الفصل الثاني والعشرون
والآن نعود بروايتنا إلى الفترة التي سبقَتْ ما ذكرنا أخيرًا من حوادث بمدَّةٍ وجيزة، وذلك حينما أُبعد فارس النمر البائس عن معسكر الصليبيين، وقد تميَّز بين صفوفه امتيازًا كبيرًا؛ ووهبه الملك رتشارد الطبيبَ العربي — كما يذكر القارئ — وهو إلى مرتبة الرقيق أقرب منه إلى أي شيء آخَر. تبع الفارس سيِّدَه الجديد — كما يصحُّ لنا الآن أن نُسمِّي الحكيم — وقصدوا خيام المغاربة التي كانت تضمُّ حاشيته وأملاكه، وشعوره فاقد الرُّشد كرجلٍ سقط من قمَّة جبلٍ ونجا بحياته على غير انتظار، وهو لا يقوى إلا على أن يسير مُتخاذلًا من المكان الذي صُرع فيه، ولكنه لا يستطيع أن يسبر مدى ما لحِق به من أذًى وضرر. وما إن بلغ الفسطاط حتى ارتمى دون أن ينبس ببنتِ شفةٍ فوق فراشٍ من جلد الجاموس المدبوغ، دلَّه عليه مُرشده، ثم أخفى وجهه بين يديه، وأخذ يئنُّ أنينًا عاليًا وكأنَّ قلبه يوشِك أن يتفطَّر، وقد سمعه الطبيب — وهو يلقي بأوامره على خدَمِه العديدين كي يستعدُّوا للرحيل صبيحة اليوم التالي قبل مُنبثق النهار — فتحرَّكت في نفسه الشفقة، وتوقَّف عمَّا كان مشتغلًا به، ثم جلس مُلقيًا ساقًا فوق الأخرى إلى جانب سريره، وأخذ يواسي الرجل كما يفعل أهل الشرق عادة.
وقال: «أي صديقي، هوِّن على نفسك، فلقد قال الشاعر ما معناه: «خير للرجل أن يكون خادمًا لسيدٍ شفيق من أن يكون عبدًا لشهواته القوية الخاصة، وتشجَّعْ، فإنَّ يوسف بن يعقوب قد باعه إخوته إلى فرعون ملك مصر، ولكن مليكك وهبك رجلًا سوف يكون لك كالأخ الشقيق.»
وجاهد السير كنث أن يشكر الحكيم، ولكن قلبه كان مُفعمًا، فصدرت عنه أصواتٌ غامضة وهو يحاول دون جدوى أن يُجيب، فدفعت هذه الأصوات الطبيب الشفيق إلى أن يكفَّ عن محاولاته المُبتسرة لتعزية الفارس، وخلَّف خادمه هذا الجديد — أو قُل ضيفَه هذا — وادعًا ساكنًا يسترسِل في أحزانه. وبعدما أمر بكل ما يلزَم من إعدادٍ للرحيل صبيحة الغد، جلس على بساط الفسطاط، وتناول وجبةً وسطًا بين بين، ولمَّا انتعش بالطعام قليلًا، قدَّم للفارس الاسكتلندي قوتًا كقُوتِه. ورغم أنَّ العبيد قد أفهموا السير كنث أنهم لن يقِفوا في اليوم التالي للطعام إلا بعد أن تتقدَّم من اليوم ساعات عديدة، فإنَّ الرجل لم يستطع أن يتغلَّب على النفور الذي كان يحسُّ به من تناول القُوت، وعبثًا ألحفوا عليه أن يتذوَّق شيئًا اللهم إلا جرعة من الماء البارد.
واستيقظ السير كنث بعدما أدَّى مُضيفه فريضة الصباح ثم أوى «المضيف» إلى فراشه بزمنٍ طويل. ولم يَزُر الكرى جفنَي العربي حتى انتصف الليل، وسرَتْ بين خدَمِه حركة لم يصحبها حديث ولا ضجيج كثير، ولكنه علِم منها — رغم ذلك — أنهم كانوا يُحمِّلون البعير ويتأهَّبون للرحيل، وبينا هذا الإعداد قائم على قدَمٍ وساق، كان فارس اسكتلندا آخِر من هبَّ من رقاده إذا استثنينا الطبيب. ولمَّا كانت الثالثة صباحًا أو ما إلى ذلك، قال له رئيس الخدم إنه ينبغي له أن ينهض، ففعل دون أن يُحير جوابًا، وتبِعَه في ضياء القمر حيث الجِمال قائمة، وأكثرها يحمِل على ظهره عِبئه، ولم يبقَ منها غير واحدٍ أناخ حتى يتمَّ تحميله.
