اللص والكلاب
اللص في هذه القصة هو سعيد مهران؛ خرج من السجن بعد أن أمضى فيه أعوامًا أربعة. ويصف نجيب محفوظ لحظةَ خروجه من السجن في هذه العبارات الموجزة الباهرة القاطعة:
«مرةً أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن في الجو غبارًا خانقًا وحرًّا لا يطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطَّاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحدًا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد مُنطويًا على الأسرار البائسة. هذه الطرقات المثقلة بالشمس وهذه السيارات المجنونة والعابرون والجالسون والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفترُّ عن ابتسامة. وهو واحدٌ خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية خسر منها أربعة غدرًا، وسيقف عما قريبٍ أمام الجميع مُتحديًا؛ آنَ للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييئسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة.»
ومن هذا المطلع ينقلنا نجيب محفوظ إلى الحركة التالية في القصة، ويضعنا أمام موقف درامي من الطراز الأول؛ فإن السطور تدل على وجود خيانة كبيرة موجَّهة إلى اللص من المجتمع. وكُنهُ هذه الخيانة أن أحد أفراد عصابة اللص، ويُدعى «عليش سدرة»، أوقع به، وحمل زوجته خلال سجنه على الطلاق منه، وتزوج بها مُستوليًا على مسروقاته المحفوظة لديها، وضم إليه ابنته الصغيرة سناء. لا غرو أن يفقد اللص سعيد مهران رشده إزاء هذه الضربات القاصمة، ولا غرو أن يكون مُتعطشًا إلى الانتقام؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يتجه إلى بيت عليش سدرة، تابعه الذي أوقع به لكي يصفي حسابه معه وليسترد ابنته. ولا أدَلَّ على حالته النفسية وهو ماضٍ في الطريق من قول نجيب محفوظ:
ويصل سعيد مهران إلى البيت الذي يضمُّ غريمه وزوجته وابنته، فإذا بأتباع غريمه يحدقون به، ويلاقيه عليش زاعمًا أنه لم يقترف ذنبًا حين تزوَّج امرأته نبوية وضم ابنته سناء وأخذ أمواله المسروقة، ويؤمِّن الكلاب على كلامه، ثم يستقر الرأي على أن يسمحوا لسعيد مهران برؤية ابنته، من باب الرحمة، وهنا تكون الحركة الثالثة في القصة:
«وقام عليش ليجيء بها، وعندما ترامى وقعُ الأقدام خفق قلبُ سعيد خفقةً موجعة، وتطلَّع إلى الباب وهو يعضُّ على باطن شفتَيه. وظهرت البنت بعينين داهشتين بين يدَي الرجل، وتبدَّت في فستان أبيض أنيق وشبشب أبيض كشف عن أصابع قدمَيها المخضوبتين، فالتهمتها روحه، وجعلت تقلِّب عينيها في الوجوه بغرابة وفي وجهه خاصةً باستنكار لشدة تحديقه فيها، ولشعورها بأنها تدفع نحوه، وإذا بها تُفرمل قدميها في البساط وتميل بجسمها إلى الوراء. لم ينزع عنها عينيه، ولكنَّ قلبه انكسر حتى لم يبقَ فيه إلا شعور بالضياع.»
لقد أنكرت سناء أباها لأنها لم ترَه منذ أربع سنوات، ولم تكن قادرة على تمييزه في غرارة الطفولة. وعندما تتجلى نظرات الشماتة في أعين الكلاب يؤمن سعيد مهران بأن جلد السجن ليس بالقسوة التي كان يظنها. ويخرج جريحًا من الموقعة باحثًا عن عزاء، فلا يجد غير الباب المفتوح من أقصى الزمن أمام المتعَبين، باب الدين؛ ممثَّلًا في بيت شيخ الطريقة «علي الجنيدي» في الدراسة، ذلك البيت الذي كان يقصده مع أبيه في طفولته حيث يشهد الأذكار ويسمع الأناشيد. وعندما يصل إلى البيت يجد الشيخ الجنيدي غارقًا في التمتمة مُتربعًا على سجادة الصلاة، وما زال الفراش البسيط لصق الجدار الغربي، وشعاع الشمس المائلة ينسكب من كوة، ورائحة البخور مستقرة كأنها لم تتبخر منذ عشرات السنين، ويقدم لنا نجيب محفوظ موقفًا بالغ الروعة؛ نرى سعيد مهران فيه يقصُّ على الشيخ متاعبه وقد انتفخت عروق جبينه غضبًا، ولكن الشيخ سارح في سبحاته الروحية لا يُلقي إليه بالًا، ولا يزيد عن أن يقول له كلما سأله المشورة «توضأ واقرأ»:
«ها هو أبي يسمع ويهزُّ رأسه طربًا، ويرمقني باسمًا كأنما يقول لي اسمع وتعلم، وأنا سعيد، وأودُّ غفلة لأتسلق النخلة أو طوبة لأرمي بلحة وأترنَّم سرًّا مع المنشدين. آخر خيط ذهبي يتراجع من الكوة، وأمامي ليلة طويلة هي أولى ليالي الحرية وحدي مع الحرية، أو مع الشيخ الغائب في السماء المردِّد لكلمات لا يمكن أن يعيها مُقبِل على النار، ولكن هل من مأوًى آخر آوي إليه؟!»
