الفصل الثالث عشر
لبث السير كنث بضع دقائق وحدَه في الظلام، وكان في ذلك عطلة له، وبات لزامًا عليه أن يمدَّ أجَلَ غيابه عن مقر حراسته، وبدأ يدبُّ في نفسه الندم على السهولة التي أُغري بها على أن يترك مكانه، ولكن لم يعُد يطرأ على ذهنه أن يعود دون أن يرى السيدة أُديث. لقد خرج على النظام العسكري، واعتزم أن يُحقِّق على الأقل صِدق الأمل الذي أُغري به وساقه إلى ما فعل، ولكن موقفه لم يكن رضيًا في ذلك الحنين فلم يكن هناك ضوء يُبين له أية غرفة كانت تلك التي سِيق إليها — والسيدة أُديث كانت من الوصيفات المُلازمات لملكة إنجلترا — ولو عُرِف عنه كيف ولَج السرادق الملكي خلسة، فقد يؤدي ذلك — لو كشف الأمر — إلى شكوكٍ كثيرة خطرة. أسلم الفارس نفسه لهذه الخواطر البغيضة إلى النفس، وكاد يودُّ لو عاد وتمَّ له ذلك دون أن يُرى. وإذ هو كذلك، طرَق أذنه شغَب من أصوات النساء يتضاحكْن ويتهامسن، ويتبادلْن الحديث في غرفة مُجاورة لا يفصله عنها إلا حاجز من القماش، كما تدلُّ على ذلك الأصوات التي نمَت إليه، وقد عرف أن المصابيح مُوقَدة من النور الخافت الذي انتشر حتى ظهَر على الجانب الذي كان إلى ناحيته من الحاجز الذي يقسِم السرادق، واستطاع أنْ يرى ظلالًا لشخوصٍ عديدة، كانت تجلس وتتحرَّك في الغرفة المجاورة. وليس عدلًا أن نقول إنه لم يكن من اللياقة في شيءٍ أن يستمِع السير كنث — وهو في موقفه الذي وقف — إلى الحديث الذي ألفى نفسه وقد التذَّ منه غاية اللذَّة.
وسمع السير كنث صوت القزم الأجش، وقد خنع واستذل، حتى إن الفارس لم يدرك ممَّا كان يقول، إلا أنه قد تفوَّه بشيءٍ عن أسباب الطرب التي قُدِّمت للحرَّاس.
قال صوت آخر: «استمعي إليَّ سيدتي الملكة، إذا لم يكن نكتبانس الحكيم الأمير شديد الغيرة من عروسه وعاهلته البارعة، فلنبعَثْ بها تُنقِذنا من هذا الفارس الشارد السفيه، الذي أمكن إغراؤه بهذه السهولة، حتى ظنَّ أنَّ كرائم السيدات بحاجةٍ إلى بسالته المُتصلِّفة العاتية.»
وأجابت الأخرى: «من العدْل أن تصرِف الأميرة «جنفرا» بكياستها ذلك الرجل الذي استمالَتْه إلى هنا حِكمة زوجها.»
وأصاب سويداء القلب من سير كنث الخِزيُ والغَيظ مما سمع، حتى أوشك أن يسعى إلى الفرار من السُّرادق مهما كلَّفَه ذلك، لولا أنَّ ما تلا ذلك من حديثٍ ملَكَ عليه لبَّه وخاطره.
إذ قالت المُحدِّثة الأولى: «كلَّا. حقًّا إنَّ ابنة عمِّنا أُديث ينبغي أن تعلَم أولًا أيَّ مسلكٍ سلك هذا الرجل المُتبجِّح، وعلينا أن نسوق إليها دليلًا عيانًا على أنه قد فشل في أداء واجبه، وقد يكون في ذلك درسٌ نافع لها، لأني — وصدقيني فيما أقول يا «كالستا» — كثيرًا ما ظننتُ أنها قد سمحت لهذا المُخاطر من أهل الشمال أن يدنوَ من قلبها أكثر ممَّا تُجيز لها الرويَّة.»
وارتفع حينئذٍ صوتٌ آخر يُدمدِم بشيءٍ عن حكمة السيدة أُديث، وحصافة رأيها.
