الفصل التاسع عشر
كان أسقف صور خير رسول لإبلاغ رتشارد نبأً لو سمعه الملك قلب الأسد من رجلٍ آخر ما أطاق سمعه دون أن ينفجر غاضبًا انفجارًا لا حدَّ له، وحتى هذا الأسقف الحكيم الجليل لم يكن باليسير عليه أن يُغري الملك بالإصغاء إلى ذلك النبأ الذي هدَم كل آماله في استرداد القبر المقدَّس بقوة السلاح، والفوز بتلك الشهرة التي كان صوت العالَم المسيحي قاطبةً يتأهَّب لمنحه إيَّاها كبطل الصليب.
ولكن بلاغ الأسقف كان يتبيَّن منه أن صلاح الدين كان يجمع قوى قبائله المائة جميعًا، وأنَّ ملوك أوروبا — وقد كانوا من قبل لكثيرٍ من بواعث هذه الحملة كارهين، هذه الحملة التي دلَّت الأيام على أنها مغامرة شديدة، والتي كان خطرُها يتفاقم يومًا بعد يوم — قد اعتزموا أن يتنحَّوا عن مقصدهم، وشدَّ من أزرهم فيما قصدوا إليه مَثَلُ فيليب ملك فرنسا، الذي أعرب عن عزمه على العودة إلى أوروبا، بعدما قدَّم البرهان على احترامه لأخيه ملك إنجلترا، وأكد أنه سوف يطمئنُّ على سلامته قبل الرحيل. وبات على مثل هذا العزم تابِعُه الأكبر أمير شمبانيا، وليس عجيبًا أن يرحِّب ليوبولد أمير النمسا — وقد ألحق به رتشارد الذلَّة والإهانة — بفرصةٍ تمهِّد له هجران هذه الحرب التي كان يُعدُّ خصمُه المتصلِّف لها زعيمًا؛ وأعلن الآخرون مثل هذه النية، حتى بات جليًّا أن ملك إنجلترا إنْ أحبَّ البقاء فسيُخلُّونه، ولا مُعين له غير أولئك المتطوِّعين الذين قد ينضمُّون إلى الجيش الإنجليزي في مثل هذه الظروف السيئة، وغير معونة غير أكيدة يُقدِّمها كُنراد منتسرا والجنود من رجال المعبد ورجال القديس يوحنا، وهؤلاء جميعًا — رغم أنهم قد أقسموا ليُشهِرُنَّ حربًا على الأعراب — كانوا على الأقل لا يقلُّون عن سواهم غيرةً من أي ملك أوروبي تتمُّ له الغلبة على فلسطين؛ حيث كانوا، من قصر النظر ومن سياسة تقوم على حب الذات، يطمعون في إنشاء ولاياتٍ مستقلة لهم.
ولم يحتَجِ الأسقف إلى نقاشٍ طويل كي يُبين لرتشارد حقيقة موقفه، وبعدما انفجر الملك ثائرًا غاضبًا أول الأمر، استوى على مقعده هادئًا ساكنًا؛ وبنظراتٍ كئيبة ورأسٍ مُطأطئ، وذراعاه على صدره مُنطبقتان، أخذ يُصغي للحجج التي أدلى له بها الأسقف على استحالة مواصلة الحرب الصليبية بعد تخلِّي أقرانه عنه، بل لقد أمسك الملك عن اعتراض الأسقف، حتى حينما بلغتْ بهذا الرجل الجرأة على أن يُلمِع في عبارةٍ متزنة إلى أن اندفاع رتشارد كان من الأسباب القوية التي بغَّضت الأمراء في الحملة.
فنظر رتشارد نظرةً كئيبة، وابتسم ابتسامة حزينة، وأجاب قائلًا: «إني أُقرُّ أيها الأب الوقور، بأنه ينبغي لي في بعض الظروف أن «أعترف بخطئي»، ولكن أليس شديدًا عليَّ أن ألْقَى على ضعف جِبلَّتي مثل هذا الجزاء، وأن يُقضى عليَّ، لثورةٍ أو ثورتَين انفجرتُ بهما لانفعالٍ طبيعي في نفسي، بأن أرى مثل هذه الثمار النفيسة، ثمار المجد لله والشرف للفروسية، تتبدَّد قبل أن تتجمع؟ ولكنها سوف لا تتبدد. أقسمتُ بروح المنتصِر الجبار لأرفعنَّ الصليب فوق بروج بيت المقدس أو ليُرفعنَّ فوق قبر رتشارد!»
فقال الأسقف: «لك أن تفعل هذا، ولكن لن تُراق بعد اليوم في هذا الصراع قطرة واحدة من دماء المسيحيين.»
فقال رتشارد: «إنك يا سيدي الأسقف تتحدَّث عن الصلح، ولكن دماء الكلاب المنافقين ينبغي كذلك أن تتوقَّف عن السريان والتدفق.»
