الفصل السادس
وهنا ننتقِل بالقارئ من مكانٍ إلى آخر كما أشرْنا في عنوان هذا الفصل، ننتقل به من جبال الأردن المُقفِرة إلى خيام رتشارد ملك إنجلترا، التي كانت مضروبةً إذ ذاك بين جون ميناء عكا وعسقلان، والتي كانت تضمُّ تحت لوائها جيشًا، أخذ قلبُ الأسد على نفسه من قبلُ أن يسير به ظافرًا إلى بيت المقدس، وكان من المُحتمَل أن ينجح فيما شرع، لولا أن وقفتْ في سبيله الغيرة المتبادلة بين الأمراء المسيحيين الذين اشتركوا في هذا المشروع عينه، ولولا أنْ عرقَلَ مسعاه ما كان يحسُّ به هؤلاء الأمراء من ألم النفس من تعالى الملك الإنجليزي عليهم تعاليًا لا يُكبَح له جماح، ومِن تحقير رتشارد — في غير مواربة — من شأن إخوانه الملوك، الذين كانوا يُعادلونه مرتبة، ولكنهم لا يبلغون شأوَه في الشجاعة والإقدام والمواهب الحربية. وأمثال هذه المُشاحنات وما إليها — وبخاصَّة ما كان منها بين رتشارد وفيليب ملك فرنسا — خلقت من الخصومات والعقبات ما كان حجَرَ عثرةٍ لكل خطوة عملية يتقدَّم بها رتشارد، الذي عُرف بالبطولة وعدم التريُّث معًا، بينما كانت صفوف المسيحيين تتخلخل يومًا بعد يوم، ويهجرها المجاهدون زرافاتٍ ووحدانًا، وفي طليعة كلِّ فرقةٍ قائد من قواد الإقطاع، هو زعيمها، وقد انسحبوا بعد نضالٍ أطفأ فيهم كلَّ بارقةٍ من الأمل في النجاح.
وبات أثر المناخ — كما كان دائمًا — مُهلكًا للمُقاتلين الآتين من الشمال، وزاد من وطأة الجو أنَّ الصليبيين أطلقوا لشهواتهم العنان وانحلَّت أخلاقهم، وإن يكن هذا يُنافي كلَّ المُنافاة المبادئ والأغراض التي شَهروا من أجلها السلاح، فباتوا فرائس سائغةً لحمارة القَيظ المُحرقة، وقطرات الندى الباردة، وما لها من أثر وَبِيل؛ وأضِفْ إلى هذه البواعث التي كانت تفتُّ في الأعضاد، وتؤدي إلى الخُسران والدمار، سيفَ العدو الباتر، وذلك أنَّ صلاح الدين، الذي ليس في سجلِّ تاريخ الشرق اسمٌ يعلو على اسمه، كان قد عرَف — ويا لها من معرفةٍ قاضية — أن أتباعه (بسلاحهم الخفيف) أضعف مِن أن يُلاقوا الفرنجة المُدجَّجين بالحديد، وجهًا لوجه في ملحمةٍ أو معركة، كما عرَف كذلك كيف يخشى شخصٌ خصمه رتشارد الجسور ويحسِب له حسابه؛ ولكن إنْ كانت الفرنجة قد انقضَّت على جيوشه أكثر من مرةٍ ذبحًا وتقتيلًا، فلقد انتصر لكثرة عديده في تلك المُناوَشات الخفيفة التي كان الكثير منها حتمًا لا مَحيص عنه.
ولمَّا نقص جيش العدو المهاجم، زاد السلطان من مدى خُططه في هذه الحرب الخفيفة، وجعلها أشدَّ جرأة، فأحاطت بمُعسكر الصليبيين — وكادت تُحاصِره — جموع من الفرسان أقبلتْ كأسراب الزنانير، يَسيرٌ سحقُها إذا وقعتْ في قبضة اليد، ولكن لها أجنحة تُمكِّنها من الإفلات من أشدِّ القوى بأسًا، كما أنَّ لها أشواكًا تنفُث منها السُّوء والأذى. ولم تنقطع الحروب بين طلائع المسيحيين ورُعاة حروب الخيل. هلكت فيها أرواح كثيرة قيمة دون طائلٍ أو جدوى؛ وكثيرًا ما حِيل بين الرُّسل ومواصَلة المسير، وتقطَّعت سبل المواصلات، وكان على الصليبيين أن يشتروا أَوْد الحياة ببذْل الحياة، وإن أرادوا ماءً من عَينٍ كعينٍ بيت لحم، التي كان يتشوَّق إليها داود الملك أحد حكامها الأقدمَين، أراقوا لذلك الدماء.
