رسالة إلى وزيرة البيئة
لأن صورتك الباسمة الرقيقة الناعمة تطالعني من كل مكان فقد أصبحت كأنما أعرفك، وأراك في النوم وأحلام اليقظة حين أتمدد فوق الكنبة، في الشرفة، وأطل على شارعنا القصير الذي يحمل اسم «معهد ناصر» في حي شبرا القديم، وكان شارعنا هذا القصير نظيفًا إلى حدٍّ كبير قبل أن تنشأ وزارة البيئة، ذلك أنه يحمل اسم ناصر، وجاور المستشفى الأبيض الفاخر الذي يحمل اسم معهد ناصر أيضًا.
وكان جدك مكرم عبيد يتراءى لي أيضًا في النوم وأنا طفلة، أستمع إلى أحاديث جدي وأبي عن الكتاب الأسود والعهد الملكي الأكثر سوادًا: كانت الصحف وأقلام الأدباء الكبار تكيل المدح والثناء للملك فاروق الأول، ملك مصر المعظم، أدامه الله ذخرًا للبلاد، حيث يرفل الشعب المصري الكريم في النعيم أو الخير، الذي ينعمه الملك على عباد الله، وأسمع أبي ينفث بالغضب ويقول: إننا نسير من فقر إلى فقر، رغم أنه موظف في الحكومة فما بال الفقراء، وأسمعه يهتف في البيت: يسقط الملك يسقط الإنجليز، ثم يمضي إلى عمله يائسًا صامتًا ثقيل القلب مكبوت الغضب، كنت تلميذة بالمدرسة وسألت أبي يومًا: لماذا لا تثور يا أبي إلا في البيت؟ لماذا لا تهتف في الشارع: يسقط الملك يسقط الإنجليز! كان أبي يضحك ويقول: سيقول الناس عني مجنون.
وهذا هو ما حدث لي بالضبط بعد نصف قرن، وبعد أن مات أبي منذ أربعين عامًا، وجدتني أمشي في شارعنا الصغير وأهتف بأعلى صوتي: يسقط الملك يسقط الإنجليز! وتجمع الناس حولي وقالوا: مجنونة! كان اليوم هو ٤ مايو عام ٢٠٠٠، وكانت الأعلام مرفوعة في الاحتفالات بعيد الربيع، وأعياد قومية أخرى، والزبالون والكناسون غسلوا شوارع النيل وميدان التحرير وشارع الحرية والديمقراطية، ومعهد ناصر ومدينة السادات وأكاديمية مبارك وغيرها من المعالم الوطنية، إلا أن شارعنا الصغير الذي يحمل اسم معهد ناصر لم يكن له نصيب في هذه الأعياد، وجدتني ذلك اليوم الربيعي أتعثر وأنا أمشي في أكوام من الصناديق الفارغة والقمامة، وأكياس النايلون وعلب الصفيح تفوح منها رائحة بوليبيف عفنة.
عرفت أن هذه الأكوام الجديدة من الزبالة مصدرها السوبر ماركت الجديد الذي فتح منذ فترة قصيرة في العمارة المجاورة لنا، والذي يحمل اسم «سينسبري» وقد احتل الدور الأرضي من العمارة، له واجهة عريضة مزينة باللون البرتقالي الزاهي، ومدخل من البلاط المصقول اللامع، يغسله كل يوم في الصباح الباكر شباب يرتدون البدل البرتقالية الأنيقة، فوق صدورهم شارة باللون البرتقالي تحمل اسم الإنجليزي العريق «سينسبري»، يروحون ويجيئون داخل المحل وخارجه بنشاط غير عادي، خطوتهم فوق الأرض سريعة، يدبون فوق البلاط المغسول بكعوب مثل العساكر الإنجليز أيام الملك، يرمقونني باحتقار لأنني أمشي في الشارع فوق قدمي داخل حذاء كاوتش وليس داخل سيارة طويلة أمريكية أو بريطانية، أو لأنني لا أدخل إلى السوبر ماركت العظيم، وأذهب إلى البقال الفقير في المحل الصغير المجاور.
