نحو فلسفة إنسانية لإحياء الضمير

الورقة المقدمة في افتتاح المؤتمر الدولي السادس لجمعية تضامن المرأة العربية (القاهرة ٣–٥ يناير ٢٠٠٢)

لا أوصي ابنتي التي ستلي العرش من بعدي أن تكون إلهة لشعبها تستمد سلطتها من قداسة الألوهية؛ بل أوصيها أن تكون حاكمة رحيمة عادلة.

من نوت إلهة السماء لابنتها إيزيس (مصر القديمة ٤٩٨٨ق.م)

(١) تحت اسم المقدس أو القداسة

هذه الوصية من نوت لابنتها إيزيس تُعبر عن الفلسفة السابقة لنشوء النظام العبودي في مصر القديمة منذ خمسة آلاف عام قبل ظهور الديانة اليهودية والمسيحية.

كان الحكم يقوم على العدل والرحمة، وليس على القوة أو القوة السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي استمدت قوتها من السلطة الدينية أو قداسة الألوهية.

إلا أن هذه الفلسفة الإنسانية قد اندثرت (إلا قليلًا) في مصر القديمة والحديثة تحت ضربات القوى الطبقية الأبوية الصاعدة الرافعة شعار «قداسة الألوهية»، وقد تخفي الحاكم الفرعوني تحت زي الإله، وأصبح مقدسًا لا يجوز نقده أو محاسبته، مما أدى إلى صعود القوة الحاكمة فوق الحق والمنطق، حتى يومنا.

إن الدكتاتورية أو السلطة المطلقة ليست سمة الحكومات في بلادنا العربية أو ما يسمونه اليوم الشرق الأوسط (الأوسط بين مَنْ ومَنْ) بل هي سمة الحكومات جميعًا غربًا وشرقًا، تختلف درجة الدكتاتورية من بلد إلى بلد، حسب ظروف كل بلد، وقد تحظى بعض الشعوب في أوروبا وأمريكا بحريات شخصية أو فردية تحت اسم الديمقراطية، لكنها ديمقراطية هشة سطحية لا تشمل الحياة السياسية والاقتصادية العامة أو الخاصة، وقد تقتصر أحيانًا على الممارسات الجنسية، مما يؤدي إلى هذه الديمقراطيات المشوهة أو التناقضات الصارخة التي تعيشها النساء والرجال في بعض البلاد.

نحن نعيش في عصر الاستعمار الجديد Neo-colonial، وليس في عصر ما بعد الاستعمار Post-Colonial كما هو شائع في الجامعات الأمريكية والأوروبية، ورغم أنها مجرد كلمة إلا أن اللغة تكشف عن القوى الحاكمة في العالم، وهي تحكم من خلال المؤسسات السياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى المؤسسات الإعلامية والتعليمية ومنها الجامعات.

منذ طفولتي في الثلاثينيات من القرن الماضي، وحتى اليوم في بداية القرن الواحد والعشرين وأنا أشهد عمليات القتل الفردية والجماعية تحت اسم الله أو الوطن أو الملك، أو الملكية التي تغير اسمها فقط إلى جمهورية أو جماهيرية أو شعبية أو ليبرالية ديمقراطية أو غيرها من الكلمات التي تصف بها الحكومات نفسها في الغرب والشرق على السواء.

تلعب اللغة دورها في إخفاء الحقيقة التي نعيشها، فإذا بالدكتاتورية تتخفى تحت اسم الديمقراطية، والاستعمار القديم والجديد يتخفى تحت اسم الحماية أو المعونة أو التنمية أو التحديث، والازدواجية أو الفساد، والكذب يتخفى تحت الشرف والأخلاق والصدق.

حين نطق الإنسان (المرأة والرجل) في بداية التاريخ غير المكتوب كانت اللغة تهدف إلى الإيضاح والتعبير عن الرغبات الطبيعية على رأسها الحب والتعاون وحل المشكلات التي تعترض الحياة في الواقع المعاش، كيف تحولت اللغة من أداة للوضوح والفهم والمعرفة إلى أداة للإخفاء والتمويه والتعمية؟

اللغة هي رموز تهدف إلى التعبير عن الواقع، واختزال الأشياء الضخمة الحجم إلى رسومات أو أرقام أو حروف يمكن قراءتها على الحجر أو الورق أو الشاشة أو ديسك الكمبيوتر.

وهنا تكمن خطورة اللغة أو غيرها من الرموز التي تُشكل الفكر والدين والفلسفة والتاريخ والأدب والطب والهندسة وغيرها من الفنون أو العلوم الإنسانية والطبيعية.

لقد انفصل الواقع المعاش أو الحقيقة الحية التي يعيشها النساء والرجال عن اللغة والدين والفلسفة والتاريخ والأدب والطب وغيرها، واستطاعت الأنظمة الحاكمة في الشرق والغرب منذ نشوء العبودية (حتى يومنا هذا) أن تستغل هذا الانفصال بين الرمز والحقيقة من أجل طمس الحقيقة وتعمية عقول النساء والرجال عن الواقع المعاش، مما يمكن أن نسميه «حجاب العقل» وهو أخطر من حجاب الوجه؛ لأنه غير مرئي بالعين وغير ملموس باليد، وبالتالي يبدو كأنما غير موجود.

حين تختفي أداة القمع أو القتل يصبح من الصعب التصدي لها ومقاومتها، ومن هنا خطورة حجاب العقل الذي فرض على النساء والرجال تحت اسم الفكر أو الفلسفة أو الأخلاق أو السياسة أو الثقافة أو غيرها.

منذ بداية التاريخ دخلت القيم العبودية أو الطبقية الأبوية داخل علم الفلسفة والأخلاق والقانون العام في الدولة والقانون الخاص في الأسرة، أصبحت الازدواجية والثنائيات العبودية هي أساس التفكير الفلسفي أو ما سمي بالعقل.