وكان يعادل هذه الشرور — إلى حدٍّ كبير — عزمٌ كالحديد ونشاط لا يستقرُّ من جانب الملك رتشارد، الذي كان دائمًا على صهوة جواده بصُحبة جماعةٍ من خيار فرسانه، على أهبةٍ لأنْ يكرَّ إلى أي مكان تحلُّ به الأخطار، وغالبًا ما يعود للمسيحيين بمعونةٍ لم تقع لهم في الحسبان، بل ويهزم المُنافقين، وهم من النصر قاب قوسَين أو أدنى. ولكن حتى قلب الأسد، ذو الجسم الحديدي، لم يستطِع أن يحتمِل بغير أذًى تقلُّبات المناخ الوبيلة، فضلًا عن إجهادٍ جثماني وعقلي متواصِل، فلقد أصابته إحدى تلك الحميَّات المُنتشِرة في آسيا، والتي تفتك بالجسم شيئًا فشيئًا؛ ورغم قوةٍ شديدة وشجاعةٍ أشدَّ منها، بات أولَ الأمر ضعيفًا لا يستطيع أن يعتلي ظهر الجواد، ثم انقطع عن حضور مجالس الشورى في شئون الحرب، التي كان يعقِدها الصليبيُّون بين الحين والحين، ولم يكن من اليَسير أن تعرِف إن كان ما استقرَّ عليه المجلس — وهو أن يعقدوا مع السلطان صلاح الدين هُدنةً مداها ثلاثون يومًا — قد جعل هذا الفتور، الذي اعتوَرَ ملك الإنجليز، أشدَّ فتكًا أو أخفَّ وقعًا؛ فلئن كانت هذه الهدنة تُثيره لأنها تعترض سَير الخطة الواسعة المدى التي رسمَها لنفسه، وتؤجِّلها إلى حين، فهو من ناحيةٍ أخرى يجِد فيها بعض العزاء، لأنه عرَف أنه إنْ لبِث عاطلًا لا يتحرَّك في سرير المرض، فلن يظفر غيرُه بإكليل النصر.
وأما ما لم يرضَ عنه قلب الأسد فهو هذا التبلُّد الشامل، الذي ضرب بجرانه في معسكر الصليبيين، حينما أقبَلَ على دَورٍ خطير من أدوار المرض؛ وقد علِم من البيان الذي استخلصه من أتباعه — وهم كارهون — أنه كلما اشتدَّ به المرض، هبطت آمال الجيش المحارب، وأنهم لم يشتغلوا أيام الهدنة بتقوية صفوفهم، أو بإحياء ما خمَد من روح البسالة والإقدام، أو بتغذية روح الظفر في النفوس، أو بالتأهُّب للزحف على المدينة المقدسة زحفًا حازمًا لا ونيةَ فيه — والمدينة المقدَّسة هي مقصد حملتهم — لم يشتغلوا بهذا أو بذاك، وإنما اشتغلوا بتأمين المعسكر، الذي باتت تشغله جماعةٌ هزيلة من الأتباع، بحفر الخنادق وإقامة الحسائك وغيره من وسائل التحصين، كأنهم يتأهَّبون — إذا ما عاد القتال — لردِّ عدوٍ قوي مُعتد، ولا يعدُّون العدَّة لأن يقفوا موقف الغزاة المُغيرين المفاخِرين.
هاج الملك الإنجليزي وماج من هذا البيان، وكان كالأسد الحبيس في القفص ينظُر إلى الفريسة من وراء قضبانٍ من الحديد. ولمَّا كان بطبيعته مندفعًا متهوِّرًا، فقد انعكس هياج طبعِه على نفسه، وكان أتباعه يخشَونه، وحتى أطباؤه الذين كانوا يُباشرونه، كانوا يخافون أن يتَّخذوا لأنفسهم ذلك النفوذ الذي لا بدَّ منه لكلِّ طبيبٍ على مريضه إنْ أراد به خيرًا؛ ولم يستطع أن يقِف بين الأفعوان وثائرته إلا رجلٌ واحد من الأشراف المُخلصين، وربما كان ذلك لمواءمةٍ بين مُيوله وميول رتشارد، ممَّا قرَّبه إلى الذات الملكية ووصل بين قلبيهما، فكان له — في سكون وثبات — سلطانٌ على الملك المريض الغاضِب، لم يجرؤ عليه غيره؛ هذا النفوذ لم يُباشِرْه غير توماس دي ملتن، لأنه كان يُقدِّر حياة الملك وشرَفَه أكثر ممَّا كان يقدِّر ما قد يفقد من جرَّاء ذلك من رضاه، وما قد يجرُّ على نفسه من أخطار، وهو يُمرِّض عليلًا كهذا، شديد المِراس، جسيم الأخطار إذا غضب.