فأجاب الأسقف قائلًا: «حسبُنا فخارًا أن نستخلِص من صلاح الدين بقوة السلاح، وبما يُوحيه ذكرك من تقدير، شروطًا نستردُّ بمقتضاها القبر المقدَّس توًّا، ونفتح للحجَّاج الأرض المقدسة، ونضمَن لهم سلامهم بقويِّ الحصون، وفوق هذا وذاك نؤكد سلامة المدينة المقدسة بأن يُمنح رتشارد لقب ملك بيت المقدس وحاميه.»
فتطاير الشرَر من عينَي رتشارد بدرجةٍ غير مألوفة وقال: «كيف هذا؟! أنا! أنا! أنا أكون ملك المدينة المقدَّسة وحاميها؟! إنْ هذا إلا النصر عينُه، ولن نكسب بالظفر في القتال أكثر من هذا، بل وقلَّ أن نبلُغ هذا بقوانا المُشتَّتة التي لا إرادة لها. ولكن صلاح الدين ما برحت له مآرب يرمي إلى الاحتفاظ بها في الأرض المقدسة، أليس كذلك؟»
فأجاب الأسقف: «إنما يحتفظ بها كملكٍ شريك وحليف، أَقسم ليُخلِصنَّ لرتشارد العظيم، وإن شئت فقل لصهره بصلة الزواج.»
فدُهش لهذا الخبر رتشارد دهشةً أقلَّ مما كان يتوقَّع الأسقف وقال: «بصلة الزواج! ها! أي نعم، أنت تعني أُديث بلانتاجنت. هل نما إليَّ هذا في حلمٍ من الأحلام؟ أم هل نبَّأني به إنسان؟ والله إنَّ عقلي ما يزال من أثر الحُمَّى مضطربًا ثائرًا ضعيفًا. تُرى من ألمع لي بهذه الصفة الهمجية؟ آلاسكتلندي، أم الحكيم، أم ذلك الناسك المقدس؟»
فقال الأسقف: «الراجح أنه ناسك عين جدة، لأنه جاهد في هذا الأمر كثيرًا، ومُذ تَبيَّن له تبرَّم الأمراء، وأنَّ تَشتُّتَ قواهم أمرٌ لا مناص منه، أكثرَ من الاجتماع بالمسيحيين والمسلمين للتشاور معهم، كي يُمهِّد لهذا الصلح الذي يُحقِّق للعالم المسيحي جانبًا على الأقل من أغراض هذه الحرب المقدَّسة.»
فتطاير الشرَر من عَيني رتشارد وصاح عاجبًا: «إمرأة من دمي لرجلٍ مسلم؟ ها!»
فسارع الأسقف إلى صرفِه عن غضبه وقال:
«لا رَيب أنه ينبغي لنا أن نحصل أول الأمر على رضا البابا، وسوف يُفاوض أبانا المقدَّس في هذا ذلك الناسكُ القديس المعروف في روما.»
فقال الملك: «كيف يكون هذا قبل أن يصدُر منَّا الرضا والقبول؟»
فقال الأسقف وفي صوته نغمة التهدئة والإيعاز: «كلَّا لن يكون ذلك إلا بتصديقٍ خاص منك.»
فقال رتشارد: «تريدون رضاي عن زواج فتاةٍ من دمي لرجلٍ من المنافقين؟» ولكنه كان يتكلَّم بنغمة تلمِسُ فيها الشكَّ أكثر مما تلمِسُ اللائمة الصريحة على هذا المُقترِح، ثم قال: «والله ما حلمتُ بمثل هذا التآلُف حينما وثبتُ من مُقدَّمِ سفينتي ووطأتُ أرض سوريا كما يثِبُ الليث لفريسته. والآن! ولكن دعْني من هذا، وواصل حديثك فسوف أستمع إليك صابرًا.»
وقد سُرَّ الأسقف حين ألفى مقصده من المليك أشدَّ يسرًا مما كان يخشى، فبادر إلى عرض الأمثلة لرتشارد من أشباه هذا التحالُف في إسبانيا ممَّا لم تتمَّ بغير رضا السدَّة البابوية، وإلى سرْد المزايا العديدة التي سوف يظفر بها العالم المسيحي من توثيق العُرى بين رتشارد وصلاح الدين برباطٍ له كل هذه القداسة. وفضلًا عن ذلك كان الأسقف يتكلَّم بحماسةٍ شديدة وروح ديني عن احتمال اعتناق صلاح الدين للمسيحية لو تمَّ هذا الحلف المقترَح.
فقال رتشارد: «وهل أبدى السلطان ميلًا إلى اعتناق المسيحية؟ إن كان هذا كذلك، فليس على وجه الأرض ملك أمنحه يدَ قريبتي، بل أختي، قبل أن أُقدِّمها لصاحبي صلاح الدين النبيل؛ أي والله، حتى وإن جاء الأول يُقدِّم التاج والصولجان تحت قدَمَيها، وجاء صلاح الدين خاليَ الوفاض لا يملك غير سيفه الكريم وقلبه الطيب!»
