روايات محفوظ في السبعينيات
كانت السبعينيات فترةً خصبة في حياة نجيب محفوظ الأديبة من حيث الكم والكيف على السواء؛ فقد أنتج فيها عددًا من المجاميع القصصية هي «حكاية بلا بداية ولا نهاية» ١٩٧١، و«شهر العسل» ١٩٧١، و«الجريمة» ١٩٧٣، و«الحب فوق هضبة الهرم» ١٩٧٩، و«الشيطان يعظ» ١٩٧٩؛ فضلًا عن سبع روايات هي «المرايا» ١٩٧٢، و«الحب تحت المطر» ١٩٧٣، و«الكرنك» ١٩٧٤، و«حكايات حارتنا» ١٩٧٥، و«قلب الليل» ١٩٧٥، و«ملحمة الحرافيش» ١٩٧٧. وعن هذه الروايات يدور حديثنا هنا.
كانت رواية «المرايا» عملًا ذا مذاق مختلف عما ألِفناه في روايات نجيب محفوظ السابقة؛ فهي أقرب إلى مجموعة من الصور التخطيطية واللوحات الشخصية يبلغ عددها خمسًا وخمسين، ويمكن اعتبار كلٍّ منها — من إحدى الزوايا — قصة قصيرة قائمة برأسها، لولا أن هناك تداخلًا بين هذه القصص، حين تلتقي الشخصيات وتفترق، وتشتبك مصائرها وتتشعب وتجمع بينها مناسبات الحياة العامة أو تستغرقها مشاغل الحياة الخاصة، فإذا كلٌّ في طريق. والرواية — كما هو واضح — تستمد قدرًا كبيرًا من مادتها من خبرات محفوظ الشخصية عبر السنين، والأحداث التي عاصرها، والأشخاص الذين عرفهم طفلًا وشابًّا وكهلًا، وإن كانت، بطبيعة الحال، تستوحي أيضًا عنصر الخيال الذي لا غنى عنه لأي عمل أدبي، تستكمل به هذه الزاوية أو تحذف تلك الزائدة. ولعل أبرز ما يميز الرواية — كما هو الشأن في أغلب أعمال محفوظ — ذلك التداخل الوثيق بين الشخصية والحدث، أو بين العالم الداخلي والعالم الخارجي؛ فنحن من خلال أحاديث أبطاله وأعمالهم نرى صورًا من حياة الوطن، كثورة ١٩١٩، والعدوان الثلاثي في ١٩٥٦، وهزيمة ١٩٦٧.
وهذه المرايا التي يرفعها نجيب محفوظ أمام أبطاله لكي تعكس باطنهم وظاهرهم على السواء تغطي رقعةً واسعة من الخبرة الحياتية والفكرية والوجدانية، وتثير أكثر من قضية: نفاق بعض الأساتذة الجامعيين ممن يوصون تلاميذهم بالرهبنة في محراب العلم بينما هم يسعون وراء المال والجاه، اكتشاف الجنس لأول مرة ووقعُ ذلك على نفس المراهق، وضع المرأة المصرية وحصولها على المزيد من الحقوق، انتهازية بعض الكتاب ممن يسيرون في كل موكب، اتجاه عدد من الشبان إلى الهجرة إلى الخارج، صراع الأيديولوجيات المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وذلك — كله من خلال مناقشات الشخصيات ووجود راوٍ — يمكن أن نعتبره نجيب محفوظ ذاته ترى الأحداث من خلاله.
ولا أدلَّ على حضور عنصر الخبرة الشخصية في هذه الرواية من وصف نجيب محفوظ في أحد الفصول لحي العباسية منذ أكثر من نصف قرن، حيث إن أديبنا كان يعيش في ذلك الحي في مطلع شبابه، إنه في الفصل المسمى «جعفر خليل» يصفه فيقول:
«العباسية في العشرينيات من هذا القرن، حي الهدوء الشامل والحقول المترامية والحدائق الغنَّاء؛ شرقيُّه قصور كالقلاع وشوارع شِبه خالية يجلِّلها صمتٌ وقور، وغربيُّه بيوت مستقلة ذوات حدائق خلفية صغيرة تزدان بكرمة وشجرة جوافة وأرض مغروسة بالشِّيح والورد والقرنفل، تحدق بها الحقول، في طرفها ساقية تدور بين خمائل من أشجار الحِنَّاء، وتزكو رقعتها بالجرجير والطماطم، وتنتشر فوق أديمها نخلات معدودات. أما فيما يلي أسوار البيوت فتمتد غابة من أشجار التين الشوكي. في النهار لا يخرق صمتَها إلا جلجلةُ الترام، وفي الليل لا يتردد في جنباتها إلا صيحة الخفير، وإذا هبط الليل لفَّها بظلامه فلا يخفِّف من غلظته إلا إشعاعات الفوانيس المدلاة من أعالي أبواب بيوتها.»