كان السير توماس لورد جلزلاند، في كمبرلاند، في عصرٍ لم تكن فيه الأنساب والألقاب شديدةَ الالتصاق بأربابها كما هي اليوم، وكان النورمان يُسمُّونه لورد دي فو ويُلقِّبه بالإنجليزية السكسون — الذين كانوا يتعلَّقون بلُغتهم الوطنية ويفخرون ببعض الدم السكسوني الذي يجري في عروق هذا المحارب الذائع الصِّيت — توماس، وأحيانًا يرفعون الكُلفة ويسمُّونه «توم» رجل «الجلز» أو «الأودية الضيقة» التي اشتَقَّت منها أملاكه الواسعة اسمها المعروف.
وقد تدرَّب هذا الزعيم في أكثر الحروب، ما نشِب منها بين إنجلترا واسكتلندا أو بين الأحزاب الداخلية العديدة، التي كانت إذ ذاك تمزِّق البلاد تمزيقًا؛ وفي هذه الحروب جميعًا برز وتفوَّق، سواء في مسلكه الحربي أو نفوذه الشخصي، وكان من ناحيةٍ أخرى جنديًّا خشنًا فظًّا، لا يأبَهُ بهندامه، كتومًا مُكتئبًا في معاشرته، ويُنكِر — في ظاهر حديثه على الأقل — كلَّ علمٍ بالسياسة أو بدسائس البلاط؛ وكانت هناك من الرجال جماعة تزعُم أنها تستطيع أن تنفُذ إلى دخائل الطباع، وتؤكد أنَّ لورد دي فو لم يكن في مكرِه وطموحه أقلَّ منه في خشونة طبعه وجسارته، وتظنُّ أنه — وهو يتشبَّه بخلق الملك في البسالة وعدَم المُبالاة — إنما يرمي إلى الفوز برِضا الملك، وإلى إشباع آماله، وتحقيق مطامعه الواسعة؛ ولكن أحدًا لم يجرؤ على مُعارضته في أغراضه أيًّا كانت، أو ينافِسه في ذلك العمل الخطر، وهو مباشرة سرير المريض كلَّ يوم، وعلَّة المريض مُعدية كما ذاع بينهم، والمريض هو قلب الأسد، يئنُّ من جزَعٍ غاضبٍ يتملك الجنديَّ إذا حِيل بينه وبين القتال، والملكَ إذا تجرَّد من كلِّ سلطان؛ وعامةُ الجند في جيش الإنجليز على الأقل كانوا يعتقدون إجمالًا أن دي فو يُباشر الملك مباشرة الند للند، وليس بينهما إلا مودَّة حربية خالصة، نزيهة غير مُغرضة، تنعقد بين اثنين يقتسِمان المخاطر كلَّ يوم.
وذات يوم في سوريا، وقد مالت الشمس نحو الغروب، استلقى رتشارد على فراش المرض، والفراش إلى نفسه بَغيض، والمرض على جسمه شاقٌّ ثقيل، وعيناه الزرقاوان اللامِعتان — اللتان لم ينقطع لهما من قبل ضياء لامع ولا بهجة متلألئة — فيهما حيوية زادَتْ منها الحُمَّى وقواها الجزع، وقد أطلَّتا من خلال تجاعيد شعره الأصفر الطويل وخُصَلِه المُسترسِلة، بنظراتٍ زاهية مُتقطِّعة كخيوط النور تُرسِله الشمس ساعة الغروب فتشقُّ السُّحُب التي تُزجيها العواصف المَطيرة، والتي يُوشِّي حواشيها بالذهب — رغم ذلك — ضياء الشمس اللامع؛ ويبدو على ملامحه المُسترجلة سَير المرض العُضال، وقد أهمل لحيتَهُ ولم يُشذِّبها، فنمت وطغت على شفتَيه وذقنه، وأخذ يترنَّح ذات اليمين وذات اليسار، تارةً يجرُّ على نفسه الغطاء، وطورًا يطرحه جزعًا وهلعًا؛ ويدلُّ سريره الذي يتأرجح، وحركاته التي تنمُّ عن القلق، على مَيلٍ إلى النشاط والاندفاع بغَير اكتراث، مَيل ليس له مجال طبيعي إلا حيث الجهد العنيف.