فقال الأسقف مُراوغًا بعض المراوغة: «لقد استمع صلاح الدين إلى مُعلِّمينا المسيحيين، وأصغى إلى شخصي الضعيف كما أصغى إلى غيري. ولمَّا كان يصغي صابرًا، ويُجيب هادئًا، فما إخال ذلك إلا لأنه كان ينتزِع نفسَه كما يُنتزَع الميسم من النار. ولقد قيل: «ما أعظم الحقَّ وما أشدَّ سلطانه.» وفضلًا عن ذلك فإنَّ ناسك عين جدة — وهو ذلك الرجل الذي قلَّما صدرتْ عنه كلماتٌ لم تُثمِر — على يقينٍ تام بأنَّ بين الأعراب ومن إليهم من المشركين رأيًا بأن هذا الزواج سوف يكون له أثره. إنه يقرأ مسالك النجوم، ولمَّا كان يقطن، زاهدًا في شهوات الجسد، في تلك الأماكن المقدَّسة التي وطأها القدِّيسون في قديم الزمان، فقد تلبَّس بروح «أليجا تَشْبيت» مؤسِّس مذهبه المبارك، كما تلبَّس بها من قبل «إليشع» الرسول حينما نشر فوقه عباءته.»
وأصغى الملك رتشارد للحجَج التي أدلى بها الأسقف بعينٍ كسيرة، ونظرةٍ كليلة.
ثم قال: «إني لا أستطيع أن أقول ما شأن هذا بي، ولكني أظنُّ أن هذه الآراء الباردة، آراء أمراء العالَم المسيحي، قد أصابتْني كذلك بفتورٍ روحي؛ لقد انقضى وقتٌ لو أنَّ رجلًا علمانيًّا تقدَّم لي فيه بمثل هذا الحِلف لطرحتُه أرضًا، ولو تقدَّم لي به رجل من رجال الكنيسة لبصقتُ في وجهه على أنه كافر ومن قساوسة «بعل»، ولكنَّ هذا الرأي منهم الآن ليس غريبًا على مَسمعي، وإني لأقول: مالي لا أسعى في إخاء العربي ومُحالفته، وهو رجل شجاع عادل كريم، يُحِبُّ عدُوَّه الفاضل ويُجلُّه، كأنه له صديق، بينما يتنحَّى أمراء العالم المسيحي عن جانب حلفائهم ويهجُرون قضية الله والفروسية الطيبة؟ ولكنِّي سوف أتمالك الصبر ولا أفكِّر بعدُ فيهم؛ لن أقوم بعد هذا إلا بمحاولةٍ واحدة كي أُبقي على تماسك هذه الأُخوَّة السامية إنْ أمكن ذلك، ولو فشِلتُ فيها يا سيدي الأسقف، فلنتحدَّث معًا في أمر مَشورتك، التي لا أقبلُها الآن في الظرف الراهن ولا أنبذها كلَّ النبذ. هيا بنا إلى المجمع يا سيدي، إن الوقت يُنادينا. إنك تقول إنَّ رتشارد عجول مُتغطرِس، سوف تراه يُذِلُّ نفسه كذلك العُشب الوضيع الذي يُشتَقُّ منه لقبه.»
ثم خفَّ الملك يساعده رجال غرفته الخاصة، وارتدى صُدرةً وعباءة سوداء لونها رسمي، ولم يلبَس من شارات الأبَّهة الملكية غير حلقةٍ من ذهبٍ يطوِّق بها رأسه، ثم سارع وأسقف صور كي يحضُر المجمع الذي كان منعقدًا ينتظِر قُدومَه كي يبدأ جلسته.
وكان السُّرادق الذي يلتئم فيه المجمع فسطاطًا فسيحًا، تنتشِر أمامه راية كبيرة عليها شارة الصليب، وأخرى ترتسِم عليها امرأة جاثية على رُكبتَيها، شعرها غير ممشوط، وزيُّها غير مُهندَم، قُصِد بها أن تُمثِّل كنيسة بيت المقدس المُقفِرة المنكوبة وكانت تحمل هذا الشعار: «لا تنسَ محنتك.» ووقف لدى هذا الفسطاط جماعة من الحرَّاس عُنِيَ باختيارهم، واتخذوا جميعًا أمكنةً بعيدة عن السرادق كي لا يتسرَّب الجدل — وكان أحيانًا يعلو ويعصف — إلى آذانٍ غير تلك التي أُريدَت به.
وفي هذا المكان اجتمع الأمراء الصليبيون، ولبثوا ينتظرون قدوم رتشارد؛ وحتى هذا التأخير الوجيز الذي اعترض رتشارد، فسَّره خصومه تفسيرًا لا يُرضيه، وأخذوا يتداولون فيما بينهم أمثلةً عديدة من تكبُّره واستعلائه عليهم استعلاءً لا مُبرِّر له، حتى إنَّ هذا التأخير الراهن القصير، الذي لم يكن للملك مندوحة عنه، قد سِيق مثالًا لذلك، وأخذ الرجال يُجاهدون في تأييد بعضهم بعضًا في هذه الآراء السيئة عن ملك إنجلترا، ويُبرِّرون الأخطاء التي ارتكبوها من قبل بالمبالغة في أتفه الأمور. وربما كان ذلك كله لأنهم كانوا يحسُّون بتقديرٍ غريزي لهذا الملك البطل، تقدير يتطلَّب لمُغالَبَته مجهودًا غير عادي.