ويجد سعيد مهران في الدين ملجأً سلبيًّا لا يرد إليه حقوقه؛ ولذلك يسعى إلى «رءوف علوان» طالبًا نجدته. ورءوف هذا كان طالبًا ريفيًّا من طلاب الحقوق يسكن في عمارة الطلبة التي كان والد سعيد مهران بوابًا لها، وأقنع رءوف أبا سعيد بإدخال ابنه المدرسة قائلًا إنه سيكون من العظماء، وعلَّم سعيدًا كيف يقرأ الكتب، وبثَّ في روحه الثورة والحماس، وحضَّه على السرقة من أموال الأغنياء، وهذا سعيد مهران يخاطبه في خياله:
«رءوف علوان، أنت الثورة في شكل طالب، وصوتك القوي يترامى إليَّ في قوة توقظ النفس. عن الأمراء والباشوات تتكلم وصورتك لا تُنسى، وأنت تمشي وسط أقرانك في طريق المديرية بالجلاليب الفضفاضة، وتمصُّون القصب وصوتك يرتفع حتى يغطي الحقل وتسجد له النخلة. تلك هي الروعة التي لم أجد لها نظيرًا ولا عند الشيخ الجنيدي. وبفضلك وحدك ألحقني أبي بالمدرسة، وعلَّمتني حب الكتاب، وناقشتني كأني ندٌّ لك. ويوم اعتُقلت ارتفعت في نظري إلى السماء، وارتفعت أكثر يوم رد حديثك عن السرقة إليَّ كرامتي.»
في المقابلة بين هذه الصورة التي كان عليها رءوف علوان والصورة التي صار إليها تكمن المأساة الكبرى في القصة؛ فإن سعيد مهران قصد الجريدة التي يعمل بها الأستاذ رءوف أملًا في لقائه، ولما تعذَّر اللقاء ذهب إليه في مسكنه، وهناك كشف الصحفي عن وجهه النقاب؛ فإنه استكان إلى الثراء الفاحش، وتنكَّر لمبادئه الاشتراكية، وأصبح واحدًا من الطبقة التي كان يهاجمها بالأمس. وأدرك سعيد مهران أن الأفكار الثورية التي بثَّها في نفسه الأستاذ رءوف أدخلته السجن، في حين أن صاحبها ينعم اليوم بالجاه والثراء، ولكنه تناسى هذا الجرح الأليم، وسأل أستاذه أن يبحث له عن وظيفة لأنه عاطل، غير أن الصحفي تخلَّى عنه في نذالة تامة، وودَّعه دون أمل في اللقاء.
«هذا هو رءوف علوان، الحقيقة العارية جثةٌ عفنة لا يواريها تراب، أما الآخر فقد مضى كحب نبوية أو كولاء عليش. تخلقني ثم ترتد وتغيِّر بكل بساطة فِكرَك بعد أن تجسَّد في شخصي كي أجد نفسي ضائعًا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل، خيانة لئيمة لو اندكَّ المقطم عليها دكًّا ما شُفيت نفسي. تُرى أتُقرُّ بخيانتك ولو بينك وبين نفسك أم خدعتها كما تحاول خداع الآخرين؟ ألا يستيقظ ضميرك ولو في الظلام؟ أودُّ أن أنفُذ إلى ذاتك كما نفذت إلى بيتك ولكني لن أجد إلا الخيانة، وستعترف لي الخيانة بأنها أسمج رذيلة فوق الأرض.»