وعلى كثبٍ من النُّوق وقف عدد من الخيل مُلجمةً مُسرَّجة، ثم أقبل الحكيم نفسه وامتطى واحدًا منها برشاقةٍ تتَّفق ورزانة مركزه، وأشار إلى آخَر كي يُساق إلى السير كنث، وكان بانتظارهم ضابط إنجليزي كي يخفُرَهم خلال معسكر الصليبيين ويتثبَّت من رحيلهم آمنين. وكان كلُّ شيء على أُهبةٍ للسفر، ثم اقتلع السرادق الذي خلفوه بخفةٍ عجيبة، وكان حِمل الناقة الأخيرة يتألَّف من أغطية الفسطاط وقوائمه العشرة، ثم كرَّر الطبيب هذه العبارة في مهابةٍ وخشوع «الله يهدينا ومحمد يقِينا في البرِّ والبحر.» ثم فصلت القافلة بأسرِها في الحال.
واعترض سبيلهم — وهم يشقُّون المعسكر — الخفراء العديدون الساهرون على الحراسة هناك، وإذا ما مرَّت القافلة بحيٍّ من أحياء الصليبيين الغيورين، سار رجالها اضطرارًا في سكينة وهدوء، أو استمعوا إلى اللعنات تنصبُّ على نبيِّهم تمتمةً فغضُّوا عنها الطرف كارِهين. وأخيرًا تخطَّوا آخِر العقبات، والتأمَتْ جماعتهم وهي تسير سيرًا عسكريًّا حذِرًا، وتقدَّمهم اثنان أو ثلاثة من الركبان طليعةً لهم، يتبَعُهم واحد أو اثنان على قَيد رمح، وكلَّما تهيَّأت الظروف انفصل بعضٌ منهم ليرقُب الجناحَين، وهكذا سار الجميع قُدُمًا، ونظر السير كنث وراءه إلى المعسكر يُفَضِّضه ضياء القمر، فأحسَّ إحساسًا قويًّا بحِرمانه من الشرَف والحرية، وبإقصائه عن الأعلام الخفَّاقة التي كان يأمُل أن يحظى تحت ظلِّها ببُعد الصيت، وأحسَّ كذلك ببُعده عن خيام الفروسية والمسيحية و… عن أُديث بلانتاجنت.
وكان الحكيم راكبًا جواده إلى جواره، فأخذ بنغمِه المألوف يُسرِّي عن السير كنث بسديد الحِكَم وقال: «إن كان السفر أمامك فليس من الحكمة أن تتطلَّع وراءك.» وبينما هو يتكلَّم زلَّ جواد الفارس في مشيتِه زلَّةً خطرة كأنها درس خُلُقي عمَلي يُتمِّم قصة العربي.
وقد اضطُرَّ الفارس من هذه العثرة أن يشتدَّ في امتلاك زمام الجواد، واضطُرَّ أكثر من مرةٍ أن يلجأ إلى العنان ويستعين به، وأما فيما عدا ذلك فلم يكن ثمَّة أسلسُ قيادًا ولا أخفُّ حركةً من هذه الفرس وهي تسير وخدًا بخُطًى مُتزِّنة.
وقال الطبيب صاحب الأمثال: «ما أشبَهَ جوادك هذا بحظِّ الإنسان. لا بدَّ للراكب — والجواد يخفُّ به بخُطًى هيِّنةٍ ليِّنة — أن يحذَر من السقوط، وكذلك الأمر إنْ بلغَ بنَّا الجَدُّ ذروته، ينبغي لحِكمتنا أن تتيقَّظ وتتنبَّه كي ننجوَ من سوء الطالع.»
