ترجمات نجيب محفوظ
بقلم: روجر ألن
إنَّ منح جائزة نوبل لأديب غير غربي يعني ضمنًا، وفي كل الأحوال،
أن مسيرة ترجمة أعمال ذلك المؤلف إلى اللغات الأوروبية قد وصلت إلى
حد أدنى معيَّن [من الجودة]، ويصدُق ذلك بالتأكيد على حالة نجيب
محفوظ في عام ١٩٨٨؛ العام الذي فاز فيه بجائزة نوبل، والعام الذي
تلا ظهور الترجمة الفرنسية التي قام بها فيليب فيجريه للجزء الثاني من الثلاثية (وكان الجزء الأول قد ظهر في
عام ١٩٨٥). وأما عن الترجمات الإنجليزية فيمكننا تقسيم أعمال
محفوظ، بصفة أساسية، إلى فترتين؛ الأولى تسبق حصوله على جائزة
نوبل، والثانية بعدها. ففي عام ١٩٧٢ وضعت الجامعة الأمريكية
بالقاهرة خطة لنشر عدد من روايات محفوظ بالإنجليزية لا يزيد على
ثماني روايات، وأما السرعة التي آتت بها هذه المبادرة أُكُلها
فنستطيع قياسها حين نذكر أن المجلد الأول في السلسلة ميرامار ظهر في عام ١٩٧٨، والثاني
أولاد حارتنا (وهي الرواية
التي أضيفت إلى القائمة الأصلية) في عام ١٩٨١، والثالث اللص والكلاب في عام ١٩٨٤. وفي وقتٍ ما
قبل إعلان فوز محفوظ بجائزة نوبل كان قد كلَّف دار نشر الجامعة
الأمريكية في القاهرة بمسئولية حقوق ترجمة أعماله إلى كل لغات
العالم، وبعد إعلان الفوز وقَّع عقدًا يختص دار نشر «دبل داي»
(Doubleday) في نيويورك بنشر
الترجمات وحدها.
وأما دور الريادة في ترجمات محفوظ في الفترة السابقة لجائزة نوبل
فينتمي إلى «تريفور لو جاسيك»،
الذي نشر زقاق المدق بالإنجليزية
في بيروت عام ١٩٦٦. وإذا كانت الصورة الأولى لهذه الترجمة قد حذفت
بعض المظاهر العربية الأصلية للنص الأصلي، وخصوصًا «السلامات»
والتحيات والتعليقات ذات الصبغة الإسلامية، فإن الطبعة الثانية
التي ظهرت في عام ١٩٧٥ أعادت إلى النص بعضًا منها. وترجمة «لو
جاسيك» تنجح في إبراز خصائص الفن الروائي عند نجيب محفوظ في ذلك
الوقت، مثل العناية الفائقة في وصف المكان والشخصيات، إلى جانب
التفاعل بين الحوار وبين المونولوج الداخلي، وهو التفاعل الذي كان
لا يزال يبحث عن التوازن المناسب بينهما. وعلى الرغم من مرور ما
يزيد على ثلاثين عامًا على ظهور هذه الترجمة لأول مرة، فما تزال من
أقرب الترجمات منالًا للقارئ الأجنبي، ومن أكثر الأعمال المترجَمة
إلى الإنجليزية تمثيلًا لنجيب محفوظ.
وكان ثاني عمل لنجيب محفوظ يظهر بالإنجليزية هو مختارات من القصص
القصيرة (أبادير وألن، ١٩٧٣) أُخذت من المجموعات التي نشرها
بالعربية حتى عام ١٩٧١، وكان عنوانها الإنجليزي
God’s World (أي: دنيا الله)
سببًا في بعض البلبلة في العالم العربي، خصوصًا عندما ورد ذِكرها
عند ترشيح لجنة نوبل محفوظًا للجائزة عام ١٩٨٨؛ إذ قالت اللجنة إن
المجموعة تضم القصة القصيرة «دنيا الله» المأخوذة من مجموعة محفوظ
دنيا الله (١٩٦٣)، ولكن
المجموعة على نحو ما ذكرنا هنا تضم قصصًا مختارة من مجموعات أخرى.