هكذا تبلغ المأساة ذروتها في القصة، ونجد اللص وحيدًا أمام الكلاب؛ أمام عليش الذي اغتصب زوجته وابنته وأمواله، وأمام زوجته التي أعانت عليش على الإيقاع به، وأمام الصحفي الذي دفع به إلى السجن ومضى هو إلى الشهرة؛ فلا غرو أن يأخذ سعيد مهران في استعراض ذلك الذي سلف والرغبة في الانتقام تملأ جوانحه.
«قال عليش سدرة: في ركن عطفة أو ربما في بيتي سأدل البوليس عليه لنتخلص منه. فسكتت أم البنت سكت اللسان الذي طالما قال لي بكل سخاء: أحبك يا سيد الرجال. هكذا وجدت نفسي محصورًا في عطفة الصيرفي، ولم يكن الجن نفسه يستطيع أن يحاصرني، وانهالت عليَّ اللكمات والصفعات، كذلك أنت يا رءوف لا أدري أيكما أخوَنُ من الآخر، ولكنَّ ذنبك أفظع يا صاحب العقل والتاريخ، أتدفع بي إلى السجن وتثب أنت إلى قصر الأنوار والمرايا؟ أنسيت أقوالك المأثورة عن القصور والأكواخ؟ أما أنا فلا أنسى.»
من هذه العبارة يجعلنا نجيب محفوظ ندرك أن سعيد مهران فقد كل أمل في الحياة الشريفة، وبلغ مرحلةً أليمة من اليأس المطلق لا يجد معها مانعًا من العودة إلى السرقة؛ لأن المجتمع الظالم الذي لم تبزغ عليه ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ يحمي المجرمين الحقيقيين. وهكذا يحاول سعيد مهران السطو على قصر رءوف في ذات الليلة التي زاره فيها كما كان يفعل بقصور الأغنياء. ولكن الآخر كان على حذر منه فضبطه، وحمل عليه حملةً قاسية، وطرده من بيته على ألا يُريَه وجهه مرةً أخرى. فذهب سعيد مهران إلى قهوة في الصحراء يعرف صاحبها، واستقبله الرجل في حرارة فاتحًا له ذراعيه، واستجاب لطلبه حين سأله أن يعطيه مسدسًا. وفي قهوته قابل نور، وهي بغيٌّ كانت تحبه حبًّا عميقًا، ولكنه لم يكن يلقي إليها بالًا؛ إذ كان قلبه كله وقفًا على زوجته الخائنة. وفي هذه المرة وجدها ما زالت تحبه وتسأله أن يزورها في بيتها، وراح سعيد يردِّد لنفسه:
«قمة النجاح أن يُقتلا معًا نبوية وعليش، وما فوق ذلك أن يُصفي الحساب مع رءوف علوان ثم الهرب؛ الهرب إلى الخارج إن أمكن، ولكن من يبقى لسناء؟ الشوكة المنغرِزة في قلبي. أنت تندفع بأعصابك بلا عقل، عليك أن تنتظر طويلًا وتدبِّر أمرك ثم تنقضَّ كالحدأة.»
وعاش سعيد مهران في شقة نور يدبِّر خطة الانتقام من الذين كانوا سببًا في ضياعه، وقرر أن يقتل عليش سدرة، فذهب إلى بيته تحت ستار الليل، ولما ضغط جرس الباب انفتحت الشراعة عن وجه رجل تُخفي الظلمة ملامحه، فأفرغ سعيد مهران رصاص المسدس في وجهه واثقًا من أنه عليش، وقصد بعد ارتكابه جريمته بيت الشيخ علي الجنيدي، وكان منهوك القُوى، فنام نومًا ثقيلًا. وعند هذا الحد استخدم نجيب محفوظ جو الكابوس في براعة فائقة لكي يجلو لنا أحلام اللص خلال نومه. ولما صدرت جريدة المساء راح سعيد مهران يتصفحها، فكانت الصدمة الكبرى له حين عرف أن الذي قتله لم يكن عليشًا، وإنما كان عاملًا مسكينًا لا يعرفه؛ ذلك أن عليش وزوجته غادرا البيت في ذات اليوم الذي زارهما فيه سعيد مهران، وحلَّت مكانهما في الشقة أسرة العامل القتيل:
هذا عنصر المفاجأة قد تدخل في القصة جديًّا لأول مرة، وهذا مَسكنُ البغيِّ نور يشهد سعيد مهران ذاهبًا إليه باحثًا عن العزاء، فيجد لديها ترحابًا وحبًّا وكرمًا وإن كان في قرارة نفسه لا يشعر نحوها بغير الرثاء. ويعزم على الاختفاء في مسكنها حتى تغفل عنه أعين البوليس. وعندما ينفرد في الشقة يجد فرصة يستعرض فيها المصائب التي تتراكم على كاهله لحظةً بعد أخرى، فنراه يستعرض ذكريات حبه الأول حين عرف زوجته الخائنة «نبوية»، وكانت خادمًا لسيدة تركية تسكن في شارع المديرية أمام بيت الطلبة، ثم تذكَّر كيف خطبها بعد أن غادر بيت الطلبة ليعمل في سرك الزيات، وكيف تزوَّج منها بعد ذلك، وكيف كان عليش سدرة يجري في ركابه:
«الفرح من جماله عاش أحدوثة على كل لسان، والزيات نقطني بعشرة جنيهات، وعليش سدرة بدا كأنه صاحب الفرح، ولعب دور الصديق الأمين، ولكنه لم يكن صديقًا على الإطلاق. وأعجب شيء أني خُدعت به وأنا الذكي الذي يخافه الجن الأحمر، وآمنت بأنني لو أرسلته مع نبوية إلى الصحراء التي تاه فيها سيدنا موسى لظل يراني بينه وبين نبوية فلا يحيد عن الأدب. وهي كيف تميل إلى الكلب وتُعرِض عن الأسد؟! ولكن القذارة مركَّبة في طبعها، قذارة تستحق القتل في الدنيا وفي الآخرة على شرط ألا يطيش الرصاص.»
ولبثَ سعيد مهران في المسكن ينتظر أوبة نور حاملةً له الطعام؛ فلما جاءت طلب إليها أن تشتري له قماشًا صالحًا لأن يصنع منه بدلة ضابط، فأدركت أنه ينوي التنكر في زي الضابط لكي يقوم بمغامرة خطيرة العواقب. وتصادف أن عرفت من بعض زبائنها بالجريمة التي ارتكبها، فاشتدَّ حزنها عليه؛ لأنها شعرت بأنها ستفقده إن عاجلًا أو آجلًا، ولكنه طمأنها واعدًا إياها بأن يهربا معًا حالَما تغفل عنهما أعين البوليس. وراح سعيد مهران يتابع أقوال الصحف عن الجريمة في اهتمام، ولاح له شبح رءوف علوان وراء الحملة الصحفية التي ألَّبت البوليس عليه. ولما يئس سعيد مهران من الاهتداء إلى مسكن عليش وزوجته الجديدة، عقد عزمه على الانتقام من رءوف علوان قائلًا لنفسه إن الانتقام منه فيه الكفاية؛ لأنه يمثِّل معنى الخيانة التي ينضوي تحتها عليش ونبوية وكل الكلاب، وهكذا راح يخاطب رءوف علوان:
«جاء وقتُ الحساب، ولو كان الحكم بيننا غير الشرطة لضمنت تأديبك أمام الناس جميعًا. الناس معي عدا اللصوص الحقيقيين، وذلك ما يعزِّيني عن الضياع الأبدي. أنا روحك التي ضحَّيت بها، ولكن ينقصني التنظيم على حد تعبيرك. ومأساتي الحقيقية أنني رغم تأييد الملايين أجدني مُلقًى في وحدة مظلمة بلا نصير، ضياع غير معقول، ولن تزيل رصاصة عنه عدم معقوليته، ولكنها ستكون احتجاجًا داميًا مناسبًا على أي حال كي يطمئن الأحياء والأموات، ولا يفقدوا آخر أمل.»