ولذا فقد قرَّ بينهم الرأي على أن يستقبلوه حين مَقدِمِه بقليلٍ من الرعاية، ولا يُولونه احترامًا أكثر من مجرَّد ما ينبغي للمحافظة على حدود الحفاوة الباردة؛ ولكنهم ما إنْ رأوا تلك الهيئة النبيلة، وتلك الطلعة الملكيَّة وعليها أثر من شحوب المرَض الذي انتابه أخيرًا، وتلك العين التي أطلَق عليها المنشدون اسم النجم اللامع في مواقع القتال والظفر، وما إنْ هاجمت ذاكرتهم مآثِرُه التي تكاد تفوق شجاعة الإنسان وطاقة البشر، حتى هبَّ مجمع الأمراء جميعًا في آنٍ واحد — وحتى ملك فرنسا الغيور، ودوق النمسا المُكتئب المستاء هبَّا راضِيَين — وانفجر الأمراء الحاشدون جميعًا في صوتٍ واحد مُهلِّلين هاتفين: «سلام الله على الملك رتشارد ملك إنجلترا! وليحيَ قلب الأسد الجسور!»
وبجبينٍ واضح جليٍّ كشمس الصيف المشرق، أخذ رتشارد ينثر شُكره يمنةً ويُسرة، وهنَّأ نفسه على عودته ثانيةً بين إخوانه أمراء الحرب الصليبية.
ثم خطب الحاشدين وقال: «إنه كان يريد أن يقول كلمةً موجزة حتى وإن تكن في أمر — كمثلِه — تافه زهيد، مخاطرًا بتأجيل تشاورهم في صالح العالَم المسيحي بضع دقائق، وبإيقاف تقدُّمهم في مشروعهم المقدَّس.»
فعاد الأمراء المُجتمعون كلٌّ إلى مقعده، وسار بينهم جميعًا سكونٌ عميق.
واستطرد ملك إنجلترا الخطاب وقال: «اليوم عيد كبير للكنيسة، وما أجدر رجالًا مسيحيين — في مثل هذا الظرف — أن يُزيلوا ما بينهم وبين إخوانهم من خصومة، وأن يعترِف كلٌّ منهم بخطئه. أيها الأمراء النبلاء ويا آباء الحملة المقدسة، إنْ رتشارد إلا جندي، ولقد كانت يدُه أبدًا أخفَّ من لسانه — وقد ألِفَ لسانه خَشِنَ اللفظ — ولكني أتوسَّل إليكم ألا تتنحَّوا عن الغرض النبيل الذي قصدتم، عن تخليص فلسطين، لِما يُلقي بلانتاجنت من كلامٍ طائش، ويعمل من فِعال تخرج عن اللياقة. بالله لا تنبذوا حُسن الذِّكر في الدنيا والخلاص في الآخرة — ولكم هنا مجال لإحرازهما إن كان لإنسانٍ أن يُحرزهما — من أجل جندي قد يكون عجولًا في فِعاله، شديدًا في كلامه كالحديد الذي لبِسَه منذ نعومة أظفاره. إنْ كان رتشارد قد قصَّر في حق أحدِكم، فرتشارد سوف يعوِّض ذلك بالفعل واللفظ. أي أخي ملك فرنسا النبيل، هل كان في سوء طالعي يومًا أن أسأتُ إليك؟»
فأجاب فيليب وعليه جلال الملك: «إنَّ جلالة فرنسا لا تطلُب الكفارة من جلالة إنجلترا.» ثم صافح بيدِه يدَ رتشارد — وقد مدَّها إليه — وقال: «ومهما يكن رأيي في شأن مواصَلة ما شرَعْنا فيه، فهو رأيٌ يقوم على أسباب نشأت عن حال مملكتي، ولا رَيب في أنه لم يقُم على غيرةٍ أو بُغضٍ لأخي المليك أشجع الشجعان.»
ثم سار رتشارد نحو دوق النمسا، وفي نفسه مزيج من الصراحة والوقار، بينما نهض ليوبولد من مقعده، وكأنه كارِه، وتحرَّك كما تتحرَّك الآلة الميكانيكية يتوقَّف مَسيرها على دافعٍ خارجي. وقال الملك: «إنما دوق النمسا يحسَب أن لدَيه ما يُبرِّر استياءه من ملك إنجلترا، وملك إنجلترا يرى أنَّ لدَيه من الأسباب ما يدعو إلى الشكاية من النمسا، إذن فليتبادلا العفو حتى يبقى السِّلم في أوروبا، ويبقى التضامُن بين هذه الصفوف سليمًا لا ثلمةَ فيه. نحن الآن جميعًا نُصراء لرايةٍ أعلى مجدًا من أية رايةٍ رفرفت يومًا أمام أميرٍ من أمراء هذه الدار الفانية، تلك هي راية الخلاص؛ فلا تجعلوا إذن للإحَن سبيلًا إلى قلوبكم، من أجل هذا الرمز، رمز شرَفنا في الدنيا، وليَرُدَّ ليوبولد علَم إنجلترا إن كان تحت سُلطانه، وسيقول رتشارد إنه نادم على طبعه العجول الذي حدا به أن يُسيء إلى علَم النمسا، ولن يبعَثَه على هذا القول غير مَحبَّته للكنيسة المقدَّسة.» فوقف الأرشدوق ساكنًا مكتئبًا غير راض، حاسِر الطرف مُطأطئ الرأس، يكتُم في نفسه الغضب، ويمنعه الوجَل وخشية الشذوذ أن يُنفِّس عن نفسه بكلمة.
