الرجل الذي نقل فن القص العربي إلى آفاق الفكر الفلسفي
من مَجثمه على قمة التسعين يقف مثل نَسرٍ حادِّ البصر والبصيرة — رغم غشاوةٍ رانت على العينين والسمع — يرمق قرنًا مضى بخيره وشره، ويُطل على قرن جديد.
كان هذا القرن الماضي — كما سجَّله في رواياته وأقاصيصه وحوارياته المسرحية ومقالاته — ساحةَ قتال دامٍ بين مختلف الأيديولوجيات، وبؤرةً حارقة تجمَّعت فيها خبرات الإنسان، وتصارعت قوى التقدم والمغامرة مع قوى المحافظة والجمود؛ لهذا نجد أن من الخيوط المترددة في عمله الصراع بين أبولونية عاقلة تحسب حساب خطواتها وديونيزية جامحة تلقي بمفتاح الحذر إلى الريح. يتجاور على صفحاته الشيوعي الملحد والإخواني الساعي إلى إقامة دولة الإيمان، المتصوف وطالب اللذة، الأرستقراطي والمُعدِم، وبينهما شرائح من البورجوازية تكاد تنسحق بين ما فوقها وما تحتها.
كانت حياته في الرواية تلخيصًا يكاد يكون جامعًا لتطور هذا الفن عبر القرون. في قرابة ستين عامًا — هي عمره في النشر — اجتاز بنا مراحل الرواية الأوروبية الثلاث الكبرى؛ مرحلة الرومانس التاريخي الحافل بالوطنية والمغامرة والعاطفة ممثَّلًا في رواياته الفرعونية، مرحلة القص الواقعي الذي ساد القرن التاسع عشر في أوروبا، مرحلة التجريب الشكلي والتمرد المضموني الذي اتسم به فن القرن العشرين واستخدام الرمز، وهو ما يتجلى في أعماله بدءًا ﺑ «أولاد حارتنا» ومرورًا ﺑ «اللص والكلاب» و«الشحاذ» و«الطريق» وغيرها إلى أن نصل إلى مرحلة «الحرافيش».
كان ضميرًا لمصر ولأزمات المثقف المصري — كمال عبد الجواد ومن تلوه — في فترات الصراع ضد الاحتلال البريطاني والصراع ضد القهر الداخلي على السواء، وكان أشبه بقرون استشعار مُرهَفة تحذر من الكارثة المقبلة — وقد أقبلت في يونيو ١٩٦٧ — ولكنه لم يفقد قطُّ إيمانه بقدرة مصر على التجدد والعلو على آلامها، وهو ما حدث في أكتوبر ١٩٧٣.
جمعت كتابته بين حس الفاجعة وحس الملهاة، وظل يغذوها دائمًا تعاطفٌ إنساني عميق مع محنة شخصياته وأزماتها (بدأ روايته «بداية ونهاية» وهو ينتوي السخرية من شخصياتها، ثم انتهى به الأمر — مع كل فصل يكتبه — إلى التعاطف مع مأساتها). وصوَّر لحظات مفصلية من تاريخ مصر الحديث منذ إعلان الحماية وقيام الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا، ولم يقتصر على تقديم جغرافيا المكان في أحياء القاهرة الشعبية، إنما قدَّم أيضًا جغرافيا الروح وتضاريس العقل والوجدان.
كثيرة هي منجَزاته شكلًا ومضمونًا على السواء، لكن إنجازه الأكبر — في تقديري — هو أنه الرجل الذي نقل فن القص العربي إلى آفاق الفكر الفلسفي، وذلك بمثل ما نقل العقاد — في العقود الأولى من القرن العشرين — النثر العربي من مرحلة السجع اللفظي والمعنوي، وبلاغة المقامات، ونظرات المنفلوطي وعبراته، إلى مرحلة النظر الفلسفي، سواء كان موضوعه هو نِتشه وشوبنهور وجوته أو المعري والمتنبي وابن الرومي.
سبعة أمثلة من أدب نجيب محفوظ أمرُّ عليها مرورًا سريعًا — بل خاطفًا — تدليلًا على دعواي: رواية «الطريق»، وأقصوصتان هما «حارة العشاق» و«زعبلاوي»، وأربع أقاصيص تتناول حس العبث (الأبسورد) الذي لا يفتأ يخامر أبطاله.
«الطريق» خطوة جريئة خطا بها نجيب محفوظ إلى استلهام مادته من المشاكل الميتافيزيقية الخالصة، حيث نلتقي بالبطل في لحظة انفتاح على حقيقة وجوده، من خلال موقف يدعو إلى التأمل؛ ومن ثَم ينفسح المجال أمام الكاتب ليجري على لسان بطله ما يؤرِّق باله من مشكلات الكون والوجود.
