الفصل الرابع
لم يدرِ السير كنث الاسكتلندي كم لبِث غارقًا في سُباتٍ عميق، حينما أحسَّ بضغطٍ على صدره، فثاب إلى يقظتِه، وقد ظنَّ ذلك الضغط أول الأمر أضغاثَ أحلامٍ يُصارع فيها خصمًا قويًّا، ثم تنبَّهَت حواسُّه أخيرًا، وكاد أنْ يسأل: «من هنا؟» حينما فتح عينَيه فشهد شبح الناسك، وَحْشي المظهر، مفترس النظرات — كما وصفْنا — ماثلًا بجانبه، وقد ضغط بيُمناه على صدره، وأمسك بيُسراه مصباحًا صغيرًا من الفضَّة.
رفع الفارس عينيه مذهولًا وهو مُستلقٍ على ظهره، فقال الناسك: «صه! إنَّني أريد أن أُحدِّثك حديثًا لا يسمَعه هذا المُسلِم.»
وتكلَّم بالفرنسية ولم يلجأ إلى اللغة الفرنجية، وهي مزيج من لهجات الشرق والغرب كانت حتى ذلك الحين وسيلةَ التفاهُم بينهما.
ثم استأنف الحديث وقال: «انهض وارتدِ عباءتك ولا تنبس ببنتِ شفة وخفِّف الوطأ واتبعْني.»
فنهض السير كنث وامتشقَ حُسامَه.
ثُم همَس الناسك في أُذنه وقال: «دع هذا، إنما نحن ذاهبون إلى حيث سلاح الرُّوح يغنيك عن الشيء الكثير، وما هذه الأسلحة المادية إلا قصَب وقشور هشَّة.»
فطرح الفارس حُسامَه إلى جوار سريره حيث كان من قبل، وتأهَّب لمُرافقة مُضيفِه غريب الأطوار، ولم يتسلَّح بغير خنجرِه الذي لم يُفارقه طوال مسيره في هذه البلاد المحفوفة بالأخطار.
وحينئذٍ تقدَّم الناسك إلى الأمام على مهَل، والفارس يتبعه، ومازالت تُساوِره الظنون، ويخشى أن يكون الشبَح المُظلم، الذي يتسلَّل أمامه كي يهدِيَه الطريق، ما هو إلا من خلْق الأحلام المُزعِجة، ثم مرَّا بالغُرفة الخارجية، وكأنهما ظِلٌّ يتحرك، فلم يُزعِجا الأمير المسلم — وقد ظلَّ مُستلقيًا غارقًا في سُباته — وبلَغا الصليب والمذبح في الغرفة الخارجية، وكان أمامهما مصباح ما فتئ يتحرَّق، وإلى جواره كتابٌ من كتُب الدَّعوات الدينية، وعلى الأرض سَوط أو أُلهوب للتَّوبة مفتول من الحِبال والأسلاك الدقيقة، خُيوطه ملطَّخة بدَمٍ لم يجف، دليلًا قاطعًا على صرامة الناسك على نفسه في توبته؛ وهنا خرَّ تيودوريك راكعًا، وأشار إلى الفارس أنْ يتَّخذ لنفسه مكانًا إلى جواره فوق الزناد المُدبَّب، وكأنه إنما أُلقي هناك كي يبلُغ العُسر أشدَّه حينما يتأهَّب الراهب للتوجُّه إلى الله بالدعاء، ثم قرأ كثيرًا من دعوات الكنيسة الكاثوليكية، وأخذ يترنَّم في صوتٍ خافت، تُمازِجه نغمات الجد، بثلاثةٍ من مزامير التوبة، وقد اختلط ترنيمُه بالتأوُّه والدموع، وتهدَّج صوته بالبكاء المرير، وكان في ذلك شاهِدٌ على شدَّة تأثُّره بالشِّعر الديني الذي كان يُرتِّله، وحينئذٍ دبَّ في قلب الفارس الاسكتلندي إخلاصٌ عميق من أثر هذه الحركات في تنسُّك الراهب، وأخذت ظنونُه في مُضيفه إذ ذاك تتحوَّل وتتبدَّل، حتى أوشك أن يعتقِد فيه القداسة من قسْوتِه في التوبة، وإخلاصه في الصلاة؛ ولما هبَّا من صلاتهما وقف أمامه إجلالًا له، كأنه طالِب أمام أستاذٍ وقور، وقد أشار إلى ركنٍ بعيدٍ من أركان الكهف: «فتِّش في تلك الفجوة يا بُنيَّ تجِد حجابًا. هاتِه هنا.»
فانصاع الفارس وألفى الحجاب المطلوب في فرجةٍ ضيقة قُدَّت في الحائط، واستترت ببابٍ من أغصان الصفصاف المجدولة، ولمَّا أتى به إلى الضياء ألفاه مُمزَّقًا وملطَّخًا في بعض أنحائه بمادةٍ سوداء، ثم تفرَّسه الناسك بعاطفةٍ قوية مكبوتة، واضطرَّ أن يُنفِّس عن مشاعره بأنةٍ من الأعماق قبل أن يتحدَّث إلى الفارس الاسكتلندي.
وأخيرًا قال: «عمَّا قريب تشهد أغنى ما ملكت الأرض من كنوز، يا ويلتي! إنَّ عينيَّ غير جديرتَين بالنظر إليه! يا حسرتى! إنما أنا مُرشد حقير وَضِيع، ليس لي إلا أن أهدي المسافر المنهوك إلى موئل الدعة والراحة، وأنْ أظلَّ أبدًا طريد الديار؛ عبثًا أفرُّ إلى حنايا الصخور، أو إلى قلب الصحراء المُجدبة؛ لقد عثر بي خصمي وطاردني إلى حِصني رغم تنكُّري له!»