وكان المترجِمان هما عاكف أبادير، وهو مصري مقيم في نيويورك،
وانتهى الآن من إعداد رسالته للدكتوراه عن نجيب محفوظ، وكاتب هذه
السطور. وكان القصد من المجموعة إيضاح تطور فن الصنعة في قصص محفوظ
القصيرة، وتقديم أمثلة للموضوعات التي ما فتئ يتناولها على امتداد
عمله بالكتابة، ومن بينها غربة الإنسان الحديث، والبحث عن السلوى،
ودور الدين في المجتمع، وطبيعة الحكم العادل والطغيان. وقد حاولت
الترجمات، التي تخطئ بالتزام الحَرفية، تصوير التغييرات التي نشأت
عن تطوير محفوظ لأسلوبه القصصي، وهو الذي بلغ ذروته في اللغة
الإحالية التي تقترب من الرمزية في بعض القصص الذي تمثِّل رد فِعله
لحرب يونيو ١٩٦٧ وما ترتب عليها، مثل «تحت المظلة» و«النوم». وكان
انشغال كاتب هذه السطور بأعمال محفوظ دافعًا له إلى ترجمة أجزاء من
روايته المتعددة الأقسام المرايا
(١٩٧٢) أثناء نشرها مسلسَلةً في إحدى المجلات (وهو الأسلوب الذي
يتبعه محفوظ في نشر أي عمل قصصي للمرة الأولى)؛ إذ رأى أن ذلك
العمل يمثِّل تحولًا في فن الصنعة عند محفوظ وبؤرة تركيزه — في
منهج يكاد يقترب من أسلوب «انظر إلى الخلف في غضب». ويتكون هذا
العمل المسلسل من ٥٤ قطعة تمثِّل كاتبًا في مواجهة مع مشكلات أُمته
وتاريخه هو نفسه، إلى جانب شيء آخر، يبدو أنه تصفية بعض الحسابات
في الوقت نفسه. وظهرت الترجمة الإنجليزية (ألن ١٩٧٧، ١٩٩٩) بعنوان
المرايا، وحاولت تجسيد
الأسلوب الجديد الذي يتميز بالقصد في التعبير، وهو الذي شحذه محفوظ
فجعله أداةً حادَّة قاطعة قوية في السنوات التالية، دون أن يفقد
قدرته على الفكاهة الساخرة المريرة واللذيذة، التي اشتهر بها
محفوظ، وإن كان قد خلا الآن من التصوير التفصيلي للمكان، وهو من
أكثر ما اتسمت به أعماله الأولى.
وكما ذكرنا آنفًا شهِد عام ١٩٧٨ ظهور الترجمة الإنجليزية لرواية
ميرامار (فاطمة موسى محمود)،
وكان امتياز هذه الترجمة لهذا العمل الذي تتعدد فيه الرواة، ويتجلى
فيه إحساس محفوظ بخيبة الأمل إزاء مسار الثورة المصرية، نتيجةً
لعمل عدد من المحرِّرين. ولا ينبغي أن نستهين بأن الترجمة نجحت في
تصوير الاختلافات في لغة الخطاب البادية في روايات وتأملات شتى
الرواة، إلى جانب اللمحات الدقيقة في اللغة الإحالية التي يزخر بها
الحوار وتزخر بها المونولوجات الداخلية. وإزاء امتياز هذه الترجمة،
يؤسفنا أن نذكُر أن المجلدات الباقية من هذه السلسلة التي تُصدِرها
دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة لم تنَل في تحريرها نفس القدر
من الاهتمام بالتفاصيل وظلال المعاني.
ونُشرت في عام ١٩٨١ ترجمة أولاد
حارتنا (بعنوان أولاد
الجبلاوي)، وهي ترجمة لأكثر أعمال محفوظ إثارةً
للخلاف — وهي قصة رمزية عن التاريخ الديني للإنسان ونزوعه نحو
العنف. والواقع أننا لا بد أن نشير إلى أن الترجمة نفسها، التي قام
بها فيليب ستيوارت، كانت قد اكتملت قبل خمسة عشر عامًا. ولما كانت
لا توجد ترجمات إنجليزية لأجزاء الثلاثية في عام نوبل ١٩٨٨، كان
هذا العمل — الذي استشهدت به لجنة نوبل أيضًا — هو الذي أثار أكبر
اهتمام بين القراء الغربيين المتطلعين لمعرفة كاتب جديد مجهول. وقد
وجد هؤلاء القراء أنهم يواجهون قصة رمزية تنقسم إلى خمسة أقسام،
زاخرة بالإحالات الغامضة ومغلَّفة في صورة مجموعة من الحكايات التي
يحكيها الرواة من الزمن الغابر. ولم يكن عنوان الترجمة الإنجليزية
هو عنوان الأصل العربي (أولاد حارتنا)، بل كان يتضمن نقلة كبيرة من
التركيز على «الحارة» باعتبارها مكانًا رمزيًّا إلى التركيز على
شخص الجبلاوي، الذي يكتسي مَسحةً إلهية، ويعيش في منزل ضخم خارج
حدود «الحارة». وربما كان من دلائل ازدياد الوعي بأعمال محفوظ في
الغرب أن صدرت ترجمة لهذا العمل بالعنوان الأصلي، وهو «أولاد حارتنا» قام بها بيتر ثيرو
Theroux عام ١٩٩٦.