وإلى جوار سريره وقفَ توماس دي فو، وهو في مُحيَّاه وهيئته ومَسلكه أشدُّ ما يكون تبايُنًا للملك المريض. هو كالعملاق في قوامه، ويكاد شعرُه يُشبه في كثافته شَعر شمشون بطل الإسرائيليين بعد ما جزَّه الفلسطينيون، لأنَّ دي فو قد قصَّ شعرَه حتى يستطيع أن يضمَّه تحت خوذته، وله عينان كبيرتان واسعتان لونهما كلَون البندق؛ يشعُّ منهما ضياءٌ كضياء الخريف في الصباح، يضطرِب الفينة بعد الفينة، لحظةً أو بعض لحظة، كلَّما جذبَتِ التفاته إلى رتشارد شاراتٌ عنيفة من القلق والهياج، وملامحه قوية غليظة كشخصِه، فيها جمالٌ وجاذبية، إلا أنها قد تشوَّهت من أثر الجراح، ويُغطي شفته العُليا — على الطراز النورماندي — شارب كثيف، اختلط من غزارته وطوله بشَعر رأسه، وهو — كمِثله — داكن يضرِب إلى الحُمرة، تُخطِّطه قليل من الشعرات البِيض، ويلُوح على بناء جسمِه أنه من ذلك الطراز الذي يُقاوِم المشقَّة والمناخ بصدرٍ رحيب، فلقد كان نحيل الخصر، عريض الصدْر، طويلَ الذراع، عميق الأنفاس، قويَّ الأطراف، ولم يخلع سُترته الجلدية، التي يظهر على كتفِها صليب مرسوم، لأكثر من ثلاث ليالٍ؛ ولم يستمتع بالراحة إلا في فتراتٍ متقطِّعة، هي كلُّ ما يظفر به اختلاسًا رجل يقوم على حراسة ملكٍ طريح الفراش، وقلَّ أنْ بدَّل هذا البارون من وقفته، اللهمَّ إلا حينما كان يناول رتشارد دواءً أو شرابًا مُنعشًا. ولم يجرؤ أحد غيره، ممَّن ليست لهم هذه المكانة من أتباع الملك الجزوع، على أن يحمِل الملك على تناول الدواء، وكانت له طريقةٌ شفيقة، لها أثرُها رغم نُبوِّها، يؤدي بها واجبه، وهي تُباين عاداته وأخلاقه العسكرية الصريحة أشدَّ المباينة.
كان هذان الرجلان في سُرادق يلائم روح العصر، كما يلائم طبيعة رتشارد الشخصية، عليه من سيماء الحرب والقتال أكثر من أمارات البذخ والملك؛ فكنتَ ترى أسلحة للدفاع والهجوم، كثيرٌ منها غريب الشكل من الطراز الحديث، مُنتثِرة في أرجاء المُخيَّم، أو مُعلَّقة بالعُمُد التي يقوم عليها؛ وجلود الحيوانات التي قُتلت في الطراد مُلقاة على الأرض، أو منشورة على جدُر السرادق، وفوق كدسٍ من هذه الغنائم الحرشية كلابٌ ثلاثة كبيرة الحجم، ناصعة البياض كالثلج، على وجوهها آثار من خدوشٍ بالمخالب والأنياب، تشهَد على مُساهمتها في جمع الصيد الذي رقدَتْ على بقاياه، وقد امتدَّت بجسومها فاغرةً أفواهها، ومصوِّبة عيونها، الحين بعد الآخر، نحو رتشارد، مُبينة عن تعجُّبها وأسفِها على هذا الخمود الذي لم تعهَده، والذي لا بدَّ لها أن تشارك فيه، وكانت هذه الكلاب من رفاق الجندي الصائد؛ وعلى مائدةٍ صغيرة إلى جوار السرير درعٌ من الحديد المرن، ثلاثية الشكل، عليها رسم لُيوثٍ ثلاثة ناهضة، كان يتَّخذها هذا الملك الفارس شارةً له، وأمام الدرع قُرص من الذهب شديد الشَّبه بتيجان الأمراء، إلا أنَّ مُقدمته كانت أعلى من مؤخِّرته، وهو ومخمل بنفسجي، وتاج مثلَّث مُزركش، تكوِّن جميعًا شارة الملكية في إنجلترا، وإلى جوار القرص فأسٌ غليظة أُعدَّت للذَّود عن رمز الملكية، تكلُّ الذراع من حملِها، إلا إن كانت ذراع قلب الأسد.
