الفصل السابع عشر
تصدى للملكة برنجاريا عند ولوجها إلى داخل سرادق رتشارد أولئك الحجَّاب القائمون على الحراسة في السُّرادق الخارجي. وحقًّا لقد اعترضوا سبيلها باحترامٍ وتقدير، إلا أنها تعطَّلت على أية حال، واستطاعت أن تستمِع إلى الملك وهو يأمر من الداخل أمرًا صارمًا بمنع دخولهن.
فقالت الملكة مُتوجِّهة إلى أُديث، كأنها استنفدت كلَّ ما تملك من وسائل الشفاعة «الآن ألا ترين أني كنتُ به عليمة؛ إنَّ الملك يأبى أن يستقبِلنا.»
وسمعنَ إذ ذاك رتشارد يتحدَّث في الداخل إلى شخصٍ ما ويقول: «اذهب واصدَع بما تؤمَر الآن أيها المولى، فإنَّ في هذا لرأفة بك، ولك عشر بيزنطات لو قضيتَ عليه بضربةٍ واحدة. استمِع إليَّ أيها الشقي، راقِبْه وقل لي إنِ امتقع لون خدِّه أو فترتْ عيناه، وخبِّرني بأدقِّ ما تلحظ من لمحةٍ في طلعته أو طرفةٍ في عينه. إني أحبُّ أن أعرِف كيف تلقى النفوس الجريئة الموت.»
وأجابه صوت أجشُّ عميقٌ يقول: «تالله لو رأى ظباتي وهي تهتزُّ عاليةً ولم يتقهقر لكان أول من يفعل ذلك.» ولطَّف من حدَّة هذا الصوت إحساسٌ بالرعب لم يألَفْه، وأحاله إلى نبراتٍ أكثر خفضًا من نبراته الخشنة المعهودة.
فلم تستطع أُديث أن تلزم الصمتَ بعد هذا وقالت: «إذا لم تَشقَّ جلالتك لنفسها طريقًا فدعيني أفعل ذلك — وإن لم يكن لك، فلي على الأقل — أيُّها الحجَّاب، إن الملكة تريد أن ترى الملك رتشارد، الزوجة تريد أن تتحدَّث إلى زوجها.»
فقال الضابط وقد خفض عصاه «أيتها السيدة النبيلة، يُحزنني أن أعترِضك فيما تقولين، ولكن جلالة الملك مُشتغِل بأمورٍ فيها حياة أو موت.»
فقالت أُديث «ونحن كذلك نريد أن نكلمه في أمورٍ فيها حياة أو موت. سأجعل لجلالتك مدخلًا.» ثم أزاحت الحاجب جانبًا بإحدى يدَيها وأمسكت السجَّان بالأخرى.
فقال الحاجب وقد أذعن لحدَّة هذه الحسناء صاحبة الحاجة «إني لا أجرؤ على معارضة رغبة جلالتها.» وألْفَتِ الملكة نفسها — والحاجب يُخلي الطريق — مضطرَّةً إلى دخول غرفة رتشارد.