هكذا تخفت تحت اسم العقل فلسفة غير عقلانية، وبالتالي غير إنسانية فرضتها الأنظمة الحاكمة وأتباعها من الفلاسفة والمفكرين منذ حكومة الإله آمون في مصر القديمة حتى حكومة جورج بوش الأب والابن في الحكومة الأمريكية الحديثة، وفي اليونان القديم سيطرت الفلسفة العبودية على عقول الفلاسفة من أمثال أفلاطون وأرسطو الذين عاشوا في حماية السلطة الحاكمة، أما الفلاسفة الآخرون الذين قاوموا هذه الفلسفة غير الإنسانية فقد انتحروا في السجون أو قتلوا تحت تهمة المساس بالذات العليا المقدسة الملك أو الإمبراطور الذي تخفَّى تحت زي الآلهة في السماوات أو الملكوت الأعلى.

وهنا كانت الخطورة ولا تزال حتى اليوم، تحت اسم المقدَّس، ثم اندثار الفلسفات الأكثر إنسانية والأكثر عقلانية التي قاومت الفكر العبودي بأشكاله المختلفة التي تطورت عبر القرون، لتصوغ الفلسفة الرأسمالية الطبقية الأبوية الحديثة وما بعد الحديثة، هذه الفلسفة التي تعتبر فيلسوف العبودية في اليونان القديم مثلها الأعلى، وهو أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م) الذي تصور أن العبودية أمر عادل تتطلبه طبيعة العبد وطبيعة المرأة.

أصبحت العبودية هي العدل، وهي الطبيعة، وهي العقل أو الفلسفة أو المنطق، ودخل الظلم في التاريخ تحت اسم العدل، ودخل اللامنطق تحت اسم المنطق أو العقل، وكان لا بد من تشويه الطبيعة وتطويعها لتواكب هذه الفلسفة غير الإنسانية غير المنطقية.

لقد أدى حجاب العقل إلى تشويه العقل والجسد والروح في تلاحمها الطبيعي داخل الإنسان (المرأة والرجل)، وانتشر في التاريخ الفلاسفة (من النساء والرجال) الذين قاوموا العبودية منذ نشوئها حتى اليوم، منذ نوت وإيزيس وإخناتون وتي ونفرتيتي وهيباثيا الذين تم القضاء عليهم وتحطيم فلسفاتهم الأكثر إنسانية في مصر إلى ديموقريتس في اليونان، وابن رشد في شمال أفريقيا، حتى المفكرين في يومنا هذا من النساء والرجال الذين يقاومون الفكر الرأسمالي الطبقي الأبوي الذي يتخفى تحت اسم براق جديد هو الفلسفة ما بعد الحديثة، تلمع فيها أسماء من أمثال صمويل هانتجتون، وتلعب تكنولوجيا الاتصالات والأقمار الصناعية في نشر أفكارهم شرقًا وغربًا.

هكذا يصبح حجاب العقل مشكلة عالمية، وليس فقط مشكلة عربية أو أفريقية أو إسلامية كما يتصور بعض الناس، أو كما يحاولون تصوير التخلف الحضاري كأنما هو مرتبط بالإسلام، أو كأنما الإسلام هو وراء الفكر الفلسفي العاجز عن مواكبة الحداثة أو ما بعد الحداثة، واعتبار عصرنا هو عصر الإرهاب الإسلامي أو الصراع بين الإسلام والغرب.

•••

وتكمن خطورة هذا الفكر المفروض علينا بالآلة الإعلامية الرأسمالية الأبوية إنه يحجب عن عقولنا الأسباب الحقيقية للصراع الدموي الذي يسود العالم، ويسوق أسبابًا سطحية ومزيفة تزيد من كثافة حجاب العقل، إلى الحد الذي أصبحت فيه اللغة المكتوبة في الصحف السائدة غير مفهومة حتى لمن يكتبونها، سألت أحد الكُتَّاب المصريين المعروفين جدًّا (ينشر مقالًا أسبوعيًّا طويلًا في جريدة كبرى مع صورة كبيرة) عن معنى ما يكتبه عن العولمة فإذا به لا يفهم ما يكتبه، واحمرَّ وجهه بالغضب مني لأني أوجه إليه الأسئلة، وهو فوق التساؤل أو المحاسبة مثل الآلهة والملوك ورؤساء الدول.

(٢) ولن نحمل الزكائب إلى الأبد

إن المشكلة الأساسية التي تواجهنا هي كيف نرفع هذا الحجاب الكثيف عن عقل المفكرين الكبار قبل غيرهم من عامة الشعب؟ أو كيف نصوغ فلسفة إنسانية لإحياء الضمير الذي أصابه الضمور أو الموت؟ لا أحد يمكن أن ينكر أن العدل غائب في عالمنا الراهن دوليًّا ومحليًّا، وأن الحرية غائبة أو الديمقراطية الحقيقية، وأن المذابح البشرية لا تكف، والعنف أو الإرهاب يتسع ليشمل البلاد شرقًا وغربًا، ومع ذلك فإن أغلب المفكرين لا يزالون يلوكون مبادئ الفلسفة الطبقية الأبوية الرأسمالية في الغرب والشرق، وقد عشت في نيويورك ونيوجيرسي خلال الشهور الأربعة الماضية وشهدت أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ عن قرب شديد، وعشت مخاوف الشعب الأمريكي مما أطلق عليه اسم «الإرهاب الإسلامي»، وعدت إلى الوطن منذ أسابيع قليلة، وعشت مخاوف الشعب المصري والشعوب العربية مما أطلق عليه «الإرهاب الأمريكي والإسرائيلي»، وهناك من يسمونه «الحرب الصليبية المسيحية واليهودية»، يغذي هذا الصراع الذي يتخذ شكل الصراع الحضاري بين الغرب والشرق، أو الصراع الديني بين الإسلام والمسيحية واليهودية أغلب المفكرين في بلادنا العربية الذين يعيشون داخل الغرف المغلقة غارقين في المجردات، أو ناقلين عن مفكري الغرب دون فهم، أو دون تحليل عميق للأحداث الجارية في الواقع المعاش.

