عالم تختفي فيه الحقيقة يسوده الوهم …
هل وقعنا في الفخ أو فقدنا العقل؟
لماذا إذن نخاف النطق بالحقيقة؟
كيف تختفي من عالمنا الأسئلة الجوهرية؟
وتكمم الأفواه وتراق الدماء
تحت اسم الحب والسلام والشرعية؟
أهو عالم من الوهم وخداع النفس،
تنشطر فيه الذات بين الوعي واللاوعي
بين الجسد والعقل والروح
بين الحاضر والواقع والدم،
وذلك الآخر الغائب تحت اسم الأب والجد؟
عالم بلا قلب لا عقل يعاني الحروب والقتل،
واغتصاب الجسد والوطن الأم
يغيب فيه الحق وسن الأم وراء اسم مستعار.
يقوم فاعل وراء فاعل آخر، ويصبح الغائب هو الحاضر
والحاضر يصبح غائبًا.
تستأجر الأم بعرق جبينها زوجًا فظًّا؛
من أجل مولودها المحتوم،
وتشتغل دون أجر لترعى الابن والأب والجد.
يكبر الابن على شاكلة أبيه،
يقوم بدور الرجل وهو طفل،
يخلع عن نفسه جسم أمه واسمها
كأنما هو العار والإثم،
تصبح الأمومة بلا شرف ولا قيمة؛
إلا في الأغاني والكلام المرسل
بالمجاني.
في طفولتي كتبت اسم أمي فوق كراستي،
ومسحته بالأستيكة.
أصبحت أحمل فوق جسدي وأغلفة كتبي
اسم رجل غريب، مات بالبلهارسيا قبل أن أولد بقرن.
إنه الجد الأكبر لأبي
الغائب الحاضر المنظم والمنظر لقوانين حياتي،
والذي حرمني من اللذة الأولى؛
لذة التواصل مع الأم.
وقف حائلًا بيني وبين قانون الطبيعة؛
رغم غيابه في القبر.
يتحكم من بعيد في حياتي بالريموت؛
مثل الروبوت.
وراودني السؤال المكبوت
لحظة موت أمي؛
كيف تخلت عن نفسها وعني من أجل رجل غائب؟
كيف سمحت للأب الرمزي أن يحل مكانها؟
وكيف استباحت حقوقي من أجل وهم الحب؟
أليس هو الانفصام أو انشطار الذات؟
يزعزع الثقة في الإنسان ويفسد علاقة الذات بالآخر.
أليست الأمومة هي اليقين؟
والأبوة هي الشك رغم تحاليل الدم؟
يسود المرض النفسي وينتشر العنف والجنون؛
بسبب قلب الحقيقة وتحويل الفاعلة إلى مفعول بها،
وتحويل الوالدة إلى مولودة بلهاء من ضلع أعوج.
في طفولتي كنت أرمق من بعيد صدر أبي العاري
تبدو ضلوعه كلها عوجاء.
وأسأل أمي: من أي ضلع خرجت؟
تضحك بسخرية على سؤالي ويغضب أبي
يقول عنها ناقصة العقل والبرهان.
كنت أصدق أبي كأنما يملك الحقيقة؛
حتى ماتت أمي من الحزن
بعد موتها أصبحت أحمل قبرها بين ضلوعي،
وبعد موت أبي تحررت من ضلعه الأعوج
الذي كان في عَينيَّ كالقذى،
يحجب عني الرؤية والبصيرة.
أصبحت أحمل أمي الميتة في أحشائي الدفينة،
وضحكتها أحملها ورائحة عطرها.
أحافظ على العالم الهش خوفًا من سقوط الوهم.
أستبدل الصمت بالحب المختلس وراء القضبان،
وأكف عن قول الحقيقة.
تتداخل الذات مع الأم في لحظة الموت الأخيرة؛
من أجل استعادة التواصل واللذة الأولى
دون جدوى دون جدوى.
فالعالم بلا أم تسوده الكراهية والفوضى.
يعلو فيه المجازي والخرافي على الحق والحقيقة
مع كل ذلك تستمر الانتفاضة والمقاومة،
في الوطن المحتل والجسد المبتور.
أحاول علاج الجرح القديم منذ الطفولة،
والجرح الجديد المتجدد عامًا وراء عام؛
لأن حب الأم هو الحقيقة الوحيدة
في عالم يحرم كل شيء حتى الكتابة والنطق،
وأقول لأمي داخل صدري:
ستظل ابنتك تقاوم حتى الموت،
وقد أصبحت الحياة كالموت،
فالمقاومة يا أمي هي البديل الوحيد
في مواجهة القتل والجنون المتخفي تحت شجرة المخ،
وإله البراكين والزلازل من وراء عمود الدخان
تحميه القلاع والسلاح والمال والإعلام.
إن الوهم يا أمي لا يقتله إلا الوهم
ولا شيء يعطيني الإحساس بالواقع إلا الدم
المراق على الأرض والطفل المنزوع من الأم.
لقد عجز العالم يا أمي عن تحقيق العدل
في البيت والوطن والغربة وكل مكان.
لا كرامة لأرض تنتهك فوقها حقوق الأمهات،
وما من جنة لا تكون تحت أقدامهن.
•••
يعلمني الوطن ألا أحب.
وألا أعدل بين الناس.
أن أسكت حين يزعق الكبير،
وأزعق إن همس الصغير بصوت.
يعلمني الوطن أن أفقد السمع والبصر والفؤاد،
فلا أسمع أنين الملايين.
ولا أرى الفقر ولا الموت ولا السجن.
لا أستطيع أن أخرج من عقلي لأحب وطني.
لا أستطيع أن أدوس على كرامتي لأطيع.
زوجي أو الرئيس.
لا أستطيع العودة إلى بيت أمي وإلا تعذبت،
وقد ماتت أمي في عز شبابها،
ولم يعد لي في الوطن
إلا مقبرة أمي.
القاهرة ٣١ مايو ٢٠٠١