسها حجاب المرأة وختانها وعودتها إلى البيت والأمومة.
وقد تبع هذا الفكر بعض المفكرات النسويات في الغرب واللائي نادين بتحرير النساء في بلادهن، إلا أنهن تحت اسم احترام الهوية والأصالة والخصوصية الثقافية لكل بلد فقد أيدن ختان النساء وحجابهن في بلادنا، وقد كان يؤيد هؤلاء المستشرقات عدد غير قليل من المفكرين الرجال والنساء في بلادنا.
(٢) الهوية المصرية الأصلية
باسم الهوية المصرية الأصلية ارتد كثير من المفكرين المتقدمين في بلادنا إلى الماضي والتراث القديم كمحاولة لمقاومة ما سُمي الغزو الثقافي الغربي، ولم يميزوا بين القديم الإيجابي وبين القديم السلبي، والذي يسلب نصف المجتمع حقوقهن الإنسانية الأساسية، وغيرهن من الشرائح الضعيفة سياسيًّا واقتصاديًّا في المجتمع.
كانت هذه الردة محاولة لحماية الهوية أو الثقافة القديمة من التفكك تحت زحف الثقافة الأمريكية الإمبريالية، وقيمها الاستهلاكية وأفلامها الرخيصة القائمة على الجنس والجريمة، وهذا أمر طيب وضروري، ولكن المشكلة أن العودة إلى القديم لم تشمل إلا سلبيات القديم أو سلبيات التراث، وليس الإيجابيات القائمة على العدالة والمساواة بين الناس بصرف النظر عن دينهم أو جنسهم أو طبقتهم أو عقيدتهم إلخ … بل قامت الردة على التفرقة بين الناس على هذه الأسس، وشهدنا الانتكاسة في حقوق النساء والطبقات الأدنى في المجتمع، وازدادت الهوة بين الأثرياء والفقراء بمثل ما ازدادت بين الجنسين.
وقع المفكرون في بلادنا المعجبين بأفكار فريد جيمسون وأمثاله في تناقض جديد تحت اسم الهوية المصرية والحفاظ على الخصوصية الثقافية، وذلك لأنهم نقلوا الفكرة النظرية المجردة عن الآخرين دون دراسة متعمقة للتراث أو القديم، وكأنما هذا القديم كلية وطنية مقدسة ثابتة وتعامل مع الطبيعة والجسد الإنساني والمجتمع البشري على نحو لا يتغير ولا يتفاعل مع غيره من القيم والثقافات الأخرى، كأنما النظام الثقافي والقيمي كتلة لا تتفكك ولا تتغير، وإن تفككت أو تغيرت فإنه لا يمكن استعادتها بشكل آخر أكثر تقدمًا أو أكثر عدالة ومساواة بين الناس.
إن العادات والتقاليد والقيم والهوية والثقافة كلها خاضعة للتغير والتطور مع حركة المجتمع إلى الأمام ومزيد من العدالة والحرية، أو إلى الوراء ومزيد من التفرقة بين الناس على أساس الجنس أو الدين أو الطبقة أو العرق إلخ … إن الحفاظ على القيم القديمة لا يعني الحفاظ على نسيج المجتمع الذي غزله عبر التاريخ كما يقول فريد جيمسون وغيره من المدافعين عن هويتنا؛ لأن هويتنا ليست ثابتة وليست أحادية بل متعددة الأبعاد، وثقافتنا المصرية ليست أحادية وليست نقية غير مخصبة بثقافات أخرى عربية وأفريقية وآسيوية وأوروبية وغيرها، وكأنما الحفاظ على نسيج الأمة المصرية يعني العودة إلى جزء فقط من التاريخ هو التاريخ العبودي أو التاريخ الطبقي الأبوي، الذي قسم الناس إلى الأسياد الملاك والعُمَّال الأُجراء وإلى نساء ورجال، أو إلى التاريخ الديني الذي فرَّق بين الناس على أساس الدين.
