الفصل الثامن عشر
سار الناسك خلف النسوة من سرادق رتشارد، يتبعُهنَّ كما يتبع الطفل شعاعًا من الضياء حينما تنطلِق السُّحب على وجه الشمس. ولمَّا بلغن الباب أدار وجهه ورفع يدَه نحو الملك يُحذِّره، ووقف وقفةَ التهديد والوعيد وهو يقول: «الويل لِمن ينبذ مشورة الكنيسة وينصرِف إلى «ديوان» الكفرة الدَّنِس! أيها الملك رتشارد، إني لمَّا أنفض التراب عن قدَمي وأفصل عن مقامك — والسيف لمَّا يهوِ — وإنما هو مُعلَّق بشعرة. أيها الملك الغطرِيس، سوف نلتقي ثانية.»
فردَّ عليه رتشارد وقال: «ليكن ذلك أيها القس الغطريس، وأنت في جِلد الماعز أشدُّ صلفًا من الأمراء في لباس الكتان الأرجواني الرقيق.»
ثم اختفى الناسك عن الفسطاط، وأردف الملكُ موجِّهًا خطابه للعربي وقال: «هل للدراويش في الشرق أيها الطبيب الحكيم مثل هذه الأُلفة مع الأمراء؟»
فقال «أدنبك» مُجيبًا: «الدرويش إما حكيم أو مجنون، وليست هناك طريق بين بين لِمن يلبَس «الخرقة» ويسهر الليل ويصوم النهار، ولذا فهو إما حكيم يستطيع أن يتأدَّب، ويحرِص وهو في حضرة الأمراء، أو رجل لا يحمِل تبعَةَ ما يفعل لأنَّ الله لم يمنحه نعمة العقل.»
فقال رتشارد: «يُخيَّل إليَّ أن أكثر رهباننا قد اتخذوا لأنفسهم هذه الصفة الأخيرة، ولكن دعْنا من هذا ولنتكلَّم فيما أتيتَ من أجله. كيف لي أن أُدخل السرور على نفسك أيها الطبيب العالم؟»
فامتثل الحكيم للملك امتثاله الشرقي الخاشع، وقال: «أيها الملك العظيم، اسمح لخادِمِك أن ينبس بكلمةٍ واحدة لا يموت بعدها، إني أُذكِّرك أنك مدين للوسطاء من الكواكب، ولا أقول لي؛ فما أنا إلا أداة لها خاضعة، أفيد منها وأنفع الأحياء وأردُّ لهم حياة …»
فعارَضَه الملك قائلًا: «وأنا أكفُل لك أن أجازيك حياةً بحياة، فهل هذا ما تريد؟»
فقال الحكيم: «هذي ضراعتي المُتواضعة للملك رتشارد العظيم؛ هي حياة هذا الفارس الكريم، الذي قُضي عليه بالموت من أجل إثمٍ كذلك الذي ارتكب آدم أبو البشر.»
فعبس الملك قليلًا وقال: «وهلَّا ذكَّرَتْك حكمتك أيها الحكيم أن آدم قد مات من أجل خطيئته.» ثم شرع ينقُل الخُطى في حيِّز فسطاطه الضيق، وقد غلبه الانفعال وأخذ يُحدِّث نفسه، ثم قال: «رحماك اللهم، لقد عرفتُ فيمَ أتى حينما دخل الفسطاط! هنا حياة واحدة بائسة حُكِم عليها عدلًا بالإعدام، وأنا ذلك الملك المُقاتل الذي قُتل الألوف بأمرٍ منه، والعشرات بيده، ليس لي سلطان على تلك الحياة، مع أنَّ شرَف سلاحي وبيتي ومليكتي قد لوَّثتْه جريمة الآثم، وحق القديس جورج إنَّ هذا ليضحكني! وبحقِّ القديس «لويس» إنه ليُذكِّرني بقصة «بلندل والقصر المسحور» حيث وقفت في وجه الفارس البائس أشكال وجسوم متتابعة لا شَبَه بين بعضها وبعض، ولكنها جميعًا تُناصِبُه فيما أراد العداء، ما إن اختفى واحدٌ منها حتى بدا له آخَر؛ زوجة، ثم قريبة، ثم ناسك، ثم حكيم، إذا ما انهزم منهم واحد تصدَّى للدفاع آخر. ماذا؟ والله إني إذن لفارس أوحد ينازل حشدًا بأسرِه في ساحة الوغى. ها! ها! ها!» ثم أخذ رتشارد يضحك ضحكاتٍ عالية، وبدأ فعلًا يُبدِّل من حال نفسه حالًا أُخرى، لأنه كان في حنَقِه عادة شديدًا عنيفًا بحيث لا يستطيع أن يبقى كذلك طويلًا.
وإذ ذاك رنا إليه الطبيب بنظرةٍ دَهِشة لا تخلو من الازدِراء والاستخفاف، لأنَّ أهل الشرق لا يتسامحون في مثل هذه التغيُّرات المُتقلِّبة في المزاج، ويظنُّون الضحك الصُّراح — مهما كان الظرف — مُحطًّا بكرامة الرجل، ولا يليق إلا بالنساء والأطفال. وأخيرًا لمَّا أن استقرَّت نفس الملك، خاطبَه الحكيم وقال:
«إنَّ حكم الموت لا يصدُر عن شفتَين ضاحكتَين، وما يخال خادمك إلا أنك قد منحتَ الرجل حياته.»
