محفوظ مترجَمًا إلى الإنجليزية
ثلاثة كتب صدرت في السنوات الأخيرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، محورها جميعًا نجيب محفوظ مبدعًا ومفكرًا، روائيًّا وكاتبًا للقصة القصيرة وكاتبًا مسرحيًّا. وليست هذه الكتب من أدب المناسبات التي تنطوي قيمتها بانطواء المناسبة، وإنما هي أعمال فكرية جادة، ساهمت فيها نخبة من خيرة نقادنا وأدبائنا ومترجمينا؛ فلا خير في حصول محفوظ على جائزة نوبل إن لم يكن ذلك حافزًا إلى مزيد من الفكر والإبداع والعمل؛ هذا هو درس الأستاذ الذي عكف على تجويد فنه أكثر من خمسين عامًا، لا ينتظر جزاءً ولا شكورًا.
فالكتاب الأول في قائمتنا ترجمة لرواية محفوظ «يوم قُتل الزعيم» إلى الإنجليزية، نقلتها وقدمت لها الدكتورة ملك هاشم، مدرِّس (الآن أستاذ) الأدب الإنجليزي بآداب القاهرة. والرواية — كما يعرف قراء كاتبنا — تتخذ زمنًا لها يوم مصرع الرئيس السادات في ٦ أكتوبر ١٩٨١، وتتوسل من خلال شخصياتها الرئيسية — محتشمي زايد، وعلوان فواز، وراندا سليمان — إلى رسم صورة لعقد السبعينيات بكل منجزاته وعيوبه، وما شهده المجتمع المصري من تحولات اقترنت بنصر أكتوبر، ومعاهدة السلام، والانفتاح الاقتصادي. وتتمكن الدكتورة ملك هاشم — وهي من أقدر مترجمينا إلى الإنجليزية وأكثرهم جدية — من نقل المذاق المحفوظي إلى قارئ تلك اللغة؛ لكي يعايش كاتبنا فكرًا ووجدانًا.
أما الكتاب الثاني فهو مسرحيات نجيب محفوظ ذات الفصل الواحد. وقد نقلت الدكتورة نهاد صليحة — أستاذ الدراما المساعد (والأستاذ الآن) بأكاديمية الفنون بالقاهرة — أربعًا منها في هذا الجزء، على أن تعقبها بقية المسرحيات: «التركة»، «النجاة»، «الجبل»، «يُميت ويُحيي»، ومن خلال مقدمة ضافية توضِّح المترجِمة كيف أن محفوظ — في هذه المسرحيات — يُمسرح لا ألوان حيرته وهمومه الشخصية فحسب، وإنما أيضًا وعي شعب بأكمله، والجيَشان الوجداني والفكري للحظة من لحظات الأزمة القومية. إن مسرحياته — أو حوارياته إن شئت — تصوير لمشاعر الإحباط، والحيرة الدائخة، وحس الصدمة والانهيار، والتوق إلى فردوس مفقود، وغير ذلك من المشاعر التي أعقبت موت الرئيس عبد الناصر. إنَّ حس العبث — الذي صوَّره ألبير كامو في رواياته ومسرحياته ورسائله الفلسفية — يقع من رؤيا محفوظ في الصميم، وإن توارى — أحيانًا — وراء ستار شفيف من رشاقة الحوار، وحس الفكاهة، وغرابة الشخوص والمواقف.
أما الكتاب الثالث — وليس، بحال من الأحوال، أهونَ هذه الكتب شأنًا — فهو «نجيب محفوظ: منظورات مصرية»، وهو مجموعة مقالات نقدية بالإنجليزية حرَّرها الدكتور محمد عناني، أستاذ الأدب الإنجليزي بآداب القاهرة. ويتصدر هذه المقالات تصديرٌ بليغ — على إيجازه — للدكتور سمير سرحان، رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب، والناقد والكاتب المسرحي المعروف، ثم نجد أقسامًا ثلاثة تلمُّ بأطراف من فكر محفوظ وفنه.
ففي القسم الأول «مقالات عامة عن محفوظ» نجد مقابلةً أدبية طويلة أجراها معه فؤاد دوارة، ومقالات عن محفوظ بأقلام يحيى حقي، وسامي خشبة، وجمال الغيطاني، وعلي الراعي، وإبراهيم عامر، وبدر الدين أبو غازي، ونيفين غراب، ونهاد صليحة، فضلًا عن مقالة بالغة الأهمية لمحرِّر الكتاب — محمد عناني — عن البلاغة الجديدة أو اللغة القصصية الجديدة التي أبدعها نجيب محفوظ. وتكاد هذه المقالة — التي تربو على الخمسين صفحة إلا قليلًا — أن تومئ إلى مدخل لغوي جديد لقراءة محفوظ، وهي — ولا ريب — درة هذا الكتاب.