وكان الملك مُستلقيًا على سريره، وعلى مقربةٍ منه يقوم رجل كأنه يرتقِب أمرًا جديدًا، ولم تكن مهمته مما يشقُّ حدسُه، فلقد كان يرتدي سترةً قصيرة من القماش الأحمر لا تتدلَّى دون كتفيه إلا قليلًا، تاركًا ذراعَيه عاريتَين من منتصف ما فوق المرفق، وكان يكتسي معطفًا أو صُدرة بغير كُم، يرتديه فوق ذلك حين يهمُّ — كما همَّ الآن — بأداء واجبه الشاق، وهو أشبَهُ بمعطف الرائد مصنوع من جِلد الثور المدبوغ، ويلوِّث ظاهره نُقَط كثيرة كبيرة الحجم ولطخات حمراء قاتمة؛ والسترة والصُّدرة فوقها تتدلَّيان حتى ركبتَيه، وجواربه السُّفلى — أو ما يُغطِّي به ساقيه — من الجلد عينه الذي صُنعت منه الصُّدرة، وله تقيَّة من الشعر الخشِن، يتَّخِذها حجابًا للنصف الأعلى من وجهه الذي يُشبه وجه البوم الصيَّاح، وتبدو عليه كالبوم الرغبة في الاختفاء عن النور. أما النصف الأدنى من مُحيَّاه فتُخفيه لحية كبيرة حمراء تختلط بخصلاتٍ مُشعَّثة لونها من لون اللحية، أما ما بدا من ملامحه فعليه سيماء الفظاظة وبُغض الناس، أما قامته فقصيرة، ولكنه قوي البنية، له رقبة ثَور، وكتِفان عريضتان، وساعدان بالغتا الطول لا تناسُق فيهما، وجذع كبير مربَّع جدًّا، وساقان غليظتان عوجاوان. وكان هذا الموظف الشرس يرتكز على حسامٍ تبلُغ ظباته نحو أربعة أقدام ونصف قدَم طولًا، وطول مقبضه عشرون بوصة، وتُحيط بالمقبض حلقة من خيوط الرصاص كي تُوازن ثِقل مثل هذا السيف، ويرتفع المِقبض كثيرًا فوق هامة الرجل، وقد أسند الرجل ساعده فوق نصابه ينتظِر إرشادًا جديدًا من الملك رتشارد.
ولمَّا دخل النسوة على حين غرَّة، كان رتشارد مُستلقيًا على سريره ووجهه صوب الباب، مرتكزًا على مِرفقه وهو يتحدَّث إلى خادمه هذا البشِع، فارتمى على الجانب الآخر مُسرعًا كأنه غاضب دهِش، وولَّى ظهره الملكة وحاشيتَها من النسوة، والْتَحَف بغطاء سريره وهو يتألَّف من جلدَي ليثَين كبيرَين، دُبغا في البندقية بمهارةٍ تدعو إلى الإعجاب، حتى أصبحا أشدَّ نعومةً من جلد الغزال، وهذا الغطاء ربما كان من انتقاء رتشارد نفسه، أو ربما كان على الأرجح قد اختاره له حجَّابُه مَلَقًا له ودهانًا.
وكانت برنجاريا كما وصفْنا تعرف جيدًا طريقها إلى الظفر. وأي امرأة لا تعرف الطريق إلى الظفر؟ فبعدما ألقت نظرةً عجلى، فيها رُعب غير خافٍ ولا مصطنع من هذا الرفيق المروِّع، رفيق زوجها وهو في مجالِسِه الخاصة، اندفعت توًّا إلى جوار سرير رتشارد، وخرَّت على رُكبتَيها، ونزعت ملاءتها عن كتفَيها، فبدت منها جدائل شعرها الذهبية الجميلة وقد استرسلَتْ بتمام طولِها. ومع أن طلعتها كانت تبدو كالشمس يَشقُّ ضياؤها ظلام السحب، إلا أن جبينها الشاحب كانت — رغم ذلك — تبدو عيله آثار السَّنا قد انطفأ بريقه. وبهذه الصورة أمسكَت بيمين الملك، وكانت يُمناه وهو يستعيد رقدته التي ألِف مُشتغلة بجذْب غطاء السرير، ثم أخذت تجذِب إليها يدَ الملك شيئًا فشيئًا بقوةٍ قاومها الملك مقاومةً طفيفة، حتى تملَّكت الساعد، وهو دعامة العالَم المسيحي وفزَع المُشركين المُنافقين. ولمَّا أن استولت على زمام الساعد بين يديها الدقيقتَين الجميلتَين، ثنت جبينها عليه ولثمَتْه بشفتَيها.
فقال الملك ولمَّا يزلْ منصرفًا عنها برأسه، وإن تكن يدُه تحت سلطانها: «فيمَ هذا يا برنجايا؟»
فتمتمت برنجاريا قائلة: «اصرِف هذا الرجل، إنه يقتُلني بمرآه!»
