مستقبل الرواية العربية
تثير كلمة عبد الفتاح رزق المنشورة في «روز اليوسف» بتاريخ ٤ / ٦ / ١٩٩٠، والتي تحمل عنوان «من يقرأ الروايات»، وكذلك تعقيب الدكتور حامد أبو أحمد في عدد ١٨ / ٦ / ١٩٩٠ أكثر من قضية تستحق النقاش، ومن بينها أولًا أن أناقش نقطة واحدة هي: هل تمكن أدباء الأجيال التي تلت نجيب محفوظ من تجاوزه؟
ففي صدد هذه النقطة لا يساورني شك (وأعتقد أن معلمنا الأكبر هو أول من يوافق على ذلك) في أننا قد تجاوزناه، بل وخلفناه وراءنا أشواطًا، وبنينا على الأساس الذي أقامه صرحًا روائيًّا شامخًا. ولكن ذلك يعني، في الوقت ذاته، إقرارًا بفضله العميم؛ فلولا مغامراته الفنية وانفتاحه على كافة المؤثرات الروائية العالمية لما تسنَّى لنا أن نبدع ما أبدعناه، أو ما تسنَّى ذلك لنا — على الأقل — بالسرعة التي حدث بها.
تأمل حصاد محفوظ منذ رواية «عبث الأقدار» (١٩٣٩) حتى رواية «قشتمر» (١٩٨٨)، في خلال نصف قرن اضطلع وحده بمهمة كتيبة كاملة من الروائيين؛ كتب الرواية التاريخية المصطبِغة بعناصر رومانسية واضحة إلى جانب الإسقاط السياسي، والرواية السيكولوجية (السراب)، والرواية الواقعية — بل التي تشفي على الطبيعية — التي هي أقيم سجل وثائقي لدينا. كما كتب — في «أولاد حارتنا» — الرواية الرمزية (الألجورية) التي تحوي أبعادًا ميتافيزيقية. وكتب «النوفيلا» المُطعمة بروح الشعر ونفحاته، واستوحى أساطير ألف ليلة ورحلات ابن بطوطة بعين عصرية، كما خلق أسطورته الخاصة في «ملحمة الحرافيش». وينسحب هذا كله على قصصه القصير منذ مجموعة «همس الجنون» (١٩٣٨) حتى مجموعة «الفجر الكاذب» (١٩٨٩)، فهي تختزل عمرًا كاملًا من الفكر والخبرة. وهنا أختلف مع الصديق محمد جبريل صاحب السيرة الذاتية المتوهجة «حكايات من جزيرة فاروس»، والذي لا يؤمن بمحفوظ كاتبًا للقصة القصيرة. فعندي أن كلاسياته في هذا الجنس الأدبي — من قبيل أقصوصة «زعبلاوي» — لا تقل أهميةً عن رواياته الطويلة. ولكن لهذا حديثًا آخر.
لكن هل يعني إعجابنا بمحفوظ أن نقف حيث وقف، أو أن تكون منطلقاتنا هي عين منطلقاته؟ لو صح ذلك — وهو، لحسن الحظ، غير صحيح — لكان شهادة علينا لا لنا، تدمغنا بالعقم والجمود، ولكان إدانة لمحفوظ ذاته؛ لأن الروائي العظيم — في بعض جوانبه — أشبه بلغم يفجر الأنقاض، ويصل إلى ينابيع المياه الجوفية الغزيرة، حيث نسغ الحياة؛ وبذلك يتيح لمن جاءوا بعده أن يدفعوا حدود الخبرة إلى آمادٍ أبعد وآفاق لا تُحَد.