ولكنَّا إذا ما امتلأت منَّا البطون، نفرْنا حتى من أقراص الشهد؛ فليس عجيبًا إذن أن يضيق بالفارس الصبر — وقد أذلَّه نكَد الطالع، وخارت عزيمته ممَّا لحِقَه من الهوان — فلا يستمِع إلى شقوته وقد باتَتْ في كل مناسبةٍ مضربًا للحكمة والمثَل، مهما صدَق المثل وأصاب.
فقال مُتبرمًا: «ما أحسبني بحاجة إلى زيادة الإيضاح عن تذبذُب الجَدِّ، ولأشكرنك يا سيدي الحكيم على حُسن انتقائك لجوادي لو أنه زل زلةً قاضية تنكسِر فيها رقبتي ورقبته.»
فأجاب الحكيم العربي مهيبًا رزينًا رابط الجأش وقال: «أخي! إنما أنت تتكلَّم كما يتكلم الحَمقى؛ أنت تقول في سريرتك إن الحكيم كان ينبغي له أن يُعطيك — كضيفٍ له — خير الجوادَين وأصغرهما، وأن يحتفظ بالفرَس العجوز لنفسه، ولكن اعلم أنَّ مثالب الفرس العجوز يُقابلها نشاط الراكب الشاب، وأن شدَّة الجواد الفتيِّ يُكسَر من حدَّتِها طبع الشيخ البارد.»
هكذا تكلم الحكيم، ولكن السير كنث لم يُحر لهذا الخاطر جوابًا مما قد يؤدي إلى مواصلة الحديث بينهما. ولعلَّ الطبيب قد كلَّ من التعزية يتقدَّم بها إلى رجل لا يقبل التعزية، فأشار إلى واحدٍ من حاشيته.
وقال: «أليس لديك، يا حسن، شيء نقتُل به ملل الطريق؟»
وحسن هذا قصَّاص شاعر ومحترِف، دفعَه هذا السؤال إلى أن يُجيب إلى ما سئل، فقال محدِّثًا الطبيب: «أي مولاي، يا سيد دار الفناء، أنت ذلك الذي إن رآه الملَكُ عزرائيل نشر جناحَيه وطار، أنت أحكم من سليمان بن داود الذي انطبع على خاتمه «اسم الجلالة»، هذا الاسم الذي يُسيطر على الأرواح في هذه الدنيا؛ أنت تسير على جادة الخير تحمِل حيث تحلُّ الشفاء والأمل، فحاشا لله أن تكتئب حياتك من قلَّة القصص أو الغناء. استمِع إليَّ! ما دام خادمك إلى جوارك، فسوف تتدفَّق كنوز ذاكرته كما يتدفَّق من النبع في الدرب تيَّار الماء ينتعِش به كل من سار على الطريق.»
وبعد هذه الديباجة، رفع حسن صوته، وشرع يقصُّ قصة حبٍّ وسحر، تتخلَّلها مآثر الظفر والقتال، وتُحليها المُقتبَسات من شعر الفرس، والمُحدِّث بأقوالهم عليم، وإذ ذاك احتشدت حول القصاص حاشية الطبيب كلها، ما خلا أولئك الذين كان لا بدَّ لهم من التخلُّف لرعاية البعير، وتزاحموا — على قدر ما يسمح لهم احترامهم لسيدهم — كي ينعموا بتلك اللذَّة التي يجدها أبدًا أهل الشرق في هذا الضرب من الرواية.
ولربَّما لذَّ للسير كنث في ظرفٍ غير هذا أن يستمع إلى هذه الرواية، التي كانت شديدة الشبه بقصص الفروسية الخيالية الذائعة في أوروبا في ذلك الحين، وذلك رغم عجزه عن فَهم اللسان العربي فهمًا صحيحًا، ورغم أن هذه القصص كانت من إملاء خيالٍ أشدَّ إسرافًا، ومَسوقة في لغةٍ أكثر مبالغة، ومليئة بالاستعارة والكناية، لكنه — في هذا الظرف — لم يكد يحسُّ حتى بأنَّ رجلًا قد توسَّط القافة وأخذ يُنشِد ويغني في نغمٍ خافت نحوًا من ساعتَين، مترنمًا بصوته ترنُّمًا يقابل به شتيت العواطف وألوانها المختلفة التي ساقها في قصته. وهو يستمع لقاء ذلك مرة إلى الإعجاب به في دمدمةٍ خافتة، ومرة إلى استحسانه في تمتمةٍ خافضة، وحينًا إلى النحيب والبكاء، وحينًا إلى إثابته بالبسمات، بل وبعالي الضحكات — والضحك على قلوب سامعيه ثقيل.