(٣) العودة إلى الأصوليات
كان من نتيجة ذلك هذه الردة إلى الأصوليات الدينية والعرقية، وما أدَّت إليه من حروب دينية وطائفية قُتل فيها الملايين من النساء والرجال، خاصة الفقراء من العالم الثالث، فالعودة إلى القديم والتراث والتاريخ تعني عند إسرائيل العودة إلى نصوص التوراة ومنها نص الأرض الموعودة، وإبادة الشعب الفلسطيني تنفيذًا لأمر الله، والعودة إلى التراث عند بعض التيارات الإسلامية؛ يعني تحجيب النساء وإطلاق اللحى وارتداء الجلباب والتفرقة بين المسلمين والأقباط وقتل السائحين الأجانب.
وعند التيارات المسيحية الأصولية؛ فإن العودة إلى القديم تعني احتقار الأديان الأخرى وتقتل الأطباء الذين يقومون بعمليات الإجهاض التي تحتاجها النساء، وتحريم تدريس نظرية داروين وغيرها من النظريات العلمية المناقضة لنظرية خلق الكون في الكتاب المقدس و…
أما الإيجابيات المقدسة وتاريخ الثورات الشعبية والنسائية والشبابية في مراحل التاريخ المختلفة فقد تم حذفها، بل إن الإيجابيات في الحضارة المصرية القديمة قبل الغزو الروماني المسيحي فقد تم حذفها واعتبارها حضارة وثنية متخلفة، في حين أنها كانت أكثر عدالة وإنسانية من القيم الجديدة التي فرضها الغزاة.
لا شك أننا في حاجة إلى نقد الفكر الذي نقرؤه للمفكرين في الغرب أو الشرق، وإن كانوا متقدمين أو ماركسيين ينقدون الرأسمالية أو غيرهم، لأننا أدرى بمشاكلنا منهم، ولأنهم لا يعرفون الإيجابيات أو السلبيات في تراثنا، ولأنهم يتأثرون أيضًا بالفكر الإسرائيلي الذي يؤثر بشكل مباشر على المثقفين الأمريكيين وعلى الساسة الأمريكيين.
خلال السنوات التي عشتها في أمريكا أدركت مدى تغلغل الفكر الإسرائيلي في الفكر الأمريكي، وحين عدت إلى مصر لاحظت أن المثقفين المصريين ينقلون عن المفكرين الأمريكيين، وبالتالي يزحف الفكر الإسرائيلي إلى المفكرين في مصر والبلاد العربية، لا شك أن معاهدة الصلح المنفردة — كامب ديفيد الأولى — لعبت دورًا في زحف الفكر الإسرائيلي إلى المثقفين في بلادنا، مع السلع والبضائع الإسرائيلية الأخرى.
إن اختلاط الثقافات هام وضروري، لكن القدرة على النقد وفرز الأفكار الصالحة لها أيضًا ضروري وهام.
من الأفكار التي أصبحت شائعة في بلادنا فكرة الهوية المصرية، من نحن؟ هل نحن عرب أم مصريون؟ هل نحن أفارقة أم مصريون؟ هل ننتمي إلى أرض أفريقيا وشعوبها الهمجية البربرية (في نظر المستعمرين) أم ننتمي إلى حوض البحر المتوسط أو الشرق الأوسط؟ لا شك أن سياسة إسرائيل وأمريكا هي عزل مصر عن قوتها العربية والأفريقية، وبترها عن تاريخها العربي والأفريقي، من أجل المشروع الشرق أوسطي، والذي يقضي تمامًا على فكرة الوحدة العربية، ألهذا شاعت النغمة التي تتغنى بمصر الفرعونية المصرية الأصلية النقية من الدماء العربية المتخلفة التي وردت إلينا من بدو الصحراء مع الغزو العربي لمصر؟
منذ أيام قليلة قرأت كتابًا صادرًا عن: معهد شيلواح بقلم الإسرائيليين جانوكوفسكي وجرشوني (والمنشور بالعربية في القاهرة عن دار شرقيات ١٩٩٩)، يؤكد الكتاب على هوية مصر المصرية الخالصة لا تشوبها عناصر أخرى عربية، ويستشهد على ذلك بأقوال مثقفين مصريين منهم العقاد وأحمد أمين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم، يصور لنا الكتاب كأنما هؤلاء كلهم ضد عروبة مصر، فهل هذا صحيح؟ أم أنها الرؤية الإسرائيلية لتاريخ مصر وهويتها مما يتفق مع مصالحها الاقتصادية والعسكرية، ورغبتها في عزل مصر، وبالتالي إضعافها وسلب وسائل المقاومة منها؟ ثم يبث فريد جيمسون وغيره من الفلاسفة الأمريكيين اليأس في نفوسنا؛ لأننا عاجزون عن مقاومة الإخطبوط الاقتصادي والعسكري والنووي والعولمة.