فقال رتشارد: «لك أن تنال الحرية لألف أسيرٍ عوضًا عنه، ولك أن تُعيد من شئتَ من بني جلدتك إلى خيامهم وأهلهم، وسوف أمنحُك هذا بغير توانٍ، ولكن حياة هذا الرجل لا تُجديك شيئًا، وقد صدر فيها القضاء وانتهى الأمر.»
فقال الحكيم وقد مدَّ يدَه إلى قلنسوته: «إنَّ حياتنا جميعًا إلى الضياع ولكنَّ الإله الأعظم الذي وهبَنا الحياة بنا رحيم، وهو لا يسلُبنا ودائعه عنوةً وبغير أوان.»
فقال رتشارد: «وهل لك صالح خاص في التوسُّط بيني وبين إنفاذ العدالة التي أقسمتُ لها كملكٍ على رأسه تاج؟»
فقال الحكيم: «إنك أقسمتَ أن تُقيم الرأفة كما تُقيم العدل، وإنما أنت أيها الملك العظيم ترمي إلى تنفيذ إرادتك الخاصة، ولتعلَمْ أن حياة الكثير من الرجال تتوقَّف على جودك بالعفو في هذا الأمر الذي أتضرَّع إليك فيه.»
فقال رتشارد: «أفصح عن القول، ولا تظننَّ أنك سوف تفرِض عليَّ إرادتك بباطل دعواك.»
فقال «أدنبك»: «ما أبعد خادمك عن هذا، ولتعلمنَّ إذن أنَّ الدواء الذي تدين له بالشفاء أنت يا سيدي الملك وكثيرون غيرك ما هو إلا طلسم، تألَّف والسماء في برجٍ خاص، ونجوم السماء ميمونة الطالع، ولستُ إلا رسولًا لفضائله، أغمِسُه في قدحٍ من الماء، وأرقب الساعة التي تليق بالمريض أن يتناوَلَه فيها، ثم تفعل الجرعة فعلَها بما فيها من قُدرة على الشفاء.»
فقال الملك: «أندِرْ بهذا من دواءٍ وأنجِعْ به! ولمَّا كان بوسع الطبيب أن يحمله في حقيبته، فإنه يوفِّر عليه قافلةً بأسرِها من البعير قد يحتاج إليها لحمْل العقاقير والأدوية، وإني لأعجب إن كان هناك غير هذا الدواء دواء يتعاطاه الناس.»
فأجاب الحكيم في رزانةٍ وغير اضطراب يقول: «لقد كُتِب على الناس ألا يُسيئوا إلى الدواب التي تحملهم من ساحة القتال؛ ولتعلَمْ أنَّ أمثال هذه التمائم يمكن حقًّا أن تُسطَّر، ولكن قلَّ من النطاسيين من جرُؤ على الانتفاع بفضائلها؛ إذ إنَّ الحكيم الذي يستخدِم هذا الضرب من العلاج ينبغي له أن يتعرَّض لقيودٍ شديدة وشروط أليمة، وللصوم والتكفير العنيف، ولو فَاتَه أن يَشفي ما لا يقلُّ عن اثني عشر شخصًا كلَّ شهرٍ إهمالًا منه، أو حبًّا للدَّعة والراحة، أو لاسترساله في الشهوات الحسِّية، فإنَّ مزية هذه الهِبة الإلهية تسقُط عن التميمة، ويتعرَّض الطبيب ومريضه الأخير كلاهما لنكَدِ الطالِع يحلُّ بهما سريعًا، ولن يبقى بعد الحَول أحدُهما على قيد الحياة، وقد بقِيَت لي حياةٌ واحدة أبلُغ بها العدد المضروب.»
فقال الملك: «اذهب أيها الحكيم الكريم إلى المعسكر حيث تجد هناك الكثير، ولا تفكِّر في أن تسلُب جلادي أسراه، فإنه لا يليق بطبيبٍ له مكانتك أن يتدخَّل في عمل غيره، وفضلًا عن ذلك فإني لا أرى كيف أنَّ إنقاذ جارم من الموت الذي يستحق يُتِم لدوائك هذا المُعجِز قصَّته.»
فقال الحكيم: «إنِ استطعتَ أن تريني كيف أنَّ جرعةً من الماء البارد قد جلبت لك الشفاء حيث باءت بالفشل أنفَسُ العقاقير، إذن فلك أن تفكِّر في العجائب الأخرى التي تتعلَّق بهذا الأمر. أما أنا فلستُ قمينًا بهذا العمل العظيم؛ إذ إني لمستُ هذا الصباح حيوانًا دنسًا، وإذن فلا تُوجِّه إليَّ بعدَ هذا سؤالًا، وحسبُك أن تعرِف أنك إنِ استبقيتَ لهذا الرجل حياته إذعانًا لرجائي، أنقذتَ خادمك ونفسك أيها الملك العظيم من خطرٍ جسيم.»
فأجاب الملك قائلًا: «استمع إليَّ يا «أدنبك»، إني لا أعترِض على الأطباء يُراوِغون في الحديث ويزعُمون أنهم يستمدُّون من النجوم علمًا، ولكنك حينما تُريد رتشارد بلانتاجنت على أن يخشى خطرًا ينزل به من طِيَرةٍ سقيمة، أو لإهمالٍ في المواصفات، فلستَ تخاطب رجلًا سكسونيًّا جاهلًا، أو امرأةً عجوزًا خَرِفة تتخلَّى عن هدفها لأنَّ أرنبًا يعبُر الطريق، أو لأنَّ غرابًا أسحم ينعَبُ أو قطًّا يعطس.»
