نجيب محفوظ يخلق تاريخًا أسطوريًّا
بقلم: ريتشارد داير
عندما فاز الروائي المصري نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام ١٩٨٨، كان
له جمهور يتكون من ملايين القراء، لا يكاد يكون بينهم أحد في
أمريكا، أما منذ أن حصل على الجائزة، فقد أصدرت دار نشر دبل داي
(Doubleday) الأمريكية ١٦
عملًا من أعمال محفوظ مترجَمة إلى الإنجليزية، وهو عدد لا يمثِّل
إلا جانبًا من إنتاجه؛ إذ إنه كتب ما يقرب من ٥٠ كتابًا. وقد
اكتسبت «ثلاثية» القاهرة — وهي الروايات المبكرة التي رسَّخت صيت
محفوظ — قراءً مخلصين هنا، وبيع منها أكثر من ربع مليون نسخة
(٢٥٠٠٠٠).
كانت الثلاثية تصويرًا دقيقًا لمكان محدَّد وزمن محدَّد، وقد
كُتبت استيحاءً لنماذج الروايات الكبرى بالإنجليزية والفرنسية
والروسية في القرن التاسع عشر، ولكن هذا لا يعني إطلاقًا أنها
تستقي شيئًا من تلك النماذج، بل إنها تتميز بالأصالة في نسجها
للأسطورة، أو للُّغز أو التاريخ الموغِل في القِدم الذي يغذو رواية
الكاتب ووصفه للأحداث اليومية.
وتُعتبر الحرافيش، التي تصدُر
مترجَمةً اليوم لأول مرة، استكمالًا لثلاثية القاهرة، أو قل إنها
«ثلاثية القاهرة» وقد قُلبت رأسًا على عقب. وهي رواية حول عدة
أجيال من أسرة تعيش في حارة في مدينة غير محدَّدة، والمفترَض أنها
القاهرة، ولكننا في هذه الرواية لا نصادف شيئًا من آليات الواقعية
الأدبية؛ إذ يمتد زمن القصة نحوًا من ٨٠٠ سنة، ولا يبدو أن الزمن
يمُر، والأحداث يعكس بعضها بعضًا عبر الأجيال. وأما الأسلوب الأدبي
فهو أسلوب الأسطورة أو الخرافة أو القصة الرمزية أو الأمثولة، وإن
كان التأثير تأثير أعمق صور الواقعية الآنيَّة، بسبب العمق البالغ
الذي يتميز به فهم محفوظ لنفس الإنسان وتاريخ البشرية […]
وتصوِّر الحرافيش، في عشر
حكايات ملحمية، تاريخ أسرة «الناجي» على امتداد عشرة أجيال — وقد
نواجه الإغراء باستعمال صفة تدهور الأجيال؛ إذ إن الأسرة تبتعد
تدريجيًّا عن المُثل العليا التي توارثتها، وتكسب الثروات
وتُهدرها، وتحظى بالسلطة وتنحرف بها وتفقدها، وفي النهاية يخرج
عاشور الناجي الذي يستعيد ثروة الأسرة بالعودة إلى مُثلها العليا
الأصلية.
ولكن تعبير «تدهور الأجيال» قد لا يكون موفَّقًا لأن يوحي ضمنًا
بأشكال «الحكم» على الشخصيات، بل وإدانتها، وإذا كان هناك العديد
من صور التعصب والظلم والقسوة التي يدينها محفوظ بأقصى درجات
الغضب، فإن الإحساس السائد في أعماله هو التعاطف مع طبيعة البشر،
ومؤازرة آمالهم وطموحاتهم واستسلامهم الحزين لما يحدُث عادةً حين
تصطدم هذه الآمال بصخرة الواقع وتتبخر تلك الطموحات […]
والأحداث في الحرافيش متنوعة
ودرامية، وكثيرًا ما تتسم بالعنف؛ فهناك القتل العمد، والانتحار،
والشذوذ الجنسي، والعنف المنزلي، وكل شكل من أشكال التضافر
والتصارع على مستوى الأسرة، وكل ذلك بطبيعة الحال يمثِّل نوعًا من
الاستعارة للحكم ولمسار التاريخ لا لتقدم التاريخ […]
كان محفوظ في السادسة والستين عندما نشر «الحرافيش» عام ١٩٧٧،
ولقد تمكَّن بفضل ما لم يدرجه في الرواية أن يضيف الكثير إليها.
إنها روايةٌ عظيمة كتبَها رجلٌ حكيم.
من صحيفة ذا جلوب
(بوسطن)
(The Globe,
Boston)
بتاريخ ٨ أبريل ١٩٩٤