وسكتَ هنيهةً ثم التفت إلى الفارس الاسكتلندي وقال في صوتٍ أشدَّ ثباتًا في نغمِه: «هل أتيتَني بتحيةٍ من رتشارد ملك إنجلترا؟»
فأجاب الفارس: «إنما أتيتُ من مجمع الأمراء المسيحيين، وأما ملك إنجلترا فلم أتشرَّف بأن آتمِر لجلالته، فهو عن ذلك راغب.»
فأجابه الناسك وقال: «هات دليلك.»
فتردَّد السير كنث، واندفعت توًّا إلى رأسِه الشكوك التي ساورتْه من قبل، وتذكَّر أمارات الجنون التي بدَتْ على الراهب آنفًا، ولكن كيف له أن يرتاب في رجلٍ له هذه القداسة في مسلكه؟ وأخيرًا قال: «جوازي هذه الكلمة: الملوك يتوسَّلون إلى المُتسوِّلة.»
ثم سكتَ وردَّ الناسك قائلًا: «لقد أصبتَ، وإني لأعرفك حقَّ المعرفة، ولكني قائم على أمرٍ هام؛ والحارس في حراسته يتحدَّى الصديق كما يتحدى العدو.»
ثم سار قدمًا والمصباح في يده، وتقدَّم قصد الغرفة التي خلَّفاها، والعربي ما يزال راقدًا في سريره، غارقًا في نومِه، فوقف الناسك إلى جواره ورمَقَه بنظرةٍ ثم قال: «إنه ينام في الظلام ويجِب ألَّا يستيقظ.»
وكان الأمير في رقدتِه يُوحي إلى الرائي أنه حقًّا في سباتٍ عميق، فقد استلقى مُتجهًا نحو الحائط بنصف وجهه، وإحدى ذراعَيه ممتدَّة عبر جسمِه، وقد حجب أكثر وجهه بِكمِّه الواسع الطويل، ولكن جبينَه العالي ما زال باديًا، وسكنتْ عروقُه التي كانت دائبة التدفُّق وهو في يقظته، وأضحى وجهه كالمرمر الأسود، وأهداب جفونه الطويلة الناعمة كالحرير تنطبِق على أعينٍ نافذةٍ كعيون الصقر، ويده مبسوطة مُسترخية، وأنفاسه عميقة هادئة تتوالى في انتظام؛ وكلُّ ذلك دليل على سباتٍ عميق، وما كان أعجب تلك الجماعة التي تتألَّف من هذا النائم وذَينك الشبحَين الطويلَين، أحدهما الناسك مُرتديًا جلد العنز المُشعَّث وبيده المصباح، والآخر الفارس في سترةٍ ضيقة من الجلد، وعلى وجه الناسك أمارةٌ قوية من اكتئاب التقشُّف، وأما الفارس فقد انطبعت طلعة المشوق على ملامحه المُسترجلة انطباعًا قويًّا.
وقال الناسك بنغمٍ خافت كالذي كان من قبل: «إنه في نومٍ عميق.» ثم ردَّد هذه الكلمات، ولكنه لم يقصد بها هذه المرة إلى معناها اللفظي، وإنما كان يرمي إلى معنًى مجازي، قال: «إنه ينام في الظلام، ولكن عمَّا قريب يُطالعه الفجر. أيها «الضريم»! ما أشبَهَ أحلام يقظتِك في عبثِها وتوحُّشها بالرؤى التي ترقُص مترنِّحة في خيالك وأنت نائم، ولكن عمَّا قريب تدقُّ الطبول وتتبدَّد الأحلام.»
وهكذا أتمَّ الناسك حديثه وأشار إلى الفارس أن يتبَعَه، ثم سار نحو المذبح ومرَّ وراءه وضغط على زنبرك، فانفرج — دون ضجيج — عن بابٍ صغير من الحديد شُقَّ في قلب الكهف، ويكاد لا يلمحه البصر بغَير الإمعان الدقيق، وقبل أن يجسُر الراهب على فتح الباب على مِصراعَيه صبَّ على مفاصله من المصباح قليلًا من الزيت، ولمَّا انفتح الباب الحديد أخيرًا بأكمله، انكشف للرائي سُلَّم صغير نُحت في الصخر.
وهنا قال الناسك في صوتٍ حزين: «خُذ هذا القناع من يدي واحجُب به عينَيَّ فليس لي أن أشهد الكنز الذي سوف تقَعُ عليه عيناك عمَّا قريب، وإلا كان إثمًا منِّي وعدوانًا.»
ولم يُجِبه الفارس بكلمةٍ وإنما أسرع إليه وكمَّم رأسَه بالحجاب، ثم شرع الناسك يصعد السُّلَّم، وكأنه رجل تعوَّد الطريق بحيث لا يحتاج إلى ضياء، ولكنه كان يُمسك بالمصباح للاسكتلندي الذي تابع خُطاه على الدَّرَج مُتسلقًا ذلك المصعد الضيق، وأخيرًا بلغا بهوًا صغيرًا ليس له هيئة منظَّمة، ينتهي الدرَج إلى أحد أركانه، ويرى في ركنٍ آخر درَج آخر يقابله ويستأنف صعوده، وفي زاوية ثالثةٍ باب قُوطي يتجمَّل جمالًا ساذجًا بما تتميَّز به عادة العُمُد والصخور المنحوتة ويحتمي ببابٍ صغير اشتبكت فيه قُضبان الحديد ودُقَّت فيه المسامير، وقد قصد الناسك إلى هذا المكان الأخير، وكلما اقترب منه تعثَّر في خُطاه.