والبطل الحقيقي لهذه الرواية، كما لكثير من روايات محفوظ، هو الزمن؛ تلك القوة الميتافيزيقية التي تحمل البشر على أمواجها، وتجعل الحظ يتقلب بهم فيرفع هذا ويخفض ذاك؛ أو على حد قول محفوظ في موضع آخر من الرواية: «تأملت الموقف، نظرت طويلًا إلى الابن، تذكرت الأب، ثم خُيِّل إليَّ أني أسمع هدير الزمن وهو يتدفق حاملًا متناقضاته المتلاطمة.»
تلت «المرايا» روايةٌ قصيرة هي «الحب تحت المطر»، والعنوان رمزي يشير إلى حالة الخطر التي عاش فيها شعبنا بعد حرب ١٩٦٧ وقبل انتصار أكتوبر ١٩٧٣. وتميل الرواية، في بعض أجزائها، إلى المباشرة، كما تفتقد الأبعاد الفلسفية التي نجدها عادةً في روايات محفوظ. إنها، في رأيي، أدنى مستوًى من أعماله السابقة، هنا ون، على مواقف شائقة، ومشاهد أحسن تصويرها، وهو ١٢٤ وإنهتكن شتمل ما لا يُستغرب من روائي طويل الباع، عظيم الخبرة، مثل نجيب محفوظ. ورغم روح القتامة التي تسيطر على العمل، نجد بصيصًا من الضوء في آخر الرواية حين يتحدث أبو النصر الكبير، وهو من رجال المقاومة الفلسطينية، مؤكدًا روح الصمود العربي، فيقول:
«القضية ممتدة في الزمن، وليست بقضية هذا الجيل وحده، ولكن الكلمة النهائية ستظل سرًّا مقدسًا في طوايا الغيب، كما سيظل ميلادها رهنًا بالإرادة؛ فإما نموت موتًا غير مأسوف علينا، وإما نحيا حياة كريمة كما ينبغي لنا.»
ورواية «الكرنك» ١٩٧٤، مثل سابقتها، عمل من وحي الظروف السياسية وتصوير لمراكز القوى التي كانت موجودة قبل حركة التصحيح، وهي أمعن من «الحب تحت المطر» في المباشرة، بل هي في رأيي أضعف روايات محفوظ من الناحية الفنية، رغم امتلائها بالقيم النبيلة التي تدعو إلى الحرية والكرامة والعدل. وتتحقق وحدة المكان في الرواية من خلال تردد الشخصيات على مقهًى يُدعى مقهى الكرنك. وهي تنقسم إلى أربعة أجزاء يحمل كلٌّ منها اسم شخصية من شخصيات الرواية: قرنفلة، ثم إسماعيل الشيخ، ثم زينب دياب، ثم خالد صفوان. وهذا التكنيك الذي يتيح لنا رؤية الحدث من عدة زوايا تكنيك قد سبق إلى استخدامه لورنس دريل في رباعية الإسكندرية، وفتحي غانم في «الرجل الذي فقد ظله»، كما استخدمه محفوظ ذاته في رواية «ميرامار»، وهي — كرواية «الكرنك» — قد حُوِّلت إلى عمل سينمائي نال نجاحًا كبيرًا لصراحته وشجاعته.
وتجسِّد الرواية التي انتهى محفوظ من كتابتها في ديسمبر ١٩٧١ عددًا من القيم الإيجابية هي على حد قول إحدى الشخصيات: «أولًا: الكفر بالاستبداد والديكتاتورية. ثانيًا: الكفر بالعنف الدموي. ثالثًا: يجب أن يطرد التقدم معتمدًا على قيم الحرية والرأي العام واحترام الإنسان، وهي كفيلة بتحقيقه. رابعًا: العلم والمنهج العلمي هو ما يجب أن نتقبله من الحضارة الغربية دون مناقشة، أما ما عداه فلا نسلِّم به إلا من خلال مناقشة الواقع متحرِّرين من أي قيد قديم أو حديث.»