وفي جزءٍ خارجي من الرواق ضباط ثلاثة من حاشية الملك، يرتقبون في اكتئاب، يبدو عليهم الجزَع على صحَّة مولاهم. ولم يكونوا على سلامتهم أقلَّ جزعًا لو أنَّ مليكهم قضى نحبه؛ وانتشرت هذه المخاوف الكئيبة خارج السُّرادق بين الحرَّاس الذين كانوا يضربون في الأرض بطرفٍ مغضوض، وهم يتفكَّرون صامِتين، أو يستندون إلى رماحِهم ويقِفون في أماكنهم لا يتحرَّكون، كأنهم تماثيل مسلَّحة، لا جنود من الأحياء.
وبعد هذا الصَّمْت الطويل المُضطرِب، الذي انقضى في هياجٍ كهياج الحُمَّى، حاولْنا وصفَه للقارئ، قال الملك: «إذن لم تأتِ لي من الخارج يا سير توماس بنبإٍ خيرٍ من هذا؛ لقد بات فرساننا جميعًا نساء، وأصبحت نساؤنا مُترهِّبات، وليس في المُخيم شرارةٌ من إقدامٍ أو شهامة تنشُر في أرجائه الضوء، والمُخيم يضمُّ خيار فرسان أوروبا، أليس كذلك؟!»
فأجابه دي فو بصبرٍ تملَّكه قبل ذلك عشرين مرَّةً وهو يُكرر للملك شرح الموقف وقال: «إنَّ الهدنة يا سيدي تُحتِّم علينا نحن الرجال ألَّا نُحرك ساكنًا، وأما عن النسوة فلستُ مولاي — كما تعلم جلالتك — ممَّن ينغمِسون فيهن، وقلَّما أُبدِّل الحديد والجِلد بالذهب والمخمل؛ ومع ذلك فقد نما إليَّ أن خيار الفاتِنات من نسائنا قد التحقْنَ بمعيَّة جلالة الملكة والأميرة، وهما في طريقهما حاجَّتَين إلى دير «عين جدة» كي يُرسِلا الدعوات ويَطلبا إلى الله أن يُنقِذ جلالتك من هذه المحنة.»
ولم يرُقْ لرتشارد هذا الجواب، فتملَّكه القلق وردَّ قائلًا، «أفهكذا تُخاطر بأنفسهنَّ ربَّات الخدور والعذارى من بنات الملوك، ويَرِدْن أرضًا تُدنِّسها أوغاد، إخلاصها لبني الإنسان ضعيف كإيمانها بالله؟»
فأجاب دي فو: «كلا يا سيدي، لقد وعدَهنَّ صلاح الدين بالأمن والطمأنينة.»
فردَّ عليه رتشارد قائلًا: «حقًّا، حقًّا! ولقد أسأتُ إلى هذا السلطان، وأنا مَدين له بمحو هذه الإساءة. يا ليتني أستطيع أن أُقدِّم له هذا الجميل وأنا طريح بين جيشين، جيش المسيحيين وجيش المسلمين، وكلاهما ينظُر إليَّ.»
وبينما كان رتشارد يتكلَّم، دفع ذراعَه اليُمنى خارج الفراش، وكانت عاريةً إلى الكتف، ثم هبَّ من مرقدِه مُتألِّمًا، وهزَّ يدَه مقبوضة كأنها مُمسكة سيفًا أو فأسًا تُلوِّح به فوق عمامة السلطان المرصَّعة بالجوهر، فخفَّ له دي فو، وبصفته مُمرضًا حمل سيِّدَه المليك بعُنفٍ يُمازجه اللطف، ما كان الملك ليحتَمِله من غيره، على أن يعود إلى فراشه، ثُم ستَر له ذراعه المفتولة ورقبته وكتفَيه بعنايةٍ كعناية الأم تحنو على وليدها الجزوع.
فقال الملك وهو يضحك ضحكًا مرًّا ويلين للقوَّة التي لم يستطع لها ردًّا: «إنما أنت يا دي فو مُمرِّض غشوم، ولكنك مُحبٌّ للملك، وإني لأظنُّ أن تقية المُمرِّض تليق بمُحيَّاك الخافض كما تليق بي تقية الطفل، وإنَّا لنصلُح أن نكون رضيعًا ومرضعته يروَّع بهما البنات.»