وقد سألت المفكر المصري الشهير (الذي ينشر صورته ومقاله الطويل أسبوعيًّا) عن رأيه في قضية طفل نزف حتى الموت بعد عملية الختان، ورأيه في قضية طفلة قتلها أهلها لأنها خلعت الحجاب، ورأيه في قضية حبس أو محاكمة كاتب لأنه مس الذات العليا، ورأيه في قضية استيلاء أحد رجال السلطة في قريتي على قطعة أرض صغيرة تملكها إحدى الفلاحات، ورمقني المفكر الكبير وهو يمط شفتيه إلى الأمام معلنًا أنه لا ينشغل بهذه القضايا الصغيرة لأنه مشغول بالقضايا الكبرى، على رأسها العولمة، وتذكرت «أرسطو» حين ذهب إليه أحد الفلاحين يشكو أحد رجال السلطة في اليونان لأنه استولى دون حق على قطعة أرض صغيرة كان يملكها ويزرعها لإطعام أطفاله، صرفه أرسطو قائلًا إنه مشغول بالكرة الأرضية كلها، وليس قطعة أرض صغيرة.

لقد استطاع أرسطو منذ القرن الرابع قبل ميلاد المسيح أن يُدخل قهر المرأة ووضعها الأدنى في الفلسفة والقانون، حين أعلن أن المرأة لا تساهم في صنع الجنين إلا بمادة خام غير حية (وعاء الرحم) أما الرجل فهو وحده الذي يمنح الحياة للطفل.

هكذا أصبح الحق القانوني للأب فقط، أصبح اسم الأب هو الذي يعطي للأطفال الحياة والشرف والشرعية والجنسية والدين، وضاع حق الأم تمامًا، واندثر اسمها وفكرها وجهودها في التاريخ القديم والحديث حتى يومنا هذا.

لقد ضُربت الحركات النسائية شرقًا وغربًا التي حاولت التصدي للعبودية والقيم الطبقية الأبوية المدعمة لها، وتم تحطيم فلسفة «نوت» المصرية التي سبقت الفلسفة العبودية ومنحت الإنسان امرأة ورجلًا واجبات وحقوق متساوية في الأسرة والمجتمع.

وقد انهارت هذه الفلسفة الإنسانية مع نشوء النظام الأبوي الطبقي، وفقدان مصر استقلالها الفكري والاقتصادي تحت غزوات الاستعمار القديم والجديد، ولم تكف النساء المصريات عن المقاومة حتى اليوم، ولم يكتف الفلاحون الأجراء عن المقاومة حتى اليوم، وقد عبرت بعض الأغاني الشعبية المصرية القديمة عن قهر الفلاحات والفلاحين تحت نير السلطة المحلية والأجنبية، ومنها هذه الأغنية:

أهو قدرنا المفروض علينا
أن نحمل فوق ظهورنا طوال اليوم
الشعير والقمح الأبيض
لا تزال المخازن مكدسة بتلال الغلة
ولسوف نحمل الزكائب إلى الأبد

في طفولتي في القرية كنت أسير بجوار عمتي الفلاحة وهي تمشي إلى الحقل حاملة زكيبة القطن فوق رأسها، أو الزلعة الكبيرة المملوءة بماء النيل، وأسمعها تغني مثل هذه الأغنية، إلا أن عبارة «فوق ظهورنا» تغيرت إلى عبارة أخرى هي «فوق رءوسنا».

(٣) إنها حضارة واحدة

يلعب حجاب العقل دورًا كبيرًا في ترويج الثنائيات والقيم المزدوجة وما يصاحبها من أفكار مضللة، ومنها فكرة الصراع بين الحضارات، أو بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، مما يحجب عنا الحقيقة، وهي أننا نعيش في عالم واحد وليس ثلاثة، وحضارة واحدة هي حضارة رأسمالية أبوية نبعت وتطورت من العبودية القديمة القائمة على الثنائيات الباطلة على رأسها ثنائية السيد والعبد، المالك والمملوك، الملاك والشيطان، الحاكم والمحكوم، الروح والجسد، السماء والأرض، المؤمن والكافر، الخير والشر، الخطيئة والفضيلة، الذكر والأنثى.

لو أننا تأملنا لغة جورج بوش الابن بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ لاكتشفنا أنها لغة دينية مسيحية، تستخدم اسم الله لتعلن الحرب في أفغانستان ضد الشيطان أسامة بن لادن وأعوانه في تنظيم القاعدة، ولا يكف جورج بوش عن الغناء في الكنائس مع أعوانه هذه الأناشيد الدينية السياسية في آن واحد:

  • (١)
    نحن أمة واحدة تحت الله One Nation Under God.
  • (٢)
    نحن نثق في الله In God We Trust.
  • (٣)
    فليبارك الله في أمريكا God Bless America.

ويردد مثل هذه الأناشيد السياسية رجال الفاتيكان وعلى رأسهم «البابا» الذي أسرع بزيارة أوزبكستان وغيرها من البلاد المحيطة بأفغانستان وبحر قزوين، منشدًا الله والمسيح والروح القدس، ساعيًا إلى توحيد المسيحيين ضد ما أسماه الإرهاب الإسلامي، وتمهيد الطريق تحت اسم الله للقوات العسكرية الأمريكية والبريطانية لغزو أفغانستان.

وهل تختلف لغة جورج بوش الدينية أو لغة البابا عن لغة أسامة بن لادن وأعوانه في تنظيم القاعدة؟! ألا يصور كل منهم الآخر على أنه الشيطان الشرير أو الإرهابي غير المتحضر؟! ألا يدعي كل منهم أن الله معه في حربه المقدسة من أجل الخير والعدل والسلام والتحضر.