وفي أعقاب جائزة نوبل عام ١٩٨٨ تغيَّر الموقف إزاء الترجمات
الإنجليزية لمحفوظ تغيرًا كاملًا، فأصبحت جميع جوانب إخراج الترجمة
تخضع لمزيد من التنظيم وقدر أكبر من التدبير — من اختيار الأعمال
للترجمة إلى تسويق النصوص المترجمة. فبعد التأخير الذي طال فأمعن
في الطول، ظهرت الترجمة الإنجليزية للثلاثية أخيرًا (١٩٩٠–١٩٩٢)،
وهي التي كانت قد أُدرجت أولًا في المشروع الآنف الذكر الذي وُضع
عام ١٩٧٢، وكان قد أعدَّ في البداية الجزأين الأولين السيدةُ
أوليف كيني، والجزءَ الثالثَ
الدكتورةُ أنجيل بطرس سمعان، وقام وليام هتشينز بمراجعة الأجزاء
الثلاثة مراجعةً دقيقة. وقد كان من شأن جودة هذه الأعمال — يُسر
قراءة الترجمة، وإخراج الكتب نفسها، والتسويق الباهر ﻟ «المنتَج» —
أن وضعت معايير جديدة لانتشار الأدب العربي في العالم الغربي.
وربما كان من المحتوم أيضًا أنها أحيت آمالًا قد تكون زائفة إلى
حدٍّ ما لدى الروائيين العرب الآخرين وبعض الغربيين المتخصصين في
كتاباتهم في اقتراب موعد تغيير المكانة المتواضعة التي ظلَّت
ترجمات الأدب العربي تشغلها في الغرب حتى الآن. فإذا كانت هذه
الترجمات للثلاثية قد نجحت فعلًا في تعريف القراء الغربيين بالحياة
في القاهرة في فترة ما بين الحربَين، من خلال نصوص مصقولة وبالغة
الإمتاع لقارئ الإنجليزية، فإن شتى القرارات التي اتُّخذت في أثناء
عمليتَي الترجمة والتحرير — من اختيار العناوين وفنون تصميم
الأغلفة إلى تقاليد علامات الترقيم
(punctuation) المستعمَلة في
الحوار — توحي باستمرار آفة معيَّنة فيما يتعلق بمواجهة قراء
الإنجليزية من الغربيين مع مثل هذه الثقافة المختلفة التي أُسيء
فهمها كثيرًا؛ فكأنما كانت الصناعة الغربية لنشر الكتب ترمي في
طرحها للترجمات الإنجليزية للقصص العربية في أسواق الغرب إلى تقليل
الاختلافات بين الثقافات بدلًا من تصويرها، وهي الاختلافات التي
تُعتبر جزءًا جوهريًّا من الثقافة التي تجري «ترجمتها». وانطلاقًا
من وجهة النظر المذكورة لا بد أن نذكُر أن الترجمة الفرنسية
للثلاثية أفضل لدى المكلَّفين بإعداد قائمة من الأعمال المطلوب
ترجمتها، وكان ذلك في ذاته مفهومًا جديدًا في إطار ذلك المجال
الضيق. وتدفَّقت منذ عام ١٩٩٢ ترجمات أعمال أخرى إلى الإنجليزية،
وكان أبرزها، بوضوح، ثرثرة فوق
النيل، من ترجمة فرانسيس ليارديت؛ فالترجمة
الإنجليزية (١٩٩٣) تزهو بجمال إظهار ظلال المعاني في التصوير الذي
أبدعه محفوظ عام ١٩٦٦ للغربة الكاملة التي يعاني منها مجتمع
المثقفين في بلده، وهو العمل الذي كاد أن يلقي به في السجن. وتبرُز
في الترجمة الممتازة، التي أبدعها قلم مترجِمة من أكثر أقلام جيل
الشباب موهبةً في الترجمة، جميع خصائص النص الأصلي، مثل التضييق
الشديد لمكان الحدث، والقصد البالغ في ألفاظ الحوار، والإحالات
اللمَّاحة الدقيقة في ذكريات «أنيس»، ومرارة السخرية الشديدة التي
تسود جو الرواية.