قسوة الذاكرة
قبل أن يحصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل عام ١٩٨٨، كان طلاب الدراسات العربية ودراسات الشرق الأوسط خارج الوطن العربي يعرفونه باعتباره قصَّاصًا يتناول في المقام الأول حياةَ الطبقة المتوسطة الدنيا في القاهرة في قصص ذات صور خلَّابة جذَّابة. وفي عام ١٩٨٠ حاولتُ إثارة اهتمام أحد الناشرين في نيويورك، وكان يبحث عن كتب ينشرها لكتاب «العالم الثالث»، وإقناعه بنشر العديد من أعمال الكاتب العظيم في ترجمات من الطراز الأول، ولكنه لم يلبث — بعد تأمُّل وتردُّد — أن رفض الفكرة. وعندما استفسرت عن السبب قيل لي (دون سخرية ظاهرة) إن العربية لغة خلافية.
أما القُراء العرب فيدركون فعلًا صوت محفوظ المتميز، الذي يكشف عن إحكام بالغ للغته، ولكن دون أن يلفت الانتباه إليه. وسوف أحاول فيما يلي أن أبيِّن أن هذا الكاتب لديه نظرةٌ شاملة لبلده، تتسم بالتسامح وثقة المتمكِّن معًا، إلى حدٍّ ما، وأنه يُشبِه الإمبراطور الذي يستشرف مملكته؛ إذ يشعر أنه قادر على تلخيص تاريخها الطويل وموقعها المركَّب، والحكم على ذلك كله بل وتشكيله، باعتبارها بلدًا من أقدم بُلدان الأرض وأشدها جاذبيةً وروعةً، ومثار أطماع الفاتحين مثل الإسكندر الأكبر وقيصر ونابليون، بل وأهلها أنفسهم.
ويتمتع نجيب محفوظ — إلى ذلك كله — بالوسائل الفكرية والأدبية التي تمكِّنه من توصيل هذه النظرات بأسلوب ينتمي إليه وحده دون غيره؛ فهو قوي ومباشر ويعتمد على اللمح الدقيق. ويُشبِه محفوظ شخصياته (التي يصفها فور ظهورها في جميع الأحوال) في أنه يقتحمك على الفور، فيُلقي بك في فيضٍ سردي زاخر العُباب، ثم يجعلك تسبح فيه، وهو يتولى توجيه التيارات والدوامات والأمواج لحياة أشخاصه وتاريخ مصر في ظل رؤساء وزارات مثل سعد زغلول ومصطفى النحاس، وعشرات التفاصيل الأخرى للأحزاب السياسية وقصص الأسر وما إلى ذلك، ببراعة فذَّة فائقة. ستقول إنها «الواقعية»، وهي كذلك ولا شك، ولكن هناك ما يتجاوزها — ألا وهو الرؤية التي تطمح في أن تكون نظرةً عامة تنتظم كل شيء، لا تختلف عن نظرة «دانتي» التي تجمع بين الواقع الدنيوي والخالد السرمدي — باستثناء المسيحية.
والثلاثية تحكي قصة رب الأسرة المهيب — السيد أحمد عبد الجواد — وأسرته على امتداد ثلاثة أجيال. وإلى جانب ما فيها من تفاصيل اجتماعية وسياسية بالغة الكثرة، فهي كذلك دراسة للعلاقات الحميمة (الشخصية) بين الرجال والنساء، وسرد للبحث عن الإيمان من جانب كمال، أصغر أبناء عبد الجواد، بعد اعتناقه الإسلام مبكرًا وبصورة مقتضَبة.
وبعد فترة صمت امتدَّت خمس سنوات — تزامنت مع السنوات الخمس التي أعقبت الثورة المصرية عام ١٩٥٢ — بدأت الأعمال النثرية تتدفق من قلم نجيب محفوظ في تتابع مستمر — روايات، وقصص قصيرة، وكتابات صحفية، وذكريات، ومقالات، وسيناريوهات. والواقع أن محفوظًا أصبح، منذ محاولاته الأولى لتصوير العالم القديم، كاتبًا غزير الإنتاج إلى حدٍّ نادر، بل كاتبًا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ عصره، وأعتقد أنه كان لا بد أن يعود إلى استكشاف مصر القديمة مرةً أخرى؛ لأن تاريخها أتاح له أن يجد فيه بعض جوانب عصره الحاضر، فعدَّل وقطَّر ما وجده حتى يفي بالأغراض التي قصد إليها.