وأي حضارة هذي التي تؤدي إلى هذه المذابح البشرية في أفغانستان أو العراق أو الصومال أو غيرها؟ كيف تخفت المذابح لإبادة الشعب الفلسطيني تحت اسم معاهدات السلام؟

منذ نشوء النظام الطبقي الأبوي وحتى اليوم تراق الدماء البريئة من الشعوب نساءً ورجالًا وأطفالًا تحت شعارات دينية ووطنية، لا يوجد فاصل بين الدين والوطن في الشرق والغرب، في الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو غيرها، ينظر جورج بوش إلى العساكر الأمريكيين الذين يقتلون في أفغانستان على أنهم أبطال الوطن وشهداء المسيحية، وينظر أسامة بن لادن إلى القتلى من أعوانه على أنهم شهداء الإسلام، وماذا يدهشنا في ذلك وسيلة التشابه في اللغة والسلوك والهدف بين القادة السياسيين الذين يستخدمون الدين وسيلة لتحقيق أهدافهم العسكرية والاقتصادية، إن الدين يخدم السياسة منذ نشوء الدين والسياسة، وتشمل الكتب الدينية على نصوص سياسية وثقافية واقتصادية وعسكرية، بالإضافة إلى النصوص الأخلاقية والاجتماعية والشخصية، ربما أوضح مثال على ذلك هو ما جاء في كتاب التوراة عن التفرقة الصارخة على أساس الجنس، واعتبار حواء هي المسئولة عن إثم المعرفة تستحق عقاب الله، وذلك بأن يسود عليها زوجها، من هنا ارتدت السلطة الأبوية الذكورية رداء مقدسًا توارثته الأديان الأخرى من بعدها، وفي التوراة أيضًا جاءت الآية التي شرعت العنصرية بأن رفعت الشعب اليهودي إلى درجة أعلى من شعوب العالم، فأصبح يحمل لقب شعب الله المختار، وفي التوراة أيضًا جاء النص الذي يدعو فيه الله شعبه المختار للاستيلاء على أرض كنعان «فلسطين» وإبادة سكان هذه الأرض لمجرد أنهم لا يؤمنون بإله اليهود، إنها الأرض الموعودة التي منحها الله لليهود مقابل ختان الذكور كما نصت التوراة، هكذا شرعت التوراة الحرب المقدسة من أجل الأرض تحت اسم إبادة الكفار غير المؤمنين، كما شرعت ختان الذكور كعهد مقدس بينهم وبين الله.

ما علاقة الاستيلاء على أرض الغير بالقوة المسلحة وقطع الغرلة من حول رأس العضو الذكري؟

وقد دخلت فكرة «حجاب المرأة» ضمن المقدسات منذ نشوء الديانة اليهودية، وينص التلمود على أن شعر المرأة العاري مثل جسدها العاري، وتعتبر الزوج هو رأس المرأة، والمرأة بدون زوج هي مجرد جسد بدون رأس، ويصلي الرجل اليهودي كل صباح قائلًا: أحمدك يا رب لأنك لم تخلقني امرأة.

مع ذلك فقد استطاعت الآلة الإعلامية الأمريكية الإسرائيلية أن تحجب هذه الحقائق التاريخية عن عقول الناس؛ لتصور الإسلام وحده على أنه مصدر حجاب المرأة، رغم أنه لا يوجد نص واحد في القرآن يدعو إلى ختان المرأة أو تغطية رأسها أو شعرها، ولا يوجد نص واحد يقول إن حواء هي سبب الإثم والخطيئة؛ لأنها أكلت من شجرة المعرفة كما ورد في التوراة.

إن القوة العسكرية المدعمة بقوة إعلامية قادرة دائمًا على قلب الحقائق أو إخفائها، وما دامت القوة هي التي تحكم فلا يمكن لعالمنا البشري أن يعيش في سلام حقيقي قائم على العدل والحرية، ولا بد من كشف هذا التزييف الفكري، أو رفع الحجاب عن عقول الملايين شرقًا وغربًا.

إن الدراسات المقارنة للأديان تؤكد لنا التشابه الكبير بين الديانات، خاصة الأديان السماوية الثلاثة، وهناك الكثير من المبادئ الإنسانية في هذه الأديان كالعدل والرحمة والمحبة والسلام تكاد تشبه ما ورد في فلسفة إيزيس ونوت، وهناك نصوص في كتاب التوراة تشبه أناشيد أخناتون ونفرتيتي، وصورة العذراء مريم تحمل المسيح تكاد تكون نسخة مكررة من صورة إيزيس تحمل طفلها حورس، وقد تحول الثالوث المقدس بعد نشوء النظام الطبقي الأبوي إلى الأب والابن والروح القدس (الأم المختفية وراء حجاب) بعد أن كان في الأصل: الأم والابنة والروح القدس «الأب المجهول».

كان الأب في بداية التاريخ البشري مجهولًا؛ ولهذا كان أغلب الأنبياء بدون أب، النبي موسى لم يكن له أب وكانت أمه هي التي أنقذته من الموت على يد فرعون، وهي التي أرضعته وعلمته وجعلته نبي اليهود، والمسيح لم يكن له أب، وكانت أمه السيدة مريم هي التي أنقذته من الموت وهربت به إلى مصر ثم جعلته نبي المسيحية، ونبي المسلمين «محمد» ماتت أمه وهو طفل، لكنها تنبأت بنبوته وهو في رحمها، وتزوَّج في العشرين من عمره من السيدة خديجة التي كانت تكبُره بعشرين عامًا، فأصبحت له بديل الأم ربته وعلمته وأنفقت عليه من مالها وعلمها، حتى نزل عليه الوحي في غار حراء فأسرع إليها ينتفض قائلًا: «دثروني دثروني.» فأخذته في حضنها كالأم وطمأنته، وكانت أول من ناداه باسم رسول الله.