فقيل ردًّا على ذك: «أيُّ حصافة رأيٍ يا فتاة! إنْ هو إلا كبرياء ورغبة في أن تُشتَهَر بالصرامة والصلابة أكثر منَّا جميعًا؛ كلَّا، إني لن أتهاوَن في حقي، إنكنَّ تعرفن حق المعرفة أنَّنا إنْ أخطأَتْ إحدانا، فلا تستطيع أيُّنا أن تضع بلباقةٍ أمام الآثمة إثمَها واضحًا ملموسًا كما تستطيع سيدتي أُديث. صه! ها هي ذي قد أقبلت.»
وانتشَر من شخصها وهي تلِجُ الغرفة ظلٌّ فوق الحاجز أخذ ينزلِق رويدًا رويدًا حتى اختلط بغيره من الظلال التي كانت تُظلِم بغيومها الحاجز، ورغم ما مرَّ بالفارس من خيبةٍ مريرة، ورغم الإهانة والأذى اللَّذَين ألحقَهُما به حِقد الملكة «برنجاريا» — أو إن أحسنَ الظنَّ بها فتندُّرُها به تندُّرًا شديدًا — (وكان إذ ذاك قد أيقن أن تلك التي كانت تعلو بصوتها جميع الأصوات وتتكلَّم بنغمة الآمِر إن هي إلا زوج رتشارد)، رغم كل ذلك، أحسَّ الفارس بشيء يُلطِّف مشاعره، حينما علِم أن أُديث لم تكن تُساهم في الغدر الذي تواطأ به الحاضرات عليه، كما أحسَّ بشيءٍ من التشوُّق والتطلُّع إلى ما يوشِك أن يقع، فلم يقُم بإنفاذ العزم الحكيم الذي اعتزم، وهو الرجوع توًّا بغير توان، بل على النقيض من ذلك، أخذ يبحث مُتلهِّفًا عن شقٍّ أو خصاص يستطيع أن يكون منه شاهدَ عيان، وشاهد سمْع، لكل ما يقَع.
وقال مُحدثًا نفسه: «لا ريب أن الملكة التي سرَّها أن تتفكَّه فكاهة سمجة سقيمة، وتُعرِّض بذِكري بل وبحياتي، لا تستطيع الشكوى إنْ أنا اغتنمتُ هذه الفرصة — التي أراد الجدُّ السعيد أن يرمي بها إليَّ — كي أظفر ببعض العِلم عمَّا برَّح في مكنون الطوايا.»
وفي ذلك الحين كانت أُديث كأنها ترتقِب ما تأمر به الملكة، وكأنَّ الملكة قد أحجمت عن الكلام خشية أن يُفلِت زمام نفسها منها، فلا تستطيع لضحكها أو لضحك زميلاتها ردًّا، لأنَّ السير كنث لم يستطع أن يُميِّز أكثر من صوتٍ كأنه صوت ضحكاتٍ محبوسة ومرحٍ مكبوت.
وأخيرًا قالت أُديث: «يظهر أنَّ لجلالتك الآن مزاجًا طروبًا، وإن كنتُ أرى أن هذه الساعة من الليل تحثُّ على الميل إلى النوم. ولقد كنتُ في فراشي راغبة، حتى أتاني أمر جلالتك بأن أمثُل لدَيك.»
فقالت الملكة: «لن أستأخِرَك يا ابنة العمِّ طويلًا على راحتك، وإن كنتُ أخشى أن تنامي نومًا عميقًا حينما أقول لك إنك قد خسرتِ الرهان.»
فأجابت أُديث وقالت: «كلا يا مولاتي الملكة، ما هذا حقًّا إلا إصرارٌ منك على فكاهة أوشكتْ أن تبلى؛ إني لم أُراهن على شيءٍ رغم إلحاح جلالتك بأني فعلتُ ذلك.»