فأجاب دي فو: «كنَّا في زماننا نروِّع الرجال يا سيدي، وإني لآمُل أن نعيش حتى نروِّعهم مرةً ثانية. ما نوبة حُمَّى حتى لا نستطيع أن نحتمِلها بصبرٍ جميل كي نخلص منها في سهولة ويسر؟!»
فتعجَّب رتشارد وأجاب مندفعًا: «نوبة حمى! قد ترى — وأنت غير مخطئ فيما ترى — أنها ليست إلا نوبة حُمَّى حلَّت بي، ولكن أتظنُّها كذلك مع الأمراء المسيحيين قاطبة، مع فيليب ملك فرنسا، ومع ذلك النمساوي البليد، ومع رجل منتسرا، ومع الإسبتارية، ورجال المعبد؟ ماذا عسى أن تكون مع هؤلاء جميعًا؟ استمِعْ إليَّ أخبرك، إنما هي فالج بارد وفتور مُميت، إنما هي مرض يمنعهم عن الكلام والحركة، هي قُرحة تأكل كلَّ ما في قلوبهم من نُبل وفروسية وفضيلة، وتجعل منهم خوَنةً لكلِّ عهدٍ نبيل يُقسِم الفوارس على حفظه، وتجعلهم لا يأبَهون لذكراهم ولا يذكرون الله.»
فقال دي فو: «وحقُّ السماء لتُهوِّننَّ على نفسك يا مولاي، وحذارِ أن يسمعك أحد خارج هذا السُّرادق حيث تجري على الألسنة أمثال هذه الأحأديث بين عامَّة الجند، تولِّد الشقاق والنزاع في صفوف المسيحيين. واعلم أنَّ مرضك يحُول دون مواصلتهم ما شرعوا فيه، وإذا أمكن أن يتحرَّك المنجنيق بغير لولَبٍ أو رافع، تحرَّك جيش المسيحيين بغير الملك رتشارد.»
فقال رتشارد: «أنت تُداهِنني يا دي فو.» ولكنه مع ذلك أحسَّ بأثر الثناء وقوَّته، فمال برأسه إلى الوسادة وهو يحاول جهدَه أن يستقر، محاولةً لم يُبدِها من قبل، ولكن توماس دي فو لم يكن من ندماء الملوك، وقد اندفعت إلى شفتَيه عبارة الثناء التي فاهَ بها من تلقاء ذاتها، ولم يعرِف كيف يواصِل هذا الحديث المعسول، حتى يروي هذه الرغبة الدفينة التي أثارها، ويُشبعها؛ فلزِمَ الصمت حتى سأله الملك مُحتدًّا بعد أن استرسل في تأمُّلاته الكئيبة وقال: «يا إلهي! هذا حديث شهيٌّ سائغ لرجلٍ مريض، ولكن كيف أنَّ عصبةً من الملوك، وجمعًا من الأشراف، وحشدًا من فرسان أوروبا بأسرها، تخُور قواهم من أجل رجلٍ واحدٍ قد وهَن، حتى وإن يكن هذا الرجل هو ملك إنجلترا؟ ولِمَ يوقِف مرض رتشارد أو موت رتشارد مَسير ثلاثين ألف رجل، كلهم كمثلِه بسالةً وإقدامًا؟ أفئن خرَّ زعيم الأياييل صريعًا تشتَّت القطيع لمصرَعِه؟ إذا أصاب البازيُّ كبير الكراكي تقدَّم غيره الرَّهطَ يتصدَّرُه. لماذا إذن لا تجتمع القوى وتنتخِب مِن بينها رجلًا تعهد إليه بقيادة الصفوف؟»
فأجاب دي فو قائلًا: «وايم الحق لقد نما إليَّ أنَّ القادة الملوك قد عقدوا المجامع يتشاورون في مثل هذا الغرَض، ولعلَّ هذا يُرضي جلالتكم.»
فصاح رتشارد مُتعجبًا، وقد تحرَّكت الغيرة في نفسه وتوجَّه بنزق عقله وجهةً أخرى وقال: «ها! إذن لقد نَسيني أحلافي قبل أن أتناول العشاء الرَّباني الأخير؟ أفيَحسبونني قد قضيت؟ ولكن، كلا! كلا! لقد صدقوا؛ ومن هذا الذي وقع عليه اختيارهم ليكون لجيش المسيحيين قائدًا وزعيمًا؟»
فأجاب دي فو: «الرِّفعة والعزَّة تُشيران إلى ملك فرنسا.»