ومهما بلغ بالرجل الطريد من شرود الذهن والاسترسال في الأحزان، فقد كان يُوقِظ انتباهَه الفَينة بعد الفينة خلال هذا القَصَص نباح خافت يصدُر عن كلبٍ وُضع في صندوقٍ من الصفصاف يتدلَّى من إحدى النوق. وفارسنا — كالحاطب المُحنَّك — لم يتردَّد في معرفة الكلب، فلقد كان كلبَه الأمين بعَينه، ولم يشكَّ من نباح الكلب وأنينه أنَّ الكلب كان يدرك قُرب سيده ويناشده — بطريقته — العون على إنقاذه وتحريره.
فقال: «وا أسفاه يا «رزوال» المسكين، أنت تطلُب النجدة والعطف من رجلٍ مُكبل في أصفاد أضيقَ مما أنت فيه. سوف أتظاهر بعدم الاكتراث لك، ولن أجاوبك المحبَّة، ما دام ذلك لن يؤدي إلا إلى اشتداد المرارة عند الفراق.»
وفي أسرع من لمْح البصر، نزل المسلمون جميعًا من فوق الجياد، وولُّوا وجوههم شطر مكة، وتيمَّموا بالرمال عوضًا عن الوضوء بالماء، ودعا كلٌّ منهم ربَّه ونبيَّه — في عبارة موجزة حارة — أن يشملاه بالرعاية ويغفِرا له ذنوبه وآثامه.
هذا الابتهال — الذي تضرَّع به السير كنث في هذه البيئة الغريبة — كان يتفجَّر من شعور طبعي خالص بالواجب الديني، وكان له الأثر المعهود في تهدئة الخواطر التي اضطربت طويلًا من هذه النكبات التي توالت عليه واحدةً إثر الأخرى. وتقرُّب المسيحي إلى عرش الواحد القهَّار مخلصًا جادًّا يُعلمه خير درسٍ في الصبر تحت الأرزاء، لأنَّا إن كنَّا نبرَم بحُكم الله فنحن إذن نُسيء إليه، وإن كنَّا نسيء إليه فكيف لنا أن نتظاهر بالضراعة إليه؟ أو إن كنَّا في صلواتنا نُقرُّ في كل عبارة بعبث هذه الدار الفانية وهبائها إذا قِيست بما في دار الخلود والبقاء، فكيف لنا أن نأمُل في خداع علَّام الغيوب ونسمح للدنيا وللشهوات الدنيوية أن تتملَّكَنا في كل حين، بل وبعد الدعاء الخاشع لله توًّا؟ ولكن السير كنث لم يكن من هؤلاء؛ فلقد أحسَّ بالراحة والقوة، وشعر بأنه أكثر استعدادًا للخنوع أو للقيام بما تتطلَّبه الظروف من العمل والعناء.
وكان جماعة الأعراب إذ ذاك قد عادت إلى ظهور الجِمال، واستأنفت المسير، وواصل حسَن القصَّاص حبل روايته، ولكنَّ سامعيه لم يعودوا — كما كانوا — مُصغين منصتِين؛ كان أحد الخيَّالة قد صعد على نشزٍ من الأرض إلى يمين الصف القصير، والآن عاد يُهرول مسرعًا إلى الحكيم وأخذ يُحادثه، وعلى إثر ذلك بعث بأربعةٍ أو خمسة من الفرسان، وشرعت القافلة الصغيرة — وعدَّتُها نحوٌ من عشرين أو ثلاثين رجلًا — تتبعهم بالنظرات، كأنهم قوم في شاراتهم أو تقدُّمهم أو تقهقُرهم ما يبشِّر بالخير أو يُنذِر بالشر. ولمَّا رأى حسن أن سامعيه غير مُنصتين، أو قُل لمَّا صرفتْه هو نفسه هذه المظاهر المُريبة في جناح القافلة، وقف عن الغناء، وسار الركب في صمتٍ لا يضطرِب إلا حينما يحدو البعير الصابر راكبٌ من الركبان، أو حينما يتحدَّث رجل قلِق من أتباع الحكيم إلى جاره في همسٍ خافت وعلى عجل.