«كلَّا، ولكن رغم حجِّنا إلى هنا فما فتئ للشيطان عليك يا ابنة العم الكريمة سلطان عظيم، وإنه ليدفع بك إلى المُخاتلة والخداع. هل تُنكِرين أنك قد رهنتِ خاتمك الياقوتي تلقاء سواري الذهبي على أنَّ فارس النمر ذاك — أو أيًّا كان ما تُسمِّينه به — لا يمكن أن يُغرى عن أداء واجبه؟»
فأجابت أُديث قائلة: «إنَّ جلالتك أعظم من أنْ أعارض، ولكن هؤلاء السيدات يستطعن — إن أردن — أن يؤيِّدنَني في أنَّ جلالتك هي التي تقدَّمت بهذا الرهان، وأخذتِ الخاتم من إصبعي، رغم أني كنتُ أُعلِن صراحة أنَّني لم أرَ من الخير في شيءٍ أن أراهن بأي شيءٍ في هذه السبيل.»
فردَّ عليها صوت آخر قائلًا: «ولكن ينبغي يا سيدتي أُديث أن تُسلِّمي راضيةً بأنك قد بُحتِ بشديد ثقتك في بسالة هذا الفارس عينه؛ فارس النمر.»
فقالت أُديث غاضبة: «هبيني فعلتُ ذلك يا حبيبتي! فهل في هذا ما يُبرِّر أن ترفعي صوتك تُداهِنين جلالة الملكة في مزاحها؟ إنَّني لم أذكُر عن هذا الفارس إلا ما يذكُر عنه كلُّ رجلٍ رآه وهو في ساحة الوغى، وليس لي في الذَّود عنه هوًى أكثر ممَّا لك في الانتقاص منه. بماذا عسى النساء أن يتحدَّثن في المعسكر غير رجال الحرب وأعمال القتال؟»
فأجاب صوت ثالث قائلًا: «إنَّ السيدة أُديث الكريمة ما عَفَتْ قطُّ عن «كالستا» أو عنِّي مُذ ذكرْنا لجلالتك أنها أسقطتْ من يدِها زهرتَين في المعبد.»
فقالت أُديث بنغمةٍ كانت فيما يرى السير كنث عتابًا لطيفًا: «إذا لم يكن لجلالتك أمرٌ غير أنْ أستمع إلى سخرية وصيفاتك، فهل لي أنْ أستأذنك في الانصراف؟»
فقالت الملكة: «صهٍ يا فلورنس، ولا يدفعنَّك تهاوننا إلى تجاهل ما بينك وبين قريبات الملك من فارق.» ثُم استأنفت الكلام مُستعيدةً نغمة التهكُّم والتعنيف، وقالت: «أما أنت يا ابنة العم العزيزة، فكيف لك — وأنت دَمِثة الطبع — أن تَضنِّي علينا نحن البائسات ببضع دقائق نتضاحك فيها بعد ما مرَّت بنا أيام عديدة صرفْناها جميعًا باكياتٍ نتميَّز من الغيظ؟»
فقالت أُديث: «زادك الله يا سيدتي المليكة مرحًا وحبورًا، ولكن والله لَخير لي ألَّا أبتسِم بقية العمر من أن …»
ثم توقَّفت عن الكلام إجلالًا، ولكن السير كنث استطاع أن يتسمَّع ويُدرك أنها كانت في ثورة نفسية عنيفة.
وقالت برنجاريا وهي أميرة من بيت نافار، خفيفة العقل، ظريفة الطبع: «ماذا عسى أن تكون الإساءة الكبرى؟ إنَّ فارسًا شابًّا قد خُدِع وسيق إلى هنا، فتسلَّل من منصبه — أو قُلن إنه استُلَّ من منصبه الذي لن يعتدي عليه أحدٌ في غيبته — وجاء من أجل سيدته الكريمة؛ إنَّنا ينبغي أن نُنصف بطلَك أيتها الحسناء؛ إنَّ حكمة نكتبانس ما كان لها أن تستهويه إلى هنا باسمٍ غير اسمك.»
فقالت أُديث بصوتٍ فيه رنَّة الذعر، يخالف كل الخُلف ذلك الغضب الذي بدا عليها منذ حين: «يا لله! هل تقول جلالتك بذلك! إنَّ معنى هذا ضياع شرَفي وشرفك، فإني أمتُّ لزوجك بصِلة الرحم! قولي إنكِ كنتِ معي تَمزحين يا سيدتي الملكة، واعفي عنه فإني ما كنتُ أحسبك لحظةً واحدة إلا هازلة.»
