بعد أن رأيت ذاتك في المرآة
كان صباحًا مظلمًا بشبورة كثيفة تحجب الشمس والسماء ورءوس الأشجار، وأسطح بيوت القرية يتراكم فوقها الحطب والجلَّة وزلع الجبنة الحادقة والمش، ومخلل الليمون والزيتون الأخضر.
إنه صباح العيد بعد شهر رمضان وأنت راقد في الفراش الدافئ فوق الفرن، تخفي رأسك تحت العباءة الصوفية الرمادية المهترئة، لا تفارق هذه العباءة جسدك في الشتاء منذ نصف قرن، منذ كنت شابًّا في العشرين قويًّا مفتول الساعدين، مفتول الشارب الأسود الكثيف الشعر، الممدود من صدغك الأيمن إلى الأيسر، المبروم والمقوس إلى الخارج يمكن أن يقف عليه الصقر.
لماذا كنت تخفي رأسك تحت العباءة؟ لماذا لم تنضم في وجبة الفطور إلى أسرتك الكبيرة العدد، أولادك وبناتك وأحفادك وحفيداتك، لا تكاد تعرف عددهم أو أسماءهم، إلا واحدة وهي حفيدتك حميدة الطفلة الشقية المرحة المليئة بالبهجة والأمل.
في صباح ذلك اليوم جاءت حميدة إلى الفطور، لكنها لم تكن مرحة كعادتها، لم تكن فرحة أو متألقة.
ولاحظت أمها أن حميدة ليست هي حميدة التي عرفتها منذ أن ولدتها منذ عشرة أعوام كاملة، بالضبط ليلة العيد من عام ١٩٩١، بعد موت أخيها الأكبر في حرب الخليج، لقد رزقها الله بهذه الطفلة المتأججة بالحياة والذكاء عوضًا عن الابن الذي راح إلى الحرب ولم يعد.
وهمست الأم في أذن ابنتها: ما لك يا حميدة ساكتة؟
ولأول مرة في حياتها تطرق الابنة برأسها ولا تنطق بكلمة واحدة، هي التي لم تكن تكف عن الكلام والضحك واللعب مع الأطفال.
كأن ظلًّا أسود قاتمًا يطل من أعماقها، وهي جالسة تضم ركبتيها، تتقوقع حول جسدها الصغير في ركن بعيد عن العيون، تحملق في الفراغ دون حراك.
عندما قامت الأم بترتيب فراش طفلتها وقع نظرها على بقع دم كانت ما تزال رطبة لم تجف، فرحت لأول وهلة، تصورت أن الطفلة بلغت وأدركها الحيض، لكن أنف الأم وخبرتها الطويلة أكدت لها أنه ليس دم حيض.
– إذا لم يكن دم الحيض فماذا يكون؟
سقط قلب الأم في قاع أحشائها حتى بطن قدميها، عاد إلى ذاكرتها رائحة بقع الدم في فراشها ليلة زفافها، لطمت خديها كادت تسقط مغشية عليها، لكنها أفاقت بعد لحظات.
عرفت الأم على الفور مَن يكون الجاني، وكان يخفي رأسه تحت عباءته المهترئة فوق الفرن، ربما كان يفكر في طريقة لمحو العار الذي سوف تجلبه حميدة للأسرة، يتلصص من فتحة في الجدار على بوابة الجامع، حيث كوم كبير من الحجارة، تكفي لرجم امرأة بالغة وليس مجرد طفلة في العاشرة، وكان رجال القرية يخرجون من باب المسجد بعد صلاة العيد، منهم أبناؤه وإخوته وأعمامه وأخواله، وكلهم رجال مفتولو الشوارب لن يتأخر أحدهم عن محو العار بالدم.
لكن الأم كانت أكثر ذكاء من الجد العجوز، بحكم شبابها، وبسبب الحب الكبير في قلبها لابنتها، وكانت حميدة قرة عين أمها، عوَّضتها عن ابنها المفقود في الجيش، ونساء القرية كلها مثل الأم، قلوبهن تنبض بالحب لهذه الطفلة المرحة الذكية، تدوي ضحكاتها في سماء القرية مثل ضوء الشمس، تقشع عنهن سحب الكآبة وذكريات الحزن، منهن الخالات والعمات والأخوات والجدات والجارات القريبات والبعيدات.
في هذا الوقت، وبعد أن خرج الرجال من المسجد، تجمعت النساء في الساحة الواسعة أمام البوابة، انقسمن إلى مجموعات، قامت مجموعة بحراسة المسجد وتطويقه من الخارج، وقامت مجموعة بحراسة كوم الحجارة أمام البوابة، أطلقت عليه إحدى الشابات اسم مستودع الأسلحة، وكان يستخدم في الزمن القديم لمحو العار. لم تشهد القرية منذ قرون مشهدًا واحدًا مما كان يحدث في الأزمنة الغابرة، لكن الجد العجوز أراد تحت اسم «الصحوة» أن يعيد إلى الحياة عادة قديمة من عادات العبودية، وأن يخفي جريمته تحت وابل من الحجارة والغبار المتصاعد عنها.