و«الكرنك»، كما قلت، رواية حزينة. إنها شاهد على عقد الستينيات المليء بالإيجابيات والسلبيات معًا، هي مرثية العمر الجميل — إذا استخدمنا عبارة للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي — وهي تؤكد دور نجيب محفوظ كضمير مصر الحديثة.
نأتي بعد ذلك إلى رواية «حكايات حارتنا»، فنجدها — مثل «المرايا» — عملًا يستعصي على التصنيف، ويقع في مكانٍ وسطٍ بين فن الرواية وفن الأقصوصة. إن نجيب محفوظ يعود بنا هنا إلى عالم رواياته السابقة «زقاق المدق» و«أولاد حارتنا» وغيرهما، حيث الحارة تجسيد للكون عمومًا، وأبناؤها صور للإنسان في كل زمان ومكان. ويتكون الكتاب من ثمانٍ وسبعين حكايةً قصيرة، لا يجاوز بعضها صفحةً واحدة، ولكن دلالاتها تمتد إلى ما وراء ذلك كثيرًا. إنها نموذج لاجتماع الواقعية والصوفية في عمل محفوظ؛ فكل التفاصيل واقعية دقيقة، ولكن معنًى خبيئًا مستترًا يتخايل من ورائها، تلفُّه غلالة من الغموض، وتعين عليه تلك الأبيات من الشعر الفارسي التي ينشرها محفوظ، بلغتها الأصلية، في تضاعيف حكاياته.
وتسجِّل الرواية — بين ما تسجِّل — لمحات من ثورة ١٩١٩ التي من الواضح أنها تمثِّل، عند نجيب محفوظ، أعلى نقطة بلغها الوعي القومي المصري في مواجهة الاستعمار. كما أنه — باعتباره وفديًّا في فترة كان الوفد فيها هو الناطق الحقيقي باسم الشعب — يُكن لسعد زغلول أطيب الذكريات. يقول الراوي في الحكاية رقم ١٢:
«أحملق فيما يجري من فوق سور السطح، وأتساءل عما يحدث للدنيا.
وتتلاطم الأحاديث مشحونةً بكهرباء الوجدان، وينهمر سيل من الألفاظ الجديدة السحرية، سعد زغلول، مالطة، السلطان، الهلال والصليب، الوطن، الموت الزؤام.
الأعلام تُرفرف فوق الدكاكين، صور سعد زغلول تلتصق بالجدران، إمام المسجد يظهر في شرفة المئذنة ويهتف ويخطب.
وأقول لنفسي إن ما يحدث غريب، ولكنه مثير ومسلٍّ شديد البهجة.»
كذلك تسجل الرواية خروج المرأة إلى ميدان العمل، وما أحدثه ذلك من صدمة في بداية الأمر. تقول إحدى الجارات لأم الراوي إن توحيدة بنت أم علي بنت عم رجب توظَّفت في الحكومة، وأصبحت تذهب إلى الوزارة وتجالس الرجال. ويتحسر أهل الحارة على فعلة توحيدة، وكأنها ارتكبت أمرًا إدًّا، فيَلُوكون سيرتها في الحارة، ويردِّدون كلما لاحَ أبوها عم رجب «اللهم احفظنا» أو «يا خسارة الرجال». ويعلِّق الراوي — من زاوية نظر الطفل الذي يردِّد كالببغاء ما يسمعه من الكبار — فيقول:
«توحيدة أول موظَّفة من حارتنا. ويقال إنها زاملت أختي الكبرى في الكتاب. ويحفزني ما سمعته عنها إلى التفرج عليها حين عودتها من العمل. أقف عند مدخل الحارة حتى أراها وهي تغادر سوارس، أرنو إليها وهي تدنو سافرةَ الوجه مُرهَقة النظرة سريعةَ الخطوة بخلاف النساء والبنات في حارتنا. وتُلقي عليَّ نظرةً خاطفة أو لا تراني على الإطلاق، ثم تمضي داخل الحارة. وأُتمتم مردِّدًا كالببغاء: يا خسارة الرجال!»