إلا أن مساهمة الأم ودورها في إعداد الأنبياء قد اندثر في التاريخ الأبوي الطبقي، وأصبح «الأب» هو الأصل وهو الأساس، وتذوب صورة الأب في صورة الإله في اليهودية والمسيحية، وهناك نص في كتاب التوراة: «وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهنَّ حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا.»

وهنا نرى كيف ولد الآلهة ذكورًا فقط مما أكد السمو والسيطرة الذكورية، واندثرت حقوق النساء والأمهات وانخفضت مكانتهن، وقد اختزل كتاب التوراة عمر الإنسان على ظهر الأرض إلى مدة لا تزيد عن ٣٣٨٩ سنة، وتم اختزال تاريخ مصر ليكون تاريخ التوراة، إلا أنه في عام ١٨٢٩ تم اكتشاف رموز اللغة المصرية الهيروغليفية، وتم اكتشاف أن عمر البشرية أقدم من التاريخ الذي حددته التوراة لخلق آدم ونوح وإبراهيم، ويكشف علم الكون الجديد العام وراء العام عن الأخطاء العلمية والفلسفية التي وردت في الكتب الدينية المختلفة تحت اسم الحقائق الثابتة غير القابلة للنقد أو التغيير.

لقد استطاع علم الكون الجديد وما صاحبه من تقدم تكنولوجي كبير في وسائل الاتصال والإعلام أن يجعل هذا العالم بمثابة القرية الواحدة، وأصبحت الأحداث في أي مكان في العالم مقروءة ومرئية في اللحظة نفسها فوق الشاشة الصغيرة في قرية مصرية على ضفاف النيل مثل قرية أخرى على ضفاف نهر المسيسيبي، وغيرهما من الأنهار والقرى والمدن في العالم شرقًا وغربًا.

إلا أن هذا التقدم العلمي التكنولوجي لم يحقق السلام ولا العدل ولا الحرية ولا الحب، بل أصبح في خدمة الآلة العسكرية التي تخدم مصالح النظام الرأسمالي والأبوي الذي لا يهدف إلا إلى الربح على حساب أرواح الآلاف والملايين من البشر.

وقد شهدت في حياتي منذ ولدت في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي عددًا من الحروب الاستعمارية، حرب ١٩٤٨ لإنشاء دولة إسرائيل، وقتل وتشريد الشعب الفلسطيني، حرب ١٩٥١ ضد الاحتلال البريطاني في قناة السويس، وحرب ١٩٥٦ حين غزت مصر الجيوشُ الإنجليزية والفرنسية والإسرائيلية ومن خلفها الولايات المتحدة، ثم حرب ١٩٧٣ حيث كاد الجيش المصري أن يسترد الأرض المسلوبة في سيناء لولا التدخل الأمريكي لتدعيم إسرائيل، ثم حرب الخليج ١٩٩١ حيث هاجم العراق ثلاثون جيشًا تحت القيادة الأمريكية، وكم قتل من الشباب المصري والعربي في هذه الحروب، ونحن نشهد اليوم ماذا يفعله النظام العالمي الأمريكي لإبادة الشعب الفلسطيني، وماذا فعل في أفغانستان منذ الحرب المقدسة ضد الإلحاد في الثمانينيات من القرن الماضي، كيف لجأ إلى زراعة الأفيون والاتجار به لتمويل العمليات العسكرية وزيادة الأرباح الرأسمالية، إلى حد أن أصبح إنتاج الأفيون في أفغانستان يمثل ما يزيد عن ٧٥٪ من أفيون العالم، ويشجع هذا النظام على نشر البغاء والمخدرات بين الشباب والشابات وتحطيم حياتهم وعقولهم، ليس في أفغانستان وحدها بل في العالم كله.

وقد نقل الاستعمار الأمريكي الجديد عن الاستعمار البريطاني القديم، هذه الوسائل البربرية غير الإنسانية للإبادة الجماعية لأجساد وعقول وأرواح البشر، ألم يلجأ الاستعمار البريطاني إلى حرب الأفيون في الصين، ألم يلعب بورقة الدين لخلق الصراعات وتمزيق وحدة الشعوب من أجل السيطرة والاستغلال؟ أليس مبدأ «فرِّق تسد» هو السائد في الماضي والحاضر عالميًّا ومحليًّا؟ وألم تلجأ الحكومات المحلية بما فيها الحكومات العربية لفرض التفرقة والانقسامات بين الشعب الواحد من أجل السيطرة والاستغلال؟ وهل تختلف الحكومات المحلية أو العربية عن غيرها من الحكومات؟ أليس هي حضارة واحدة غير متحضرة هي التي تحكم العالم شرقًا وغربًا؟

مَنْ يدعم ويساند الحكومات الدكتاتورية الأبوية في الشرق أو الجنوب بما فيها الحكومات العربية؟ أليست هي الحكومات الرأسمالية الأبوية في الغرب، وعلى رأسها الحكومة الأمريكية؟ ومن الذي دعم وساند التيارات الدينية الإرهابية الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية أو الهندوكية أو غيرها؟ ألم تكن في أفغانستان وتنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، أم تكن كلها صناعة أمريكية لضرب أعداء الرأسمالية؟

أليس هو نظام عالمي واحد وحضارة واحدة تحكمها فلسفة طبقية أبوية غير متحضرة؟ لا شك أن هناك اختلافات في السلوك وبعض العادات من بلد إلى بلد، إلا أنها اختلافات في الفرع وليس الأصل.

وقد آن الأوان لإدراك أن الغرب ليس كله صليبيًّا مسيحيًّا يهوديًّا، وأن الشرق ليس كله إسلاميًّا إرهابيًّا عاجزًا عن التحضر، هذه التقسيمة «غرب/شرق» أصبحت مضللة مثل غيرها من التقسيمات.