فقال «أدنبك»: «ليتَ بوسعي أن أقِف بينك وبين رِيبتك فيما أقول، ولكن ليعلَم سيدي المليك أن الحقَّ على لسان خادمه؛ هل ترى عدلًا أن تحرِم الدنيا وكلَّ بائسٍ يُعاني ممَّا أصابك أخيرًا من آلام ألزمتْك الفراش، من نفع هذه التميمة ذات الفضل العظيم، ولا تمدُّ عفوك إلى رجلٍ واحد آثِمٍ بائس؟ هل ترى يا جلالة الملك أنك — وقد استطعت أن تقتُل الألوف — لا تستطيع أن تردَّ إلى رجلٍ واحد صحته. إن للملوك لقوَّة الشيطان على التعذيب، وللحُكَماء قدرة الله على الشفاء، إنْ كنتَ لا تستطيع أن تفعل الخير للإنسانية فحذارِ أن تقِف في سبيلها. إنك تستطيع أن تفصل الرأس عن الجسد، ولكنك لا تستطيع أن تُعالِج سنًّا مُوجَعة.»
وتكلَّف الحكيم في حديثه نغمة الترفُّع، بل الإشراف والتسلُّط، فشدَّ الملك من أزر نفسه وقال: «إنَّ هذه لقِحَة منك، بل وأكثر من قِحة؛ لقد اتَّخذناك لنا طبيبًا لا ناصحًا ولا على الضمائر قائمًا.»
فقال الحكيم: «وهل هكذا يردُّ أعلى أمراء الفرنجة فضلًا أصاب شخصَه الكريم؟» وبدَّل من وقفتِه الخاشعة الذليلة، التي وقف حتى ذاك مُتضرعًا إلى الملك، وقفةَ الشامخ الآمِر، ثم قال: «فلتعلَمْ إذن أني سوف أُذيع في كلِّ بلاطٍ في أوروبا وآسيا — لكلِّ مُسلم ونصراني، ولكلِّ فارسٍ وسيدة، وحيثما يُضرَب على وترٍ أو يُمتشَق حسام، وأنَّى يُستحبُّ الشرَف ويُمقَت الخزي والعار — أن الملك رتشارد جَحودٌ ضيِّقُ الفكر، وستبلُغ فضيحتُك هذه كلَّ بلدٍ لم يسمَع باسمك — إن كان هناك منها ما هو كذلك!»
فأجاب رتشارد وقد أفج في خطاه نحوه غاضبًا وقال: «هل هذه شروط تشرطها عليَّ أيها الرجل؟ هل كللتَ من حياتك؟»
فقال الحكيم: «دقَّ عُنقي! إذن ليَبخسنَّ عملُك قدرَك أكثر ممَّا تستطيع كلماتي، وإنْ كان لكلٍّ منها لدغ الزنبور.»
فأشاح رتشارد عنه بوجهه هائجًا، وقد أطبق ساعديه، وعبَر السرادق من جانبٍ إلى آخر كما فعل من قبل، ثم صاح: «جحودٌ ضيِّقُ الفكر؟ إذن فلتصِمْني بالجُبن والكفر! أيها الحكيم، لقد أُعطيتَ سؤلك، وإني وإنْ كان خيرًا لي أن تطلُب إليَّ جواهر تاجي، ليس لي كملكٍ أن أُنكِر عليك ما أردت. خذ هذا الاسكتلندي إذن تحت حفظك، وسيُسلِّمك إيَّاه السجَّان على هذه البينة.»
ثم خطَّ مُسرعًا سطرًا أو سطرَين وسلمَّهما إلى الطبيب.
ثم قال: «واستخدِمه لديك عبدًا رقيقًا، وتصرَّف في أمره كيفما شئتَ، ولكن حذِّره من أن يأتي تحت بصَر رتشارد. استمع إليَّ، فأنت رجل حكيم، إنه جاوز الجرأة بين أولئك اللائي نُودِع شرَفَنا في جميل مُحيَّاهنَّ وضَعف كلِمِهنَّ، كما تودعون أنتم أهل الشرق كنوزكم في صناديق من سلوك الفضة دقيقة رقيقة كخيوط الشمس.»
فاستعاد الحكيم لتوِّه في أسلوب خطابه ذلك الاحترامَ الذي بدأ به وقال: «إنَّ خادمك يُدرِك كلمات مَليكه. إذا تلوَّث البساط النفيس أشار الأحمق إلى ما يشُوبه، وسترَه الرجل الحكيم بعباءته. لقد سمعتُ ما يريد مولاي، وما سمعي إلا طاعة.»
فقال الملك: «خير له أن يُبقي على سلامته، وألا يظهَر في حضرتي بعد هذا. هل هناك أمرٌ آخَر أستطيع أن أُدخِل به السرور على نفسك؟»
فقال الحكيم: «والله لقد ملأ الملك بسخائه كأسي حتى حافتها. أجل لقد كان جودُك غزيرًا كتلك العَين التي انبثقتْ وسط مُخيَّم بني إسرائيل حينما ضرَب موسى بن عمران الحجَر بعصاه.»
فقال الملك باسمًا: «أجل ولكن هذا الجود قد تطلَّب — كما تطلَّبَت الصحراء — ضربةً قوية فوق الصخر قبل أن يُخرِج ما به من كنوز، والله لوددتُ لو أني عرفتُ ما أَسرُّك به، إذن لوهبتُك طائعًا كما تلفظ العين الطبيعية ماءها.»
فقال الحكيم: «دعْني ألمس هذه اليد الظافرة، ليكون في ذلك دليلٌ على أن «أدنبك» الحكيم، لو طلَبَ بعد هذا إلى رتشارد ملك إنجلترا مطلبًا، فلَهُ أن يفعل ذلك على أن يتوسَّل ويضرَع فيما يريد.»