فقال رتشارد وما عتَّم مُشيحًا بوجهه: «اغرُب عنَّا أيها الخادم، فيمَ بقاؤك هنا؟ وهل يليق بك أن تنظُر إلى هؤلاء السيدات؟»
فقال الرجل: «لتكن مشيئة مولاي.»
فأجاب رتشارد: «عنِّي أيها الوغد! قاتلك الله.»
ثم اختفى الرجل بعدما رمق بنظرِه الملكة الحسناء وقد خلعت عنها رداءها، وبدا للعيان جمالها الطبيعي، وعلى شفتَيه ابتسامة الإعجاب، وبسمتُه أبغضُ إلى النفس من عبوسِه المألوف وكراهيته الساخرة لبني الإنسان.
ثم قال رتشارد: «والآن ماذا تُريدين أيتها المرأة الحمقاء؟» واستدار بجسمه في أناةٍ وشِبه إباء نحو هذه الملكة المُتضرِّعة.
«إني لأتساءل ثانيةً ماذا تريد سيدة قلبي في سُرادق فارسها في هذه الساعة الباكرة التي لم تألف؟»
فقالت الملكة: «العفو، العفو، سيدي الكريم.» وقد تملَّكتها المخاوف ثانية، ولم يعُد في وُسعِها أن تؤدي واجب الشفاعة.
فسألها الملك: «فيمَ العفو؟»
قالت: «العفو أوَّلًا عن مُثولي لدى حضرتك الملكية بجرأةٍ وبغير رويَّة …»
ثم سكَتت عن الكلام.
فقال الملك: «أفتقولين إنك كنتِ جريئة! إذن فللشمس أن تطلُب العفو عن تسرُّب أشعتها خلال النوافذ إلى جُبٍّ مظلم ذميم؛ إنما أنا كنتُ مشتغلًا بأمرٍ لا يليق بك أن تشهديه يا سيدتي الكريمة، وفوق ذلك كنتُ لا أحبُّ أن تخاطري بصحتك العزيزة إلى حيث حلَّ المرض من منذ حين.»
فقالت الملكة: «ولكنك الآن بخير.» وأرجأتِ التحدُّث في الأمر الذي كانت تخشاه.
«نعم إني بخير، وأستطيع أن أُحطِّم الرمح فوق قمَّة رأس ذلك البطل الجسور الذي يُنكِر أنك أجمل سيدة في العالم المسيحي.»
«إذن فلن تجحدَني هبةً واحدة ليس غير … تلك هي حياة رجل مسكين؟»
فقال الملك وقد قطَّب الجبين: «ها! قولي ما تريدين.»
فتمتمت الملكة وقالت: «هذا الفارس الاسكتلندي البائس.»
فصاح بها رتشارد عابسًا وقال: «لا تتكلَّمي بشأنه سيدتي، لسوف يموتن؛ إنَّ قضاءه محتوم.»
«كلَّا يا سيدي المليك ويا حبيب قلبي، ما هي إلا راية من حرير قد أهملها، ولسوف تُعطيك برنجاريا رايةً أخرى طرَّزتْها بيدها، راية ثمينة كأية رايةٍ أخرى داعبها الريح، سوف أُحلِّيها بكل ما أملك من جواهر، وسوف أذرِف مع كل جوهرةٍ دمعةَ شكرٍ لفارسي الكريم!»
فعارَضَها الملك غاضبًا وقال: «إنك تهرِفين بما لا تعرِفين؛ جواهر! أفتظنِّين أن جواهر الشرق جميعًا تستطيع أن تُكفِّر عن وصمةٍ واحدة في شرف إنجلترا، أو أنَّ كل ما بكَتْ نساء العالَم من دمعٍ يمحو لطخةً لحقتْ برتشارد؟ عنِّي يا سيدتي واعرفي لنفسك مكانها وزمانها وحدودها، أما الآن فلدَينا من الواجبات ما لا تستطيعين أن تُساهمي فيه.»