والحكاية رقم ٥٠ تسجِّل لمحة من نظام الفتونة الذي كان من ملامح القاهرة المُعِزِّية حتى أوائل هذا القرن. يصف الراوي فتوة الحارة، جعلص الدنانيري، فيقول:
«هو عملاقٌ مترامي الأطراف طولًا وعرضًا، ذو كرش مثل قبة جامع، ووجه في حجم عجيزة ست أم زكي، يتمايل فوق صهوة حصانه كالمحمل، ولكنه سريع الانقضاض كالريح، ويلعب بالنبوت في رشاقة الحواة، وعند القتال يقاتل بنبوته ورأسه وقدميه وأتباعه.
لا يسمع صوته إلا مزمجِرًا أو هادرًا أو صارخًا، ودائمًا قاذفًا سيلًا من الشتائم يخاطب أحبَّاءه بيا ابن كذا كذا. لا يُرى باسمًا أو هاشًّا حتى وهو يتلقى الإتاوات ويصغي إلى الملق، يستوي في ذلك عنده صاحب الوكالة وحمودة القواد.
يعجز مرةً أحد التجار عن دفع الإتاوة فيستمهله أسبوعًا، ولكنه لا يقبل، فيُضطر الرجل إلى البقاء في بيته مع الحريم حتى يجيئه الفرج.»
وتمتاز هذه الحكايات بالجمع بين الحس المأسوي الفاجع وروح الفكاهة الممتعة، شأن كل روائي عظيم يرى الحياة كاملة من كافة نواحيها. انظر مثلًا إلى الواقعية الدقيقة في هذا المشهد من الحكاية رقم ٦٣، وما يفيض به من صدق مقنع وفكاهة مشجية:
«بُذرت الكراهية بين شلضم وقرمة في ضفاف الصبا. في أحد الأعياد مزَّق شلضم جلباب قرمة الجديد، فاشتبكا في خناقة حامية، فضرب قرمة شلضم بمقدم قبقابه فقطع حاجبه، وسجَّل في وجهه أثرًا باقيًا.
منذ ذلك التاريخ القديم عشَّشت عاطفةٌ صفراء ضاربة للسواد في أعماقهما، ويجمعهما اللعب مع الصبيان والاختلاط في المناسبات، ولكن الجرثومة الشرهة تظل رابضة ونفَّاثة للحنق، ويظل منظر أحدهما قوة غادرة ومتحدية للآخر.
في الكُتاب يتبادلان الغمز واللمز، يتحرش أحدهما بالآخر، ويحرِّض عليه سيدنا الشيخ عند أية فرصة سانحة.
ومات أبو شلضم، وأُقيم سرادق العزاء كالعادة، ووقف قرمة فوق سطح غير بعيد وراحَ يغني:
ولما خطب شلضم بنت الفسخاني، حاول قرمة خطفها منه بالحيلة وبتسويء سُمعته عند أهلها، وفي خلال ذلك تشاجرا بعنف، فقطع شلضم قطعةً من أذن قرمة، وترك به أثرًا باقيًا كالذي تركه بوجهه من قبل.»