ثم قال لرفيقه: «اخلع نعلَيك فإنَّ الأرض التي تطؤها أرض مقدسة، واطرد من دخيلة قلبك كلَّ فكرٍ أو شهوةٍ دنسة، فإنه كُفر ما بعدَه كُفر أنْ تضمَّ إلى صدرك مثل هذه الرغبات في هذا المكان.»
فصدَع الفارس بما أمر، وخلع نعلَيه، ووقف الناسك حينذاك وكأنه قد أرسل الروح في صلاةٍ صامتة، ثم تحرَّك ثانيةً وأمر الفارس أن يقرَع الباب الصغير ثلاثًا، ففعل الرجل، وخُيِّل للسير كنث أنَّ الباب قد انفتح من تلقائه؛ إذ لم تقَعْ عينُه على أحد، وهبَّ على حواسِّه تيَّار من ضياءٍ نقي يخطف البصر، وشذى عبقٍ قوي يأخُذ بمجامع الحس، فرجع القهقرى خطوتَين أو ثلاثًا، ولم تمضِ دقيقة حتى أحسَّ بالتغيُّر المفاجئ من ظلامٍ إلى ضياءٍ يكاد من شدَّتِه يُبهِر البصر ويهدُّ القوي.
ثم دخل الغرفة التي كان يخرج منها هذا الضياء البرَّاق، ورأى أنَّ النور كان يشعُّ من مجموعةٍ من المصابيح الفضية، تشتعل بزيتٍ نقي، وتنشُر أنفَسَ العطور، معلقة بسلاسل من الفضة بسقف كنيسةٍ صغيرة قوطية شُقَّت — كأكثر أرجاء دار الناسك الفريدة — في الصخر المُصمَت الصلب. وبينما كانت الصخور في كل مكان آخَر وقَعَ عليه بصر السير كنث تدلُّ على أنَّ يدَ الإنسان لم تمتدَّ إليها إلا بتسويةٍ خشنة ساذجة، كانت هذه الكنيسة تشهد بأنَّ الإنسان قد استخدم فيها أقدَرَ المُختصِّين بفنِّ البناء بأزاميلهم وكلِّ مُبتكرٍ من فنِّهم، فلقد كانت السقوف ذات الأضلع المُتصالِبة ترتكز على ستة أعمدة في كل جانب، نُقشت بمهارةٍ نادرة، والقباب المقعَّرة تتقاطع في جمالٍ متَّسق، وكل شيء يدلُّ على انسجام تام في الفنِّ ومُلاءمة لرُوح العصر، ويُقابل صفَّ الأعمدة على كِلا الجانبين فجواتٌ ستٌّ بديعة الصنع، في كلٍّ منها تمثال لواحدٍ من الرُّسل الاثني عشر.
وأُقيم مذبح الكنيسة في طرفِها الأعلى ناحية الشرق، وإلى ورائه ستار نفيس من الحرير الفارسي مُزركش بالذهب الكثير، ويحجُب مكانًا خفيًّا لا شكَّ في أنه يحتوي على تمثالٍ أو أثرٍ له قُدسية غير مألوفة، وقد أُقيم هذا المعبد الفريد تمجيدًا له؛ وتوهَّم الفارس ذلك، فتقدَّم إلى الضريح وركع أمامَه، وردَّد دعاءه بحرارةٍ من القلب؛ وإذ هو كذلك، إذا بالستار يرتفع بغتة، أو لعلَّه جُذِب إلى أحد الجانبين، فاضطرب الفارس في انتباهه، ولم يرَ كيف ارتفع الستار، أو من ذا الذي أزاحه، ولكنَّه رأى في الكِن الذي انكشف خزانةً من الفضة والأبنوس لها باب مُزدوَج، وكلُّ شيءٍ صُنِع على غرار كنيسةٍ قوطية.
تطلَّع الفارس إلى الضريح بشَوقٍ قلقٍ وإذا بالباب المزدوَج ينفرِج ويكشف عن كتلةٍ من الخشب نُقشت عليها هذه الكلمات «الصليب الحق». وفي تلك الآونة كانت بطانةٌ من النساء تُرتِّل نشيد «المجد لله»؛ وفي اللحظة التي انقطع فيها الغناء، أُغلق الضريح وأُرخي السجاف ثانية، وكان الفارس — وقد ركع لدى المذبح — يستطيع أن يواصِل دُعاءه دون اضطرابٍ تمجيدًا للأثَر المقدَّس الذي تجلَّى لبصرِه منذ حين، وقد فعل ذلك تحت تأثير عظيم، يحسُّ به كلُّ من رأى بعينَي رأسه شاهدًا قويًّا على صِدق دِينه، واختتم صلاته، ثُمَّ هبَّ وقد تشجَّع على أن يبحث حوالَيه عن الراهب الذي أتى به إلى هذا المكان المقدَّس المسحور، فوقعتْ عليه عينُه وما فتئ رأسُه مُكمَّمًا بالقناع الذي كان قد لفَّه بنفسه حوله، واستلقى كالكلب الذليل لدى باب الكنيسة، ولكنه لم يجسُر على وطئها؛ وقد كان في ذلك الوضع الذي اتَّخذَه دلالة قوية على مقدار قداسته، وعلى توبتِه وندمِه، فقد استلقى كرجلٍ آدَهُ عبءٌ فادح من إحساسٍ باطني عميق، فخرَّ طريح الأرض مغلوبًا على أمره، وخُيل للاسكتلندي أنَّ الرجل ببنيته القوية وروحه المُشتعل، لن ينكبَّ على وجهه إلا إذا غلبَه إحساسٌ عميق بالتوبة والندم والخضوع.