فهمست الملكة قائلة: «هل سمعتِ هذا يا أُديث؟ إنما نحن نُثير كامن غضبه.»
فقالت أُديث وقد تقدَّمت خطوةً أو بعض خطوة: «ليكن ذلك، سيدي! أنا قريبتك المسكينة أطلُب إليك عدلًا ورحمة، ولِصوت العدالة يجِب أن تتفتَّح آذان الملوك في كل حينٍ وفي كل زمانٍ وتحت كل ظرف.»
فهبَّ رتشارد من مرقده، واستقام في جلسته على جانب السرير، وادَّثَّر بدثاره الأحمر وقال: «هيه! ابنة عمي أُديث؟ والله إنك لتنطقين أبدًا بما ينطق الملوك، ولسوف أُجيبك كما يجيب الملوك؛ إنك ما أتيتِ إليَّ بمطلبٍ لا يليق بكرامتك.»
وكان جمال أُديث عليه مسحة أشدُّ فطنة وأقلُّ شهوةً مما يبدو على الملكة، ولكنَّ الجزع والفزع قد رسما على مُحيَّاها وميضًا كانت تفتقر إليه أحيانًا، وكان على طلعتها سيماء الوقار والنشاط، حتى لقد فرضت بمرآها السكون لحظةً من الزمن على رتشارد نفسه، الذي كان فيما يبدو على ملامحه يودُّ لو يُعارضها. قالت: «سيدي، إنَّ هذا الفارس الكريم الذي تُوشِك أن تريق دماءه قد أدَّى في حياته خدمة للعالَم المسيحي، وإنه لم يقصِّر في واجبه إلا لأنَّ مكيدةً قد دُبِّرت له في ساعةٍ ساد فيها لهو عقيم أخرق؛ بُعِث إليه برسالة سيدة — وما لي لا أفوه باسمها؟ باسمي أنا — فأغوَتْه هذه الرسالة على أن يترك مكانه لحظة — وأي فارس في معسكر المسيحيين لا يتخطَّى واجبه إلى هذا الحدِّ انصياعًا لإرادة فتاة، مهما كانت ضعيفةً من بعض صفاتها، فإنَّ دم بلانتاجنت يجري في عروقها؟»
فقال الملك وقد عضَّ على شفتَيه كي يكبح جماح غضبه: «وهل رأيتِه يا ابنة عمي؟»
فقالت أُديث: «أجل لقد رأيتُه يا مولاي، وليس لي الآن أن أبوح بما بعثَني على ذلك، ولستُ هنا لأُبرِّئ نفسي أو أعذل غيري.»
«وإني صنعتُ فيه هذا الجميل؟»
«في سُرادق جلالة الملكة.»
فقال رتشارد: «في سُرادق زوجي الملكة! بربِّ السماء، وبالقديس جورج الإنجليزي بكل قديس صعد إلى القبة الزرقاء، لقد أتيتُنَّ شيئًا إدًّا! إني لاحظتُ على هذا المقاتل قِحَتَه في إعجابه بسيدةٍ تعلوه كثيرًا وأغضيتُ عن ذلك، ولم أضنَّ عليه بأن تُسبِغ عليه واحدة من ذوات قُرباي مثل هذا الهوى وهي في عليائها كما تُرسِل الشمس من عُلاها على الدنيا الضياء، ولكن وحقُّ الأرض والسماوات كيف رضيتِ له أن يمثُل لديك ليلًا، وفي خيمة زوجنا الملكية! وكيف تجسُرين على أن تتقدَّمي بهذا معذرةً له على عِصيانه وإهماله في واجبه! وروح أبي يا أُديث لتكفِّرِنَّ عن هذا حياتك في الدير!»