فأجابت الملكة بصوتٍ يرنُّ فيه الاستياء وقالت: «إنَّ السيدة أُديث تأسف على الخاتم الذي ظفرتُ به منها … سنردُّ إليك الرهان يا ابنة العم اللطيفة، على ألَّا تُنكري علينا تلقاء ذلك أن نتغلَّب — ولو قليلًا — على هذه الرزانة التي انتشرت فوق رءوسنا مرارًا كما ينتشِر العلَم على رءوس الجنود.»
فصاحت أُديث حانقةً وقالت: «تتغلَّبين! تتغلَّبين! إنما الغلَبَة سوف تكون للكافِر حينما يسمع أن ملكة إنجلترا في وُسعِها أن تجعل من اسم امرأةٍ من دم زوجها موضوعًا للهو والعبث.»
فقالت الملكة: «إنما أنت غاضبة يا ابنة العم الحسناء لأنك سوف تفقِدين خاتمك العزيز. استمعي إليَّ، ما دمتِ تضنِّين ببذْل الرهان، فسوف نتنازل عن حقِّنا فيه؛ إنما أتى بالرجل إلى هنا اسمك وهذا الخاتم، وإنَّا لا نُقيم للطُّعم وزنًا بعد أن يقع الصيد في الشباك.»
فأجابت أُديث جازِعةً وقالت: «مولاتي، إنك تعلمين جدَّ العلم أن جلالتك لا تتطلَّعين إلى شيءٍ مما أملك إلا صار لك في التوِّ والحين، وإني لأبذُل قنطارًا من الياقوت على ألَّا يُستخدَم خاتمي أو اسمي للإيقاع برجلٍ باسلٍ في الخطيئة، أو سَوْقه إلى الخِزي والعقوبة.»
فقالت الملكة مُجيبة: «إنَّنا لا نخشى إلا على سلامة فارسِنا الحق، وإنك لتستخفِّين بنفوذنا يا ابنة العمِّ الحسناء إذ تتحدَّثين عن حياة هذا الرجل وكأنها هُريقت من جرَّاء فكاهتنا وتندُّرنا. أيتها السيدة أُديث، من النسوة غيرك من لهنَّ على صدور المقاتلين الحديدية نفوذ كما لك، وحتى الليث ذاته ليس قلبُه إلا مِن لحمٍ ودمٍ لا من حجَر، وصدِّقيني إنَّ لي برتشارد من الصِّلة ما يكفي لإنقاذ هذا الفارس — الذي تهتمُّ السيدة أُديث بشئونه اهتمامًا كبيرًا — من العقوبة التي حقَّت عليه لعِصيانه أمر مليكه.»
فقالت أُديث: «أستحلفك بحبِّ الصليب المبارك أيتها الملكة …» وهنا أحسَّ السير كنث بعاطفةٍ كان عسيرًا عليه أن يُدرِك كُنهها وهو يستمِع إلى أُديث، وهي تنكبُّ بوجهها لدى قدَمَي الملكة وتقول: «ناشدتُك بحبِّ العذراء البتول، وبكل قدِّيس مبارك في الوجود، أن تَحذري فيما تفعلين! إنك لا تعرفين الملك رتشارد — ولم يمضِ على قرانك به إلا زمنٌ وجيز — والله لأيسر لك أن تُناهضي بأنفاسك رياح الغرْب حين يشتدُّ هبوبها من أن تحملي هذا الملك قريبي على أن يعفوَ عن جريمة عسكرية. أستحلفك بالله أن تصرِفي هذا الرجل الكريم، إن كنتِ حقًّا قد أغويتِه إلى هنا! تالله لأرضينَّ أن يعلَقَ بي عار دعوته لو أني عرفتُ أنه عاد ثانيةً حيث واجبُه يُناديه!»