فاقترب منه وكأنه يريد أن يتحدَّث إليه، ولكن الناسك أدرك مَرماه، فتمتم في صوتٍ مختنقٍ من خلف الوثاق الذي كان يُكمِّم رأسه، فرنَّت نبراته وكأنها صوت ينبعث من جثةٍ هامدة في كفنٍ وقال: «انتظر، فالمشهد لمَّا ينتَهِ، ولتسعَدْ بمرآه.» ثم نهض من فوق الأرض، وتقهقر من لدى المدخل حيث كان مُنكبًّا على وجهه، وأغلق باب الكنيسة، الذي كان يَحكُمه من الداخل مِزلاج حلزوني كان له صرير رنَّ صداه في أرجاء المكان، وهذا الباب لا يختلف في ظاهره عن الصخر ذاته الذي شُقَّ فيه الكهف، حتى إنَّ كنث لم يكدْ يتبيَّن أن هناك منفذًا، وأصبح الآن وحيدًا في الكنيسة المُضاءة التي كان بداخلها الأثر الذي أدى له واجب الطاعة منذ حين، ولا سلاح له غير خنجره، ولا رفيق غير فكرٍ ديني يُخالجه، وشجاعة لا تعرِف الخوف تتملَّكه.
ولم يدرِ السير كنث ماذا عسى أن يقع بعد ذلك من حدث، وإنما اعتزم أنْ يتابع مسير الحوادث، فضرب في أرجاء هذه الكنيسة المهجورة، حتى أوشكتِ الدِّيكة أنْ تصيح عند مُنبثق الصباح؛ وفي ذلك الزمن الموات، حينما يُعانق الليل النهار، رنَّ في أذن السير كنث صوتٌ لم يتبيَّن مأتاه، صوت شَيبه رنين جرسٍ صغير من الفضة، يدقُّ حين يهبُّ مُضيفه من مرقده كي يقيم الصلاة أو يقدِّم القربان — على حدِّ تعبيره — ولقد جعلت ظروف الزمان والمكان ذلك الصوت جدَّ جليل، فانكمش الفارس — رغم جرأته — إلى أقصى أركان المعبد في الطرف المقابل للمذبح كي يرقُب بغير اضطرابٍ ما قد ينجُم عن ذلك النذير.
ولم يلبث طويلًا حتى أزيح الستار الحريري ثانية، ومَثَل الأثر لعينَيه من جديد، فخرَّ على رُكبتَيه إجلالًا واستمع إلى أصواتٍ نسوية تُرتِّل نشيدًا أو تُرسل دعاء الكنيسة الكاثوليكية مُبكرة، وقد تآلفَتْ في الأداء كما تآلفتْ في الصلاة الأولى. وسرعان ما أدرك الفارس أنَّ الأصوات لم تعُد تنبعث من مكانٍ ثابت، وإنما كانت تدنو من الكنيسة وتعلو رُويدًا رُويدًا، وإذا ببابٍ في الجانب الآخر من البهو ينفتِح ثُم يُوصَد فلا يظهر له أثر، كذلك الباب الذي دخل منه، فتجد بذلك أنغام المُرتِّلات فسحةً ترنُّ فيها، ثم تُردِّدها قِباب السقف ذات الضلوع.
وحينئذٍ صوَّب الفارس بصرَه نحو الباب، وأنفاسه تكاد تتقطَّع من شدة الهلَع، ولكنه ظلَّ راكعًا على هيئة المُصلي، وهي الهيئة التي كان يتطلَّبها هذا المكان وذلك المشهد، ثم أخذ يترقَّب ماذا عسى أن ينتهي إليه ذلك الإعداد، وإذا بموكبٍ يتراءى له، وقد أوشك أن يلِجَ من الباب، يتقدَّمه وُلدان أربعة، عليهم سيماء الجمال، عُرْي الأذرع والرِّقاب والسُّوق، فبدا منهم ذلك اللون البرنزي — لون أهل الشرق — تُقابله قُمُص قصيرة ناصعة البياض، كانوا يرتدونها وهم مُقبِلون على المعبد مثنًى مثنى، وقد حمل الاثنان المُتقدِّمان مَبخرتَين لوَّحا بهما يمنةً ويُسرة، فانتشر في الكنيسة عبقٌ على العبَق الذي كان من قبل يُفعِمها، ثم أقبل الاثنان الآخران ينثُران الزهور.