وفي نفس العام الذي صدرت فيه «حكايات حارتنا»، عام ١٩٧٥، صدرت لمحفوظ روايةٌ أخرى هي «قلب الليل»، بطلها عجوز يُدعى جعفر الراوي، يحلم بوقف يعتقد أنه كان مِلكًا لأجداده، ولا أمل له في أن ينال شيئًا منه. ويحاول القاصُّ — وهو موظف في الأوقاف — أن يُقنعه ببُطلان هذا المسعى، وبأنه يجري وراء سراب، ولكن الراوي يُصرُّ على حقوقه، وعلى إقامة دعوى على الحكومة واستشارة محامٍ شرعي. ومن خلال هذا الموقف تتوطد العلاقة بين القاص وجعفر الراوي، ويُكثران من الالتقاء في مقهًى بالباب الأخضر، حيث يقصُّ عليه الشيخ الفاني تاريخ حياته وما مر به من خبرات ومغامرات. إن جعفر الراوي الآن يتخبط في الشوارع نهارًا وحتى منتصف الليل، ويبيت في خرابة هي مِلكه بوضع اليد، وهي ما تبقَّى من بيت جده القديم. ومن أحاديثه نعرف أنه فقدَ أُمه وهو طفل، ولم يكن قد عرف عطف الأب، فانتقل للعيش في بيت جده، وهذا الجد — أشبه بجبلاوي في رواية «أولاد حارتنا» — سيدٌ عظيم القدرة، كبير المهابة، يستطيع أن يُغْني ويُفقر، ويُقرب وينبذ، إذا رضي أو سخط. ويتولى الجد الإنفاق على حفيده وتعليمه، ويُعد له مستقبلًا مشرقًا، ولكن هذه الحسابات كلها تنقلب حين يقع جعفر الراوي في شبابه في حب غجرية راعية أغنام من عشش الترجمان، لا حسب لها ولا نسب، ولا تعليم ولا تربية. وفي لحظة جنون يتزوجها جعفر، فيغضب عليه جده، ويقطع كل صلة له به. وكما هو المتوقَّع، تزول السكرة، وتُسفِر مروانة الغجرية عن أنيابها، حتى يستحيل العيش بين الزوجين، فتترك له البيت، ولا يراها بعد ذلك. ويحترف جعفر — سليل العلم والدين — مهنة الغناء في جوق صديقه محمد شكرون إلى أن تراه سيدة ذات حسب ونسب في إحدى الحفلات، تُدعى هدى هانم صديق، فتنجذب إليه وترتبط به في الحلال. ومن خلال هذا الوسط الراقي الجديد يكمل جعفر تعليمه، وتفتح له زوجته الغنية مكتبًا للمحاماة، ويتعرف على أناس مثقَّفين يتحدثون في الدين والسياسة والأخلاق، وتستبد به الغيرة حين يلحظ — أو يتوهم — إعجاب زوجته بأحدهم، ويُدعى سعد كبير، فيهوي عليه بقطَّاعة ورق تُورده حتفه، بعد خلاف في الرأي السياسي ظاهرًا، وعن غيرة زوجية في الحقيقة. ويدخل جعفر السجن حيث يقضي أعوامًا طوالًا، تكون زوجته قد انتقلت إلى جوار ربها أثناءها، ويهاجر صديقه محمد شكرون إلى شمال أفريقيا. وفي السجن يضعف بصره، ويصاب بأمراض شتى، ولا يبقى له من أمل في الحياة إلا استردادَ وقفِ جده الذي لا نعرف إن كان حقيقة أو أسطورة.
هكذا يتمكن نجيب محفوظ في أقل من مائة وخمسين صفحة من تجسيد خبرة إنسانية كاملة هي خبرة التعلق بالأوهام والحاجة إلى الانتماء والبحث عن معنًى للحياة، وإلا صار البقاء عبثًا لا ضرورة له. وتزخر الرواية بالمشاهد الرائعة التي تجسِّد الموقف أمام عينَي القارئ، كهذا المشهد الذي يذهب فيه جعفر الراوي مع صديقه المغني محمد شكرون لطلب يد مروانة الغجرية من أهلها:
«كنا أول غريبَين يشقَّان سبيلهما في عشش الترجمان نهارًا دون أن يتعرَّضا للموت. حدَّقت فينا أعينٌ شِريرة باستطلاع ساخر وتحدٍّ، وتوقفت الحركة دقيقة، حركة تدريب القرود وجز الأغنام ووزن المخدرات وجلاء الأدوات المسروقة ودق الطبول.
وتجمَّع حولنا نفرٌ من الغلمان وراحوا يُحيُّون الشيخ جعفرًا هاتفين:
ومضينا إلى العجوز الجالس أمام كوخه وأم مروانة بين يديه.
وتصافحنا، وكان طاعنًا في السن حتى الموت، فقالت أم مروانة نيابةً عنه: إنه يرحِّب بكما.
فقال العجوز يخاطبها بعد أنْ لكمها في ظهرها: لأنك أنت توافقين عليك اللعنة.
فقال محمد شكرون: صاحبي من أصل كريم.
فبصق العجوز قائلًا: طز!
فقال محمد شكرون محرجًا: وهو يعمل.
ولكن العجوز قاطعه: لا يهمنا العمل أيضًا.