وبَقُوا على هذا الركود حتى أتوا سفح رابيةٍ من الرمال أخفت عن قافلتهم ما كان قد حدا بطلائعهم إلى الذُّعر، واستطاع السير كنث إذ ذاك أن يرى على بُعد ميلٍ أو ما ينيف، شيئًا أسود يتحرَّك في قلب الصحراء سريعًا، نظر إليه بعَين المُحنَّك فأدرك أنه قافلة من الفرسان أوفَرُ من قافلتهم عديدًا، وكان الوميض الكثيف المُتلاحِق الذي يعكس الأشعة الأفقية من الشمس المشرقة يدلُّ على أن تلك الجماعة كانت ثُلَّة من الأوروبيين في كامل عُدَّتِهم وسلاحهم.
فألقى فرسان الحكيم على زعيمهم نظراتٍ جازعة قلقة تنمُّ عن خوفٍ في النفوس شديد، أما الحكيم فلبِث رزينًا رابط الجأش كما كان حينما دعا قومه للصلاة، ثم بعث باثنين من خيار فرسانه الركبان وأمرَهما أن يدنوا — ما سمح لهما الحذَر — من أولئك المسافرين في الصحراء، وأن يَرقُبا عديدهم على وجهٍ دقيق، وأن يتعرَّفا صفاتهم ومَراميهم إن استطاعا إلى ذلك سبيلًا؛ وهذا الخطر — أو شِبه الخطر — كان وهو يُقبل على القافلة حافزًا يحثُّ كل غافل، فتنبَّه السير كنث إلى نفسه وإلى موقفه.
وقال للحكيم: «ما إخال أولئك الرجال إلا فرسانًا مسيحيين، فإن كانوا كذلك، فمِمَّ أنت خائف؟»
فردَّ عليه الحكيم قائلًا: «خائف!» مُرددًا لفظ السير كنث باستخفافٍ وازدراء، ثم قال: «إنَّ الحكيم لا يخشى غير الله، ولكنه أبدًا يرتقِب من أشرار الرجال أسوأ ما يفعلون.»
فقال السير كنث: «إنهم مسيحيون، ونحن في وقت الهدنة، فلماذا تخشى الحنث في العهود؟»
فقال الحكيم: «هم جنود المعبد من القساوسة الذين تحظر عليهم عهودهم أن يعرفوا مُهادنة المسلمين أو الثقة فيهم؛ أصِبهم بالوباء يا رسول الله جذورًا وفروعًا وأغصانًا! سِلمُهم حرب، وعهودهم بُهتان وزور. إن غيرهم من غزاة فلسطين لهم فترات وأحوال تُشرَب فيها قلوبهم بالشفقة والرحمة؛ فرتشارد الأسد إذا ظفر عفا، والنسر فيليب يخفِض جناحه إذا أصاب الفريسة، وحتى دُب النمسا إذا امتلأت بطنُه أوى إلى النوم، ولكن هذه العشيرة من الذئاب الجياع لا تعرف السكون ولا الشبَع فيما تسلُب وتغتصِب؛ أما ترى أنهم قد فصلوا عددًا من جماعتهم، وأنهم يسيرون شرقًا؟ هنالك ترى غِلمانهم وأتباعهم الذين يُنشئونهم على مبادئهم الخفيَّة اللعينة، والذين بعثوا بهم — لخِفَّتهم — كي يحُولوا بيننا وبين الماء، ولكن والله ليبوءُنَّ بالخيبة والفشل؛ أنا أعلم منهم بحرب الصحراء.»
ثم وجَّه إلى كبير ضبَّاطه بضع كلمات، وتبدَّل مسلكه ومُحيَّاه في الحال من الاسترخاء والوقار — وهما في الشرق من صفات الحُكماء الذين تعوَّدوا التأمُل أكثر ممَّا تعودوا الحركة — إلى الظهور بالهِمَّة والكبرياء — وهما من صفات الجندي الباسل يَستفزُّ نشاطه دنوُّ الخطر يلمَحُه من بعيد ويستخفُّ به.