وعلى أثر هؤلاء أقبلتِ النساء اللائي كنَّ يُرتِّلن مُتتابعاتٍ على خير نظام وأحسن ترتيب، وكنَّ ستًّا، يرتدين على أكتافهنَّ أرديةً سوداء، ويتحجَّبن فوق ملابسهن البيض بسُتَرٍ قاتمة، فدلَلْنَ بأزيائهن على أنهنَّ راهباتٌ مُحترفات، يتبَعن دير «جبل كرمل» ويُشبهن الكثيرات غيرهن، اللائي يُفصِحن بأقنعتهنَّ البيض على أنهن حديثات الترهُّب، أو زائرات للدير عارضات، لا يربطهنَّ به عهد أو مِيثاق؛ وقد أمسك السابقات منهنَّ في أيديهنَّ بالمسابح الكبيرة، ولحِق بهنَّ الصُّغريات، رشيقات القد، ومع كل واحدةٍ منهنَّ إكليل من الزهر الأبيض والأحمر؛ ثم سِرْن جميعًا في حفلٍ يُطوِّفن بالمعبد، ولم يبدُ عليهنَّ أنهن قد أعرْنَ كنث أدنى الْتِفات، رغم أنهن مررنَ إلى جواره حتى كادت ملابسهن أن تمَسَّه، وإذ هنَّ يتغنَّين، لم يشكَّ الفارس في أنه إنما كان في ديرٍ من الأديرة التي كان الفتيات المسيحيات النبيلات في الزمن الماضي يَقِفْن أنفسهن صراحةً لخدمة الكنيسة فيها، وقد اضطرَّ أكثرهنَّ لأن ينقطِعْنَ مُذ أعاد المسلمون فتح فلسطين، ولكنَّ كثيرات منهن اشترَين الإغضاء عنهنَّ بالهدايا، أو لحِقتهنَّ رأفة الظافرين أو احتقارهن لشأنهن، فبقِين دون أذًى، وواصلْنَ في الخفاء مُراعاة الطقوس التي كانت لزامًا عليهنَّ بما أخذْنَ على أنفسهن من عهود، وكان كنث يعلم ذلك، ولكنَّ رهبة المكان والزمان، والدهشة التي استولت عليه من مُباغتة أولئكن الراهبات، بظهورهن ومَسيرهن إلى جواره وكأنهن أطياف الخيال؛كل ذلك كان له على خياله تأثيرٌ تعسَّر عليه معه أن يعتقد أنَّ ذلك المَوكب الجميل الذي وقعتْ عليه عينُه كان يتألَّف من مخلوقاتٍ من هذه الدُّنيا، فما كان أشبَهَهنَّ برتلٍ من كائناتٍ من غير هذا الوجود أتتْ بالولاء لله المعبود من كل الوجود.
هذا أول ما خطر للفارس لمَّا أنْ مرَّ به موكب النسوة، وقد كدنَ أن يتقدَّمن بمقدار ما يُبقيهن متحركاتٍ فحسب، حتى بَدَون وكأنهن ينزلِقنَ ولا يمشين، وقد أظهرهنَّ للعيان الضياء المقدَّس القاتم الذي كان ينبعِث من المصابيح خلال سُحُب البخور التي كانت تنشُر في الغرفة الظلام.
ولكنهنَّ لمَّا دُرْنَ بالمعبد ثانية، ومررْنَ بالمكان الذي كان يجثو فيه، نزعَتْ إحدى الفتيات اللائي كن يرتدينَ القُمُص البيضاء — وهي تسير الهُوَينى إلى جواره — زهرةَ وردٍ من الإكليل الذي كان بيدها، وسقطتِ الزهرة من بين أصابعها على قدَم السير كنث، ولعلَّها سقطت منها على غير عَمد، فذُعِر الفارس كأنَّ سهمًا قد أصابه فجأة، وذلك لأنَّ الإنسان إذا أرهف حِسَّه وكان عقله في ارتقاب، كان أتفَهُ الأحداث — إذا وقع على غير انتظار — وقودًا لنار الفكر التي يُؤجِّجها الخيال، ولكن الفارس أخمد عاطفته إذ أدرك أنَّ أمرًا كهذا لا يؤبَهُ له ما أيسرَهُ أن يحدُث، وأنه لولا أنَّ المُرتِّلات كنَّ يَسرْنَ في حركةٍ متكرِّرة مَملولة لَمَا كان له أثر يُذكَر.
ورغم ذلك فقد تابع السير كنث بفكره وبصره واحدةً دون سواها من بين أولئك الراهبات الصغيرات، وهن يُحطن بموكبهنَّ المعبد ثالثة، وتلك هي التي أسقطت زهرةَ الورد من يدِها، ولكنها كانت في خطوِها ووجهها وقوامها على شَبَهٍ تام بغيرها من المُغنيات حتى تعسَّر على السير كنث أن يلحظ أقلَّ إشارةٍ من مميزاتها الخاصة، ومع ذلك فقد أخذ قلبُه يرفرِف، كطيرٍ حبيس في قفصٍ يريد أن ينطلق، وكأنه يؤكِّد له بإيحاء مُيوله أنَّ الفتاة التي تسير عن يمين الصف الثاني بين الراهبات أقرب إلى قلبه من كل مَن عداها من الحاضرات، بل ومِن كل بنات الجنس اللطيف قاطبة. وتُراعي قواعد الفروسية، بل وتُحتِّم على الفارس، أن يوثِّق الروابط بين عاطفة الحب الشعرية، وشعور الإخلاص لله، الذي لا يقلُّ خيالًا وشعرًا عن عاطفة الحبِّ نفسها، وهما إحساسان يُقوِّي أحدُهما الآخر ولا يتعارضان، ولذا فقد كان السير كنث، ببارقةٍ من الأمل يُمازجها إحساس ديني وعاطفة حارَّة تهزُّه من قلبه إلى أطراف أناملِه، يرتقِب لمحةً ثانية من تلك التي توهَّم بكلِّ نفسه أنها جادت عليه بلمحة الرِّضا مرةً من قبل؛ وأتمَّ موكب الفتيات دورةً ثالثة حول المعبد في زمنٍ وجيز، ولكنه كان للسير كنث دهرًا مُخلدًا؛ وأخيرًا دَنا منه ذلك الشبَح الذي كان يرقُبه بعينٍ لا تني، ولم يكن ثمَّة فارق بين هذا الجسم المُتلفِّع بالثياب وبين غيره — وقد كنَّ جميعًا يَسرنَ مُرتِّلات في صوتٍ واحدٍ مؤتلِف النغم — حتى مرَّتْ بالصليبي الجاثي على رُكبتَيه مرة ثالثة واستلَّت من ثنايا ثوبها الحريري طرفًا من يدٍ دقيقة مُتناسِقة، تدلُّ ببراعة جمالها دلالةً قوية على كمال التناسُق في جِسم صاحبتها؛ وبهذه اليد التي انسرقَت، كما ينسرِق شعاع القمر من سُحبٍ كأنها العِهن المنفوش في ليلةٍ صائفة، رمَتْ ثانيةً زهرة وردٍ على قدَمي فارس النمر.