(٤) سقوط الديمقراطية الليبرالية

تتصاعد المظاهرات الشعبية في عواصم العالم غربًا وشرقًا منذ المظاهرات في مدينة سياتل نوفمبر ١٩٩٩، وتتميز هذه المظاهرات بقدرتها على تجاوز التقسيمات التي فُرضت على البشر لتمزيق وحدتهم الإنسانية تحت اسم الدين أو الجنس أو الجنسية أو العرق أو اللون أو الطبقة أو المهنة أو الشهادة العلمية أو غيرها، لقد ذابت هذه الفروق المصنوعة بين الناس من أجل مقاومة الظلم الرأسمالي الأبوي؛ الذي تجسد في قوانين منظمة التجارة الدولية والبنك الدولي وغيرهما من المؤسسات المسيطرة على شعوب العالم غربًا وشرقًا.

بدأت الشعوب تدرك أنها تعيش في عالم واحد تحت نير حضارة واحدة تؤدي إلى مزيد من الفقر ومزيد من القتل ومزيد من التضليل.

هذه الحركات الشعبية الجديدة في طريقها إلى النمو واكتساب مزيد من القوة والوعي والتنظيم كلما تكشَّفت مخاطر هذه الحضارة الرأسمالية الأبوية، وقد اكتسبت هذه الحركات الشعبية اسمًا جديدًا هو «العولمة من أسفل» أو العولمة من قاعدة الهرم، لمقاومة العولمة الرأسمالية الاستعمارية القابعة فوق قمة الهرم، والتي تملك الأسلحة النووية والشركات التجارية الكبرى المملوكة لقلة قليلة من الأفراد يمثلون الطبقات الحاكمة غربًا وشرقًا.

إن ثروة أغنى ثلاثة عائلات في العالم تزيد عن دخل ٦٠٠ مليون شخص، ومن أجل حماية هذه القلة الثرية ينفق العالم سنويًّا ٧٠٠ بليون دولار على الحرب والتسليح، وهي تساوي أربعين ضعفًا لما يُنفق على الصحة أو التعليم أو توفير الماء النقي.

تعتمد الفلسفة الطبقية الأبوية منذ العبودية على ما يسمى المساعدة أو المعونة للفقراء والمعدمين واليتامى والمساكين، تحت اسم الرحمة أو الشفقة، وهي كلمات تضليلية توحي بالإنسانية، وهي في حقيقتها كلمات تزيد من إذلال الفقراء، فاليد العليا خير من اليد السفلى، وهي كلمات مضللة أيضًا لأنها توحي للفقراء أنهم يعيشون من فضل الأثرياء ومن كرمهم ومن خيرهم، أو على حسابهم، في حين أن العكس هو الصحيح؛ ذلك أن ثراء الأغنياء ليس له مصدر إلا العمل المنتج الذي يقوم به النساء والرجال الفقراء في الحقول والمصانع وغيرها من مؤسسات العمل في مختلف بلاد العالم، وهو عمل يكاد يشبه السُّخْرة لانخفاض الأجر بالنسبة للجهد الذي يُبذَل فيه والإنتاج الذي يصدر عنه.

وتقوم النساء في العالم بالإنتاج الزراعي والصناعي والخدمات بما يزيد عن ٦٥٪ من العمل المنتج، مع ذلك لا يحصلن إلا على ٥٪ فقط من دخل العالم، مما يفرض عليهن أن يعشن عالة على الرجال داخل الأسرة، على حين أن الحقيقة غير ذلك؛ لأن إنتاج النساء داخل البيوت وخارجها أكثر من إنتاج الرجال، لكن أغلب الأعمال النسائية غير مدفوعة الأجر.

وقد بدأت الحركات النسائية في مختلف البلاد غربًا وشرقًا تكشف هذه الحقيقة، كما بدأ فقراء العالم في البلاد التي أُطلِق عليها البلاد الفقيرة (فيما سمي العالم الثالث)، تكشف عن زيف الحقائق التي تروجها الحكومات الرأسمالية الاستعمارية، على رأسها أن فقراء العالم الثالث يعيش عالة على العالم الأول كما تعيش المرأة عالة على الرجل، لكن الحقيقة غير ذلك، وهي أن موارد العالم الثالث قد نُهبت بواسطة الاستعمار القديم والجديد، وأن هذه المعونة أو القروض تعود بالفائدة على القوى المسيطرة دوليًّا ومحليًّا، ولا يصل إلا الفتات للمعدمين المساكين.

لهذا بدأت الشعوب في العالم الثالث، أو ما سمي الجنوب، ترفض هذه المعونات والقروض، فهي تستنزف الكرامة والموارد المادية تحت اسم تسديد فوائد الديون، وارتفع شعار «عدالة التجارة وليس المعونة Fair Trade and not Aid»، وتزايدت المظاهرات الشعبية لإلغاء ديون العالم الثالث، وفي المظاهرات النسائية العالمية في ٨ مارس عام ٢٠٠٠ ارتفع شعار يقول: كيف نقارن ديون العالم الثالث بخمسة قرون من النهب الاستعماري وقتل الشعوب في الحروب؟

وقد أصبحت مظاهرات النساء المتكررة كل عام في اليوم العالمي للمرأة (٨ مارس) من أهم المظاهرات الشعبية، يشارك فيها النساء من مختلف بلاد العالم، وهي جزء من الحركة الشعبية العالمية التي تضرب في جذور النظام الرأسمالي الأبوي في الغرب والشرق، وتكشف عن الترابط الوثيق بين القهر الطبقي والجنسي منذ التاريخ العبودي القديم وحتى اليوم.