(٤) الصراع الديني المطلوب اليوم
أليست قوة المقاومة نابعة من الوحدة العربية والوحدة الأفريقية في مواجهة قوة إسرائيل؟
أليس هذا هو مأزق ياسر عرفات اليوم بعد أن عاد من كامب ديفيد الثانية خاوي اليدين، وأصبح كالفرخ المذبوح يطير هنا وهناك من أجل المساندة والتأييد له، والجميع يأخذونه بالأحضان دون وعود بشيء، مجرد النصيحة النصيحة بألا يعلن عن قيام الدولة الفلسطينية في ١٣ سبتمبر إلا بموافقة إسرائيل.
أصبحت البلاد العربية ممزقة منذ كامب ديفيد الأولى، وأصبح الاقتصاد المصري يعاني من الأزمات منذ الانفتاح الساداتي، ومنذ حرب الخليج الأولى ثم الثانية انهارت القوى العربية الاقتصادية والعسكرية، وسادت الفتن الطائفية تحت اسم العودة للتراث والهوية، وارتفعت الأصوات المنادية بعودة النساء إلى البيوت ودور الأمومة، وانتشرت كل الأفكار الرجعية تحت اسم مقاومة الغزو الثقافي، على حين كان الغزو الفكري الإسرائيلي والأمريكي يغزونا في الواقع والحقيقة.
أليس هذا التضليل الثقافي هو سمة العولمة والرأسمالية الأمريكية؟ تحت اسم الهوية المصرية تُسلب منا قوتنا العربية، وتحت اسم معاهدة السلام يسلب منا السلام والقوة الضرورية للسلام، وتصبح إسرائيل هي القوة العسكرية النووية الوحيدة في المنطقة، وهي تهدد ياسر عرفات اليوم أن تضربه عسكريًّا إن أعلن الدولة الفلسطينية في ١٣ سبتمبر القادم، وقد انكمشت جميع البلاد العربية خوفًا وعجزًا عن المقاومة، حتى مصر التي أعلن وزير خارجيتها عن ضرورة عقد قمة عربية لمساندة عرفات، سرعان ما راحت الفكرة واندثرت بحكم الواقع العربي الممزق منذ كامب ديفيد الأولى.
الغريب أن المفكرين والكُتَّاب في بلادنا ينظرون إلى ياسر عرفات ينتظرون ما يفعل، كأنما هو وحده المسئول وهم جميعًا متفرجون، يتسلون بالفرجة في سهراتهم، بعضهم يقول له: انتحر يا أخي وأعلن الدولة الفلسطينية في ١٣ سبتمبر ولا يهمك الترسانة النووية الإسرائيلية، وبعضهم يقول له: اعقل يا أخي واذهب إلى كامب ديفيد الثالثة والرابعة ولا يهمك حاجة ما دمت تعيش، ويكفيك كلام الثوريين من منازلهم والذين أيَّدوا السادات وهرولوا إلى إسرائيل.