وليس من شكٍّ في أنَّ الإيماء لم يكن هذه المرَّة عارضًا، أو جاء مُصادفة واتفاقًا؛ وما كان أشبَهَ تلك اليد النَّسوية الجميلة، التي لم يبدُ غير نصفها، بيدٍ مدَّ إليها بالتقبيل شفتيه يومًا، وهو يقسم بقلبه يمين الإخلاص والولاء لصاحبة اليد المعشوقة؛ وهل يحتاج السير كنث إلى دليلٍ آخر؟ وذلك هو الخاتم الياقوتي مُنقطع النظير يتألَّق إلى إصبعٍ ناصعة البياض كالجليد، إصبع لو أشارت بها صاحبتها أدنى إشارة لكان لهذه الإشارة في عين السير كنث قدْر يفوق ما للياقوتة التي لا تُقدَّر بثمن؛ هذا وقد استطاع الفارس، رغم أنَّ الفتاة كانت مُقنَّعة، أن يرى — إما مُصادفة، أو مَنًّا منها — ذؤابةً من فرعها الفاحِم، كلُّ شعرةٍ من شعراتها أنفَسُ لدَيه مائة مرةٍ من سلسلةٍ من الذهب الخالص. إذن لقد كانت فتاتُه التي هوي! ولكن أنَّى لها أن تطرُق هذا المكان، هذه الصحراء المُقفِرة النائية، بين أولئك العذارى اللائي اتَّخذن المجاهل والكهوف لهنَّ مَوئلًا كي يستطعنَ أن يؤدِّين في الخفاء طقوسًا مسيحية لا يجرُؤن على أدائها علانيةً وجهرًا؟ أحقًّا وصدقًا يرى؟ إنه لا يستطيع التصديق، إنه لا ريب في حلمٍ من الأحلام وغاشية خدَّاعة من غواشي الخيال. وبينما كانت هذه الخواطر تُساور السير كنث، إذا بالمسلك الذي زلَف منه الفتيات حين دخلنَ المعبد يتلقَّاهن ثانيةً عائدات؛ وأخذ الغلمان الصغار والراهبات المُكتئبات ينسلُّون من الباب المفتوح، ويختفون واحدًا بعد الآخر، وأخيرًا توارت كذلك تلك التي ألمعَتْ إليه مرَّتين، وهي إذ تتوارى التفتَت التفاتةً خفيفة بادية صوب المكان الذي لبِث فيه السير كنث راسخًا، كالصَّنَم، وقد رأى قناعها وهو يُرفرِف لآخِر مرة. إذن لقد غابت عن عينيه، وحينئذٍ أحاط بروحه ظلام دامس لا يقلُّ حلوكةً عن ذلك الظلام الذي غشِيَ آنئذٍ ظاهر حواسِّه، إذ لم تكد تُعبر آخِر المرتِّلات عتبة الباب حتى أُوصِد الباب بصوتٍ مرتفع، وفي هذه اللحظة عينها سَكت المغنيات عن الترتيل وأُطفئت في الحين أضواء المعبد، ولبث السير كنث وحيدًا في ذلك الظلام الشامل، ولكن العزلة والظلام وغموض الموقف المُبهم الذي آل إليه، كلُّ ذلك لم يكن للسير كنث شيئًا مذكورًا، فلم يشغل به الفكر ولم يعبأ به، ولم يكن ليأبَهَ إلا لشيءٍ واحد في هذا الوجود، وذلك هو المشهد الذي مرَق منذ حين وانسلَّ من جواره، وما منحتْه الفتاة من علامات الرضا، فأخذ يتحسَّس في الظلام فوق الأديم، لعلَّه يعثُر على الزهور التي سقطت من يدِها، ثُم يضمُّ إحداها أو جميعها إلى شفتَيه مرةً وإلى صدره أخرى، ثم يُلصق شفتَيه بكل صخرٍ باردٍ تُحدِّثه نفسه أنها وطئته بقدَمَيها، ثم يقوم بكلِّ عملٍ شاذٍّ يوحي به الحب المُبرِّح ويُبرِّره لكلِّ من أسلم نفسه للعِشق؛ وكان في هذا كله دليل على حرارة الحب، دليل معروف منذ الأزل؛ ولكن من العجيب في عهود الفروسية أنَّ الفارس، وهو في فرط السرور، لا يتطرَّق إلى خياله أن يتعقَّب أو يتأثر بغادةٍ تعلَّق بها قلبه هذا التعلُّق الشِّعرى، حتى أصبح ينظُر إليها وكأنها إلهة تعطَّفت فبدَتْ هنيهة لعابدٍ من عبَّادها المُخلصين، ثم آبت إلى ظلام معبدها المقدس، أو كأنها كوكب سيَّار، بالِغ الأثر، أرسل شعاع الرضا في لحظةٍ من لحظات الطالع السعيد، ثم تَدَثَّر ثانية في قناعٍ من الضباب. وكانت إشارات هذه الغادة التي تعلَّق بها قلبه كأنها تصدُر عن كائنٍ علوي يتحرَّك ولا رقيب عليه ولا عتيد، إذا تبدَّى أُفعِم قلبه بالسرور، وإذا تغيَّب غلَبَه الاكتئاب والخور، فإنْ رأفتْ به بعثتْ فيه الحياة، وإن قسَتْ عليه تملَّكه اليأس والقنوط؛ كل شيء وفق ما تريد، ليس إلى الإلحاف أو المعارضة إليها من سبيل، وليس عليه إلا أن يتوجَّه إليها مخلصًا، يخدمها بقلبه وبسيف الفروسية، وليس له في الحياة إلا مرمًى واحد، هو أن يأتمِر لها بما تأمر، ويذيع في العالم صِيتها بكلِّ ما يستطيع أن يقوم به من عملٍ جليل.