ويلعب الإعلام الاستعماري العالمي دورًا في تضخيم حجم المعونات إلى الشعوب الفقيرة تحت اسم المساعدات الإنسانية Humanitarian Aid، من أجل التمويه على ما يحدث من قتل وتدمير لهذه الشعوب ذاتها، ألم نر تلك العربات اللوريمجلة نيوزويك، العدد السنوي فوق الشاشة التي كانت تحمل المعونة الأمريكية وزكائب الدقيق إلى الشعب الأفغاني، في الوقت الذي كانت تسقط فيه القنابل من الطائرات الأمريكية على هذا الشعب ذاته، وقد شهدنا هذه الصورة نفسها منذ أعوام قليلة في حرب الصومال، والحروب الاستعمارية الأخرى في بلاد مختلفة من العالم.

وتقود القوى الرأسمالية الأبوية حملة عالمية ومحلية تدعو إلى جمع التبرعات أو المنح المالية أو الدراسية للشعب الأفغاني، وهي حملة تمويهية تُغطي على جرائم الحرب، وتعطي واجهة إنسانية رحيمة لنظام بالغ القسوة والظلم، وقد رفضها بعض الرجال والنساء الأفغانيات إذ يقولون: «لا نريد المعونات التي لا تفعل شيئًا سوى تصويرنا على أننا شعب من الشحاذين المتخلفين، وكل ما نريده هو أن يرحل عنا الاحتلال الأمريكي العسكري الاقتصادي وأعوانه ممن يسمون «التحالف الشمالي» أليس التحالف الشمالي جزء من نظام الطالبان الذي يُتاجر بالدين، ويقتل النساء تحت اسم الشرف والأخلاق؟»

لقد سمعت بأذني عبر أسلاك التليفون هذه الأصوات النسائية الواعية في أفغانستان، إلا أن الأصوات الأخرى المسيطرة على الإعلام العالمي والعربي تتجاهل هذه الأصوات أو تفرض عليها الصمت.

وقد أصبح الصوت مع الصورة فوق الشاشة الصغيرة أكثر انتشارًا في العالم من الكلمة المطبوعة، وأكثر تأثيرًا، خاصة في بلادنا حيث ترتفع نسبة من لا يعرفون القراءة، وتتنافس الدول الكبرى والصغرى على إنشاء القنوات التليفزيونية والفضائية. يتغلب في هذا المضمار الدولة الأكثر ثراء وقوة، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أصبحت قوة الإعلام الأمريكي الأوروبي تساند قوة السلاح، وأصبح تدمير العقل لا يقل خطورة عن تدمير الجسد.

وتشتد المقاومة من أجل الحياة ضد آلة الحرب والقتل، كما تزداد الرغبة في المعرفة والفهم ضد محاولات التضليل والتمويه.

وقد نمت بوادر فلسفة إنسانية جديدة نابعة من الحركات التحريرية ضد الحضارة الرأسمالية الأبوية غربًا وشرقًا، وهي فلسفة بسيطة واضحة متسقة مع المنطق الطبيعي السليم، أساسها البديهيات التي طُمست منذ العبودية، على رأسها أن الحق فوق القوة، والشعب فوق الحكومة، والبشر في الأصل والطبيعة متساوون في الحقوق والواجبات، لا فرق بين رجل وامرأة أو أبيض وأسود وحاكم ومحكوم أو مالك ومملوك أو غيرها من الثنائيات، وأشكال التفرقة على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو الجنسية أو الطبقية أو الدين أو العقيدة أو اللغة أو المهنة أو غيرها.

لقد سافرت إلى الولايات المتحدة قبل أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ بأسبوع واحد، وعشت فيها ثلاثة شهور أقوم بالتدريس في جامعة مونت كلير، والتي لا يفصلها عن برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك إلا نهر هدسون، أو ساعة واحدة بالسيارة، وهكذا عايشت الأحداث عن قرب، وتجولت أيضًا في عدد من الجامعات لإلقاء المحاضرات أو المشاركة في المظاهرات الطلابية الجامعية على الساحل الباسيفيكي في أوكلاند وسان فرانسيسكو، وفي جامعة مونت كلير تكونت لجنة ضد الحرب في أفغانستان تضم عددًا من الطلبة والطالبات والأساتذة والأستاذات، وكنت واحدة من هؤلاء، وقد منحني هذا النشاط السياسي داخل الجامعة كثيرًا من الأمل في المستقبل، رغم خطورة الأحداث وتزايد الصراع العسكري في أفغانستان حول المصالح البترولية في منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى والبلاد العربية من العراق إلى الصومال.

وقد أدت هذه الحركة السياسية التحريرية المعادية للحرب، والتي يشارك فيها النساء والرجال والشباب من مختلف البلاد والجنسيات إلى بوادر هذه الفلسفة الإنسانية المناهضة للرأسمالية الأبوية، وهي فلسفة جديدة وقديمة قدم نشوء «الضمير الإنساني» الذي يحمل اسم «الله» عند بعض الشعوب، وهو الصوت العميق داخلنا الذي يحاسبنا ويرشدنا إلى العدل والحرية والحب والرحمة والجمال.

أدت الفلسفة العبودية غير الإنسانية على مدى القرون إلى إضعاف الضمير الإنساني الفردي والجماعي، عن طريق تحويل الصراع ضد الظلم الخارجي السياسي، والاقتصادي إلى الصراع داخل الإنسان بين العقل والجسد، أو بين الجسد والروح، وأصبحت الروح تعني الفضيلة وترمز إلى الإله الذكر، والجسد يعني الرذيلة وتركز إلى الأنثى الآثمة.

وسقطت الفلسفة السائدة المكتوبة في العصور العبودية صريعة هذا الصراع اللانهائي بين الروح والعقل والجسد، أصبحت الفلسفة غارقة في المجردات غامضة أشبه بالسفسطة الفارغة داخل الغرف المغلقة، بعيدًا عن الحياة في البيت والشارع والمظاهرات الشعبية ضد النظام الحاكم.