وأعتقد أن هدف محفوظ هو تجسيد الأفكار تجسيدًا كاملًا في شخصياته وفي سلوكها إلى الحد الذي تختفي معه كل الأفكار النظرية. ولكن الذي دائمًا ما شغل به في الواقع هو كيف يصبح «المُطلَق» — و«المُطلَق» للمسلم هو الله بطبيعة الحال، بصفته القوة القصوى — كيف يصبح بالضرورة ذا وجود مادي ولا أمل في استعادته في الوقت نفسه، على نحو ما نرى حين يُصدِر الجبلاوي قراره بنفي أولاده فيُنفَون، ثم يتراجع هو فيغدو بعيد المنال إلى الأبد، ويقيم في حصنه؛ أي في بيته، وهو الذي يستطيعون دائمًا أن يشاهدوه من مكان إقامتهم. إن نثر محفوظ الرائع يكشف عن المشاعر وخبرات الحياة ويجسِّدها، ولو أنه لا يتيح إدراكها بيُسر في أثناء الكشف عنها بدقة كبيرة وجهد فائق.
ومع ذلك، فإن لمحفوظ جانبًا يعادي الصوفية عداءً ضاريًا، وإن كانت تشقُّه وتمزِّقه ذكرياته بل ولمحات وعيه بوجود قوة عظمى تستعصي على الإدراك والفهم، ويبدو أنها تعكِّر صفوه تعكيرًا شديدًا. وانظر معي مثلًا كيف أن رواية إخناتون تقتضي وجود ما لا يقل عن أربعة عشر راويًا لها، ومع ذلك تعجز عن التوفيق بين التفسيرات المتناقضة لحكمه. والواقع أن كل عمل أعرفه من أعمال نجيب محفوظ يتضمن وجود هذا التشخيص المحوري والنائي للقوة أو للسلطة، وأشد ما نذكره هو الهامة السامقة المهيمِنة للسيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية القاهرة، صاحب الحضور المسيطِر الذي يحوم فوق أحداث الثلاثية كلها.
وعندما يتراجع حضوره البارز تراجعًا بطيئًا في الثلاثية، فإن عبد الجواد لا ينسحب ببساطة إلى كواليس المسرح، بل هو يتحول ويتبدل، ويتعرض للحط من «قيمته» من خلال بعض القوى «الدنيوية»، مثل زواجه وسلوكه الفاسق وأطفاله وتغيُّر ارتباطاته السياسية. وتبدو الشئون الدنيوية محيِّرة لمحفوظ، بل هي أحيانًا ما تكون قوة إرغام وجاذبية في الوقت نفسه، خصوصًا عندما نرى كيف تنجح تركة السيد أحمد عبد الجواد، بعد انطفاء جذوتها، في الربط آخر الأمر بين الأجيال الثلاثة، والواقع أن أسرة عبد الجواد هي موضوع محفوظ، من خلال ثورة ١٩١٩، وفترة حكم سعد زغلول التحررية، والاحتلال البريطاني، وحكم الملك فؤاد في فترة ما بين الحربَين.
وهكذا نرى أن نجيب محفوظ أبعدُ ما يكون عن القصَّاص المتواضِع الذي يَغشى مقاهي القاهرة ويعمل أساسًا وحيدًا وفي هدوء في ركنه المنعزِل، بل إن الإصرار والاعتزاز اللذين اتسم بهما التزامه بالقيود التي يفرضها عليه عمله على امتداد نصف قرن كامل، ورفضه الانصياع لمظاهر الضعف العادي، كل هذا ينتمي إلى صلب عمله ككاتب. وأما أشد ما مكَّنه من الالتزام والاستمساك بنظرته التي استمرت بصورة تدعو للدهشة إلى الخلود والزمن باعتبارهما يرتبطان بوشائج صلة وثيقة، فهو بلده — مصر نفسها. إذ إن محفوظًا يرى مصر — الموقع الجغرافي والتاريخ معًا — في صورة بلد لا نظير له في أي مكان آخر في هذا العالم؛ فهو يراها أقدم من التاريخ، ومتميزة جغرافيًّا بسبب وجود النيل والوادي الخصيب، ويعتقد أنها تمثِّل تراكمًا هائلًا للتاريخ، يمتد في الماضي إلى آلاف السنين، وأنها لا تزال تحتفظ بهويتها المتسقة المتماسكة على الرغم من التنوع المذهل فيما توالى عليها من حكَّام ونُظم حكم وأديان وأجناس، ويضاف إلى ذلك أن مصر دائمًا ما شغلت موقعًا فريدًا بين الأمم، فلم يكن لها نظير في كونها مَطمعًا للفاتحين وللمغامرين، وفي شد أنظار الرسَّامين والكُتاب والعلماء، بحيث أصبحت تحتل مكانًا لا يُدانيه مكان في تاريخ البشرية وفي الرؤية التي أتاحتها وتكاد أن تكون «لا زمنية».
