حضرة المحترم
«نقد الرواية» لمؤلِّفته الدكتورة نبيلة إبراهيم، أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب، جامعة القاهرة، كتاب هام يختلف عن عشرات الكتب التي تقذف بها المطبعة يوميًّا في وجوهنا، فتستأدينا وقتًا ومالًا وبصرًا، ثم لا نخرج منها بمحصول يكافئ هذه التضحيات؛ فالكتاب علامة من علامات الطريق في مسيرة المؤلفة ناقدةً وباحثة، وفي مسيرة النقد الروائي العربي الذي ما زال حتى الآن يخطو أولى خطواته. هو من علامات الطريق في مسيرة صاحبته؛ لأنه يقدمها في دور جديد، أو يوشك أن يكون جديدًا؛ دور الناقدة لأدبنا الروائي المعاصر. فالدكتورة نبيلة إبراهيم ظلت حتى عهد قريب تطالعنا في ثلاثة أدوار؛ دور الدارسة لأدبنا الشعبي، ودور الدارسة لجوانب من الأدب الغربي، ودور المترجمة عن الإنجليزية والألمانية. نحن نعرف أعمالها عن سيرة الأميرة ذات الهمة، وقصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية، والبطولة في القصص الشعبي، ونحن نعرف دراساتها على صفحات مجلة «المجلة» عن قصيدة «الأرض الخراب» رائعة الشاعر إليوت، وعن القصَّاص الرمزي فرانز كافكا، وعن صورة المرأة في الأدب الغربي عند إبسن وشو وإليوت وأونيل وأنوي وسيمون دي بوفوار، ثم نحن نعرفها مترجِمةً لكتاب «الحكاية الخرافية» للباحث الألماني فون ديرلاين، ولكتاب «الفولكلور في العهد القديم» لعالم الأنثروبولوجيا الإنجليزي السير جيمز فريزر. ولكن كتابها هذا يقدِّمها ناقدةً لنجيب محفوظ لأول مرة على قدر علمي.
والكتاب من علامات الطريق في نقدنا الروائي؛ لأنه من أوائل المحاولات لتطبيق المنهج اللغوي الأسلوبي على عمل روائي عربي، وإن كانت هناك — بطبيعة الحال — محاولات أخرى على صفحات مجلة «فصول» للدكتورة سيزا قاسم والدكتورة هدى وصفي وغيرهما؛ فبعد تعريف جيد بمعالم المنهج — على الصعيد النظري — تتقدم الدكتورة نبيلة إبراهيم لتطبيقه على رواية «حضرة المحترم» لنجيب محفوظ. وإذا كان لي أن أحدِّد فئة الأعمال التي ينتمي إليها نقدها الروائي، فسأقول إن أقرب مُوازٍ له (مع التسليم بكل اختلافات المزاج والخلفية ومواضع التوكيد) إنما نجده في ثلاثة أعمال سابقة؛ كتاب «قراءة الرواية» للدكتور محمود الربيعي، وفيه يدرس مؤلفه روايات اللص والكلاب، والسمان والخريف، والطريق والشحاذ، وثرثرة فوق النيل، وميرامار. وكتابَا «بين أدبَين»، و«في الرواية العربية المعاصرة»، للدكتورة فاطمة موسى محمود، وفيهما تدرس المؤلفة روايات المرحلة الفرعونية، والقاهرة الجديدة، وبداية ونهاية، وخان الخليلي، وزقاق المدق، وقصر الشوق، واللص والكلاب. ففي هذه الأعمال كلها — للدكتور الربيعي، والدكتورة فاطمة موسى محمود، والدكتورة نبيلة إبراهيم — نجد تركيزًا على البناء الفني للرواية قيد البحث، واهتمامًا بالوحدات التي تتكون منها، وعناية باستخدام الكاتب للغة. وهذا المنهج في ظني أقرب المناهج إلى النقد الأدبي السليم، وأبعدها عن مزالق التعميم؛ وذلك لأنه لا يُرخي بصره عن العمل المنقود لحظةً واحدة. وأعتقد أنه بمثابة تصويب ضروري للإسراف في ألوان النقد الأيديولوجي والسوسيولوجي التي خضع لها فن نجيب محفوظ زمنًا طويلًا، ومن أمثلتها كتاب إبراهيم فتحي عن «العالم الروائي عند نجيب محفوظ»، ومقالة لعبد الرحمن أبو عوف في مجلة «الطليعة» (نوفمبر ١٩٧٥) عن رواية «حضرة المحترم»، حيث لا نخرج بأكثر من أن عثمان بيومي بورجوازي صغير مأزوم، وأن منطق الرواية صوري مثالي، لا يتسق مع جدل الصراع الاجتماعي، إلى آخر هذه الرطانة المكرورة.