بعبارة أخرى انفصلت الفلسفة الرسمية السائدة منذ أرسطو حتى اليوم عن «رجل الشارع»، أو جماهير الشعب في حركتهم اليومية الحية ونشاطهم في نواحي الحياة خاصة النواحي السياسية والثقافية.

وتنطوي كلمة «رجل الشارع» على القيم السائدة التي تجعل النشاط السياسي خارج البيت أو في الشارع السياسي هو من نصيب الرجال فقط؛ لأن كلمة «امرأة الشارع» تعني «المومس» أو «البغي»، وليس للمرأة نشاطًا سياسيًّا أو ثقافيًّا خارج بيتها، وكأنما المرأة لا تخرج إلى الشارع إلا لممارسة الجنس، وهو مفهوم قاصر على النساء الفقيرات أو الجواري أو الإماء اللائي كن يخرجن إلى العمل لتوفير الخبز والطعام لأطفالهن، ويفرض عليهم المجتمع الطبقي الأبوي المهن السفلى، ومنها الخدمة في البيوت، وتلبية حاجات الرجال الجنسية في بيوت البغاء.

كان العمل خارج البيت مهينًا للمرأة، فهو لا يعني أنها فقيرة، وبلا رجل يوفر لها الحماية والمأوى، لكن حركة النساء التحريرية في الغرب والشرق قد غيرت هذا المفهوم، وأصبح لعمل المرأة خارج البيت قيمة إنسانية لا تقل كثيرًا عن قيمة عمل الرجل، كما خرجت النساء إلى الشوارع في المظاهرات الشعبية والنسائية، ولم يعد الشارع مكان المومسات فحسب.

نزلت المرأة إلى الشارع دون أن تفقد احترامها، وبدأت الفلسفة أيضًا تنزل إلى الشارع دون أن تفقد احترامها.

لم يعد التفكير مهنة يمارسها قلة محظوظة من المفكرين أو الفلاسفة، وبدأت القيم الطبقية الأبوية تتساقط مع مشاركة الجماهير من النساء والرجال في الأنشطة السياسية والثقافية، وبدأت الفواصل بين الرجل والمرأة تتلاشى، ومعها تتلاشى الفواصل بين الجسد والروح وغيرها من الثنائيات الموروثة منذ العبودية.

وهناك محاولات لقمع هذه الحركات السياسية والفكرية الجديدة، فالأجهزة القمعية البوليسية لا تقل شراسة وعنفًا عن الأجهزة العسكرية في العالم غربًا وشرقًا، ربما تختلف درجة القمع أو نوعه من بلد إلى بلد، أو يكون مستترًا مثل القمع النفسي الذي يمارس على النساء الثائرات، ويقود المرأة منهن إلى الانتحار، أو المستشفى النفسي وليس السجن.

وقد كشفت الحركات النسائية والشعبية الجديدة عن زيف القيم السياسية والأخلاقية للنظام الرأسمالي الأبوي، على رأسها ما سُمي بالديمقراطية الليبرالية، التي صورها المفكرون في الغرب من أمثال فرانسيس فوكاياما على أنها أفضل الأساليب لتنظيم المجتمعات الإنسانية، وأنها تقود العالم إلى الحرية والعدالة والسلام والحب.

لقد اتضح خلال القرن العشرين الماضي أن هذه الديمقراطية الليبرالية لا تقود العالم إلا إلى الحروب والعنف والإرهاب، وأنها لا تستند على المشاركة الفعلية الشعبية للنساء والرجال الفقراء؛ بل على التصويت في انتخابات شكلية خاضعة لأصحاب الأموال والقوى الطبقية الذكورية في المجتمع الرأسمالي.

وثبت لنا، خاصة بعد أحداث ١١ سبتمبر وحرب البترول والأفيون الدائرة في أفغانستان، أن الحضارة الغربية التي أعطت نفسها اسم الديمقراطية الليبرالية هي في جوهرها حضارة طبقية أبوية، ولن تؤدي إلى السلام القائم على العدل، وإلى الحرية السياسية والاقتصادية لأغلب قطاعات الشعب، ولا إلى مشاركة الشعب الفعلية في الانتخابات.

وقد عشت الشهور الثلاثة التي تلت أحداث ١١ سبتمبر في الولايات المتحدة، وشهدت كيف تراجعت هذه الديمقراطية الليبرالية لتفرض القيود على الشعب الأمريكي تحت اسم الأمن، كيف اجتمع جورج بوش بالمسئولين الكبار في أجهزة الإعلام، وطلب منهم فرض الرقابة على ما يُنشر ويذاع على الشعب الأمريكي، كيف تنكرت الحضارة الأمريكية للمبادئ الديمقراطية الليبرالية التي تشدقت بها منذ القرن قبل الماضي، كيف شرَّعت الحكومة الأمريكية الاعتقال دون دليل لمجرد وجود شبهات؟ كيف زجَّت في السجون أبرياء من الرجال والنساء من دون تحقيق، وتقديمهم للمحاكمة السرية أمام المحكمة العسكرية دون أن يكون لهم حق الدفاع القانوني؟ كيف لجأت إلى تكنولوجيا التعذيب الجسمي والعقلي والنفسي للمسجونين والمسجونات للحصول على المعلومات؟ وهذا يؤكد أن هذه الديمقراطية الليبرالية هشة ومزيفة، ولا تختلف كثيرًا عن الفاشية ونظم الحكم الشمولية والدكتاتورية العربية وغيرها، ولا غرابة في ذلك، فهي قائمة على الظلم والازدواجية، أساسها القيم الرأسمالية الطبقية الأبوية الموروثة عن العبودية.

كشفت الحركات النسائية والشعبية الجديدة في الغرب والشرق أن العالم في حاجة إلى فلسفة إنسانية تقضي على القيم الطبقية الأبوية، وتبني قيمًا إنسانية جديدة قائمة على العدل والسلام والحب، وإلغاء جميع الثنائيات والتقسيمات بين البشر.

القاهرة يناير ٢٠٠٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