فسارع بَطْريق بيت المقدس إلى ثلْم هذا السكون وتلك الحيرة، وشهد لأرشدوق النمسا بأنه قد برَّأ نفسه بيمينٍ غليظة من كل عِلْم مباشر وغير مباشر بالاعتداء الذي لحِق بِراية إنجلترا.
فقال رتشارد: «إذن فلقد أسأنا إلى الأرشدوق النبيل أشدَّ الإساءة، ونحن نطلُب إليه العفو عن اتهامِنا إيَّاه بالعدوان والجُبن، ونمدُّ إليه يدنا إشارةً إلى تجديد السِّلم والمودَّة بيننا. ما هذا؟ دوق النمسا يرفُض يدَنا هذه العارية كما رفض من قبل قفَّازنا الحديدي؟ ماذا؟ ألَسْنا له أقرانًا في السِّلم ولا أعداء في القتال؟ ليكن ذلك، ولسوف نعدُّ ضعف تقديره لنا وحَطَّه من مكانتنا كفارةً لأيِّ صنيعٍ ربما اندفعنا إليه ساعةً ونحن في حميَّة الغضب، وسنعدُّ الأمر بيننا بهذا قد انتهى.»
وبعد أن أتمَّ حديثه، أشاح بوجهِه عن الأرشدوق وعليه من علامات الوقار والحشمة أكثر ممَّا عليه من الازدراء والاستخفاف، وترك الدوق — وقد بدا عليه الفرَج بعدما صرف الملك عنه بصرَه — كالتلميذ المُكتئب الشارد عن الدرس حينما يصرِف عنه مُعلِّمه القاسي نظرَتَه.
«أي إيرل شمباني النبيل — أي مركيز منتسرا الأمير — أي رئيس الفرسان الأعظم الجسور، اعلموا جميعًا أني هنا تائب مُعترِف بخطئي، فهل منكم من له عليَّ إدانة، أو من يطلُب منِّي ترضية؟»
فقال كُنراد صاحب اللسان الناعم: «والله إني لا أدري على أي أساسٍ نُقيم إدانتك، اللهمَّ إلا إن كان ملك إنجلترا يأخُذ من إخوانه في الحرب المساكين كلَّ صِيتٍ كانوا يطمعون في إحرازه من هذه الحملة.»
وقال رئيس فرسان المعبد: «لو سألتني أنْ أُدينك فإدانتي إيَّاك أشدُّ وأخطر من إدانة مركيز منتسرا لك، وقد تظنُّون أنه لا يليق براهبٍ عسكري مِثلي أن يرفع صوته حين يبقى العدد العديد من الأمراء صامِتِين؛ ولكن الأمر يخصُّ صفوفنا جميعًا، ويُهمُّ ملك إنجلترا هذا النبيل — كما يهمُّ غيره — أن يستمع إلى رجلٍ يُدينه علانيةً في وجهه بتُهَمٍ هناك الكثير من الناس ممن يَكيلونها له كيلًا في غيبته. نحن جميعًا نُمجِّد ونحمد في ملك إنجلترا شجاعته ورفيع أعماله، ولكنَّا يسوءنا منه أن يَستولي أبدًا في كل ظرفٍ على السبق والرفعة علينا جميعًا، وليس يَليق بالأمراء المُستقلين أن يستكينوا لذلك؛ نحن نُسلِّم راضين بالكثير لبسالَتِه وغيرته وثروته وسلطانه، ولكن ذلك الذي يختطِف منَّا كلَّ شيءٍ على أنه حقٌّ من حقوقه، ولا يترك لنا شيئًا يمنحه إيَّانا عن رضًا وطواعية، يحطُّ بنا من مرتبة الأحلاف إلى مرتبة الخُدَّام والأتباع، ويُعتِّم في أعين جنودنا ورعيتنا بريق نفوذنا؛ إذ يرَون أنا لا نُباشِره مستقلين؛ وحيث إنَّ رتشارد الملك قد سألَنا أن نصدُقه، فينبغي له ألا يدهَش أو يغضب إن سمع رجلًا حُرِّمت عليه أبَّهة الدنيا، وليس للسلطان الدنيوي لدَيه وزن إلا بمقدار ما يزيد به من نجاح بيوت الله وإذلال الأسَد الذي يتجوَّل هنا وهناك يبحث عمَّن يفترس، أقول يجِب ألا يدهش أو يغضب إن استمع إلى رجلٍ مثلي يصدُقه القول ردًّا على سؤاله، وهو ذلك القول الحق، الذي يؤيده بقلبه في هذه الآونة التي أتحدَّث فيها إلى كل مُصغٍ لي، مهما كظم صوتَه احترامُ المليك.»