فقال: أخلاقه.
فقاطعه العجوز: ولا تهمنا الأخلاق!
فقال شكرون وهو يتحلى بمزيد من الصبر: بكل إيجاز نريد كريمتكم على سنة الله ورسوله.
فضحك العجوز عن فمٍ خالٍ تمامًا وقال: مع ألف سلامة. تكلم عن المهر.
– تكلم أنت؛ فأنت كبيرنا.
فانتفخ العجوز قائلًا: عشرة جنيهات في يدي هذه.
وبسط يده، فتحرَّكت أم مروانة حركةً غامضة، فقطَّب العجوز قائلًا: بلا جهاز!
فقلت: لنقرأ الفاتحة.
وانطلقت من حولنا الزغاريد.»
كذلك شهد عام ١٩٧٥ روايةً ثالثة لمحفوظ هي «حضرة المحترم». وبطل الرواية عثمان بيومي، موظَّف تدرَّج في سلك الحكومة، لم يكن له شاغل إلاها، وفي سبيلها ضحَّى بالحب الصادق والزواج العاقل والصداقة الخالصة وكافة العلاقات الإنسانية. وفي نهاية حياته، وهو يرى الموت رأي العين، يدرك بطلان ذلك كله، ويجد — بعد فوات الأوان — أنه قد أضاع حياته بددًا. ومن الخصائص المميزة لهذه الرواية أن نجيب محفوظ في وصفه لطموح عثمان بيومي إلى الترقي الوظيفي يستخدم لغةً مفخَّمة، أقرب إلى المصطلح الديني، تكثر فيها كلمات وعبارات من نوع: الأشواق اللانهائية، السلطان، محراب الحياة، قربان، تجديف، ذروة المجد، الأبهة، الحقيقة الأبدية المتعالية، الجلال، المقام، الأعتاب الإلهية، الحضرة العليا، الواجب المقدس، سدرة المنتهى؛ وكأنما يعمد — من طريق المقابلة بين الديني والدنيوي — إلى فضح خواء هذه التطلعات الطبقية، والإبانة عن السراب الذي ضيَّع عثمان بيومي حياته وراءه.
كأنما لم يكفِ محفوظًا هذا العطاءُ الغزير، فإذا به يودِّع حقبة السبعينيات بعمل كبير، حجمًا وقدرًا على السواء، هو «ملحمة الحرافيش» الصادرة في ١٩٧٧. وهذه الملحمة التي تغطي أكثر من خمسمائة وستين صفحةً عود إلى عالم «أولاد حارتنا» و«حكايات حارتنا» حيث يتجاوز الواقع والرمز، ويكتسب المعنى الواقعي المباشر إيحاءات فلسفية بعيدة المدى. إننا نجد هنا عشر حكايات هي على الترتيب: عاشور الناجي، شمس الدين، الحب والقضبان، المطارد، قرة عيني، شهد الملكة، جلال صاحب الجلالة، الأشباح، سارق النغمة، التوت والنبوت. والرواية تنتمي من حيث البناء إلى ما يُسمى برواية النهر، أو رواية الأجيال، حيث تتتابع الأجيال كما تتتابع موجات النهر، ونرى أثر الوراثة والمصاهرة والصداقات والعداوات، وذلك كله في جو مشبع بعبق الأسطورة البطولي، حيث أعمال الشجاعة تتجاور مع أعمال الخسة، وحيث الشر هو الوجه الآخر للخير، وذلك في رؤية شاملة ترسم لوحة بانورامية عريضة.
ونلاحظ في ختام هذه الملاحظات أن روايات نجيب محفوظ في السبعينيات هي أكمل سجل لدينا للأوضاع النفسية والاجتماعية والسياسية للإنسان المصري في ذلك العقد وما سبقه من عقود، وأنها — وإن لم تقدم تجديدات تقنية لافتة — قد دعمت منجزات مؤلفها الروائية السابقة، وأكَّدت قدراته على الوصف والتحليل والملاحظة، وأبرزت قدرته على الإيجاز الدال والإسهاب الوافي في آنٍ واحد، كما أنها سوف تظل درسًا للروائيين الشبان في العكوف على فن الرواية، وتجويد أساليبه، وتوسيع رقعة النمو، ومواكبة متغيرات العصر.