المعركة الآن تقلَّصت وأصبحت حول القدس الشرقية فقط، تم نسيان ما هو أهم عودة ثلاثة ملايين ونصف من اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم، والمستوطنات التي تبنيها إسرائيل يومًا وراء يوم و…
وأصبحت قضية القدس كأنما هي قضية دينية فقط، وليست عودة أرض محتلة إلى أصحابها بصرف النظر عما فيها من آثار دينية إسلامية أو مسيحية أو غيرها، لقد وقع الجميع في هذا الفخ، تحويل الصراع حول الأرض المسلوبة إلى صراع ديني، وهو شكل الصراع الذي تريده إسرائيل وأمريكا؛ لأنه يؤكد على فكرة الهوية الأصلية أو الهوية الدينية، وإعادة الناس إلى الوراء ليعيشوا الوهم بأن القيم القديمة أفضل من القيم الجديدة، وإن كانت أكثر تخلفًا وعنصرية وتفرقة بين الناس على أساس الدين والجنس و… و… و…
لقد اشتعل حريق الفتنة الدينية حول إعادة القدس إلى أصحابها الفلسطينيين (وليس المسلمين أو المسيحيين) وقرار الأمم المتحدة ٢٤٢ ينص على إعادة القدس الشرقية بما فيها من مساجد وكنائس إلى الفلسطينيين؛ لأنها أرض فلسطينية، والأرض لا دين لها، وإذا أصبح للأرض هوية دينية فماذا يحدث في العالم؟ هل تحتل السعودية أرض الهند أو باكستان لأن فوق أرضها مساجد إسلامية؟
وهل يحتل الفاتيكان بعض أرض مصر لأن فوقها كنائس؟ وهكذا نرى الفخ الذي وقع فيه ياسر عرفات والبلاد العربية في دعوتها لعودة القدس، ومن هنا أصبح من حق الفاتيكان أن يكون لهم حق الإشراف على القدس وليس الفلسطينيين، أرادت أمريكا وإسرائيل تحويل الأنظار من الحق المشروع وطنيًّا ودوليًّا، وبقرار واضح من الأمم المتحدة إلى مجرد مساجد وكنائس يمكن التنازع عليها بين أصحاب الأديان المختلفة.
(٥) الخديعة والهزيمة
هكذا ندرك الخديعة الفكرية التي يلجأ إليها الإسرائيليون والأمريكيون، ولأنَّ أغلب المفكرين في بلادنا لا يفكرون ولا يبدعون الأفكار من الواقع الذي نعيشه، بل ينقلون دائمًا عن المفكرين في أمريكا وأوروبا، وأخيرًا أصبح المفكرون الإسرائيليون المرجع لبعض المثقفين في بلادنا.
وفي رأيي أن هذه هي الهزيمة الأساسية التي أصابتنا، الهزيمة الفكرية، أو التبعية الفكرية، وهي سمة غالبة في بلادنا تصيب المفكرين من اليسار الاشتراكي واليمين الرأسمالي على حد سواء، وقد أصبح فريد جيمسون وغيره من الماركسيين الأمريكيين مرجعًا لأغلب الماركسيين العرب والمصريين، بعد ماركس ولينين وتروتسكي وجرامش وألتوسير وغيرهم.
دائمًا أتساءل: لماذا لا يكون عندنا مفكرون وفلاسفة مبدعون لا ينقلون أفكار الغير؟ أهي انعدام الثقة في النفس؟ أهو الخوف من التفكير الحر المستقل؟ حين وقفت في جامعة ديوك وعارضت فريد جيمسون لم يندهش إلا زملائي العرب، وقال أحدهم مستنكرًا: كيف أعارض فيلسوفًا كبيرًا مثل فريد جيمسون، وقلت له: وهل فريد جيمسون عنده عقل وأنا ليس عندي عقل؟
حدث الشيء نفسه في محاضرة لجاك ديريدا في جامعة ديوك، وأدركت أن المثقفين العرب والمصريين ينظرون بقدسية لهؤلاء المفكرين في الغرب، ويشعرون أنهم أقل قدرة منهم على الإبداع الفكري.
ربما هو نظام التعليم في بلادنا الذي يسلبنا القدرة على الإبداع والتمرد على الأسياد الكبار الذين يملكون السلطة في الدولة والعائلة، وربما هي عقيدة النقص في مواجهة الغرب الأقوى الذي استعمرنا قديمًا وحديثًا، منذ نشوء النظام الطبقي الأبوي أو العبودية.