وبينما كان رئيس الفرسان الأعظم يهاجم مسلك رتشارد هذه المهاجمة المباشرة، التي لا يسترها من اللفظ طلاء، علا الدمُ في وجنتَي الملك علوًّا شديدًا، وتمتم الحاضرون إثر الخطاب بالرِّضا، مما كان يدلُّ أوضح دلالةٍ على أنهم يكادون جميعًا يؤيدون هذه التُّهم، وأحنقَ الملكَ هذا، بل كاد يقتُلُه كمدًا، ولكنه مع ذلك رأى بثاقِبِ بصرِه أنه إن استسلَم لِما في قلبه من ضغينة، وأطلق نفسه على سجيَّتِها، أعطى ذلك المدعي الحذِر حقًّا له عليه، وهو أهمُّ ما كان يرمي إليه رئيس فرسان المعبد؛ ولذا فقد لبث رتشارد صامتًا — رغم شدَّة وقع الحديث على نفسه — إلى أنْ أتمَّ دعاء «أبانا الذي في السماء …» سرًّا، وهي الطريقة التي نصح له قسيسه باتباعها كلَّما أوشك الغضب أن يملك منه زمام نفسه. ولمَّا هدأت ثائرة الملك، شرع يتكلَّم كلامًا لا يخلو من نغمٍ مرير، وبخاصَّة في مُستهل الخطاب، قال:
«هل بلغ الأمر هذا المبلغ؟ وهل بلغ من إخواننا ألَمُ النفس حدًّا يجعلهم يلحظون ضعْف مزاجِنا الطبعي، وغِلظتَنا في التعجُّل والغيرة اللذَين قد يدفعاننا أحيانًا إلى إصدار الأمر حينما يضيق الوقت عن عقد المجلس للتشاور؟ ما كنت أحسَبُ أنَّ الإساءة — إن كانت عارضة وبغير إصرارٍ سابق — تجدُ لها في قلوب أحلافي مَرتعًا خصيبًا في هذه القضية المقدَّسة التي نسعى لها، وأنهم من أجلي يُسقطون المِحراث من أيديهم، بعدما خط الأخدود حتى قُرب نهايته، وأنهم من أجلي يحيدون عن الطريق المستقيمة التي تؤدي إلى بيت المقدس، والتي بسلاحهم شقُّوها. حقًّا لقد كنتُ أخدع نفسي حينما كنتُ أظنُّ أن خدماتي القليلة ترجُح أخطائي الطائشة، وأنكم إن ذكرتم أني خفَفتُ إلى الطليعة مهاجمًا فما نسيتم أني كنتُ أبدًا في ذيل المتقهقرين، وإني إنْ رفعتُ رايتي فوق بلدٍ مقهور، فإن في ذلك لكل الجزاء الذي أرجو، تاركًا لغيري اقتسام المغانم؛ كنت أستطيع أن أطلق اسمي على المدائن التي تغزو، ولكني أسلمتُ لغيري البلاد، وإن كنت عنيدًا صلب الإرادة، أفرض الرأي بجرأة وإقدام، فما أحسب أني ضننتُ بدمي ودم قومي في إنفاذ ذلك الرأي بمثل تلك الجرأة وذلك الإقدام، وإن كنتُ في عجلة المسير أو في ساعة القتال زعمتُ لنفسي على جنود الآخرين سلطانًا، فقد كنتُ أبدًا أنظُر إلى هؤلاء الجنود وكأنهم جُندي، أشتري لهم بمالي المئونة والدواء إنْ قصَّر أربابهم عن إحرازها. وإنه والله ليُخجلني أن أذكِّركم بما يبدو لي أنكم جميعًا من دوني قد نسيتموه، ولَخير لنا أن ننظُر قُدُمًا إلى مستقبل أعمالنا، وصدِّقوني أيها الإخوان …» وهنا واصل الملك خطابه، وقد اشتعل وجهه حماسةً وغيرة، وقال: «صدِّقوني إنكم لن تجدوا في كبرياء رتشارد أو غضبه أو أطماعه إساءةً تقف لكم حجَر عثرة في السبيل التي يُناديكم إليها الدين والمجد نداءً عاليًا، كأنَّ الملك الأعلى ينفخ في الصور كلَّا! كلَّا! والله إني ما أستطيع العيش لو عرفت أنَّ ضعفي ووَهَني كانا سببًا في التفرقة بين هؤلاء الإخوان الكرام من الأمراء الحاشدين، ووالله لأقطعنَّ بيميني يساري لو كان لدَيكم دليل ينهض شاهدًا ضدَّ إخلاصي، ولسوف أنزِل لكم طائعًا عن كلِّ حقٍّ لي في قيادة الجيوش، بل وفي رعيَّتي الخاصة من أتباعي، ولِيَسِرْ بهم أيٌّ ندبتم من الملوك، ومليكهم — وما كان أحبَّ إليه أبدًا من أن يستبدِل بعصا القائد رُمح المقاتل — وسوف ينضوي تحت لواء «بوسان» يخدم بين أصحاب المعبد، أي والله، بل وتحت لواء النمسا، لو أتتِ النمسا برجلٍ مِقدام يقود جيوشها. أما إنْ كنتم أنتم أنفسكم قد مللتُم هذه الحرب، وتحسُّون بسلاحِكم يعقِر بضَّ جلودكم، فما عليكم إلا أن تتركوا رتشارد ونحو عشرة آلاف، أو خمسة عشر ألفًا من جنودكم، يعمل لكم على البرِّ بيمينكم.» ثم صاح بهم وقد هزَّ برأسه إلى أعلى كأنه ينشُر علَم الصليب فوق بيت المقدس وقال: «وإذا ما ظفرنا بصهيون، فسوف لا نكتُب على أبوابه اسم رتشارد بلانتاجنت، وإنما أولئك الأمراء الأكرَمين الذين عهدوا إليه بوسائل الظفر والانتصار.»