ولكنَّ هذا الخطر المُقبل كان له في عَيني السير كنث وجه آخر، فلمَّا أن قال له «أدنبك»: «عليك أن تتمهَّل وتلزم أبدًا جواري.» أجابه بالنفي مُطمئنًّا رابط الجأش.
وقال: «هنالك أرى صحابي بالسلاح مُدجَّجين، هنالك أرى رجالًا أخذتُ على نفسي أمامهم أن أقاتل أو أموت — وعلى رايتهم تتألَّق علامة خلاصِنا المبارك. إني لا أستطيع أن أفرَّ من الصليب إلى صحبة الهلال.»
فقال الحكيم: «أحمِقْ بك من جاهل! والله لو استطاعوا إخفاء الحنث في شروط الهدنة، لكان أول ما يقطعون به من عمل هو أن يُنزلوا بك الموت.»
فأجاب السير كنث قائلًا: «عليَّ أن آخُذ لنفسي حِذرها من ذلك، ولكني إن استطعتُ أن أنزع عني قيود الكفَّار فلن أتكبَّل بها لحظةً واحدة بعد ذلك.»
فقال الحكيم: «إذن فأنا آمُرك أن تتبعني.»
فأجابه السير كنث غاضبًا وقال: «تأمرُني! والله لولا جميل صنعتَ بي، ولولا أنك أردتَ بي خيرًا، ولولا أني مَدين لثقتك بحرية هاتَين اليدين اللتَين كان بوسعك أن تُكبلهما بالأصفاد، لولا ذلك لأريتُك أنَّ إرغامي — وإن كنتُ من السلاح أعزل — ليس بالأمر الهين أو اليسير.»
فأجاب الطبيب العربي وقال: «حسبُك هذا وكفى، إنَّنا نضيع الوقت وهو نفيس.»
وما إن أتمَّ حديثه حتى لوَّح بساعده في الفضاء، وصاح صياحًا عاليًا أجشَّ، نذيرًا لمن كان في حاشيته، فتفرَّقوا على الفور جميعًا على صدر البادية، وكأنهم عقد انقطع حبلُه، وانتثرَت حبَّاته كلٌّ منها في ناحية. ولم يكن لدى السير كنث من الوقت ما يُمكِّنه من أن يرقُب ما جرى بعد ذلك، لأن الحكيم في تلك اللحظة عينها أمسك بزمام فرسِه وأطلق لجواده العنان، وانطلقا معًا كالبرق الخاطف، وبسرعةٍ كادت أن تسلُب الفارس الاسكتلندي القُدرة على الشهيق، ولئن أراد أن يوقِف قائده عن المسير لعجز كلَّ العجز؛ والسير كنث مدرَّب على الفروسية منذ نعومة أظفاره، ولكنَّ أخفَّ ما امتطى من جياد — رغم ذلك — لم يكن إلا كالسلحفاة إذا قيس بخيول الحكيم العربي. وأثار الجوادان وراءهما النقْع، وكأنهما ينهبان الفلاةَ نهبًا، ويطوِيان الفراسِخ في لحظات، ومع ذلك فإن قوَّتَيهما لم تفتُرا، وبقِيَت أنفاسهما خالصةً كما كانت حينما بدآ هذا العَدْو العجيب. والحركة كلها بيُسرها وخفَّتها كانت بالتحليق في الهواء أشبَهَ منها بالركض على الأديم، ولم يصحبْها شعور أليمٌ اللهم إلا ذلك الرعب الذي يحسُّ به المرء بطبيعته وهو يتحرَّك بسرعةٍ فائقة، وعُسر التنفُّس الذي ينشأ عن شقِّ الفضاء بسرعة الريح.
ومضى ما ينيف على الساعة بعد هذا الركض الرائع، الذي يقصُر مجهود البشرية بأسرها عن اللحاق به، ثم أرخى الحكيم من سَيره وأبطأ من خُطى الخيل، حتى بات عدْوُها مُحتملًا، وشرع يحدِّث الاسكتلندي حديثًا طويلًا عن جدارة خيوله في صوتٍ هادئ مُطمئن، كأنه إنما كان يمشي على قدَمَيه في الساعة التي انقضت، والاسكتلندي مقطوع الأنفاس، أعشى البصر، قليل السمع، وجسمُه كله في دوارٍ شديد من سرعة هذا العدو الشديد، فلم يكَدْ يفهم الكلمات التي كانت تتدفَّق من صاحبه تدفُّقًا.