وقصد سعيد مهران قصر غريمه في ظلمة الليل وترصده عند الباب، فلما رجع رءوف من دار الجريدة أطلق عليه النار، وإذا بالرصاص ينهال على سعيد مهران في ذات اللحظة فيفسد تصويبه، ويؤكد له أن القصر مُراقَب بالحراس على خلاف ما كان يظن. واضطُرَّ سعيد مهران إلى الفرار وقد أصابت رصاصةٌ ساقه، وراحت نور تضمد له جرحه نادبةً سوء حظها، قائلة له إنها سوف تفقده حتمًا ما دام مصمِّمًا على تحدِّي البوليس وقتل أعدائه. وفي اليوم التالي خرجت الصحافة بالعناوين الضخمة عن الجريمة والمجرم، وأدلى الأستاذ رءوف علوان بحديث صحفي عن المتهم واصمًا إياه بجنون العظمة والدم. ولكن الأمر الذي زلزل سعيدًا حقًّا ما قرأه من أن رصاصته لم تُصِب رءوف علوان، وإنما أصابت بوَّاب قصره. وهكذا وقعت المأساة لثاني مرة، وأيقن أنه ينتحر في الواقع انتحارًا بطيئًا دون أن ينال أعداءه سوء:
«أنت أهمُّ ما في الحياة اليوم، وستظل كذلك حتى تُزهق روحك. إنك مثار الخوف والإعجاب كالظاهرات الطبيعية الخارقة، وسيدين لك بالسرور كل من خنقه الملل. أما مسدسك فالظاهر أنه لا يقتل غير الأبرياء، وستكون أنت آخر ضحية له. أهذا هو الجنون؟ كنت دائمًا تطمح إلى زلزلة الكون من أساسه حتى وأنت مجرد بهلوان في سرك الزيات، وغزواتك الظافرة للقصور كانت خمرًا يسكر بها رأسك الفخور، وكلمات رءوف أطاحت برأسك حتى الموت.»
«يا حضرات المستشارين، اسمعوا لي جيدًا؛ فقد قررت الدفاع عن نفسي بنفسي. لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص؛ إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني في داخل القفص وأنتم خارجه، وهو فرقٌ عرَضي لا أهمية له البتة. أما المضحك حقًّا فهو أن أستاذي الخطير ليس إلا وغدًا خائنًا، ويحقُّ لكم العجب، ولكن يحدث أن يكون السلك الموصِّل للكهرباء قذرًا ملطَّخًا بإفرازات الذباب. إن من يقتلني إنما يقتل الملايين. أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه. والقول بأنني مجنون ينبغي أن يشمل كافة العاطفيين، فادرسوا أسباب هذه الظاهرة الجنونية، واحكموا بما شئتم.»
وفي ذات يوم خرجت نور من المنزل، ولبث ينتظر عودتها طويلًا ولكنها لم تعد. هنالك تلوَّث دمه بسوء الظن حتى آخر قطرة، فظنَّ أنها وشت به، ورأى أن يعود إلى بيت الشيخ علي الجنيدي، ولقي المريدين في فناء البيت يُنشدون الأذكار والأناشيد، فتوارى عن أعينهم. وعلى حين غِرَّة فرقعَ صوتٌ مزعج تحت الكوة، وأدرك أن الحب كله مُحاصَر، فأخذ مسدسه، ومرق تحت ستار الليل إلى طريق المقابر. وأخيرًا لحق به البوليس، وطاردته كلابه، وسدَّدوا نحوه الأنوار الكاشفة، فقاتلهم قتال المستميت.
«واصَل إطلاق النار في جميع الجهات، وإذا بالضوء الصارخ ينطفئ بغتةً فيسود الظلام، وإذا بالرصاص يسكت فيسود الصمت، وكفَّ عن إطلاق النار بلا إرادة، وتغلغل الصمت في الدنيا جميعًا، وحلَّت بالعالم حال من الغرابة المذهلة، وتساءل عن … ولكن سرعان ما تلاشى التساؤل وموضوعه على السواء، وبلا أدنى أمل، وظن أنهم تراجعوا وذابوا في الليل، وأنه لا بد قد انتصر، وتكاثف الظلام فلم يعد يرى شيئًا ولا أشباح القبور. لا شيء يريد أن يُرى. وغاص في الأعماق بلا نهاية، ولم يعرف لنفسه وضعًا ولا موضعًا ولا غاية، وجاهَد بكل قوة ليسيطر على شيء ما ليبذل مقاومةً أخيرة ليظفر عبثًا بذكرى مستعصية، وأخيرًا لم يجد بدًّا من الاستسلام، فاستسلم بلا مبالاة، بلا مبالاة!»
أجل لقد استسلم سعيد مهران. قُتل اللص الذي كان ضحية المجتمع. ومع أن موته فاجعةٌ أليمة من الناحية الأخلاقية، فإننا نؤمن بأن القضاء على المستغلين من أمثال رءوف علوان من طريق تحقيق العدالة الاجتماعية وإذابة الفوارق بين الطبقات ونشر الاشتراكية هو السبيل السوي إلى بناء المجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني، حيث لا رءوف ولا نبوية ولا عليش. ويوم يتم لنا ذلك فلسوف يكون سعيد مهران آخر ضحايا التطور الحتمي من القديم إلى الجديد ومشرق النور والعجائب!