أتابع ما يحدث على الساحة السياسية والثقافية والفكرية في بلادنا وأشعر أن المعركة أمامنا طويلة طويلة، وهي معركة فكرية في الأساس؛ لأن العقل الذي يفكر بعقول الآخرين ليس عقلًا مفكرًا بل ناقلًا فقط، والعقل الناقل بالضرورة عقل تابع، والعقل التابع يؤدي إلى وطن تابع، واقتصاد تابع وسياسة تابعة وثقافة تابعة وإعلام تابع.
(٦) الفكر والعمل
كيف الخروج من هذا المأزق؟ إذا كان أغلب المفكرين المبدعين في بلادنا قد لزموا بيوتهم أو تمت مطاردتهم حتى هاجروا إلى الخارج أو إلى الداخل، وقد طغى على سطح الحياة الفكرية هؤلاء الذين يؤيدون كل من جلس على العرش، وقد رأيت هؤلاء في اجتماعاتهم مع عبد الناصر والسادات ومبارك، واستمعت إليهم وهم يتملَّقون كل حاكم، يرفعونه إلى مصاف الإله المعصوم من الخطأ، الإله الذي يوجه إليهم التوجيهات والأوامر، ولا يكون أمامهم إلا الطاعة وإلا فقدوا الامتيازات والمقاعد الجالسين فوقها.
المشكلة إذن مزمنة، وهي حادة أيضًا وقابلة للعلاج، وأول مراحل العلاج هو التشخيص الصحيح للداء، ولعل هذا المقال محاولة متواضعة مني أو مساهمة قد تساعد على تشخيص المرض والبحث عن الأسباب الحقيقية لغياب الفكر المبدع في بلادنا، وندرة المفكرين الخلَّاقين من الرجال والنساء.
هل لنا أن نحرر المستقبل من الماضي؟ هل لنا أن نحرر الماضي من المستقبل؟ قد يكون الماضي أكثر تقدمًا من الحاضر أو المستقبل، مثلًا كانت أفكار مي زيادة وملك حفني ناصف أكثر تقدمًا من أغلب النساء والمثقفات اليوم، وكانت أفكار طه حسين أكثر تقدمًا من أفكار أغلب المثقفين الرجال اليوم، وكانت فلسفة ابن رشد أكثر تقدمًا من كثير من المفكرين اليوم، والماضي المصري القديم كان أكثر عقلانية وتقدمًا من المستقبل الروماني المسيحي الذي دمر الحضارة المصرية القديمة، وحطم الآلاف من تماثيلها وآثارها وكتبها.
هذا في فترات الردة والهزيمة فقط، لكن في فترات الازدهار فإن المستقبل يقترن بالتقدم والتحرر من قيود الماضي، ومن الأفكار المتخلفة التي يثبت أنها ضد التقدم العلمي والاكتشافات الجديدة، مثلًا لقد انتصر علم الكون الجديد وعدم مركزية الأرض على الفكر اليهودي في التوراة، ونظرية الخلق الدينية التي سادت في الماضي.
المسألة إذن ليست الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وهي كلها عناصر مترابطة واحدة متداخلة، المسألة هي القدرة على الفرز والتمسك بالإيجابيات ونبذ السلبيات سواء في الماضي أو الحاضر، هذه القدرة تحتاج إلى عقول مفكرة شجاعة لا تتملق الثوابت المقدسة في الماضي والحاضر، بل تخضعهما للنقد والجدل في ضوء المشاكل التي يعيشها الناس، وليس في ضوء مقولات هذا أو ذاك من المفكرين في بلاد أخرى، كما تحتاج إلى العمل مع الناس والمقاومة الجماعية، وعدم فصل الفكر عن العمل.
لأن معظم البحوث العلمية في جامعاتنا تدور في جدل نظري عقيم حول مقولات ونظريات المفكرين في الغرب، ولا تنبع من أسئلة حول مشاكلنا الواقعية؛ لهذا لا تلعب الجامعات في بلادنا دورًا في الإبداع الفكري أو تخريج المبدعين.