قال العربي: «هذه الخيول من سلالة تعرَف ﺑ «ذات الجناح» تُباري بسرعتها كلَّ شيء عدا براق النبي، وهي تطعَم شعير اليمن الذهبي ممزوجًا بالتوابل، وقليلًا من لحم الضأن المُجفَّف. وكم من ملكٍ بذل ما يملك ليظفَر بها، وهي في شَيبها نشيطة كما في شبابها، وأنت أيها النصراني — إذا استثنَينا المُسلمين — أول من علا بمَتْنه جوادًا من هذه الفصيلة الكريمة، وهي من هدايا النبي لعلي كرَّم الله وجهه، وهو قريبه وخليفته ويُسمَّى بحقٍّ «أسد الله». هلَّا عرفتَ أن الزمن لا يمسُّ هذه الخيول الكرام إلا مسًّا خفيفًا، وأنَّ الفرس التي تمتطي صهوتها الآن قد عمَّرت خمسةً وعشرين عامًا وما تزال تحتفظ بقوَّتها وبسرعتها الفطرية، ولو كان عنانها في يدٍ أكثر حنكةً من يدك، ما احتاجت في مَسيرها إلى أكثر من أن يُمسك الراكب بزمامها؛ صلى الله على نبينا الكريم الذي خلع على المؤمنين وسائل يتقدَّمون بها ويتأخَّرون؛ وسائل تجعل خصومهم المُتَّشِحين بالحديد يُنهكون من ثِقل ما يحملون! كم ذا نفخت خيول أولئك الأوغاد أصحاب المعبد، وتصاعدت منها الأنفاس، بعدما جاهدت وضربت بحوافرها في رمال الصحراء كي تطوى عُشر معشار ما نهبَتْ بخطاها هذه الجياد الفوارس دون أن تتنهَّد مرةً أو تعلو ظهورَها الناعمة الملساء قطرةٌ واحدة من عرق!»
والآن حينما بدأ الفارس الاسكتلندي يستردُّ أنفاسه، ويستجمِع قوَّة انتباهه، لم يسعْه إلا أن يعترف في نفسه بالميزة التي يتميَّز بها هؤلاء المُقاتلون من أهل الشرق في الركض بالخيول مُهاجمين أو متراجعين، وهي ميزة تلتئم كلَّ الملاءمة والصحاري الرملية المستوية في بلاد العرب وسوريا، ولكنه لم يُرِد إلى أن يزيد من كبرياء ذلك المُسلم بأن يُقرَّ له بما كان يزعم لنفسه من فضل، ولذا فقد توقَّف عن مواصلة الحديث، وتلفَّت حوالَيه، واستطاع حينئذٍ — بعدما أبطأ وصاحبه في المسير — أن يحسَّ بأنه إنما يشقُّ بلادًا ليست غريبة عنه.
فتخوم البحر الميت الجرداء، ومياهه الكئيبة، وسلسلة الجبال الشاهقة المُعقَّدة التي كانت ترتفع إلى يساره، والنخيل المتلاصقة التي يتألَّف منها المكان الوحيد الأخضر على صدر القفار الجرداء — وهي مشاهد إنْ وقعت عليها العين مرةً لن تغيب عن الذكر أبدًا — كل ذلك دلَّ للسير كنث على أنه وصاحبه كانا يقترِبان من العين المعروفة باسم «درَّة الصحراء»، التي التقى لديها فيما مضى بالأمير العربي شيركوه أو «الضريم». وبعد قليلٍ من اللحظات أوقف الرجُلان جواديهما إلى جوار العين، ودعا الحكيم السير كنث أن ينزل عن ظهر الحصان، وأن يأوي إلى الراحة كأنه في دارٍ مطمئنة، وجرَّدا جواديهما من زمامَيهما، ورأى الحكيم في ذلك ما يكفيهما من عناية، لأنَّ بعضًا من خيار الفرسان من عبيده سوف يقدُم عمَّا قريب ويقوم بما تقتضيه الضرورة بعد ذلك.