فقال أُديث: «مولاي، إنَّ عظمتك تُجيز لك الظلم، ولكن شرَفي يا سيدي المليك — كشرفك — لم يمسُّه أحد. وتستطيع مولاتي الملكة أن تشهد بذلك إن شاءت. ولكني قلتُ لك من قبل إني لستُ هنا لأبرئ نفسي أو أتَّهِم غيري، إني أضرَع إليك أن تمدَّ إلى رجلٍ ارتكب إثمه تحت تأثير الإغراء الشديد، تلك الرحمةَ التي سوف تلتمِسها أنت نفسك يا سيدي المليك يومًا من حَكَمٍ أعلى ولآثامٍ ربما كانت أقلَّ من هذي حقًّا بالغفران.»
فأجاب الملك بحرارة وقال: «أهذي أُديث بلانتاجنت، أُديث بلانتاجنت العاقلة النبيلة؟ أم امرأة مريضة بالحُب، لا تُبالي بشرَف اسمها من أجل حياة عشقيها؟ والآن أُقسِم بروح الملك هنري لن يَصرِفني شيءٌ عن أن آمُر بأن يؤتى بجمجمة حبيبك من المقصلة، وأن تُعلَّق حِليةً دائمة على الصليب في بيتك!»
فقالت أُديث: «لو بعثتَ بها من المقصلة كي توضَع على مرأًى منِّي أبدًا، فلسوف أقول إنها أثَر لفارسٍ كريم ساقَهُ إلى الموت عنوةً وجورا رجل …» (ثم كبحَتْ جماح نفسها وقالت) «رجل لا أقول عنه إلا أنه كان ينبغي أن يعرِف خيرًا من هذا كيف يَجزي الشهامة.» ثم أردفت وقد زادت من حدَّتِها وقالت: «إنك تقول إنه كان عشيقي؟ حقًّا لقد كان لي حبيبًا وحبيبًا غاية في الإخلاص، ولكنه لم يتقرَّب إليَّ بنظرةٍ أو كلمة، واكتفى بمِثل تلك الرعاية وذلك الخضوع الذي يُقدِّمه للقديسين الرجال، ولكنَّ هذا الرجل الطيب، هذا الرجل الجسور، هذا الرجل المخلص، ينبغي أن يموت من أجل ذلك!»
فهمست الملكة قائلة: «مهلًا، مهلًا، ورفقًا به، إنك إنما تزيدين من الإساءة إليه!»
فردَّت أُديث قائلة: «إني لا أُبالي، إنَّ العذراء البتول لا تخشى اللَّيث الثائر، ليُنفِّذ في هذا الفارس الكريم إرادته، فإنَّ أُديث التي يموت من أجلها تعرِف كيف تندُب ذِكراه، ولن يُكلِّمني أحد بعد هذا عن حلفٍ سياسي ويطلُب إليَّ عقده بهذه اليد الضعيفة. ما كان لي — وكيف يكون لي؟ — أن أكون له عروسًا في الحياة. إنَّ بيني وبينه في المرتبة فراسخ، ولكنَّ الموت يُزاوِج بين الرفيع والوضيع. إني منذ الآن قرينةُ قبره.»
وأوشك الملك أن يُجيبها غاضبًا، لولا أنَّ راهبًا من كرمل دخل الغرفة مُسرعًا ورأسه مُكمَّم، وجسمه مُستتر في عباءةٍ طويلة وقلنسوة من القماش المخطط من النسيج الخشِن الذي يُميز مذهبه الديني، وخرَّ على رُكبتيه أمام الملك، وناشدَه بكل كلمةٍ وشارة مقدَّسة أن يوقِف إنفاذ الحكم.
فقال رتشارد: «أُقسِم بمهنَّدي وصولجاني لقد تآمرَتِ الدنيا على جنوني! فكل غافلٍ وكل امرأةٍ وكل راهبٍ يعترِضني في كل خطوةٍ أخطو؛ كيف يعيش هذا الرجل حتى الآن؟»
قال الراهب: «مولاي الكريم، لقد توسَّلتُ إلى لورد جلزلاند أن يوقِف الإعدام حتى أرتمي لدى جلالتكم …»
فقال الملك: «وهل بلغتْ به صلابة الرأي أن يمنحك مطلبَك؟ ولكن ما هذا إلا جانب من عناده المألوف. والآن ما تريد أن تقول؟ هيا وقل لي باسم الشيطان!»