فقالت الملكة برنجاريا: «انهضي يا ابنة العم، انهضي، وتيقَّني أنَّ الأمر سوف ينتهي على خير ممَّا تظنِّين. انهضي يا عزيزتي أُديث؛ إني آسِفة لأني تفكَّهتُ بفارسٍ، لك فيه كلُّ هذا الهوى. كلَّا، كلا، لا تهزِّي بيديك؛ سوف أعتقد أنك لا تُعنَين بأمره، لسوف أعتقد بأيِّ شيءٍ حتى لا أراك في هذا المظهر البائس الكئيب. اعلمي أني سوف أتلقَّى من الملك رتشارد على نفسي العتاب نيابةً عن صاحبك الكريم ابن الشمال. كلَّا، بل ينبغي أن أقول أحد معارفك، فإنك لا تعترفين به صاحبًا لك. كلا، لا تنظري إليَّ بهذه العين العاتِبة؛ سوف نبعث بنكتبانس كي يصرِف هذا الفارس الذي وُكِلت إليه حراسة العلَم، ويعود إلى مقرِّه، وسوف نتعطَّف عليه يومًا نحن أنفسنا ونُهيئ له ظرفًا يعوِّض به هذا الخطأ الفاحِش. ما إخاله الآن إلا مُستلقيًا مُتخفِّيًا في إحدى الخيام المجاورة.»
فقال نكتبانس: «أُقسم بإكليل الزنبق الذي أحمل، وبصولجان القصب الجميل الذي أرفع، إنَّ جلالتك لخاطئة؛ إنه أقرَبُ ممَّا تظنين، إنه يرقد مُتحجبًا هناك خلف حاجز الفسطاط.»
فصاحت الملكة بدَورها، وقد اشتدَّ بها الذعر والغضب وقالت: «إنه إذن لعلي مسمعٍ من كلِّ ما نقول. اغرُب عنِّي أيها الوحش الأحمق الخبيث!»
وما إنْ فاهت بهذه الكلمات حتى فرَّ نكتبانس من السُّرادق وهو يصرُخ صراخًا يُداخلك من طبيعته الشك: هل قَصَرتْ برنجاريا زجْرَها على اللفظ أم هل أضافت إلى ذلك تعبيرًا آخَرَ عن حنقها أشدَّ توكيدًا.
وقالت الملكة لأُديث وهي تهمِس همسًا بادي القلق: «ماذا عسانا نصنع الآن؟»
فقالت أُديث رابطة الجأش: «لنصنع ما ينبغي؛ يجِب أن نرى هذا الرجل الكريم، وأن نضع أنفسنا تحت رحمته.»
وبعدما أتمَّت هذا الحديث، خفَّتْ إلى سجافٍ ترفعه، وكان السجاف يستُر من أحد جوانبه مدخلًا يصِل الداخل بالخارج.
وقالت الملكة: «بربِّ السماوات لا تفعلي، انظري، هذه غرفتي وذاك ردائي، وفي أي ساعة! وشرفي!»
ولكن قبل أن تُدلي بكلِّ عتابها، سقط السجاف، ولم يعُد بين الفارس المسلَّح وجماعة النساء حجاب، وكان ذلك في ليلةٍ من ليالي الشرق الدفيئة، التي حدَتْ بالملكة برنجاريا ووصيفاتها إلى أن يخلعنَ أثوابهنَّ ولا يرتدين إلا لباسًا خفيفًا لا كُلفة فيه، ولا يتَّفق وما يقتضي موقفهن، ولا يلتئم ومثُول شاهدٍ من الرجال له مكانته. وما إنْ ذكرتِ الملكة هذا حتى صاحت صيحةً عالية، ولاذتْ بالفرار من الغرفة التي كشفتْ عن السير كنث، وأظهرته للعيان في غرفةٍ أخرى من غرَف السُّرادق الفسيح لم يعُد يفصلها على الغرفة التي وقف النسوة بها فاصل. وكانت السيدة أُديث في حالٍ من الأسى والهياج، وأحسَّت بلهفةٍ شديدة وهي تتبادل الحديث مع الفارس الاسكتلندي مُتعجِّلة مُسرعة، فأدَّى بها ذلك إلى أن تنسى أن خصلات شعرِها كانت على شعث، وأن جسمها لم يكن مُحكَم الحجاب، ولم يكن ذلك ممَّا تألَفُه بنات الأُسَر الكريمة في عصرٍ لم يكن — رغم هذا — أكثر عصور العهد القديم تحسُّبًا أو بصرًا؛ وكان أهمَّ ما تستَّرت به رداء رقيق فضفاض من الحرير الأحمر، وخفٌّ شرقي، دفعت بقدَمَيها العاريَتَين فيه على عجل، ووشاح اتَّشَحت به على كتفيها في لهفةٍ وبغير اكتراث، وليس على رأسها ما يحجُبه غير قناعٍ من خصلات شعرِها الغزير المهوَّش، تتدلَّى حولَه من كلِّ جانب، وتحجُب مُحيَّاها حجابًا خفيفًا، وقد انتشرت الحُمرة فيه ممَّا اعتراها من مزيج المشاعر، إذ أحسَّت بالحياء والاستياء وغير ذلك من العواطف الثائرة العميقة.