توجهت الأم إلى والد زوجها الراقد فوق الفرن تحت العباءة المهترئة، دخلت إليه بجسمها الطويل الممشوق، قامتها منتصبة ورأسها مرفوع، عضلات عنقها قوية مشدودة قادرة على حمل الأثقال، رمته بنظرات صارمة بعد أن كشفت العباءة عن وجهه، قرأت فوق وجهه خطوط الجريمة، وكانت الأم تحمل لقب «العرَّافة» في القرية، وبلهجة حادة كالسيف القاطع قالت له: انهض فورًا وتعال معي!
بكل تثاقل تحركت كتلة اللحم المليئة بالتجاعيد والتي تنبعث منها رائحة التبغ والدخان، ورائحة أخرى يلتقطها أنف الأم المدربة على رائحة الدم.
على الرغم من الظلمة في غرفة الفرن المغلقة دون نوافذ إلا فتحة صغيرة في الجدار، استطاعت الأم أن تلتقط بعينيها رجفة يديه المعروقتين، وتبعها صامتًا محني الظهر، واتجها صوب المسجد، حيث كانت حميدة راقدة في الداخل فوق سجادة سميكة من الصوف، مشغولة بأيدي النساء في القرية، إلى جوار حميدة كانت مجموعة من البنات زميلاتها في المدرسة الابتدائية، وحكيمة القرية وشيخة معروفة بالحكمة.
وتشكلت على الفور مجموعة من النساء (وبعض الشباب من الأبناء الذين نفروا من جريمة العجوز، وقرروا الانضمام إلى أمهاتهم وأخواتهم ضد إرادة العمدة وكبار رجال القرية).
أخذت هذه المجموعة من النساء (وبعض الشباب) الرجل العجوز إلى مساحة من الأرض الجرداء، شبه صحراء خارج حدود المزارع والحقول.
هناك أجلسوه على الأرض مفتوح الساقين مستندًا إلى وتد من الخشب، تمامًا كما كانت العادة في الزمن القديم، حينما يقرر الرجال محو العار رجمًا بالحجارة.
قيدت النساء الرجل العجوز بحبل سميك طويل يكفي لوصوله إلى زير الماء وصحن الطعام، الذي يقدم له كل يوم، وقد جلست النساء (وبعض الشباب) على مسافة غير بعيدة منه، بحيث يمكن لهن سماع صوته إن تكلم أو تألم.
بَنَت النساء حوله أربعة حواجز من المرايا بحيث يستطيع أن يرى نفسه، وأمامه رسمن صورة لحميدة، بحجمها الطبيعي، كما تركها بجراحها الدامية بين الساقين والظلال السوداء حول عيونها الطفولية، عيون في الفراغ دون حياة أو ضوء.
بعد إنهاء العمل قالت النساء له: انظر إليها، لقد تركتها هكذا، وعندما تراها وترى العار الذي فكرت أن تغسله بسفك دمك، فانظر الآن إلى نفسك، وقلِّب عينيك مرارًا وتكرارًا بين صورتك وصورتها، وسوف نأتي كل يوم لنسمع ماذا تقول.
في صباح اليوم التالي شكا الرجل من برودة الليل، فأجابت النساء: هو هو الصقيع الذي يحتل قلب حميدة.
وفي اليوم الثاني شكا لهيب الشمس على جسده، خاصة المنطقة الحساسة بين ساقيه، أجابته النساء: هذه الآلام الملتهبة في جسد الطفلة الجريح، والتي كانت تحلم بفطور الأم وكعكة العيد.
كان الرجل يشكو الخوف الذي يجثم على صدره في ظلمة الليل حين يفكر، قالت له النساء: هذا هو ثقل جسدك الذي كتمت به أنفاس الطفلة.
وكان يشكو عفونة الرائحة تنبعث من تحته وهو يبول على نفسه، وكان جواب النساء: هذه رائحة العار التي أردت أن تدفن فيها جسدها البريء.
كان الرجل يشكو كل يوم من الأرواح الشريرة والأشباح السوداء التي تزوره في الليل، وترد عليه النساء: إن هذه الأرواح الشريرة ذاتها التي امتلأت بها أحلام حميدة منذ ليلة الجريمة.
في المرايا من حوله رأى الرجل نفسه عاريًا، ورأى العار، ورأى الطفلة الفتاة وجرحها الدامي، أراد أن يحطم المرايا دون جدوى فهي بعيدة عن متناول يديه، أراد أن يرجم المرايا بحجر لكن الأحجار كلها أصبحت تحت حراسة النساء وشباب القرية، ومنهم شقيق حميدة التوأم، الذي رفض إدانة أخته وطعنها من الخلف.