ثم قال وقد طرح فوق العشب قليلًا من طعام: «الآن اطعم واشرَبْ يا صاحِ ولا تيأس، فالمرء قد يعلو نجمُه وقد يأفل، ولكنَّ عقل الحكيم والجندي ينبغي أن يعلو سلطان النجم.»
وحاول الفارس الاسكتلندي أن يُبين عن شكرِه بوداعته ولِين عريكته، وجاهد أن يأكل شيئًا تأدبًّا ومجاملة، إلا أنَّ البون الشاسع بين موقفه حينذاك، وموقفه حينما كان بهذا المكان من قبل رسولًا من الأمراء، وظافرًا في النزال، مرَّ بخاطره مرَّ السحاب، واسترختْ قواه البدنية من أثر الصوم والإعياء والكلال، ففحص الحكيم نبضه السريع، وعينَه المُلتهبة الحمراء، ويدَه الحارَّة، وأنفاسه المتلاحِقة.
وقال: «كلَّما سهر العقل زادت حِكمته، ولكن الجسد — وهو صِنو العقل وأخشن منه مادة — يحتاج إلى معونة الراحة؛ فلتنَمْ يا صاح، ولكي يصحَّ نومك خذ جرعةً من ماءٍ ممزوجة بهذا الإكسير.»
ثم أخرج من صدره قارورة صغيرة من البلور في صندوق من الفضة المُخرَّمة وصبَّ قليلًا من سائلٍ قاتم أسود في قدحٍ صغير من الذهب.
فقال السير كنث: «لقد شهدتُ كثيرًا من حذقك أيها الحكيم العاقل، وإني لا أجادل في نُصحك.» وابتلع المخدِّر ممزوجًا بماء من العين، ثم التفَّ في بُردِه وكان موثوقًا برمانة سرجه، واستلقى وفقًا لإرشاد الطبيب مُسترخيًا في الظل يترقَّب الراحة المرجوَّة. ولم يزُر عينيه الكرى أول الأمر، وتوالَتْ عليه سلسلة من الإحساسات اللذيذة، لا هي إلى اليقظة ولا هي إلى النهوض، ثم عرَتْه بعد ذلك حالٌ شعر فيها — ولمَّا يزل يُحسُّ بوجوده وما صار إليه — بأنه يستطيع أن يتأمَّل ما مرَّ به بغير ذُعرٍ أو أسف، بل وبطمأنينةٍ كأنه يشهد قصة نوائبه مُمثَّلة على المسرح، أو كأنه روح بغير جسم ينظُر إلى ما عمل في ماضي حياته. ثم انتقل بخواطره من هذا الهجوع، الذي كاد أن يفقد فيه الشعور بالماضي، إلى المستقبل الذي كان — رغم كل ما يُخيِّم عليه من سُحبٍ مُعتمة ليس وراءها من رجاء — يتألَّق بألوانٍ زاهية ما كان لِخيالِه الضيِّق المحدود — وهو في ظرفٍ خير من هذا الظرف — أن يُبدع خيرًا منها، حتى حينما يكون الخيال في أشدِّ حالاته إرهافًا؛ فإن هذا الطريد الأسير، هذا الفارس المَهين، بل هذا المُحب اليائس، الذي عقد رجاء سعادته على مدًى بعيدٍ عن مجال الأمل، في أيدي القدَر القاسي الذي لا يشدُّ أزره فيما يريد، كان يرجو رجاءً أكيدًا أن يظفر في وقتٍ غير بعيد بالحرية وبُعد الذِّكر والحب الموصول. ثم أخذت هذه الصورة الذهنية تُظلِم شيئًا فشيئًا، وأصبحت هذه الأحلام المرِحة مُبهمةً غامضة كأشعَّة الشمس تذوي ساعة الغروب، حتى هوَتْ أخيرًا في وَهدة النسيان السحيق؛ وبقِيَ السير كنث مُستلقيًا لدى قدمي الحكيم، ولولا أنفاسه العميقة لحسِبَه الرائي جسدًا بغير روح، كأنَّ الحياة فعلًا قد فارقته.