تتخذ القصة موقفًا أقرب إلى الموقف الوجودي، كما نجده عند ألبير كامو حيث يرتكب البطل جريمةَ قتل لا يكاد يوجد لها مبرر معقول، وإنما هي تتم — كما تتم أمور كثيرة في الحياة — بمصادفة طائشة عمياء. والقصة رمزية من أولها إلى آخرها؛ فليست الأحداث فيها إلا بمثابة علامات الطريق التي يراد بها ألا يضل السائرون. وهي بهذا أقرب ما تكون إلى التجريد الذي يكاد ينزع من الأشياء دلالتها الملموسة، ويسعى إلى استخراج لبابها العاري وحده. وألوان القصة درجات من الأبيض والأسود، يضيئها نورٌ داخلي خافت. إننا لا نجد هنا ألوانًا صارخة ولا أحداثًا لافتة (باستثناء حدث أو حدثين)، وإنما نجد الكاتب يرقب مأساة أبطاله بعين صاحية حزينة. كل شيء في القصة مغلق على ذاته، والأمل في الاتصال مقطوع، والمصير قد تحدَّد من بداية الأمر. وبالرغم من هذا اللون الرمادي الذي يسود القصة، فإن فيها من دواعي اللذة ما يعزِّي الإنسان المصلوب عن عذابه. إن شدة آلام صابر الرحيمي تجعله في شِبه طرَب مقدَّس؛ فهو أحيانًا ما يهتزُّ تلذذًا بالألم، وكأن هزَّته رقصة الطير المذبوح. والقصة قد توافَر لها من موضوعية التناول ما يجعلها أقرب إلى الاستاتيكية منها إلى الديناميكية، إذا كان لنا أن نستخدم مصطلحات يحيى حقي؛ فهذه اللحظات من الانفعال الجامح تحمل بذور نهايتها في طياتها. وهي لا تكاد تشتعل حتى تخمد نارها، ويستحيل كل شيء إلى رماد. لقد اختار نجيب محفوظ موقفًا لا تعوزه عوامل التوتر والعنف والصراع، ولكنه آثر أن يتناوله من زاويته الفكرية المجردة، وأن يستخلص منه نتائجه الميتافيزيقية وحدها. إن صابر الرحيمي — كسعيد مهران — قاتل أفَّاق على معنى وجوده من خلال القتل، وكلا الرجلين أقدر على الإحساس منه على التفكير، ولكنهما مع ذلك يتميزان تميزًا واضحًا. ما علة هذا الاختلاف بين «اللص والكلاب» و«الطريق»؟ الإجابة — فيما يبدو — أن نجيب محفوظ آثر في الأولى معايشة اللحظة الدرامية بكل عمقها الوجداني وحرارتها، ولكنه آثر — في الثانية — أن يتخطى الخبرة إلى معناها. «الطريق» أقرب إلى «أولاد حارتنا» منها إلى «اللص والكلاب». الجو في «الطريق» خريفي شاحب، والألوان باهتة، وكل شيء قد سكن سكون مرعًى من العشب الناعم الرقيق به هياكل ونُصب عريقة، تعاقبت عليها عواطف حارَّة متربِّصة وليالٍ صافية من الوحشة، ولا نهاية من سموات الظهر الخالية (إدوار الخراط). وكأنما قد أفرغ نجيب محفوظ العالم من كل سكانه، ولم يترك إلا بطله واقفًا بين الأنقاض بينما السماء — كعادتها — مُحايِدة لا تتدخل.
«حارة العشاق» — من مجموعة «حكاية بلا بداية ولا نهاية» الصادرة في ١٩٧١، وقد قُدِّمت فيما بعدُ على خشبة المسرح — قصةٌ أخرى تتدثر برداء الرمز، ويبرز فيها عنصر الفكر. موضوع القصة هو مشكلة الشك واليقين، وذلك من خلال زوج كان يعيش هانئًا مع زوجته، وفجأةً — بلا سبب واضح — بدأ الشك يداخله في إخلاصها له، وتحوَّلت حياتهما تدريجيًّا إلى حَلْقة جَهنَّمية من الشكوك والتوترات والغيرة، يطلِّقها تارةً ويعيدها إلى عصمته تارةً أخرى. وفي الختام يقول الزوج: «لئن تكن زوجتي مُذنِبة بنسبة ٥٠٪، فهي بريئة في الوقت نفسه بنسبة ٥٠٪. ولأني أحبها أكثر من الدنيا نفسها، ولأنه لا بديل عنها إلا الجنون أو الانتحار، فإنني سأسلم باحتمال البراءة.» وعلى هذه الخاتمة التي لا تختم شيئًا، هذا اليقين الشاك أو هذا الشك المتيقن، يترك كاتبنا بطله المدعو «عبد الله» أو نحن جميعًا؛ إذ كلنا عبيد الله (قارن شخصية «إفريمان» أو كل إنسان في مسرحيات العصور الوسطى المعروفة باسم الأخلاقيات، وهي التي استوحاها الدكتور هاني مطاوع في مسرحيته «يا مسافر وحدك»).