لقد سقط الرجل في خندق واحد مع مرآة ذاته، كان ينادي على زملائه الرجال من أجل إنقاذه، لكن النساء حوطته بسياج منيعة لا يخترقها أحد إلا بتصريح من مجموعة الحراسة، وتضاعفت عليه الآلام، والأشباح تراءت له بعنف أكبر، نخرت الأرواح الشريرة جسده وروحه، كاد كيانه يتلاشى، كادت نيران منبعثة من بطن الأرض بأن تقضي عليه، كان جسده يتمزق ويحترق جلده حتى نهايته ثم يعود من جديد، ليحترق في النار ذاتها أو نار جديدة تشتعل، ينفخها الهواء حتى تصير لسانًا من اللهب، وهو يتبعثر أشلاءً، يشتته اليأس وأسئلة عديدة تغزو دماغه، تترك في رأسه كتلة لزجة محترقة، تذوب وتتلاشى كالرماد ثم تعود من جديد.
وفي يوم تعالت صرخة من أحشائه كأنما قادمة من بطن الأرض، كان يخاطب ربه من تحت النيران: يا إلهي، لماذا تركتني وحدي؟ يا إلهي: لماذا وضعت الشهوة في جسدي وتركتني؟ لماذا لم تضع حدودًا لسلوكي؟ يا إلهي: لماذا سمحت لي أن أكون قاسيًا وظالمًا للنساء؟! وتركتني كالبهيمة أنتقل من امرأة إلى امرأة؟!
كان الرجل يرهف أذنيه ليسمع إجابة الرب عليه، وحين هدأت النيران قليلًا كان رأس الرجل يصفو شيئًا فشيئًا، حتى بدأت ذاكرته تصحو، وفجأة رأى نفسه طفلًا في العاشرة من عمره، كعمر حميدة، وكان يسمع كل يوم صراخ أمه حين يضربها أبوه، ولطالما سمع نحيبها في الليل ونشيجها، حين هجرها أبوه إلى زوجة أخرى، عاوده الألم الذي كان يجثم على صدره الطفولي، يمزق قلبه ويسبب له آلامًا وأحزانًا.
مرت بذاكرته مشاعر الغضب حين كانت صرخات أمه تخترق أذنيه وعظام رأسه قبة السماء، وتهبط إليه مرة أخرى مع نحيبها لتخترق جسده ودماغه وقلبه.
لقد توقف قلب الطفل عن الخفقان، وتعالى من أحشائه عواء خوف غامض من أبيه، ودار حجر رحى خوفه فدفنه تحته، بدا له أن تخلص من الخوف الدفين في قلبه منذ كان طفلًا.
مرت أيام قليلة ثلاثة أو أربعة دون أن يتحرك أو يأكل أو يشرب ماء، كان مشغولًا مبهورًا بتلك القدرة الجديدة المنبعثة من أعماقه، والتي جعلته يدفن الحجر من تحت جسده دون أن يطرف له جفن.
في اليوم التالي عاد إلى نفسه، كان وجهه قد تغير، وجسده تغير، وطلب من النساء أن يرى حميدة، تقدمت نحوه الطفلة بخطوات مترددة وجلة ترافقها زميلاتها والنساء من الحارسات، توقفت على مسافة بعيدة منه وإن سمعت صوته يقول: أرقد أمامك عاريًا، غارقًا في عفونة عاري الذي جلبته لك، فأصبح شقاؤك هو شقائي، وجراحك هي جراحي، أخبريني ماذا أفعل كي أخلصك من الألم والحزن، وأرد إلى عينيك البهجة وضوء الشمس.
اقتربت الطفلة منه، حيث أمكنها النظر مباشرة في عينيه، طلبت من النساء تغطية عورته وقالت: نظف نفسك من نفايات نفسك القديمة، ثم اذهب وحيدًا في الصحراء، واجمع أشلاء نفسك الجديدة المبعثرة، وحين ترى أن الوقت قد حان فارجع إلى إخوانك الرجال وأخبرهم بمعرفتك الجديدة، فإن الرجال النبلاء هم القادرون على تحمل مسئولية أفعالهم، وهم الوحيدون الذين يمكنهم تجاوز الحدود التي وضعت لهم عندما كانوا في سن الطفولة، ارجع وحدث إخوانك الرجال عن آلامك وأنت طفل حين كنت تدفع عن أمك الظلم، كيف نسيت هذه الآلام في سن الرجولة، وبدأت تشعر بالعار من أمك، حدثهم عن الظلم والقسوة والعار الحقيقي، تحمل نظراتهم الساخرة أو لكماتهم، تحمل كلامهم وإن اتهموك بالضعف أو الجنون أو فقدان الرجولة، كن أمينًا لقلبك الجديد، ومعرفتك الجديدة، وإن كان ثمن ذلك هو حياتك، ادخل هذه المعركة المقدسة مع إخوانك وأقاربك وجيرانك وأولادك، معركة بدون إسالة الدماء؛ لأن العدل سيتغلب في ذلك الوقت على الظلم.
وكانت السماء تسمع صوت حميدة، وقالت النساء: «السكوت علامة الرضا.»