إلى الذين يقولون عنها إرهابية
حائرون هم هؤلاء النخبة.
لا يعرفون الإرهابية
من المناضلة الشعبية.
يصدقون النخبة في إسرائيل
وأمريكا الشمالية.
وصحف الحكومة والمعارضة
الشرعية.
وهي فتاة من الشعب الصامت
الزاهد في الدولة والدين
الساعي إلى لقمة العيش
غير التابع لحماس أو المجاهدين
تحت اسم الدولة أو الدين؛
الذين يحولون الصراع فوق الأرض
إلى صراع في السماوات،
بين الآلهة والأنبياء.
ويغضبون لأن فلانًا شتم النبي؛
محمدًا أو عيسى أو موسى
أو إبراهيم.
•••
أما هي فلا تبالي
باسم النبي الفلاني
ولا تشتم هذا ولا ذاك؛
لأن وراءها مهمة
أهم من هذا وذاك.
ثم
جاءت الفتاة ووقفت أمامي،
لا يفصلها عني إلا سحابة رقيقة شفافة؛
مثل دمعة في العين.
أمد يدي لأصافحها وهي واقفة؛
مثل تمثال من البرونز.
بشرتها محروقة بلون الفخار،
وأنفها حاد مرتفع؛
مثل الإلهات القديمات.
•••
اقتحمت الفتاة غرفة نومي قبل شقشقة الفجر.
يوم الأربعاء الخامس من يونيو عام ألفين واثنين،
في الهدوء السابق لعاصفة الانفجارات،
والظواهر الصوتية.
والأبواق والإذاعات والمآذن وأجراس المدارس والكنائس،
وصفافير البوليس والإسعاف،
وحناجر النخبة المثقفة في الفضائيات.
•••
أحملق في وجهها،
وأتذكر وجهي في المرآة منذ نصف قرن.
العينان السوداوان واسعتان،
تتسعان للحزن والفرح.
ومياه البحر المالح تذوب في ماء النهر العذب.
والابتسامة مثل شعاع الشمس،
تطفو فوق ورد النيل الميت.
•••
منذ نصف قرن كان يراودني حلم؛
أن أقتل العساكر الإنجليز.
أهتف في الشوارع مع التلاميذ.
الجلاء بالدماء.
الاستقلال التام أو الموت الزؤام،
وأمشي في النوم ملفوفة بالديناميت،
ثم أنفجر ومعي العساكر.
•••
كان العساكر يسيرون أمام بيتي.
بشرتهم حمراء منتفخة بالدماء.
دماء جدتي الممصوصة المحروقة بالشمس،
والأصابع الخشنة المشققة بمقبض الفأس،
والجفون تآكلت والعيون جفت بلا دماء،
ثم أنفجر ومعي العساكر.
•••
والفتاة تظل واقفة أمامي،
من حولها العساكر عند نقطة التفتيش.
يخلعون عنها الملابس وهي واقفة؛
مثل تمثال من الجرانيت.
قبل أن تتعرى تمامًا تنفجر؛
مثل قنبلة نووية.
لا ألم مثل ألم الجسد المُهان،
ثم أنفجر ومعي العساكر.
•••
أخذت أنزع عنها الجسد المحترق،
وأغسل جروحها النازفة كطبيبة مدربة،
ثم ألبستها ملابسها لتذهب إلى المدرسة،
وهنا أوقفني النقاد وقالوا:
إرهابية أفسدت القضية.
وأنا جاهلة بقواعد الأدب،
وموازين الشعر والقافية،
ثم أنفجر ومعي العساكر.
•••
أواصل الكتابة دون أن أرد عليهم،
فالفتاة واقفة أمامي بجسمها المحترق.
أحملها من خصرها قبل أن تنفجر،
تتناثر أشلاؤها وهي واقفة.
أنحني أمامها لألتقط ذراعًا،
أو جزءًا من ذراع،
أو ساقًا، أو جزءًا من هنا وهناك.
أستعيد الشكل والجسد الذي كان الفتاة.
ثم أنفجر ومعي العساكر.
•••
رغم أنف الإرادات العليا والسفلى،
والقوى العظمى والصغرى،
والقنابل الذرية والنووية والانشطارية،
هذه الفتاة ستعيش وإن ماتت.
أرى إصبعها يتحرك قبل لحظة الموت.
إصبع ثابت في يد لا ترتعش،
وجسد باقٍ لا يزول وإن احترق،
وأنف بكبرياء الإلهات مُرتفع.
هذه الفتاة هي حفيدتي.
تعيش في ذاكرتي منذ نصف قرن،
بالأمس كانت طفلة تلعب بالكرة،
ترى نفسها في الحلم كاتبة أو طبيبة،
أو شاعرة أو باحثة في علوم الذرة،
وعند نقطة التفتيش رأت العساكر
يخلعون عن أمها الملابس،
أصبحت الأم واقفة في الشارع عارية،
وبقيت الصورة في خيال الطفلة إلى الأبد،
فلا يبقى في الذاكرة إلا الحقيقة،
ولا يكشف الحقيقة إلا الخيال،
ثم أنفجر ومعي العساكر.
القاهرة ٢٤ يونيو ٢٠٠٢