وأحسَّت أُديث بموقفها بكلِّ تلك الرقة التي هي أشدُّ ما يسحرنا في الجنس اللطيف، ولكن لم يطرأ لها لحظة أن ترفع حياءها إلى حدِّ التغاضي عن أداء الواجب نحو هذا الرجل الذي انساق إلى الخطأ والخطَر من أجلها. حقًّا إنها جرَّت وشاحها وقرَّبتْه من جيدِها وصدرها، وأسرعت بنبذ مصباحٍ كان بيدِها، يَشعُّ منه ضياء شديد على جسمها؛ وبينما وقف السير كنث لا يُبدي حراكًا في ذات المكان الذي شوهد به أول الأمر، كانت هي إلى التقدُّم إليه أدنى منها إلى التقهقُر عنه، وهي تصيح مذعورةً وتقول: «أسرِع إلى مقرِّ حراستك أيها الفارس الجسور! لقد خُدِعتَ إذ سيق بك إلى هنا. عُد ولا تَسَل.»
فجثا الفارس على إحدى رُكبتيه، كأنه القديس أمام المذبح إخلاصًا وتقديرًا، ثم قال: «ليس بي حاجة إلى سؤال.» وأطرَق ببصرِه نحو الأرض خشية أن يزيد بمَرآه ما كانت عليه السيدة من حيرةٍ وارتباك.
فقالت أُديث جازعة: «هل سمعتَ كل ما دار. يا كرام الأولياء، إذن فلماذا أنت باقٍ هنا، وأنت تعلم أنَّ كل دقيقةٍ تنقضي مُعبأة بالخزي وامتهان الكرامة؟»
فأجابها كنث وقال: «سمعتُ منك يا سيدتي أنَّ الخزي قد أصابني، فلستُ أبالي أن يحلَّ بي الجزاء بعد هذا، إنما لي لدَيك مطلب واحد، لا أعبأ بعدَه أن أسير خلال سيوف الكفرة علَّني أمحو الخزي بالدماء.»
فقالت السيدة: «كلا، لا تفعل ذلك. كن حكيمًا ولا تلبث هنا. ولئن هممْتَ بالعودة فلربما ينتهي الأمر بخير العواقب.»
فقال الفارس وما برح جاثيًا: «إنما أنا أنتظر العفو منك عن جرأتي في الاعتقاد بأنَّ خدماتي القليلة ربما سدَّت لدَيك حاجةً أو لاقت منك تقديرًا.»
«لقد عفوت عنك — يا إلهي، ليس لديَّ ما أعفو عنه! — لقد كنتُ السبيل إلى أذاك، ولكن بربك انصرف! لسوف أعفو عنك، ولسوف أقدِّر خدمتك، وذلك بمقدار ما أقدِّر كلَّ صليبي مقدام، ولن تنال مني ذلك إلا إنِ انصرفت!»
ثم عرض الفارس الخاتم على أُديث، وهي تُبدي من الشارات ما ينمُّ عن الجزَع، وقال: «خُذي أولًا هذا المِيثاق النفيس القاتل.»