فأجابه رتشارد قائلًا: «لك يدي وقفازها فوقها أيها الرجل، ولكنك إنِ استطعتَ أن تُتمَّ قصة مرضاك سليمةً دون أن تطلُب إليَّ أن أنقذ من العقوبة مَن حقَّت عليه، لدفعتُ إليك دَيْني في صورةٍ أخرى، وأنا أشدُّ رغبةً وأكثر اختيارًا.»
فأجاب الحكيم قائلًا: «مدَّ الله في أيامك!» ثم خرج من الغرفة بعدما امتثل خاضعًا خاشعًا كما ألِف.
ولمَّا همَّ بالرحيل، نظر إليه الملك رتشارد نظرةً لا تنمُّ عن الرضا بكلِّ ما فات.
ثم قال: «ما أعجب هذا الحكيم في إصراره، وما أغرب هذه الفرصة التي ساقتْهُ كي يتدخَّل بين ذلك الاسكتلندي الجريء وبين ما حقَّ عليه من جزاء هو الحق، ولكن ليعِشْ هذا الرجل! فإنه شجاع يستحقُّ الحياة. والآن ما بال ذلك النمساوي؟ ها! هل بارون جلزلاند خارج الفسطاط؟»
وما إنْ صاح الملك هكذا بتوماس دي فو، حتى هرول وأظلم مدخلَ السرادق بجسمه الضخم، ووراءه ناسِك عين جدة بصورته الوحشية، مُتلفِّعًا في عباءةٍ من جلد الماعز، يتسلَّل كأنه طَيف من الأطياف، لم يدْعُه للمثول أحد ولم يُعارِضه أحد.
ولم يلحظ رتشارد وجودَه، فصاح بالبارون في صوتٍ مرتفع وقال: «أيْ سير توماس دي فو صاحب «لانركست» و«جلزلاند»، اصحبْ معك البوق والمنادى، واذهب توًّا إلى خيمة ذك الذي يُسمُّونه أرشدوق النمسا، وارتقِبْ حتى يكون احتشاد فُرسانه وأتباعه حوالَيه على أشُده — وهو ما سيكون، على ظنِّي، في هذه الساعة، لأنَّ هذا الخنزير الألماني يتناول طعام الإفطار قبل الصلاة — وامثُل لدَيه بقليلٍ من الاحترام بقدْر ما تستطيع، واتَّهِمه باسم رتشارد ملك إنجلترا بأنه قد اختطف هذا المساء بيدِه، أو بيد غيره، راية إنجلترا من فوق عصاها، ثم قُل له إنَّا نريد — قبل أن تنقضي ساعة بعدَ هذه اللحظة التي أُحدِّثك فيها — أن يُعيد الراية بكلِّ احترام، وأن يُعيدها بنفسه مصحوبًا بكِبار الأمراء المُحيطين به برءوسٍ عارية وبغَير ثياب الشرَف، وأنه فوق ذلك ينبغي أن يضرِب إلى جوار رايتنا من ناحية رايته، راية النمسا مقلوبةً كأنها أُشينَت بالسرقة والخيانة العظمى، وأن يضرب من الناحية الأخرى رمحًا يحمِل رأس ذلك الرجل اللَّعين الذي نصح له بهذه الإساءة الدنيئة. وقل له إنه إنْ قام بإنفاذ إرادتنا هذه في حينها، فسوف نعفو عن خطاياه الأخرى، حفظًا لليمين التي أقسَمْنا، ومُراعاة لخير الأرض المقدَّسة.»
فقال توماس دي فو: «وماذا لو أنَّ دوق النمسا أنكر كلَّ صلةٍ له بهذا العمل السيئ الأثيم.»
فأجاب الملك قائلًا: «إذن فقُل له إنَّا سوف نُثبته على جثمانه؛ أي والله، حتى ولئن كان بطَلَاه الجريئان بنُصرته، إنَّا سوف نُثبت عليه هذا ونحن كالفرسان على ظهور الخيل، أو ونحن راجِلِين، في الفلاة أو في الميدان، وله أن يختار الزمان والمكان والسلاح كما يريد.»
فقال بارون جلزلاند: «فكِّر يا مولاي في سلامة الله والكنيسة، وفي أولئك الأمراء المُشتغِلين بالحرب الصليبية المقدَّسة.»
فأجابه رتشارد وقد نفد منه الصبر: «فكِّر أنت يا مولاي الكريم كيف تصدَع بأمري، والله إني لإخال الرجال يظنُّون أنهم سوف يصرفوننا عن مَرمانا بأنفاسهم، كما تنفُخ الأطفال الريش فتطوِّح به هنا وهناك. سلامة الكنيسة! بربِّك قُل لي من ذا الذي يرعى لها حُرمة؟ إنَّ سلامة الكنيسة بين الصليبيين معناها مُحاربة العرَب، وقد هادنَهم الأمراء، وفي هُدنتهم قضاء على سلامة الكنيسة، وفضلًا عن ذلك هلَّا ترى كيف أنَّ كل أميرٍ منهم يرمي إلى غرَضِه الخاص؟ فسوف أقصد أنا كذلك إلى مرماي، وما ذاك إلا الاحتفاظ بشرَفي. وما أتيتُ إلى هنا إلا من أجل الشرَف، فإنْ لم أنلْهُ على حساب الأعراب، فلا أقلَّ من ألَّا أضيع ذرَّةً منه من أجل هذا الدوق الخسيس، حتى وإنْ تحصَّن واحتمى بكلِّ أميرٍ في الحرب الصليبية.»