تلك كانت قواعد الفروسية، وأصول الحب — وهو أسمى مبادئها — ولكن ظروفًا خاصَّة أخرى أحاطت بالسير كنث، فأكسبت تعلُّقه بهذه الفتاة خيالًا وشعرًا، ذلك أنه لم يستمِع حتى لرنين صوتها، رغم أنه كثيرًا ما تأمَّل جمالها بقلبٍ طروب؛ وكانت تعيش بين جماعة، تُخوِّل له مرتبته في سلك الفروسية أن يدنو منها ولا يُخالطها؛ وكان حتمًا على هذا الجندي الاسكتلندي المسكين — رغم علوِّ كعبِه في المهارة الحربية وخطط الفروسية — أن يعبُد إلهته وهو منها على بُعدٍ يكاد يبلُغ في مداه تلك الهوَّة التي تفصل بين الفارس والشمس التي يعبد؛ ولكن متى بلغ بالمرأة الخيلاء حدًّا تُهمِل معه مثل هذا الإخلاص الحار يصدُر عن قلبِ عاشقٍ مهما يكن وضيع المقام؟ فلقد كانت ترمقُه وهو يتبارى في الطعان، وتستمع إلى محامِده فيما يروى كلَّ يومٍ عن معارك القتال؛ وبينما كان كل «كونت» أو «دوق» أو «لورد» يكافح كي يحظى بنظرةٍ منها، كانت تميل بكلِّ قلبها نحو فارس النمر المسكين، الذي لم يكَدْ يكن له غير حسامٍ يَمتشِقُه ويؤيد به مكانته؛ وربما كان في حبِّها أول الأمر راغمة، بل ومدفوعة بشعور غير محسوس؛ وكانت إذا نظرتْ أو أصغت، رأتْ وسمعتْ ما يكفي لأن يدفع بها في مَيلها هذا الذي تطرَّق إلى قلبها أول الأمر على حين غرَّة؛ وإذا ردَّدت يومًا أكثر السيدات احتشامًا في بلاط إنجلترا العسكري ذِكر فارسٍ من الفرسان، وامتدَحْنَ فيه جماله، استثنَين كنث الاسكتلندي؛ وكثيرًا ما كان الأمراء والأشراف يبذلون جزيل العطايا على المُنشدين كي يتغنَّوا بفضائلهم، فيتملك الشعراءَ روح العدل واستقلال الحكم، ويضربون الأوتار إشادةً بذكر رجلٍ لا يملك خيلًا ولا حللًا يخلعها عليهم جزاءً لهم على مدحهم إيَّاه.
باتت اللحظات التي كانت «أُديث» بنت الأشراف تستمع فيها إلى الثناء يُكال لحبيبها كيلًا أحبَّ إلى نفسها بما كان قبل، إذ كانت هذه اللحظات تُسرِّي عن قلبها المَلَق الذي كلَّت من مسمعه، وتمدُّها بموضوعٍ جدير بالتأمُّل العميق، فلقد كان السير كنث — بإجماع الرُّواة — رجلًا أحقَّ بالإجلال من كلِّ من علاه مرتبةً أو كان أوفر منه حظًا، فأضحت وكلُّ انتباهها معقود بالسير كنث، لا تفكر إلا فيه، وإنْ تملَّكها الحِرص؛ وكلما أمعنتْ في التأمُّل ازدادت وثوقًا من ولائه لها، ويقينًا أنَّ لها فيه الفارس الذي كُتِب له أن يُقاسمها الحياة، سرَّاءها وضرَّاءها (ومستقبل الأيام مُظلم وخطير)، وأن يعقد هواه بهواها، ذلك الهوى الذي عزا إليه شعراء العصر سلطانًا شاملًا والذي يكاد بتقاليده وفضائله يرتفع إلى حدِّ الإخلاص لله.