وفي ظني أن الدكتورة نبيلة إبراهيم قد اختارت الطريق الصعب حين خصَّت رواية «حضرة المحترم» بالدرس؛ فالتحدي الحقيقي لأي منهج نقدي هو تطبيقه على عمل جديد، عمل لم تتراكم حوله بعدُ التعليقات النقدية، ولم تحجب النظرةَ إليه آراءٌ مسبقة. إن المؤلفة ترتاد هنا أرضًا بكرًا، وإذا كان الرائد لا يَكذب أهله، فإنها في اعتقادي قد نجحت في استكشاف عالم الرواية بأمانة ومنهجية وذكاء، وليس معنى هذا بطبيعة الحال أن كتابها فوق النقد؛ فإن لي عليه ملحوظتين على الأقل — سأذكرهما بعد قليل — ولكنه، عمومًا، كتاب موفَّق نظريةً وتطبيقًا، متماسك داخليًّا، ترفده حساسية مثقَّفة مدرَّبة. وليس من المبالغة أن نقول إنه كتاب لن يستطيع أن يتجاهله أي دارس لنجيب محفوظ في المستقبل، أو أي مؤرخ لتطور النقد الروائي في مصر.
أودُّ أيضًا أن أنوِّه بعدد من المزايا التي يكشف عنها هذا الكتاب؛ فأولًا: هناك الحس اللغوي الرهيف لمؤلفته، أستاذة الأدب العربي، وهو ما يتضح في إدراكها لمستويات اللغة الدلالية والمعنوية والتركيبية والبنائية، وفطنتها إلى أبعاد الكلمة صوتًا وإشارة ودلالة. ويتجلى هذا في تحليلها لقصيدة الشاعر الجاهلي بشر بن عوانة عن صراعه مع الأسد:
وفي تحليلها لسينية البحتري عن إيوان كسرى:
وكذلك في تحليلها لحكاية الليمونات الثلاث من تراثنا الشعبي.
وثالثًا: فيما يخصُّ تقنية الكتابة، يعجب المرء بالنغمة أو اللهجة التي تستخدمها المؤلفة؛ فالنقلة مثلًا من الجزء النظري إلى الجزء التطبيقي جاءت سهلةً ناعمة، دون خلخلة أو ارتجاج. وهذا ما لا يقدر عليه إلا قليلون من الكتاب؛ إذ يلاحظ عادةً وجودُ فجوة بين التنظير والتطبيق عندهم.
أودُّ في ختام هذه الملاحظات العامة أن أعبِّر عن قلقي؛ لأن هذا الكتاب الذي صدر منذ سنوات — في يونيو ١٩٨٠ — لم يلقَ حتى الآن الحفاوة اللائقة. ولا أذكر أني رأيت أي مقالات عنه، عدا مقالة واحدة — لم تلُح لي جيدة — في مجلة «فصول»؛ فلعل هذه الكلمة تكون خطوةً نحو التنبيه إلى أهميته، واجتذاب قارئ جديد إلى الانتفاع بما حواه من أفكار واستبصارات.
أنتقل الآن إلى ملاحظاتي على الكتاب، والملحوظة الأولى هي وجود بعض أخطاء مطبعية، خاصةً في قائمة المراجع، مثل هجاء اسم روبرت سكولز صاحب كتاب «البنيوية في الأدب». ونجد أن ديفيد لودج، مؤلف كتاب «لغة القصة»، قد ارتدَّ — بقدرة قادر — ثلاثة قرون إلى الوراء، فأصبح كتابه صادرًا في ١٦٦٦ بدلًا من ١٩٦٩. ثم هناك بعض هفوات لغوية لا شك عندي في أن الدكتورة نبيلة إبراهيم كانت قادرة — بقليل من المراجعة — على تلافيها. في صفحة ٣٩: «وأخيرًا هناك شيء آخر يدخل في مجال دراسة اللغة بوصفها نظامًا، وهي قدرة اللغة على التشكيل.» الصواب طبعًا: هو، لا هي؛ إذ الضمير عائد على «شيء آخر». في صفحة ٤٤: «وخلاصة القول أن لغة القصة إذا ما استُخدمت بكفاءة بالغة تجعل الماضي واقعًا معاشًا.» الواقع أن هذا خطأ شائع؛ إذ الكلمة الصحيحة لغوية هي «معيشًا» لا «معاشًا». وفي صفحة ٨٤: «حتى إذا استنفذنا العمل القصصي كله في توزيعه على هذه الوحدات تجلَّى أمامنا في النهاية جوهر العمل.» الصواب استنفدنا، وليس استنفذنا.