فهمَّ دي فو بالانصراف إذعانًا لأمر مليكه، ولكنه هزَّ بكتفَيه، إذ إنه — لصراحة طبعه — لم يستطع أنْ يُخفي أنَّ مشيئة الملك لا تتَّفِق وما يرى؛ ولكنَّ ناسك عين جدة تقدَّم إلى الأمام ووقف وقفة رجلٍ يحسُّ بعلوِّ مرتبته على مراتب الملوك. وحقًّا لقد كان بزِيِّه الخشِن الجلدي، ولِحيته وشعره الأشعث غير المشذَّب، وملامحه الهزيلة الوحشية المعوجة، وتلك النار التي تُوشك أن تكون نار الجنون تشعُّ من تحت حاجبَيه الكثَّين، كان بكلِّ هذا أشبَهَ ما يكون بالصورة التي ترتسِم في أذهاننا عن هيئة نبيٍّ من أنبياء الكتاب المقدس، وقد كُلِّف برسالةٍ عالية يُبلِّغها ملوك «يهوذا» أو بني إسرائيل الآثِمين، فهبط من ثنايا الصخور وظلام الكهوف التي كان يقطنها مُنعزلًا فريدًا، كي يُخزي الظالمين فوق الأرض وهم في معمعان كبريائهم، وذلك بأن يُنزِل بهم من ربِّ السماء سخطه ونِقمته، كما يُرسِل من السحاب الصواعق يسُوقها يُنزلها فوق الحصون والقصور، قِمَمها وبروجها. وكان رتشارد — مهما اشتدَّ عنادُه وصلابته — يحترم الكنيسة ورجالها. ولئن ساءه دخول الناسك سُرادقه فلقد حيَّاه — رغم ذلك — باحترامٍ وإجلال، ولكنه أشار إلى سير توماس دي فو في ذات الوقت أن يُسارع برسالته.
ولكنَّ الناسك، بالإشارات والنظرات والكلمات، منع البارون من أن يسير في رسالته هذه ذراعًا واحدة، ورفع ساعِدَه العارية — وقد سقطتْ عنها عباءة جلد الماعز، وانطرحت إلى الخلف من عُنف حركته — وهزَّ بها إلى أعلى، وهي من قلَّة الغذاء نحيلة، ومن أثر السياط في تكفيره الشديد جريحة. ثم قال:
«باسم الله وأبينا الذي يتقدَّس في اسماء، وباسم خليفة الكنيسة المسيحية في الأرض، أنا أَنهى عن هذا التحدِّي الدموي الوحشي الدَّنِس بين أميرَين مسيحيَّين، ترتسِم على كتفَيهما العلامة التي أقسَما تحتها لَيُحافظان على الإخاء. الويل لمن يحنَث في هذي اليمين! أي رتشارد ملك إنجلترا، ارجِعْ عن هذه الرسالة التي حمَّلْتها هذا البارون، فإنها حرام ما بعدَه حرام. إن الخطر والموت على كثَبٍ منك، والخنجر مُصوَّب نحو حلقك!»
فأجاب الملك شامخًا بأنفه وقال: «الخطر والموت زميلان يلعَبُ معهما رتشارد، وكم من ضربة سيف لم يكترِثْ لها، فهو لا يخشى بعد هذا الخناجر.»
فقال الكاهن مُجيبًا: «الخطر والموت منك قريبان.» ثم انخفضت نغمات صوته، وأصبحت جوفاء كأنها من غير هذه الدنيا وقال: «وبعد الموت الحساب!»
فقال رتشارد: «أيُّها الأب الصالح المقدَّس، إني أُجلُّ شخصك وطهارتك.»
فعارَضَه الناسك وقال: «لا تُجِلَّني، وإنما أجِلَّ مِن قبلي أدنى حشرةٍ تزحف على شُطآن البحر الميت وتطعَم على مَدَرها الكريه، وأجِلَّ ذلك الذي أُبلِّغُك أمرَه؛ أجِلَّ ذلك الذي أقسمتَ لتُنقِذنَّ قبره، وأجِلَّ يمين التضامُن التي أقسمت، ولا تقطعنَّ خيط الوحدة والإخلاص الفضي الذي ربطتَ نفسك به مع زملائك الأمراء.»
فقال الملك: «أيها الأب الصالح، إنما أنتم رجال الكنيسة تزعمون لأشخاصكم المقدَّسة — إن جاز لرجل علماني أن يقول بهذا — شيئًا من الكرامة، وإني — دون أن أنازعكم حقَّكَم في السيطرة على ضمائرنا — أرى أنه يجدُر بكم أن تتركونا نسهَر على شرَفِنا.»
فكرَّر الناسك لفظ الملك وقال: «نزعم لأنفسنا! ليس لي أيها الملك رتشارد أن أزعُم، وما أنا إلا جرس مِطواع في يدِ خادم الكنيسة؛ ما أنا إلا بُوق لا يحسُّ ولا قيمةَ له، يُبلِّغ صوت ذلك الذي ينفخ فيه. انظر إليَّ، ها أنا ذا أخرُّ أمامك على رُكبتيَّ مُتضرِّعًا إليك أنْ ترأف بالعالَم المسيحي وبإنجلترا وبنفسك!»