«مولاي، إنَّ لديَّ لسرًّا عميقًا — ولكني أخفيه بحق الاعتراف — وإني لا أجرؤ على التحدُّث به أو حتى على الإيماء إليه، ولكني أقسم لك بحياتي المقدسة، بهذا الرداء الذي أرتدي، «بإلياس» المُبارك الذي وضع لنا الأساس، وهو ذلك الرجل الذي انتقل إلى جوار ربه دون أن يُعاني ما يُعاني الناس من آلام الموت. أُقسِم لك أن هذا الشابَّ قد فشا لي سرًّا، إنْ بُحتُ به إليك عدلتَ عدولًا تامًّا عن هذه الغاية القاضية التي فرضتَ عليه.»
فقال رتشارد: «أبي الكريم، إنَّ هذا السلاح الذي أمتشِق الآن من أجل الكنيسة ليشهد بإجلالي لها؛ بُح لي بهذا السر، ولسوف أفعل ما أراه لائقًا في هذا الشأن، ولكني لستُ رجلًا أعمى البصيرة أعمل بغير رويَّة إنْ أهاب بي رجل من رجال الدين، لستُ «كبيارد» العاجز أقفز في الظلام إذا استحثَّني قسٌّ أو قِسَّان.»
فطرح القسُّ عنه قلنسوته وحلَّته الخارجية، وكشف تحت الحلَّة عن كساءٍ من جلد الماعز، وتحت القلنسوة عن وجهٍ استوحش ونحَلَ من أثر الجوِّ والصيام والتوبة، حتى بات أشبَهَ بصورةٍ من هيكلٍ عظمي تسري فيه الروح منه بوجه الإنسان، ثم قال: «مولاي، لقد تقشَّفتُ عشرين عامًا في كهوف عين جدة حتى أضعفتُ هذا الجسد الذميم تكفيرًا عن ذنبٍ عظيم ارتكبت، فهل تظنُّ أني — وأنا ميِّتٌ في هذه الدنيا — أُدبِّر زورًا أو بهتانًا أعرِّض بهما روحي للخطر، أو هل تظنُّ أن رجلًا أقسم يمينًا غليظةً على أن يُجانب الإثم، رجلًا مثلي ليس له في هذه الدنيا أمَل واحد يعقِد به رجاءه — وذلك أن نعيد للكنيسة المسيحية بناءها — هل تظنُّ أن رجلًا مثلي يُفشي سِرَّ الاعتراف. إنَّ كليهما بغيض لنفسي.»
فأجابه الملك «إذن فأنت ذلك الناسك الذي يتحدَّث عنه الناس كثيرًا، إني أقرُّ بأنك شديد الشَّبَه بتلك الأرواح التي تسري في الأرض الخلاء، ولكن رتشارد لا يخشى ماردًا ولا عفريتًا. وما إخالك إلا ذلك الرجل الذي بعث أمراء المسيحية إليه بهذا الجارم كي تُفاوِض السلطان في وقتٍ أنا فيه طريح فراش المرض، وأنا أول من تنبغي مَشورته في هذا الأمر؛ فلتطمئنَّ وليطمئنُّوا، إني لن أضعَ رقبتي في سَمِّ نطاق رجلٍ من كرمل. أما رسولك فسوف يموت، وهو بالموت العاجل أحقُّ وأجدَر بعد شفاعتك له وتضرُّعك.»
فقال الناسك وقد ملكت عاطفته نفسه: «بارك الله فيك يا مولاي الملك! إنك والله لتخلُق شرًّا، سوف تودُّ في مُقتبَل الأيام لو أنك أقلعتَ عنه، حتى ولو كلَّفك هذا شلوًا من أشلائك. ليكن رجلًا مندفعًا أو أعمى، ولكني أضرَع إليك أن ترفق به.»