تبدأ القصة بالزوجين في بيتهما بعد خمس سنوات من الزواج. هنية — الزوجة — هانئة كاسمها، وعبد الله واجم لا يلبث أن يقول حين تسأل عن علة كدره: «الحق أني عانيت تجربةً جديدةً كل الجدة، وهي الشك:
هتفت باستياء: الشك!
– كمن صحا عقب نوم ثقيل على لسعة عود ثقاب مشتعل.
قالت بامتعاض وغضب: أطلعني على أفكارك أكثر.
– قلت إنه الشك وكفى.
فصاحت بغضب: «لا أصدِّق أنني أتلقَّى منك إهانة صريحة.»
ويصارحها عبد الله بما يعتلج في صدره من شكوك فتثور لكرامتها، وتترك له البيت، وهو يرسل في أعقابها يمين الطلاق.
ولا يلبث إمام الجامع، الشيخ مروان عبد النبي (وهو في القصة رمز الدين)، أن يعيد المياه بين الزوجين إلى مجاريها، فتعود هنية إلى منزل الزوجية.
لكن المشكلة تتجدد مرةً أخرى، ويقع الطلاق من جديد. وفي هذه المرة يتوسط الأستاذ عنتر وهو مدرس (يمثِّل العقل) حتى تستأنف الحياة بين الزوجين مجراها.
وللمرة الثالثة يقع الطلاق، ويزور مراد عبد القوي — شيخ الحارة — البطل، ويدور بينهما نقاش يقرر عبد الله في أعقابه أن يسترد زوجته. ويسأله شيخ الحارة وهو يهم بالذهاب: «وهل أنت سعيد؟» فيبتسم عبد الله ابتسامة لا تخلو من حزن ويقول: «بنسبة لا تقل عن ٥٠.»
ومن الواضح أن هذه القصة — كما كتب الدكتور عبد القادر القط في دراسة له عن نجيب محفوظ عنوانها «قضايا أدبية» — تقف متردِّدةً على عتبة الرمز؛ فالشخصيات والأحداث لا يريد بها الكاتب «مجرد الواقع، بل يتخذ منها رموزًا ودلالات تتجاوز وجودها الواقعي إلى الكشف عن قضايا نفسية وفكرية أكثر شمولًا من الواقع المحدود». والقضية هنا هي نسبية المعرفة، واختلاف زوايا النظر إليها، واستحالة اليقين؛ مما ينتهي الكاتب معه إلى اصطناع موقف براجماتي يحكم على الأمور بثمارها الواقعية؛ فالثقة أروح من الشك، وأدعى إلى الطمأنينة النفسية وانتفاء التمزقات. ومن هنا يؤثر عبد الله أن يفترض براءة زوجته، ولو لم يكن من ذلك على يقين.
في هذه القصة التي تدور أحداثها أثناء الحرب العالمية الثانية، يتعانق بُعد المأساة الاجتماعية وبُعد المأساة الميتافيزيقية في عمل محفوظ، إرهاصًا بما سنراه من بعد في أعماله الكبرى. لكن القصة تظل عملًا واقعيًّا، لا إغراب فيه، ولا تخرج على منطق الحياة العادية المألوف.
يمكننا من هذه النماذج الأربعة أن ننتهي إلى أنَّ حس العبث عند نجيب محفوظ يتخذ عادةً أحد شكلين: مفارقة من مفارقات القدر تعكس حسابات الإنسان وتهدم مشروعاته، أو موت مفاجئ يصيب الشخص الخطأ وينجو منه من كان ينتظره أو يُنتظر له. لكن هذا كله يدور في جو واقعي دقيق التفاصيل، أو على الأقل كان هذا هو الشأن قبل أقاصيص محفوظ التي أوحت بها نكسة ١٩٦٧، وهي أقاصيص يتراجع فيها العنصر الواقعي لكي تحل محله عناصر الفوضى، وقوى الجنون، وتهاويل الفانتازيا.
أين نجد مِثل هذا الفكر الفلسفي العميق — في جيل نجيب محفوظ — إلا عند كاتبنا؟ أفي رومانسيات السباعي وإحسان عبد القدوس وعبد الحليم عبد الله والسحار التي تفيض عاطفيةً مُغرِقة أو إثارةً حسية أو تبسيطًا ساذجًا لأعقد القضايا؟ ليس نجيب محفوظ فقط عميد الرواية العربية في القرن العشرين — مع التسليم بأن جيلًا يصغُره سِنًّا كالطيب صالح ومحمد ديب وحليم بركات وإدوار الخراط وشفيق مقار وإميل حبيبي وعبد الرحمن منيف جاوزه فكرًا وتقنية في اتجاهات مختلفة، وإنما هو أيضًا واحد من أكبر كُتاب القرن العشرين في أي لغة. لقد وضعَنا — بمفرده تقريبًا — على الخريطة العالمية، بعد أن كان أدبنا أشبه بقطعة متحفيَّة لا يزورها إلا علماء الآثار ومحبُّو العجائب والغريب من المستشرقين.