فقال له رتشارد وقد أكرَهَه على الوقوف: «انهضْ من مكانك، انهض. لا يليق برُكبتَيك اللَّتَين جثَوْتَ عليهما لله كثيرًا أن يمسَّا الأرض إجلالًا لإنسانٍ من البشر. أي خطر ذلك الذي يرتقِبُنا أيها الأب المُبجَّل؟ ومتى كانت قوة إنجلترا بهذه الذلَّة بحيث تنزعِج، أو يأبَهُ ملكُها لهذا الشغب الصاخب يُثيره غضَب هذا الدوق المُحْدث؟»
«لقد أرسلتُ النظر من بُرجي فوق الجبل إلى جيوش النجوم في السماء، وكل وادٍ منها ينبِس بالحكمة للآخَر وهو يدور دورَتَه في منتصف الليل، وينطِق بالعِلم للقليل من بني الإنسان الذين يُدركون أصوات النجوم. مولاي الملك، إنَّ في «منزل الحياة» عدوًّا لك يتربَّص بذِكرك وبرفاهيتك، وينبعِث من زُحَل نذير يتهدَّدُك بالخطر العاجل الدامي، وإنْ لم تُسلِّم جبروت إرادتك لحُكم الواجب فسيسحَقُك سريعًا، وأنت في عنفوان كبرك وصلفك.»
فقال الملك: «عنِّي، عنِّي، إنْ هذا إلا عِلْم المُشركين، عِلم لا يُمارِسه المسيحيون ولا يُصدِّق به الحكماء، وإنما أنت أيُّها الرجل الهرِم تهرِف وتقول هراء.»
فأجاب الناسِك قائلًا: «أنا لا أهرِف يا رتشارد، ولستُ بالرجل السعيد، وإنما أنا أعرف حالي، وأعرف أني ما فتئ لي شعاعٌ من نور العقل أستخدِمه لا لنفعي، وإنما لصالِح الكنيسة ورفع الصليب. أنا ذلك الرجل الأعمى الذي يحمِل النور لغَيرِه ولا يستضيء به. سلْني عمَّا يتعلَّق بخير العالَم المسيحي والحرب الصليبية أُحدِّثك كأحكم ناصحٍ ما فارَقَتْ لسانَه قطُّ الهداية والإرشاد، وحدِّثني عن حياتي التعِسة تجدْ كلماتي كلمات المَعتوه المنبوذ، وما أنا إلا كذلك.»
فقال رتشارد وقد خفض من نغم كلامه وأسلوب حديثه: «لن أفصِم عُرى الوحدة بين الأمراء الصليبيين، ولكن أيَّة معذِرة يُقدِّمون لي للظلم والإهانة التي عانَيْت؟»
«وفي ذلك أنا على أُهبة أنْ أتحدَّث إليك، وقد فوَّضَني في هذا الشأن المجمع، بعد أنِ التأم على عجل — بدعوةٍ من فيليب ملك فرنسا — وأصدر في هذا الأمر قراره.»
فأجاب رتشارد: «عجيب أنْ يتشاور الآخرون في أمرٍ هو من حقِّ جلالة إنجلترا الجريحة!»
وأجاب الناسك بقوله: «هم يريدون أن يتعرَّفوا مطالِبَك إن أمكن هذا، وهم جميعًا مُتَّفِقون على أنَّ راية إنجلترا ينبغي أن تُرَدَّ إلى جبل سنت جورج، ويحبُّون أن يحكموا بالإدانة والحرمان على ذلك الآثم الجريء، أو أولئك الآثمين الجسورين، الذين انتهكوا حُرمتها، وسيُعلنون عن ثوابٍ جزيل لمن يفضح جُرم الآثم، ثم يقدِّمون لحمَهُ طعامًا للذئاب والغربان.»
فقال رتشارد: «وما الرأي في دوق النمسا الذي تُلابِسنا أقوى الظنون بأنه هو الذي فعل ذلك الصنيع؟»
فردَّ عليه الناسك قائلًا: «إنَّ دوق النمسا سوف يخضع لما يُفرَض عليه بطريق بيت المقدس من مِحَن، كي يُزيل ما يُحيط به من الظنِّ والرِّيبة، وذلك كي لا ينشِب في صفوف الجيش خلاف.»
فقال الملك رتشارد: «وهل بالنزال يُبرِّئ نفسه؟»
فأجاب الناسك: «إنَّ اليمين التي أقسمَ تُحرِّم عليه ذلك، وفضلًا عن هذا فإنَّ جميع الأمراء …»
فقال الناسك: «مهلًا، مهلًا يا رتشارد، هدئ ثائرة نفسك خجلًا إنْ لم يكُن إحسانًا! من ذا الذي يمدَح أو يكيل الشرَف للأمراء الذين يَسبُّون ويَثلبون بعضهم بعضًا؟ وا أسفاه على مخلوقٍ نبيل مثلك، شبَّ على خواطر الملوك وجسارتهم، وخليقٌ به أن يُشرِّف العالَم المسيحي بعمله، وأن يحكمه بحكمته، وهو أهدأ منك الآنَ مزاجًا. وا أسفاه على رجلٍ مثلك يُصيبه غضب الأُسْد الهمجي المتوحِّش، ممزوجًا بالوقار والإقدام وهما من صفات ملك الغاب!»
ولبث لحظةً يتدبَّر ويتأمل وعيناه صوب الأرض، ثم استأنف حديثه وقال: «ولكن الله الذي يعرف عجز طبائعنا، يتقبَّل منَّا طاعتنا على نقصِها، وقد استأخر نهاية حياتك الجريئة الدامية، ولكنه لم يعدِل عنها. لقد وقف ملك الموت ساكنًا — كما وقف في قديم الزمان إلى جوار المكان الذي كان يدقُّ فيه «أرونا جبوست» الحنطة — وبيدِه ظباة مجرَّدة، سوف يكون بها عما قريب رتشارد قلب الأسد وضيعًا كأحطِّ فلاحٍ من المزارعين.»