فصاح به الملك، وقد ضرب الأرض بقدَميه: «عنِّي، عنِّي! لقد أشرقت الشمس على عار إنجلترا ولمَّا ننتقِم له. أيتها السيدات وأيها القس، اغرُبوا إن أردتُم ألَّا تسمعوا أمرًا يُسيء إليكم، لأني بحقِّ القديس جورج أقسم …»
فأجابه صوت رجل دخل إذ ذاك السرادق وقال: «لا تقسِم!»
فقال الملك: «ها! هذا طبيبي النطاسي قد أقبل يستجدي سخاءنا.»
كلا، إنما أطلُب التحدُّث إليك فورًا في أمورٍ ذات بال.»
«أنظُر أيها الحكيم إلى زوجتي، ودعها تعرِف فيك رجلًا أبقى لها زوجها.»
فأطبق الطبيب ساعدًا فوق الأخرى، ليُظهر التواضع والاحترام على الطريقة الشرقية، وأطرَقَ ببصره نحو الأرض، ثم قال: «ليس لي أن أنظر إلى جمالٍ لا يحجُبه قناع، جمال يذود عنه رونقُه وبهاؤه.»
فقال الملك: «إذن فلتتراجعي يا برنجاريا، وأنت يا أُديث تراجعي كذلك؛ كلا، لا تعيدي على مسمعي لجاجتك! هذا ما أمنحكما: ليبقَ نفاذ الحكم حتى تبلُغ الشمس رابعة النهار. اذهبا بهذا مطمئنَّتَين، اذهبي يا عزيزتي برنجاريا.» ثم ألقي نظرةً بعثت الرعب حتى في نفس أُديث قريبته الجريئة وقال: «اذهبي إن كنتِ حكيمة.»
فانسحب النسوة، أو قل خففن من السرادق، وقد نَسين المراتب والرسوم وهنَّ كسِرب الطير البري نزل به باز منذ حين فاختلط الحابل فيه بالنابل.
عُدنَ من هنا إلى سرادق الملكة، كي يسترسِلنَ في أسفِهنَّ ومُهاترتهن، وليس في هذا أو ذاك ما يُجدي. وكانت أُديث وحدَها من بينهن تستخفُّ بضروب الأسى هذه التي ألِفنَ، فوقفت بخدمة الملكة لا تتنهَّد ولا تبكي ولا تنبس بكلمة لَوم أو تأنيب، وقد أبدت الملكة — لضعفها — أسفَها، في نزواتٍ كنزوات الجنون شديدة على النفس، وفي صحياتٍ حارة كأنها عليلة آدَتْها العلَّة، وفي غضون ذلك كانت أُديث تقوم بخدمتها بكلِّ ما وسعتْ من جهد، بل وبكلِّ ما في نفسها من حُب.
وقالت «فلوريس» إلى «كالستا» رئيستها في خدمة الملكة «مُحال أنها أحبَّت هذا الفارس؛ إنَّا كنَّا خاطئات؛ ما هي إلا آسِفة على قضائه كما تأسف على غريبٍ حلَّت به المصائب من أجلها.»
فأجابتها زميلتها، وهي أكثر منها خبرةً وأشدَّ تأدبًا «صهٍ، صه؛ هي من ذلك البيت الفخور، بيت بلانتاجنت، الذي ما يقرُّ أبناؤه قطُّ بأن الأذى يُحزنهم. قد يُصيب الواحد منهم جُرح مُميت يُدمي حتى الموت، ولكنكِ ترَينه مع ذلك يضمِّد أخداشًا خفيفةً يُكابدها أقرانه من ذوي القلوب الواهنة. فلوريس! لقد أخطأنا خطأً كبيرًا، وإني من جانبي أودُّ لو بذلتُ كل ما أملك من جواهر لو أصبحَتْ فُكاهتنا هذه كأنها لم تكن.»