فأجاب ملك الإنجليز: «أي نعم، فيليب ملك فرنسا ونافارا، ونيس منت جوا، صاحب الجلالة المسيحية العظمى! يا لها من كلماتٍ تمتلئ بها الأشداق! ولكنَّ هناك خطرًا واحدًا أخشاه، وذلك أن يتَّخِذ شعاره «إلى الخلف» لا «إلى الأمام» ويعود بنا إلى باريس بدلًا من أن يتقدَّم بنا إلى بيت المقدس؛ فلقد علَّمتْه حكمتُه السياسية حتى الآن أنَّ الجور على أمراء الإقطاع، وسلب حلفائه أجدى له من مقاتلة الأتراك في سبيل القبر المقدَّس.»
فقال دي فو: «وقد يختارون أرشيدوق النمسا.»
«ماذا تقول! ألأنَّه ضخم الجسم، كبير الحجم، مثلك يا توماس؟ نعم إنه قرينُك في الخرَق والغباء، ولكنه ليس كمثلك سهلًا لا يُبالي بالمخاطر، مستهترًا لا يأبَهُ للضرِّ والأذى، صدِّقني أن النمسا ليس لها في هذه الكتلة اللحمية من دبيب الحياة إلا بمقدار ما في الزنبور الصاخب من جرأة، أو العصفور الصغير من إقدام، تبًّا له تبًّا! أفيكون قائد الفرسان إلى عملٍ مجيد! أعطِه إبريقًا من نبيذ الرَّين يحتسيه هو ورجاله الأدنياء من قتلة الدِّبَبة ورُماة الرماح.»
واستأنف البارون الكلام غير آسفٍ على أن يشغل انتباه سيِّدِه بأمورٍ أخرى غير مرضه، حتى وإنْ يكن ذلك على حساب أشخاص الأمراء وأرباب النفوذ، فقال: «وهناك أيضًا كبير فرسان المعبد، مِقدام صادق باسِل في مواقع القتال، حكيم في مجالس الشورى، ليس له مُلْك خاص يصرِف جهده عن استرداد الأرض المقدَّسة. ماذا ترى جلالتكم في هذا الرجل قائدًا عامًّا لجيوش المسيحيين؟»
فأجاب الملك وقال: «ها! نِعم الاختيار! إنا لا نستثني الأخ «جليزأموري» نعم إنه يعلم قواعد الحرب، ويعرف كيف يُقاتل في الطليعة إذا نشِبت المعركة؛ ولكن هل من العدل يا سير توماس أن نستخلِص الأرض المقدَّسة من يد الرجل المُسلم صلاح الدين — وهو يفيض كرمًا وفضلًا — ونُسلِّمها «جليز أموري»، وهو أشدُّ من صلاح الدين شركًا بالله، وثنيٌّ يعبد الشيطان، عرَّاف، يرتكب أشدَّ الجرائم سَوادًا وأكثرها شذوذًا تحت القباب، وفي الأماكن الخفية الذميمة؟»
فردَّ توماس دي فو وقال: «إنَّ كبير الإسبتارية أتباع القديس يوحنَّا ببيت المقدس له صِيت لم يلوِّثه السحر ولا الضلال.»
فأجاب رتشارد على عجلٍ وقال: «ولكنه ضنين خسيس، أليس كذلك؟ ألم يُساوِرنا فيه الشك — بل اليقين — بأنه قد باع المسلمين، تلك المزايا التي ما كان لهم أن يظفروا بها بالقوة الصراح؟ صه، صه، يا رجل! تالله إنه لخير لنا أن نُسلِّم الجيش لملَّاحي البندقية وباعة لومباردي المُتجوِّلين من أن نُوكِّل به كبير أتباع القديس يوحنا.»