فقال رتشارد: «وهل نهايتي هكذا قريبة جدًّا! إذن ليكن ذلك. اللهمَّ إن كانت حياتي قصيرة فلتجعلْها مضيئة مستنيرة.»
فقال الرجل صاحب الخلوة، وكأنَّ دمعة — وهي له زائر غير معهود — كانت تتجمع في عينه البراقة الجافة: «وا أسفاه أيها الملك النبيل! إن المدى الذي يفصل ما بينك وبين القبر مُظلم، عليه سِمات الفناء والنَّكبة والأسْر، والقبر فاغر فاه ليبتلِعَك، وهو قبر سوف تُوارى فيه دون أن يعقُبَك خلَف، أو يذرف عليك شعبُك الدمع رثاءً عليك، وقد أنهكْتَهُ بحروب موصولة غير مقطوعة، ولم تمدَّ في علم رعيتك أو تفعل شيئًا يزيد من سعادتها.»
«ولكنَّ حياتي لم تخلُ من بعض الصِّيت أيها الراهب، ولم تُحرَم دمعات المرأة التي أُحب! وإنَّ في هذا لَعزاءً لرتشارد حتى مَماته، عزاءً لا تستطيع أنت أن تعرفه أو تُدرِكه.»
فأجابه الناسك في نبرةٍ كان لها — مدى برهةٍ من الزمن — رنينٌ أشبَهُ ما يكون بنبرة رتشارد نفسه وحميَّته، وقال: «أنا لا أعرف ذلك، ولا أستطيع أن أُدرك قيمة ما يمتدِحُك به الشعراء، وما لحُبِّ غادتك من قدْر!» ثم واصل حديثه وقد مدَّ ذراعه الهزيلة وقال: «أي ملك إنجلترا، إنَّ الدم الذي يغلي في عروقك الزرقاء ليس أشدَّ نبلًا من ذلك الي يركُد في عروقي، ولئن كانت قطراتُ دمي قليلة فهي من دم «الوزجنان» الملكي، هي من دم «جدفري» البطل المقدَّس. أنا «ألبريك مرثمار»، أو لقد كان اسمي حينما كنتُ في هذه الدنيا.»
فقال رتشارد: «أنت ذلك الرجل الذي تتمشدَق بذِكره الأبواق! أفهذا صحيح؟ وهل يجوز ذلك؟ هل يمكن لضوءٍ كضوئك أن يهبط من أفق الفروسية، ويبقى — مع ذلك — الناس وهم بالمكان الذي استقرَّ فيه هذا الضياء جاهلون؟»
فقال الناسك: «لئن بحثتَ عن نجمٍ إذا هوى، ما وجدتَ إلا سديمًا قاتمًا كانت له — وهو يشقُّ الأفق — صورةٌ زاهية بهية بُرهة من الزمن. أي رتشارد، تالله لو كنتُ بتمزيق الحجاب الدامي، الذي أستُر به سرًّا مفزعًا أستطيع أن أُطأطئ قلبك الشامخ لنظام الكنيسة، إذن لألفيتُ في صدري قصَّةً أقصُّها عليك، وقد أبقيتُها حتى الآن تقرض فيَّ عروق الحياة في الخفاء، وأنا كالشابِّ الوثَني الذي كرَّس لِدِينه قلبه. أصغِ إليَّ إذن يا رتشارد، جعل الله للأسى واليأس — وهما لن يُجدِياني فتيلًا — مِن القوة ما يجعلها مثلًا لكائنٍ مثلك، كائن هو رغم توحُّشه نبيل شريف؛ نعم، لأكشفنَّ عن جراحٍ لبِثَتْ في الخفاء أمدًا طويلًا، لأكشفنَّ عنها رغم أنها ربما تدمى حتى أموت وأنا في حضرتك!»
ثم أخذ الملك رتشارد يستمِع — وكله احترام — إلى موجَز قصَّة فيها ما يكفي للإبانة عن سبب شِبه الجنون الذي أصاب ذلك الإنسان الفريد البائس. وقد كان لتاريخ «البريك مورثمار» على رتشارد فيما مضى أثرٌ قوي في سِنِيه الباكرة، حينما كان المُنشِدون يملئون قاعات أبيه طربًا وسرورًا بما يَروون من قصصٍ عن الأرض المقدسة.
فقال رتشارد: «أتعِسْ بك من رجل! إني لن أعجَبَ لبؤسك بعد هذا. قل لي كيف خلُصتَ من الحكم الذي يقضي به الشرْع في مثل جرمك هذا؟»
فقال الناسك: «سلْ في هذا رجلًا ما برَح شغوفًا بهذه الدنيا المريرة يُحدِّثْك عن حياةٍ بقِيَت لأسبابٍ خاصة ولاعتبار النسب الكريم، ولكن إن سألتني أنا يا رتشارد أقُلْ لك إن العناية الإلهية قد أبقتْني كي ترفَعَني إلى العُلا منارًا وهُدًى، وبعدما يحترِق منِّي هذا الوقود الدنيوي تتبدَّد رُفاتي في النار. هذا الجسد الذي تراه ذاويًا ضامرًا يسري فيه رُوحان، أحدُهما فعَّال ثاقِب نافذ يدفع عن قضية الكنيسة في بيت المقدس، والآخر وضيع حقير بائس، يتذبذب بين الجنون والبؤس، يَبكي شقائي ويسهر على الآثار المقدَّسة، والآثار التي إنْ أنا رمقتُها بعَيني كنتُ آثمًا جارمًا. بربِّك لا تشفِق علي! إنْ هو إلا إثم أن تشفِق على ضياع شيءٍ دنيء كهذا. لا تُشفِق عليَّ وأفِدْ من مثالي. أنت تقف فوق أعلى قمة يشغلها أمير مسيحي، ولذا أنت في أشدِّ المواقف خطرًا. أنت مُتكبِّر في نفسك، مُتهاون في حياتك، دامٍ في يدك، أَبْعِدْ عنك الذنوب التي هي منك بمثابة البنين! انْفِ من صدرك هذا الغضب وذلك الكبرياء والترَف والتعطُّش للدماء، مهما تكُ هذه العواطف عزيزةً على الإنسان الآثم فيك!»
