زعبلاوي
أثارت قصة «زعبلاوي» لنجيب محفوظ من القلق في الحقل الفني ما لم تُثِره أيةُ قصة أخرى من أقاصيصه القصار، ولعل مرجع ذلك أن الرمز فيها شفَّاف يكاد ينطق من تحت الإطار الواقعي. ولهذا النوع من القصص فضيلة العمق إلى جانب فضيلة الصدق على المستوى الواقعي، وإليه اتجه نجيب محفوظ في رواية «أولاد حارتنا»، وفي قصة «اللص والكلاب»، وفي أقاصيصه القصار في مطلع الستينيات. ولا شك في أن هذا الاتجاه هو الخطوة الأولى الضرورية نحو تحرير قصصنا من السذاجة الفكرية ومن البدائية الفنية معًا، ولكن له معايبه أيضًا؛ فهو قد يتحكم في الفنان من الناحية الفكرية، وقد يجور على نصيب العاطفة في عمله الفني. وهذا ما حدث في أغلب كتابات نجيب محفوظ بعد الثلاثية؛ إذ هبطت درجة حرارة العاطفة فيها بصورة ملحوظة، وحلَّت محلَّها الأهدافُ الفكرية المجرَّدة، واستحالت الشخوص بين يديه رموزًا خالصة. ولكنها ظاهرة لا تطرد في إنتاجه لحسن الحظ؛ فهو في «اللص والكلاب» يحقِّق أهدافه الأخلاقية والفكرية من خلال بناء فني محكَم غاية الإحكام، والحرارة العاطفية في هذه القصة تبلغ حدًّا من التوهج والألق والإشعاع لا نكاد نجد له نظيرًا عند أي كاتب عربي آخر. وإنما أعني بقولي هذا روايته «أولاد حارتنا» وقصة «السمان والخريف» وأقاصيصه «جوار الله» و«موعد» و«الجبار»، حيث نرى مهارته التكنيكية تُحرز تقدمًا مطردًا، ولكن على حساب العنصر العاطفي. وإخفاق هذه الأعمال في إثارة حالة شعورية كاملة يمثِّل أخطر المشاكل التي تواجه الفنان نجيب محفوظ في هذه المرحلة من تطوره الفني. ومن هنا فإني أعدُّ توفيقه في المزج بين عنصرَي الفكر والعاطفة في أقصوصته «زعبلاوي» انتصارًا فنيًّا جديدًا يثبت أن لهذا اللون من القصة القدرة على إثبات وجوده إذا ما أخلص الفنان له إخلاصًا كافيًا.
«شيَّال الهموم والمتاعب — كنا نراه معجزة — هو حي لم يمت ولكن لا مسكن له — بفضله صنعت أجمل لوحاتي — في وجهه جمال لا يمكن أن يُنسى. هذا العذاب من ضمن العلاج بعد أن كان يتمتع بمكانة لا يحظى بها الحكام. بات البوليس يطارده بتهمة الدجل — وحينًا يلاعب أولادي كأنه أحدهم — ثم عطف عليك فراح يبلل رأسك بالماء. العجيب أنه لا تغريه المغريات، ولكنه سيشفيك إذ قابلته بمجرد أن يشعر بأنك تحبه.»
والقصة تُروى بضمير المتكلم، خلافًا لموقف نجيب محفوظ المعروف في أغلب كتاباته؛ فالمتكلم هنا هو الإنسان في كل زمان ومكان، ومحاولة البحث عن زعبلاوي قديمةٌ قِدم الخليقة، وهي تبدو مقنعة في السياق القصصي؛ لأن بطل القصة يمرض مرضًا لا يُسميه نجيب محفوظ ولا يقدر غير زعبلاوي على شفائه. إنه مرض القلق الميتافيزيقي، وقد اتخذ أعراضًا بدنية؛ وبذلك استطاع كاتبنا إلى جانب بناء موقفه الدرامي أن يطبق تطبيقًا فنيًّا ما يذهب إليه علماء الاجتماع والنفس من أن البحث عن الإله أو النبي أو المرشد لا يبلغ ذروته عند الجماعات والأفراد إلا في أوقات الشدائد وعند الضائقات. وهذه الحاجة النفسية هي ما يترجمه نجيب محفوظ بقوله:
الدين في القصة يمثِّله الشيخ قمر، «وهو شيخ من رجال الدين المشتغلين بالمحاماة الشرعية»، ولكن الدين في عالمنا قد ضاع مفعوله وفقدَ بساطته الأولى وفطرته، ودخلت عليه عوامل دخيلة؛ فبطل قصتنا يستدل على عنوان الشيخ قمر ﺑ «دفتر التليفون»، والشيخ قمر يسكن «في عمارة الغرفة التجارية»، ومن زبائنه «سيدة حسناء أسكرتني برائحة زكية كالسحر المخدِّر»، وحجرته فيها «مقعد جلدي فاخر»، و«غزارة السجادة ونفاستها»، ورجل الدين نفسه «يرتدي البدلة العصرية ويدخن السيجار»، وهو لا يُبدي كبير تعاطُف مع بطل قصتنا ولا مع ذكرى والده الذي كان له صديقًا.