أما الإنجاز الرئيسي لنجيب محفوظ فهو أنه لم يقتصر على أن أخذ التاريخ مأخذ الجِد، بل تجاوز ذلك إلى تناوله تناولًا «حرفيًّا»، وكما يشعر القارئ عند قراءة تولستوي أو سولجنتسين، فإنه يدرك هنا أبعاد الشخصية الأدبية لنجيب محفوظ حين يتأمل مدى الشجاعة الصرفة التي يتسم بها نطاق عمله، بل وأكاد أقول صلافة الثقة وخيلاءها؛ إذ يندر أن نجد بين الكُتاب المعاصرين من اتسم بهذا اللون من الطموح، حين ينبري محفوظ لإنطاق مساحات كبيرة من تاريخ مصر باسم ذلك التاريخ، ويحس أنه قادر على تقديم أهلها لتفحصها عين الفاحص باعتبارهم ممثِّلين لها.
إن مصر التي يصوِّرها محفوظ زاخرةٌ مشحونة، ذات حيوية باهرة بسبب دقة تصويره وحسه المرح، بطرائق لا يشغلها أبطالٌ عظام، ولا تستطيع التخلي عن بعض أحلام التناغم الكامل من اللون الذي يستميت إخناتون في محاولة الإبقاء عليه ثم يُخفِق في مواصلته؛ فإذا حُرِمت مصر من وجود مركز قوي متحكِّم، فما أيسر أن تنفصم العُرى وتنحلَّ، فتسود الفوضى، أو لينشأ طغيان عبثي لا معنى له ولا مبرِّر، سواء قام على عقيدة دينية جامدة أو على دكتاتورية شخصية.
لقد بلغ محفوظ اليوم عامه التسعين، وكاد يفقد بصره، ويقال إنه أصبح ميَّالًا إلى العزلة بعد الاعتداء الجسدي الذي تعرض له عام ١٩٩٤ على أيدي المتعصِّبين الدينيين. وأما ما يدعو للإعجاب ويثير المرارة أيضًا، فهو أن هذا الكاتب ما زال، نظرًا لِما يتسم به من رحابة في الرؤية وفي الكتابة، يحافظ، فيما يبدو، على إيمانه الليبرالي وليد القرن التاسع بمجتمع إنساني مهذَّب في مصر، على الرغم من أن الأدلة التي ما فتئ يستخرجها ويكتب عنها، من الحياة المعاصرة ومن التاريخ، تكذِّب ذلك الإيمان. وتتجلى المفارقة في أنه استطاع أكثر من أي كاتب سِواه أن يجسِّد تجسيدًا دراميًّا في أعماله ما يراه في مصر مما يكاد أن يكون عداءً كونيًّا بين «المطلَقات الجليلة» من ناحية، وبين النحر والتفتيت الذي تتعرض له هذه المطلَقات نفسها من جانب الناس والتاريخ والمجتمع. وهو لا يوفق في الواقع مطلَقًا بين هذين «الضِّدَّين»، ومع ذلك فإن محفوظًا، المواطن المصري، يرى في أعماله أن التمدن وما تتحلى به الشخصية المصرية من طاقة على الاستمرار وتخطي حدود الوطن الضيِّقة والدوام من الصفات التي قد تبقى وتنجو من آثار «العمليات» المنهِكة للصراع والتدهور التاريخي، وهي «العمليات» التي صوَّرها في كتاباته تصويرًا أقوى من تصوير أي كاتب آخر قرأت له.