لكني ذلك اليوم ٤ مايو دخلت إلى السوبر ماركت لأول مرة، رأيت الرءوس تنحني لي باحترام وتقودني عبر الممرات النظيفة بنعومة شديدة، توجهني إلى المشتريات المنظمة في صفوف فوق الرفوف، لكني لم أدخل للشراء، بل توجهت إلى مكتب المدير، الذي تصورته إنجليزيًّا، لكنه مصري يتكلم العربية بلكنة أجنبية، وقف احترامًا خاليًا من الأدب كعادة الأجانب مع أهل البلاد، وقلت له بغضب إن السوبر ماركت قد جعل من شارعنا ملقف قمامة، وأنه لا يفعل ذلك في لندن لأنه يحترم الإنجليز، أما نحن سكان حي شبرا القديم! قاطعني المدير معتذرًا متأسفًا معلنًا أن العربة التي تحمل القمامة تعطلت هذا اليوم، وأنه في الغد سوف يكون شارعنا نظيفًا كما كان.
إلا أن الغد جاء، وقمامة الإنجليزي سينسبري لا تختفي من شارعنا، بل يتضاعف حجمها يومًا بعد يوم، حتى جاءني بعض الجيران وقالوا: هذه القمامة زادت عن الحد ونحن فقراء في حالنا وليس لنا واسطة في وزارة البيئة، ألا تعرفين أحدًا في الحكومة أو في أحزاب المعارضة؟ لاحظت أنهم لا يفرقون بين هؤلاء وهؤلاء، وقد رأوا صورة السيدة وزيرة البيئة تتوسط احتفالات الأحزاب المعارضة بمثل احتفالات حزب الحكومة، وقلت لهم إنني لا أعرف أحدًا، ولكني سأحاول أن أكتب شيئًا.
وتذكرت أنني منذ أيام قليلة قرأت شيئًا عن أن وزارة البيئة أو وزارة الصحة قد جعلت قضية الحفاظ على البيئة قضية تهم كل مواطن مصري، وذلك عن طريق الشرط الجديد لإتمام إجراءات أي ترخيص لفتح أي محل تجاري أو عيادة طبية وإن كانت عيادة نفسية، هذا الشرط الجديد يقتضي الحصول على ترخيص من صحة البيئة يسمى «ترخيص تداول النفايات» ولا يمكن لأحد أن يفتح محلًّا أو حتى عيادة نفسية دون الحصول على هذا الترخيص، يثبت به صاحب المحل أو صاحب العيادة الطبية (بعد أن يدفع مائة جنيه رسوم) أنه تعاقد مع محرقة لحرق النفايات والقمامة الناتجة عن المحل أو العيادة، وأنه يدفع اشتراكًا شهريًّا لهذه المحرقة مما يؤكد عدم وجود نفايات خارج المحل أو داخله.
كان المقال الذي قرأته عن هذا الموضوع قد نُشر في جريدة الأهرام يوم ٢ مايو ٢٠٠٠، تحت عنوان «محرقة للنفايات النفسية» بقلم سلامة أحمد سلامة، بعد أن أرسل إليه طبيب نفسي يشكو صعوبة الحصول على هذا الترخيص، والتعاقد مع محرقة ودفع اشتراك شهري يترتب على عدم دفعه ولو لم توجد نفايات (مثل عيادة نفسية) إلغاء التعاقد وسحب الترخيص.
وأنا أختم رسالتي الودية إلى وزيرة البيئة الرقيقة، أود أن أسأل هذا السؤال البسيط: هل يا ترى أن «سينسبري» قد حصل على هذا الترخيص؟ وإن كان كذلك فلماذا تتراكم النفايات في شارعنا القصير أمام السوبر ماركت؟! ألم يتعاقد مع محرقة لحرق النفايات؟ أم أن المحرقة تعطلت كما تعطلت أشياء أخرى كثيرة في حياتنا دون أن ينطق أحد.