فأجابه الناسك وقال: «إنَّ لك لقلبًا من الصلب، ويدًا من الحديد، لا يُجديهما نُصح أو مثال! — ومع ذلك فلسوف نعطيك فرصةً من الزمن، ربما تحوَّلتَ بعدها وفعلتَ ما يُرضي الله في سمائه — أما أنا فينبغي لي أن أعود إلى مكاني. رحماك اللهم! أنا ذلك الرجل الذي تخترِقه أشعة الرحمة الإلهية، كما تخترق أشعة الشمس العدسة الحارقة، ثم تتجمَّع فوق جسوم أُخرى فتشتعل الجسوم وتلتهِب، بينما تبقى العدسة باردةً ما بها أثر. رحماك اللهم! لقد نبذ الغنيُّ المأدبة، فللفقير أن يتقدَّم. رحماك اللهم!»
ولم يكدْ يُتمُّ حديثه حتى انطلق من السُّرادق يصيح صياحًا عاليًا، وهذه الصيحات الجنونية من الناسك محَتْ من ذهن رتشارد شيئًا من الأثر الذي تركه تفصيل ماضيه وأرزائه الخاصة، فقال الملك: «تالله إنه لقسٌّ مَعتوه! اتبَعْه يا دي فو، وراقِبْه كي لا يُصيبه أذًى، لأنَّا وإن كنا صليبيِّين، إلا أنَّ للمشعوذ بين سُوقتِنا تقديرًا فوق تقدير القس أو القديس، وربما ألحقتْ به السوقة بعض المهانة.»
فصدَع الفارس بالأمر، وأفسَحَ رتشارد لتوِّه في المجال للخواطر التي أوحتْ بها نبوءة الراهب الساذجة، فقال مُحدِّثًا نفسه: «هل أموت عاجلًا ولا يَخلُفني من بعدي ولَد، ولا يبكي على باكٍ؟ أثقِل به من حُكم، والحمد لله على أنه حكم لم يصدُر عن قاضٍ كفء قدير. ومع ذلك فالأعراب، الذين بلغوا الذُّروة في عِلم الرُّوح، كثيرًا ما يقولون إنَّ الله — الذي ليست حكمة الحكماء في تقديره إلا حُمقًا وجهلًا — يُوحي بالحكمة والكهانة في ثنايا الخبَل البادي على المَعتوهين من الرجال. إنَّ ذلك الناسك يُقال عنه كذلك إنه يقرأ النجوم، وهو فنٌّ كثيرًا ما يُمارَس في هذه البلاد التي كانت فيها جيوش السماء من قديم الزمان مَوضِع العبادة. وددتُ والله لو أني سألتُه في شأن ضياع رايتي فليس «تِشْبيْت» المبارك ذاته مؤسِّس مذهبه بأكثرَ منه صراحة وسذاجة، أو يتكلَّم مثله بلسانٍ أشبَهَ ما يكون بلسان نبي.» «والآن ماذا رأيتَ يا دي فو، وما خبر هذا القس المعتوه؟»
فأجابه دي فو قائلًا: «هل تقول عنه يا مولاي إنه قسٌّ معتوه؟ والله إني لإخاله أشبَهَ ما يكون ﺑ «العمدان» نفسه حينما خرَج من القفر مباشرة، لقد اعتلى آلةً من الآلات الحربية، وأخذ من فوقها يعِظُ الجند موعظةً لم ينطق بها منذ بطرس الناسك إنسان، وقد ذُعِر المعسكر من صياحه، فتجمَّع الخلق حولَه ألوفًا ألوفًا، وهو بين الحين والآخر يَحيد عن مجرى حديثه الأول، ويُخاطب الشعوب العديدة كُلًّا بلسانه، ويرميهم بأحسنِ ما يستفزُّهم من برهانٍ كي يُثابروا على تخليص فلسطين.»
فقال الملك رتشارد: «وحقُّ هذا النور إنه لناسِك نبيل! ماذا عسى أن يصدُر من دم «جدفري» غير ذلك؟ هل هو من السلامة يائس لأنه عاش بالحُبِّ في سالِف أيامه؟ لأطلبنَّ إلى البابا أن يبعَثَ إليه بالمغفرة الكاملة، ولن أكون أنا نفسي أقلَّ رغبةً من أن أتوسَّط له، حتى وإن كانت معشوقتُه الحسناء من الراهبات.»
وإذ هو يتحدَّث كذلك إذا بأسقُفِ صور يلتمِس المثُول لدَيه، كي يرجوه أن يحضُر — إن سمحت له صحته — جلسةً سرِّية سوف يعقِدها زعماء الصليبيين، وكي يشرَح له الحوادث الحربية والسياسية التي وقعَتْ إبَّان مرَضِه.