ثم نجد في القسم الثاني «دراسات الأعمال مفردة»، حيث يكتب طه حسين، ولطيفة الزيات، وصلاح عبد الصبور، وغالي شكري، ومحمود أمين العالم، وأنجيل بطرس سمعان، وفاطمة موسى محمود، وملك هاشم، وسلوى كامل، ومنى حسين مؤنس، عن عديد من أعمال محفوظ؛ زقاق المدق، اللص والكلاب، دنيا الله، صباح الورد، الطريق، ميرامار، يوم قُتل الزعيم، قشتمر.
وينتهي الكتاب (في قسمه الثالث) بببليوجرافيا عن أعمال محفوظ المترجَمة إلى الإنجليزية، وما كُتِب عنه بتلك اللغة، أعدَّها ماهر شفيق فريد.
إن أهمية هذا الكتاب الأخير تتمثل في أمرين؛ فلأول مرة — بعدما نقلناه من روايات وقصص قصيرة ومسرحيات وقصائد عربية إلى الإنجليزية — نجد محاولة لنقل الفكر النقدي المعاصر من العربية إلى الإنجليزية؛ وبذلك يحتلُّ نقدنا مكانه على الخريطة العالمية، ويعرف القارئ الأجنبي أسماء طه حسين وحقي وغيرهما نقادًا بعد أن عرفهم قصَّاصين. وكتيبة المترجِمين التي اشتركت في نقل هذه الأعمال — وجلُّها من الأكاديميين في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة — قد بذلت من الجهد ما يستحق كل تقدير في نقل هذه النصوص العربية إلى لغة أجنبية، وتشمل هذه الكتيبة: هدى الصدة، وإيفين هاشم، وآمال مظهر، ولبنى عبد التواب يوسف، وسارة خلاف، ونادية الخولي، ومنى الحلواني، وروحية عجمية، وغيرهن.
والمصدر الثاني لأهمية الكتاب هو أنه يتيح لقارئ الإنجليزية في مشارق الأرض ومغاربها أن يرى محفوظ من منظور عربي، وبأقلام نقاد عرب لا مستشرقين، يعرفون جيدًا الخلفية الفكرية والحياتية التي ترفد أعمال الكاتب. ولا ريب في أن هذا الكتاب سيغدو من المراجع المعتمدة التي لا يستغني عنها دارس أو ناقد جادٌّ لأعمال محفوظ، بل لا يستغني عنها قارئه الأجنبي الذي يريد أن يستقطر من أعمال كاتبنا آخر قطرة من المتعة والفائدة، ويطمح إلى أن يرى صورته في مرايا بني جلدته.
ويبقى أن ينشط القائمون على تسويق الكتاب إلى طرح هذه الأعمال في السوق العالمية — فهذا أوانها الذي لن يتكرر — ولا أعتقد أن جائزة نوبل ستطرق بابنا مرةً أخرى قريبًا. نريد أن تقترن في ذهن القارئ الأجنبي أعمال محفوظ بأعمال نقاده، وتكتمل صورة أدبه بجوانبه المختلفة؛ كي يعرف الخلق كافةً أن على ضفاف النيل — ومن خلال عناق الحضارة الفرعونية والحضارة الإسلامية — فكرًا وإبداعًا يجاوزان الاهتمامات المحلية العابرة إلى أعمق أغوار الفكر، وأخفى مطاوي الضمير، وأبعد مطارح الخيال.
إلى جانب هذه الكتب الثلاثة الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، أذكر كتابًا رابعًا هو ترجمة وليم مينارد هتشنز، ولورن م. كني، وأوليف ك. كني، لرواية نجيب محفوظ «قصر الشوق» (الناشر: مطبعة الجامعة الأمريكية بالقاهرة ١٩٩١). و«قصر الشوق» هي واسطة العِقد في الثلاثية، أو الدرة التي تقع في منتصف القلادة محفوفةً ﺑ «بين القصرين» عن يمين و«السكرية» عن شمال. ولا أعرف تقديمًا لأديبنا العظيم إلى قارئ الإنجليزية يماثل في جلاله وشموخه هذا التقديم، خصوصًا بعد صدور الجزء الأخير من الثلاثية من ترجمة د. أنجيل بطرس سمعان ووليم هتشنز؛ فنحن هنا نرى ارتخاء القيود الصارمة التي كان السيد أحمد عبد الجواد يفرضها على أهل بيته، ونشهد دبيب الضعف إلى البدن القوي الذي لم تكن الدنيا تسعه أكلًا وشربًا وضحكًا ومنادمة ومعاقرة لبنت الدن وبنت الهوى على السواء، كما نشهد حب كمال عبد الجواد — وقد شبَّ عن الطوق — لعايدة شداد، ووقوف الفوارق الاجتماعية في وجه هذا الحب، وما ألمَّ به من زلازل عقلية ونفسية بعد أن تعرَّف على دارون وماركس وبرجسون وفرويد وغيرهم. إنها قصة الصراع بين الواقع والمثال، ودراما التحول التي مرَّت بها مصر في فترة هامة من تاريخها الحديث.