هذه الفصاحة الجاهلية، وذلك القول الباسم الذي ألقاه الملك العسكري، أثار في الصليبيين خائر العزيمة، كما بعث الحياة من جديد في إخلاصهم، وتنبَّهت أذهانهم إلى الغرض الأول من حملتهم، فعَرَا أكثرهم الحياء من تأثرهم بتافِه الشكاوى التي غمرتْهم أمثالها من قبل، وانتقلت النار من عينٍ إلى عين، وسرَتِ الحميَّة من صوتٍ إلى صوت، فكرَّروا — وكأنهم مُجمعون — نداءَ الحرب الذي سبق لهم أن ردَّدوا به ضراعة بطرس الناسك، وصاحوا بصوتٍ مرتفع: «سِرْ بنا قلبَ الأسد الهمام؛ ليس لأحدٍ أن يتقدَّم إن تخلَّف الشجعان؛ سِر بنا إلى بيت المقدس! هذه هي إرادة الله! هذه هي مشيئة الرحمن! بارك الله فيمن يُقدِّم لإنجازها سلاحه!»
هذه الصيحة، التي صاحوا جميعًا على حين غِرَّة، نمَتْ إلى ما وراء حلقة الحرَّاس القائمين على سرادق المجمع، وانتشرت بين جند الجيش، الذين فتَّ من قواهم المرض والجوُّ حتى باتوا مُتعطلين خائري العزيمة، وأخذوا كزعمائهم يهِنُ منهم العزم، ولكن ظهور رتشارد ثانيةً في نشاطه المتجدِّد، وتلك الصيحة المعروفة التي تردَّد صداها بين مجمع الأمراء، أثارت فيهم الغيرة بغتة، وأجابت الألوف وعشرات الألوف مُردِّدين الصيحة عينها: «صهيون، صهيون! الحرب، الحرب! هيَّا توًّا إلى قتال الكفار! هي إرادة الله! هي مشيئة الرحمن!»
وهذا الهتاف في الخارج ضاعَفَ بدوره الغيرة التي سادت داخل السرادق، وخشيَ أولئك الذين لم تشتعِل النار في قلوبهم فعلًا أن يظهروا أقلَّ حرارة من غيرهم، ولم يعُد هناك حديث آخر غير حديث الزحف نحو بيت المقدس بأنوفٍ شامخة بعد انقضاء الهدنة، وحيث الوسائل التي تُتَّبع في عين الوقت لإمداد الجيش وإعداده بالرجال، ثم انفضَّ المجمع وظاهرهم جميعًا الإيمان التام بغرَضٍ واحد؛ غرض سرعان ما ذوى في صدور أكثرهم، وما كان له البتَّة وجود في صدور الآخرين.
ومن هذه الجماعة الأخيرة كان المركيز كُنراد الرئيس الأعلى لفرسان المعبد، فأوَيا معًا إلى كنفَيهما على مهَل، غير راضيَين عما أسفر عنه يومهم هذا.
وقال ثانيهما وعليه سيماء الاستخفاف البارد الذي عُرف به: «كم من مرة ذكرتُ لك أن رتشارد يستطيع أن يشقَّ طريقه وسط الحبائل الرقيقة التي تُنشَر له، كما يشقُّ الأسد نسيج العنكبوت؛ أفلم ترَ أنه ما إن تكلَّم حتى لعِبت أنفاسه بأولئك الحمقى المُتردِّدين، كما يلعب الإعصار بالهشيم المنثور فيجمعه أو يُبدده كيفما شاء؟»
فقال كُنراد: «إذا ما انقشع الإعصار استقرَّ الهشيم فوق الأرض ثانية بعد هبوبه على متن الريح.»