والحضارة الزاحفة يمثِّلها في القصة شيخ الحارة، وحتى هذا لا يبدو منزَّهًا عن الغرض، «فقلت أفضُّ مغاليقه بالقواعد المتبَعة»، وهو يتبع طريقة علمية في البحث عن زعبلاوي، «لكن لمَ لا تستعين بالعقل؟» ويرسم خريطة كاملة للحارة، «وهي الدنيا هنا»، قائلًا إن الرسم خير مُرشِد.
والفن يمثِّله في القصة اثنان؛ «حسنين الخطاط» و«الشيخ جاد الملحن المعروف»، وهما اللذان يرسم لهما نجيب محفوظ صورتين فاتنتين حقًّا. ولا ريب في أن أحدهما كان يكفي للدلالة على ما يرمز إليه كاتبنا، ولكن أغلب الظن أن نجيب محفوظ لم يجد مانعًا من تكرار الفكرة على صورتين كيما يقدم لوحة واقعية كاملة، وهذان الاثنان يتوقان إلى زعبلاوي توقًا مخلصًا، ولكنهما عاجزان عن الوصول إليه.
وفي نهاية الأمر يمضي بطل القصة إلى الحاج ونس الدمنهوري في حانة النجمة، «وهو سِكير خطير»، وفي نشوة الخمر يفقد بطلنا وعيه، فلا يعثر على الفردوس المفقود إلا في المنام:
«حلَمتُ بأنني في حديقة لا حدود لها، تنتشر في جنباتها الأشجار بوفرة سخية فلا ترى السماء إلا كالكواكب خلل أغصانها المتعانقة ويكتنفها جو كالغروب أو كالغيم. وكنت مستلقيًا فوق هضبة من الياسمين كالرذاذ ورشاش نافورة صافٍ ينهل على رأسي دون انقطاع، وكنت في غاية من الارتياح والطرب والهناء. وجوقة من التغريد والهديل والزقزقة تعزف في أذني، وثَمة توافق عجيب بيني وبين نفسي وبيننا وبين الدنيا؛ فكل شيء حيث ينبغي أن يكون بلا تنافر أو إساءة أو شذوذ، وليس في الدنيا كلها داعٍ واحد للكلام أو الحركة ونشوة طرب يضجُّ بها الكون.»
ولكن الجالس يصحو على يقظة الواقع، ولشدَّ ما يكون ذهوله حين يعلم أن زعبلاوي جاء إلى جواره أثناء نومه، وبلَّل رأسه بالماء كي يفيق، و«العماد بالماء في المسيحية رمز الميلاد الروحي الجديد». وهكذا يختفي زعبلاوي كما جاء، ويعود بطل القصة إلى الدوران في هذه الحلقة المفرغة من جديد.
تُرى ما الذي يقصده نجيب محفوظ بهذه الخاتمة؟ أغلب الظن أنه يريد أن يقول: إنما يكون الوصول إلى الله من طريق الوجدان لا العقل، وفي لحظة الذهول التام التي يخلع الإنسان عنه فيها لباسه الأرضي، فلا الدين-المؤسسة ولا العلم ولا الحضارة بقادرة على أن تصل أسباب الإنسان بأسباب السماء، ولكنما هي سكرة الطرب الإلهي يعبُّ الإنسان فيها من الخمر الإلهية منتشيًا بها؛ فهي وحدها التي تبلغ به قمة التطهر والشفافية والتجرد والصفاء.
ومن الواضح بعد هذا البيان أن موقف نجيب محفوظ في هذه الأقصوصة صوفي مُغرِق في الصوفية؛ فهو يستعيد فكرات العشق الإلهي والوجد واتحاد الخالق والمخلوق؛ وبذلك يتخذ موقفًا مخالفًا تمام المخالفة لما انتهى إليه في رواية «أولاد حارتنا»، حيث نراه يحمل على الغيبيات ويؤكد إيمانه بالعلم والإنسانية. وبديهي أن العملين لا يلغي أحدهما الآخر، فهما يعبِّران عن قلق كاتبنا وتردُّده بين الإيمان والشك، وهذا القلق الفني هو عصارة قصة «زعبلاوي»؛ لأن نجيب محفوظ وإن كان يؤثر هذا الدرب الصوفي على سواه من سبل المعرفة إلا أنه لا يتجمد عنده؛ فهو يخبرنا بأنه أصبح موقنًا من وجود زعبلاوي، وأنه ينتوي على ذلك الشروع في البحث عنه من جديد. وهذا التوتر بين الشك واليقين هو عصارة القصة.