فقالت وهي مُعرِضة عن تناوله: «كلا، كلا، احتفِظ به. احتفِظ به دليلًا على تقديري، بل على أسفي. أوَّاه، هلا انصرفتَ من أجلي، إن لم يكن من أجل نفسك!»
فهبَّ السير كنث من جَثوه، ورمق أُديث بنظرةٍ عَجلى، وانحنى كثيرًا، وهمَّ بالانصراف وكأنه قد أثيب — بما بدا عليها من لهفةٍ على سلامته — عن كل ما افتقد، حتى عن ضياع شرَفه الذي افتضحتْه بنبرة صوتها. وفي تلك اللحظة عينها غلب على أُديث ذلك الحياء العُذري، الذي تمكَّنت حتى آنئذٍ بشدَّة انفعال مشاعرها من أن تكبح جماحه، فخفَّت من الغرفة، وأطفأت المصباح وهي تنصرِف، وخلَّفت في خواطر السير كنث من بعدِها اكتئابًا في حسِّه ونفسه.
وكان أول خاطرٍ واضح أيقظ السير كنث من هواجسه وجوب طاعتِها، فسارع إلى المكان الذي ولج منه السرادق؛ ولكنه إنِ انزلق تحت السور كما دخل فإنه يحتاج لذلك إلى الوقت والحذر، فثقَبَ بخنجره السور الحائط، وأصبح له بذلك مخرج ميسور. وما إن خرج إلى الهواء الطلق حتى هاجمته المشاعر المتنازعة، فتبلَّد حسُّه وغُلب على أمره، ولم يستطع أن يستوثق من كُنهِ ما مرَّ به ومن حقيقة الأمر، واضطرَّ أن يحفِّز نفسه للعمل حينما ذَكَر أن أمر السيدة أُديث يتطلَّب العجلة؛ وحتى بعد هذا كان لا بدَّ له — وهو مُشتبك بين الخيام وحبالها — أن يسير حذرًا حتى يبلغ الطريق الجانبية التي سلكها القزم وإيَّاه من قبل، كي يتحاشى أعين الحرَّاس الواقفِين لدى سرادق الملكة، واضطرَّ إلى أن يسير وئيدًا حريصًا، كي لا يُنبِّه الأذهان إنْ هو خرَّ على الأرض أو صلصل سلاحه؛ وفي تلك اللحظة عينها التي فصل فيها السير كنث عن الفسطاط، غشِيَت القمر سحابة رقيقة، واضطرَّ الفارس أن يواجه هذه المشقَّة في وقتٍ لا يكاد يُبقي له دوارُ رأسه وخفقان قلبه من نفاذ البصيرة ما يكفي لأن يُدبِّر به مَسيره.
ولكن سرعان ما طرقت أذنيه الأصوات على حين غرة، فثاب توًّا إلى رُشده وإلى قواه العقلية كاملة، وكان جبل سنت جورج هو مبعَث هذه الأصوات، وكان أول ما سمع نباحًا منفردًا همجيًا غاضبًا متوحِّشًا تبِعَه على الفور صراخ الكرْب والألم، وما كان الظبيُ ليثِبَ فازعًا من صوت «رزوال» كما وثب السير كنث، إذ خشي أن يكون ذلك الصوت هو نزع الموت يصيح منه ذلك الكلب النبيل، الذي ما كان لأذًى مألوف أن يستخلص منه أدنى شكاية من الألم، فذلَّل الفارس المدى الذي كان يفصل ما بينه وبين الطريق، وما إن بلغها حتى شرع يجري نحو الجبل، ورغم أنه كان مُثقلًا بالزرد فما كان لرجلٍ أن يلحَق به، حتى وإن كان مجردًا عن السلاح؛ ولم يتراخَ في خطاه وهو يصعد جوانب الرابية المصطنعة الشديدة الانحدار، ولم تمضِ بضع دقائق حتى كان فوق قمة الجبل.
وفي تلك اللحظة أرسل القمر سهام نوره، وتبيَّن له أن راية إنجلترا قد اختفت، وأنَّ الرمح الذي كانت ترفرف فوقه كان مُلقًى على الأرض محطَّمًا، وإلى جواره كلبه الأمين يُعالِج سكرات الموت.