وها هي ذي قائمة — مجرد قائمة بلا تعليق ولا ترتيب — ببعض روايات مصرية أزعم أنها تجاوزت محفوظًا في جانب أو أكثر من هذه الجوانب؛ الفكر الفلسفي، التقنية الحرفية، العمق السيكولوجي، الثراء الشعري، التحليل الاجتماعي، الرؤية السياسية، إعادة خلق الأسطورة لا مجرد استيحائها، اكتناه حياة القرية أو المدينة، استخدام الموروث التاريخي أو المأثورات الشعبية: «رامة والتنين» لإدوار الخراط، «بيت الياسمين» لإبراهيم عبد المجيد، «الكلام» لشفيق مقار، «قاضي البهار ينزل البحر» لمحمد جبريل، «ليل آخر» لنعيم عطية، «الوليمة» لعبد الفتاح رزق، «الزيني بركات» لجمال الغيطاني، «من تاريخ حياة مؤخرة» ليوسف الشاروني، «البلد» لعباس أحمد، «الباب» لنبيل جورجي، «الملح» لضياء الشرقاوي، «ثلاثية سبيل الشخص» لعبده جبير، «عطش الصبار» ليوسف أبو رية، «الحب في ظلال النكسة» لوديع كيرلس، «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان، «الأفيال» لفتحي غانم، «القرين» لسليمان فياض، «إعادة حكاية حاسب كريم الدين وملكة الحيات» لبدر الديب، «فساد الأمكنة» لصبري موسى، «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم، «من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ» لمحمد مستجاب، «الحرب في بر مصر» ليوسف القعيد، «قالت ضحى» لبهاء طاهر، «الموت والتفاهة» لشوقي عبد الحكيم، «الكرباج» لسعد مكاوي، «الطوق والأسورة» ليحيى الطاهر عبد الله، «أيام الإنسان السبعة» لعبد الحكيم قاسم، «الموهوم» ليونس الخضراوي (معذرةً — يا قارئي — إن لم تكن قد سمعت بهذا الاسم أو بغيره، فليس ذلك ذنبي).
هذا في الأدب المصري وحده. أما في الأدب العربي خارج مصر فهناك قائمة لا تقل عن ذلك طولًا: «ستة أيام» لحليم بركات، «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، «الخماسين» لغالب هلسا، «السفينة» لجبرا إبراهيم جبرا، «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» لإميل حبيبي، «رجال في الشمس» لغسان كنفاني؛ «بنات نعش» لنبيل سليمان، «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف، «مجنون الحكم» لسالم حميش … إلخ.
كان من عادة الأستاذ أمين الخولي — رائد جماعة «الأمناء» — أن يقول: الطالب = الأستاذ + الزمن. وقياسًا على ذلك أقول إن كل رواية تقريبًا من هذه التي ذكرتها = محفوظ + الزمن. الزمن الذي لا يكفُّ عن الجريان، والذي يجلب معه دائمًا معطيات جديدة، ويزيدنا بصرًا بأنفسنا وبالآخرين وبالقوى التي تحدِّد مصائرنا: ميتافيزيقية كانت أو تاريخية. والزمن أيضًا يتيح لكاتب القصة الشاب اليوم أن يقرأ ما لم يقرأه محفوظ؛ لأنه لم يكن قد ظهر — على أيامه — بعد. إن الذي تشكَّل وعيُه مع مؤثرات دارون وبرجسون وفرويد وماركس يختلف — ولا بد أن يختلف — عمن تشكَّل وعيُه بمؤثرات قانون اللاحتمية عند هايزنبرج، أو التعارضات الثنائية عند ليفي ستراوس، أو النحو التوليدي عند تشومسكي.
قال الشاعر محمود درويش يومًا لنقاده المسرفين في مدحه — وزملائه — تعاطفًا مع قضيته: ارحمونا من هذا الحب القاسي. وأنا أقول لنقادنا: ارحمونا من هذا الرجوع إلى نجيب محفوظ في كل صغيرة وكبيرة، وقياس الأمور بمقياسه. إنه صرحٌ شامخ ليس بحاجة إلى حماسكم. إنه — في التاريخ الأدبي — مثل دكنز ودستويفسكي وبلزاك، وإن يكن أقل درجة أو درجات. لا تجعلوا من قوته الحية — أعظم ما فيه — أثرًا متحفيًّا، أو طوطمًا ترفعون إليه القرابين والصلوات. إنَّ درس محفوظ الأول هو: تعلموا أن تجاوزوا ذواتكم كما جاوزت ذاتي. وأحمد الله أني عشت حتى رأيت كُتاب ما بعد محفوظ يتجاوزونه، وأرجو أن يعيش ابني حتى يرى جيلًا جديدًا من كُتاب الرواية والقصة القصيرة يتجاوز هؤلاء الذين ذكرتهم.