فأجابه رئيس المعبد وقال: «لكن هلَّا علمتَ فوق ذلك أنه يرجَّح — إذا ما انتهَينا من هذا المقصد الجديد الذي قصدنا بالغزو، وقُضي الأمر، وعاد كل أميرٍ جليل يسترشِد بما يهديه إليه عقله الضعيف — أنْ يُمسي رتشارد برضًا من الأمراء ملكًا على بيت المقدس، وأن يقبل حدود المعاهدة مع صلاح الدين، التي ظننتَ أنت نفسك أن ليس أقرب منه أحد بازدرائها والغضِّ منها!»
فقال كُنراد: «والآن بعدما أصبحت الأيمان المسيحية عتيقة بالية، أستحلفك بمحمدٍ وبرب محمد إلا قلتَ لي إن كنتَ تحسب أن ملك إنجلترا العاتي سوف يربط دمَه بدم السلطان المُسلم! لقد كان من سياستي أن أُدخل في المعاهدة هذا الشرط، حتى أجعلها بأسرِها بغيضةً إلى نفسه. وكِلا الأمرَين شر لنا؛ إن أصبح سيدًا علينا بالغلَبة والنصر، أو بالاتفاق والرضا.»
فأجاب صاحب المعبد قائلًا: «لقد أخطأ دهاؤك مرمى رتشارد، أنا أعلم هوى الملك ممَّا وسوس لي رئيس الأساقفة، ومن ضربتك القاضية التي ضربتَ بذلك العلَم؛ ألم تنقضِ بتقديرٍ لا يزيد عمَّا يستحقُّ ذراعان من الحرير المزركش؟! أي مركيز منتسرا، لقد خَبَتْ منك شعلة ذكائك، وسوف لا أثِق بعد اليوم في مكائدك الدقيقة الحبك، ولأعمدنَّ إلى حيلتي. هلَّا سمعتَ بأولئك القوم الذين يُسمِّيهم الأعراب بالخوارج؟»
فأجاب المركيز بقوله: «لا مِراء في أنهم قوم تملَّك اليأس قلوبهم، وسلَبَت الغيرة عقولهم؛ وقفوا حياتهم على نُصرة الدين — وبينهم وبين أصحاب المعبد في هذا بعض الشَّبَه — إلا أنَّا ما عرَفْنا عنهم قطُّ أنهم وقفوا لحظةً عن السير في سبيل دعوتهم.»
فأجاب الراهب عابسًا مُقطب الوجه وقال: «صاحِ لا تمزَح، واعلَمْ أن واحدًا من أولئك الرجال قد ذكر — في يمينٍ غليظة أقسمَها — اسمَ عاهل الجزيرة ذاك، وأَقْسَم ليُنادِينَّ به ألَدَّ أعداء دين الإسلام.»
فقال كُنراد: «أعدِلْ به من أُمَميٍّ مشرك، وما أجدَرَه بجنَّات الخلد جزاء له!»
فقال الرئيس الأعظم: «لقد هداه إلى المعسكر واحدٌ من أتباعنا، ولمَّا سئل سرًّا أقرَّ إليَّ صراحة بمرماه الثابت الذي اعتزم.»
فأجاب كُنراد: «اللهم اغفر لأولئك الذين وقفوا في سبيل هذا «الخارجي» العادل!»
فأجاب المركيز: «… وكانت السلاسل مُسترخية، فلاذ الأسرى بالفرار. وقديمًا قيل: ليس من جبٍّ أكيد غير القبر.»
ثم استأنف القس العسكري حديثه وقال: «ولمَّا ينفك إساره يواصِل مسعاه، فإنه من طبع هذه الطائفة من السفَّاكين ألَّا يتخلَّى الواحد منهم أبدًا عن طريق الفريسة بعد أن يشتمَّ رائحتها.»
فقال المركيز: «حسبُك هذا، إني ألمس سياستك، إنها لَمَهيبة، ولكن سبيل الخلاص قريبة.»
فقال صاحب المعبد: «إنما ذكرتها لك حتى تأخذ لنفسك حِذرها؛ إذ سوف يكون الضجيج مُروِّعًا، ولن تدري على من يصبُّ الإنجليز جام غضبهم! أي والله وإنَّ هناك لخطرًا آخر؛ إن حاجبي يعرف ما بدخيلة هذا «الخارجي»، وفضلًا عن ذلك فإنه أحمق، سريع الغضب، قوي الإرادة؛ وددتُ والله لو خلصت منه فهو يعترِض سبيلي، ويزعم أنه يرى بعينَيه لا بعينيَّ، ولكن طائفتنا المقدَّسة تُخوِّل لي أن أزيل أمثال هذه الحواجز. البَثْ قليلًا؛ قد يجد العربي خنجرًا طيبًا في جبِّه، وأنا قمين لك أنه سوف يعمد إليه حينما يريد الانطلاق، وهذا أمر لا مِرية فيه إذا ما دخل عليه الحاجب بالطعام.»
فقال كُنراد: «هذا يُلبِّس الأمر بالشبهات ولكن …»
فأجاب صاحب المعبد: «إنما «ليت» و«لكن» من كلمات الحمقى الأغبياء، ولكنَّ الحكماء العقلاء لا يتردَّدون ولا يتراجعون؛ إنهم إذا قالوا فعلوا.»