أفراح القبة
من الممتِع دائمًا أن نرى كيف يبدو أدبنا في عيون الأجانب. وقد نشرت مجلة «القاهرة اليوم» التي تصدر في القاهرة باللغة الإنجليزية شهريًّا منذ عام ١٩٧٩، ويرأس تحريرَها مرسي سعد الدين، مقالة في عدد مايو ١٩٨٤ عن رواية نجيب محفوظ «أفراح القبة»، وذلك بمناسبة صدور ترجمة إنجليزية لهذه الرواية بقلم أوليف أ. كني، ومراجعة مرسي سعد الدين وجون رودنبك. وقد صدرت الترجمة عن مطبعة الجامعة الأمريكية في القاهرة في ١٩٨٤، وغيَّر المترجِم عنوان الرواية من «أفراح القبة» إلى «أغنية الزفاف».
تقول نانسي وذرسبون كاتبة المقال: لمدة نصف قرن تقريبًا ظل نجيب محفوظ — روائي مصر الأول — يكتب عن شخصيات مصرية تعيش في قلب القاهرة. وفي هذه الرواية نجد بيتًا قديمًا تعيش فيه مجموعة من المشتغلين بشئون المسرح، يُرهِقها الكفاح من أجل بلوغ النجاح تحت وطأة ضغوط الحياة في المدينة الكبيرة. وإذ يحاولون أن يتغلبوا على روتين الحياة المألوف للعاملين في المدن ورجال الأعمال، يزدادون تكالبًا على جمع المال. ويتحول البيت إلى وكر للمقامرة والدعارة، ويطبق عليه البوليس في النهاية، ويرسل بوالدَي الكاتب المسرحي للفرقة — ويُدعى عباس كرم يونس — إلى السجن.
لقد كتب عباس مسرحيةً عنوانها «أفراح القبة»، ومن هنا كان عنوان الرواية في أصلها العربي. وتعني هذه العبارة «احتفالات الزفاف قرب ضريح أحد الأولياء». ولكن كلمة القبة تشير أيضًا إلى قصر القبة الذي كانت تسكنه العائلة الخديوية، وكانت الأغاني التي تُنشَد في حفلات زفاف مثل هذه الأسر الأرستقراطية تُسمى «أفراح القبة».
وكما هو الشأن في رواية نجيب محفوظ «ميرامار»، فإن هذه الرواية تقدم إلينا من خلال أربع وجهات للنظر أو أربع شخصيات؛ طارق رمضان الممثِّل، ثم كرم يونس الملقِّن والد عباس، ثم حليمة الكبش والدة عباس، وأخيرًا عباس ذاته الذي يوزِّع الأدوار في مسرحيته بما يردِّد صدى ما يحدُث لأسرته في الحياة الواقعية، ويولد جوًّا من الإثارة والترقب باختفائه تاركًا ورقة تذكر أنه على وشك الانتحار — وهذه الأحداث تُذكَر على ألسنة الشخصيات الثلاث الأخرى قبل أن يُلقي حديث عباس الأخير الضوء على كل ما سبق.
ونحن نجد أن طارق رمضان الواقع في شراك موقفه الخاص، والذي يؤلف هو الآخر مسرحية خاصة به، يروي القصة من وجهة نظره كعاشقٍ غيور، حيث إن عباس قد اقترن بحبيبته السابقة، تحية الممثلة. وإذ تُتلى مسرحيته على أسماع الممثلين، يؤكد طارق أن عباسًا مجرم وليس كاتبًا مسرحيًّا. وتلقى تحية مصرعها قتلًا في المسرحية المؤلفة، فيعتبر طارق هذا بمثابة اعتراف بالذنب من جانب عباس المؤلف، رغم أن تحية — في الحياة الواقعية — قد تُوفيت نتيجةَ مرض. ويرغب في الانتقام من عباس «القاتل»، ولكن والدة عباس تذكره بأن هذه ليست سوى تمثيلية، وتهدِّد العداوات المتبادلة حياة الشخصيات داخل المسرحية وخارجها، فيختلطون في نسيج متداخل من الاشمئزاز والكراهية والخيانة المتبادلة.
ويروي طارق — بمرارة وتحقير للذات — ملابسات حياته الخاصة كما تتجلى في المسرح، العالم الوحيد الذي يعرفه. إنه يصبح ممثلًا من الدرجة الثانية يرغب في السيطرة على المسرحية، وفي الظَّفر بحب تحية التي يجب — في رأيه — أن تعتذر له عن خيانتها، وتموت بين ذراعيه. ولكن المسرحية تلقى نجاحًا كبيرًا، وتبرز خير ما في قدرات طارق المتواضعة كممثل.
وعندما يروي كرم يونس الجزء الذي يخصه من القصة، ينمُّ على احتقار لابنه ولزوجته حليمة على السواء. لقد دفع به مرور الزمن إلى كراهية هؤلاء الذين يعيش معهم، وهو يقول في أحد المواضع إنهم جميعًا محكوم عليهم بأن يتبادلوا الغضب والاستهجان، وإنهم يعيشون في زنزانة واحدة.
ويزوِّد «طارق» «كرم» بالأفيون لكي يعينه على مواجهة توتُّرات الحياة في المدينة، بينما تقول حليمة: لو شاء الله لكان حظي أحسن، ولكنه ألقاني بين ذراعَي مُدمِن مخدِّرات.
وإذ تلتقط حليمة خيوط القصة، تنعى حظها، وتحاول الوقوف بجوار ابنها ضد زوجها. أما عباس فإن الفن — في نظره — هو وسيلة البقاء الوحيدة في كون مُتخَم بالمادية والانحطاط الخلقي. ولكنه، إذ يوشك على الانتحار، لا يعدم أن يرى بارقةَ أمل.
وعلى حين تميل غالبية الشخصيات إلى إلقاء اللوم بعضها على بعض، يدرك عباس أن الأعمال والأحداث — في الحياة كما في الدراما — تنبع من داخل الشخصيات. ومن طريق قلمه الناجح يتمكن من السيطرة على الشخصيات التي تهدِّده والتي تحيط به.
لقد أخرج نجيب محفوظ هذه الرواية عام ١٩٨١ وهو في سن السبعين. ورغم نغمتها المكتئبة على نحو عميق، فإنها تتغنى بأفراح الفن وقدرته على انتشال الإنسان من وهدة القنوط.