ودعْني بعد هذا لا أستُر على القرَّاء حقيقة الأمر، فليعلموا أن «أُديث» كانت فتاةً قريبة الصِّلة بعرش إنجلترا، يُحتِّم عليها كرَم الأصل وعزَّة النفس أن تكتفي بالولاء والإخلاص يُظهرهما لها دومًا، في صمت، فارسها الذي اختارته لنفسها، ولكنها أدركتْ كُنهَ مُيولها — وهي ذات الميول النبيلة الشريفة — وعلمتْ أنَّ من اللحظات ما تتحرَّك فيها مشاعر المرأة في نفسها، المرأة التي تُحِب وتُحَب، فتثور عواطفها في وجه قيود العظمة، وتقاليدها، التي كانت تتحوَّطها من كلِّ جانب، وتُنحي على حبيبها باللائمة لحيائه الذي يوسوس له ألَّا يحطِّم تلك القيود؛ وإذا جاز لنا أن نعبِّر بلفظٍ حديث قلنا إن «إتيكيت» مولدها ومكانتها تلك رسَم حولها دائرةً سحرية، للسير كنث أن يخفض الرأس أو يرفع البصر ما دام بعيدًا عنها، فإنْ تخطاها فليس له إلا أن يمر، كما يمرُّ الروح إذا استدعاه الساحر العظيم وحظر عليه أن يتخطَّى الحدود التي رسمَها بعصاه، فبدا لها — وهي كارهة — أن تُقْدِم هي، وتمدَّ ولو طرف قدمِها الدقيق، وتُخرجه عن الحدِّ المرسوم إنْ أرادت أن تُصيب عشيقها الحييَّ الخجول بلمحةٍ خفيفة من فضلها، وتُهيئ له الفرصة كي يُقبِّل رباط حذائها؛ ولقد كان لها في بنت ملك المجَر أسوة، إذ تعطَّفت على شريفٍ من صغار الأشراف وحثَّتْه على الإقدام، و«أُديث» وإن يكن يجري فيها دم الملوك، إلا أنها ليستْ من بنات الملوك، وليس كذلك حبيب قلبها من أبناء السُّوقة، فلم يقُمِ القدَر في سبيلهما حاجزًا قويًّا يعترض تبادُل الحب بينهما، ولكن إحساسًا بالأنفة المُتواضِعة التي كثيرًا ما تُكبِّل الحبَّ بسلاسل من حديد، إحساسًا نهاها — رغم علوِّ مكانتها — عن أن تخطو هي الخطوات التي يقضي الاحتشام أنْ تكون دائمًا من اختصاص الجنس الآخر. وفوق هذا فإن السير كنث فارس رقيق نبيل، فائق التهذيب، أو قُل إنَّ خيالها قد أوحى إليها بذلك وبثَّ فيها شعورًا دقيقًا بما له وما لها، فمن واجبها — مهما تملَّكتْ قلبها العاطفة — أن تتقبَّل منه صلواته، وهي كتمثال الآلهة التي يُسلِّم المرء بأنها لا تُحسُّ ولا تُجيب لعبادها ما يقدِّمون من ولاء، أو كالوثَن، تخشى إن هي بكَّرتْ بالنزول عن قاعدتها أن ينحطَّ شأنها في عينَي عبدِها المُتفاني.
ولكنَّ العابد المُخلص إذا توسَّل إلى وثنٍ حق، انكشفتْ له من الوثَن أمارات الرضا في ملامح صورته المرمرية، التي لا تلين ولا تتحرك؛ فلا عجَب إذن إذا لاحتْ إشارة في خفاياها معنى القبول من عين أُديث البرَّاقة اللامعة، أُديث بارعة الجمال، التي كان لها في سِحر سَيماها جمال يفوق جمال الاتِّساق والوسامة في ملامحها، والبريق والضياء في بشرتها؛ ولذا بدرَتْ منها — رغم غِيرتها وحذرِها — دلالاتٌ خفيفة؛ ولولا ذلك لما تسنَّى للسير كنث أن يعرف منها على الفور والحين، وبغَير ارتياب، يدَها الجميلة التي لم يكدْ يبدو منها إصبعان من تحت القناع، ولمَّا قرَّ في نفسه اليقين بأن الزهرتَين اللتين سقطتا مُتواليتين في مكانٍ واحد إنما كانتا إلماعًا من حبيبة قلبه. ولن نحاول هنا أن نقصَّ كلَّ ما أدَّى إلى هذا التفاهُم المتبادل بين أُديث وحبيبها من ملاحظاتٍ متوالية، وإشاراتٍ خفية، ونظرٍ وتلويح، ومؤاخاة غريزية في الحب، فإنما نحن في ذَيل العمر، ولو تحدَّثْنا عن رموز الحب الخفية، تحدَّانا في القُدرة على ذلك شباب له عيون سريعة اللمح في هذه الشئون؛ وحسْبنا أن نقول إنَّ هذا الحبَّ قام بين شخصَين لم يتبادلا كلمةً واحدة، وكانت أُديث من ناحيتها تحبس الكلام لإحساسها القوي بالصعاب والأخطار التي لم يكن بدٌّ من أن تعترِضها في توثيق عُرى الروابط بين قلبيهما؛ والفارس من ناحيته تُساوره ألوف الشكوك والمخاوف، ويخشى أن يكون مُبالغًا في تقديره للإشارات الخفيفة التي أومأت بها فتاته، والتي كانت تتخلَّلها — بحُكم الضرورة — فتراتٌ طويلة يغلب عليها الفتور، وتبدو في غضونها أُديث قليلةَ الاكتراث، وكأنها لا تلحظ وجودَه، إما لأنها كانت تخشى أن تُثير بِمَسلكها تنبُّه الأخرَيات، وتجرَّ بذلك على عشيقها الأخطار، أو لأنها كانت لا تحبُّ أن تسقط في اعتباره لشدَّة لهفتِها على أن تملك منه قلبَه.
ربما كانت هذه القصة طويلةً مملولة، ولكنها ضرورية للرواية، وتُعيننا على إيضاح ما كان بين المُحبَّين — إن كان هذا أمرًا يستحق العناية — حينما بدَتْ أُديث على غير انتظامٍ في المعبد، وكان لها على مشاعر الفارس هذا الأثر البليغ.