الملحوظة الثانية هي أن الدكتورة نبيلة أجادت عرض الوحدات الوظيفية التي تتكون منها رواية «حضرة المحترم»، وتطرَّقت من ذلك إلى النظر في دلالتها الفلسفية والمعنوية، ولكنها لم تتحدث عن جانب أعتقد أنه من أهم جوانب الرواية؛ أعني الأسلوب الذي يصطنعه نجيب محفوظ هنا، وهو أقرب شيء إلى ما كان يستخدمه. بعض أدباء القرن الثامن عشر في إنجلترا، من أمثال الروائي هنري فيلدنج والشاعر ألكزندر بوب، الأسلوب البطولي الساخر أو الملحمي الساخر، بمعنى أن الكاتب يعمد قاصدًا إلى استخدام المبالغة والتضخيم على سبيل السخرية، بحيث تكون هناك فجوة متعمَّدة بين تفاهة الموضوع وضخامة المعالجة. إن ألكزندر بوب مثلًا في قصيدته «اغتصاب خصلة الشعر» يحكي عن حادثة تافهة هي سرقة أحد النبلاء لخصلة شعر من فتاة مجتمع تُدعى بليندا، فيرفع هذا الحادث إلى مرتبة الأحداث الجليلة التي تهز الكون، سخريةً من تصنُّع أبناء الطبقات الراقية وغرور سيدات المجتمع؛ فهو يصف بليندا مثلًا حين تجلس إلى مائدة زينتها — وليس أشيع من ذلك في حياة أي امرأة — كما لو كانت حورية من حوريات الأساطير، تحيط بها آلهة الحب. ونحن بالمثل نجد أن نجيب محفوظ في وصفه لطموح عثمان بيومي إلى الترقي الوظيفي يستخدم لغةً مفخمة، أقرب إلى المصطلح الديني، تكثر فيها كلمات وعبارات من نوع: الأشواق اللانهائية، السلطان، محراب الحياة، قربان، تجديف، ذروة المجد، الأبهة، الحقيقة الأبدية المتعالية، الجلال، المقام، الأعتاب الإلهية، الحضرة العليا، الواجب المقدس، سدرة المنتهى … وكأنما يعمد — من طريق المقابلة بين الديني والدنيوي — إلى فضح خواءات هذه التطلعات الطبقية، والإبانة عن السراب الذي ضيَّع عثمان حياته جريًا وراءه. ومن ناحية المصادر الفكرية أعتقد أننا نجد هنا مثاليةً هيجلية تنظر إلى الدولة على أنها أعلى تحقق لإمكانات الروح الإنساني، كما نجد قعقعةً نِتشوية تُعلي من شأن الإرادة. والأمثلة على ذلك كثيرة في الرواية. صفحة ٣ مثلًا: «حتى الإله القابع وراء المكتب الفخم. وتلقى صدمة كهربائية موحية خلاقة غرست في صميم قلبه حبًّا جنونيًّا ببهجة الحياة في ذروتها الجليلة المتسلطة. عند ذاك دعاه نداء القوة للسجود، وحرضه على الفداء.» أو صفحة ٢٣: «قال إن حياة الإنسان الحقيقية هي حياته الخاصة … إنها مقدسة ودينية، بها تتحقق ذاته في خدمة الجهاز المقدَّس المسمَّى بالحكومة أو الدولة، بها يتحقق جلال الإنسان على الأرض فتتحقق به كلمة الله العليا.» أو صفحة ١٦٥: «إن الدولة هي معبد الله على الأرض، وبقدر اجتهادنا فيها تنفرد مكانتنا في الدنيا والآخرة.» أو صفحة ١٨٩: «الوظيفة حجر في بناء الدولة، والدولة نفحة من روح الله مجسَّدة على الأرض.» إلى آخره. هذا ملمح أسلوبي أعتقد أنه كان يجمل بالدكتورة نبيلة أن تلتفت إليه؛ لأنه ليس ظاهرةً لغوية مجردة، وإنما أداة يتوسل بها القاص إلى استجلاء الدلالات الفلسفية والاجتماعية والنفسية لموقف بطله.