فقال البارون دي فو: «إذن فلأتقدَّم باقتراحٍ آخر، ماذا تقول في المركيز منتسرا الشهم الحكيم، ذلك الرجل الرشيق المُبرِّز في القتال؟»
فأجاب رتشارد قائلًا: «الرجل الحكيم؟ بل قُل الماكر — رشيق في خدور النساء إنْ شئت، أي والله! — كُنراد منتسرا، من ذا الذي لا يعرِف الأخيَلَ جميل الهندام؟ أجل، إنه سياسي متلوِّن، يُبدِّل من أغراضه كما يُبدِّل من حواشي صداره بحيث لا تستطيع أن تعرِف مِن ظاهر حلَّته لونها في الباطن؛ وتقول إنه رجل محارب، أجل، إنَّ له لقدًّا ممشوقًا على ظهر الجواد، وإنه لجريء تحت الخيام وداخل الحصون، حيث تكون السيوف مَثلومةَ الظباةِ والشفرات، وتكون الرماح مركبةً أطرافها من ألواح الخشب لا من أسنان الحديد. ألم تكُن معي يوم قلتُ لهذا المركيز الطروب، ها نحن ثلاثة من خيار المسيحيين، وهناك في ذلك السهل ترى عصابة من الأعراب تبلُغ الستِّين عدًّا، يضربون في الأرض، هلا همَمتَ لتحمِل عليهم، ولن يلتقي الفارس الحقُّ منَّا بأكثر من عشرين من اللئام الكفرة الجاحدين؟»
فقال دي فو: «أذكُر أنَّ المركيز أجاب بأنَّ جوارحه من لحم البشر لا من صلب الحديد؛ وأنه يضمُّ بين جنبيه قلبَ إنسانٍ لا قلب حيوان، حتى وإن يكن ليثًا ذلك الحيوان. ولكنِّي الآن أرى الأمر واضحًا جليًّا، سننتهي حيث ابتدأنا، ولا أمل لنا في إقامة الصلاة عند قبر المسيح حتى يردَّ الله للملك رتشارد الصحة والسلامة.»
وبعد هذا القول الخطير، انفجر رتشارد ضاحكًا من الأعماق ضحكًا لم يقهقِه بمثله من منذ زمنٍ طويل، ثم قال: «عجبًا لهذا الذي يُعرَف بالضمير، فعن سبيله استطعتَ — وأنت رجل من أشراف الشمال، قليل الفِطنة والحصافة — أنْ تحمِل مليكك على أن يُقرَّ برعونته! حقًّا إنهم لو لم يرَوا أنفسهم — كمِثلي — أكفاء لأنْ يحملوا عصا القيادة، ما اكترثتُ قليلًا ولا كثيرًا لأنْ أُجرِّد هذا الرتل من التماثيل البشرية الحقيرة، التي عرضتَ عليَّ، واحدًا بعد الآخر، ممَّا ازَّينتْ به من زُخرف الحرير. ماذا يعنيني من هذه الحلَلِ المُزركشة يختالون فيها؟ إنها لا تعنيني إلا إذا ذُكِر أربابها كنظراء لي في هذا العمل الجليل الذي وقفتُ له حياتي؛ أي دي فو! إني أقرُّ بضعفي وجموح مطامعي، ولا ريبَ أن معسكر المسيحيين يضمُّ كثيرًا من الفرسان ممَّن يفضُلون رتشارد ملك إنجلترا، وإنه لمن الحِكمة والعدل أن نُسنِد إلى خيرهم قيادة الجيش، ولكن …»
وهنا واصل الملك المحارب حديثه، وقد هبَّ من مرقده، وخلع عن رأسه غطاءه، وتطاير الشَّرَر من عينيه — وكان هذا أبدًا شأنهما في عشيَّات المواقع — وقال: «ولكن لو أنَّ هذا الفارس أراد أن ينصب علم الصليب فوق معبد بيت المقدس حيث أكون أنا عاجزًا عن أن آخُذ بنصيبي في هذا العمل النبيل، إذن ليُكابدنَّ نزالي في ضرابٍ قاتل، حينما يبيت في طوقي أنْ أطعن برُمحي، لحطِّهِ من ذِكري، واستباقه إلى هدَفي ومرماي. دعْ هذا واستمع! إني لأسمَع أبواقًا على بُعد، ماذا عساها يا ترى أن تكون؟»
فأجاب الرجل الإنجليزي البدين وقال: «إني لإخالها يا مولاي أبواق الملك فيليب.»
فقال الملك وهو يحاول النهوض: «إنما أنت أصمُّ يا توماس، ألا تسمع هذا الصليل وذاك الرنين؟ وحقُّ السماء لقد حلَّ الترك في المعسكر، وإني لأسمع هتافهم.»
ثم حاول أن ينهض من فراشِه مرة ثانية، فاضطرَّ دي فو أن يلجأ إلى قوَّته الغشومة، وأن يستعين كذلك برهطٍ من الحجَّاب، فاستدعاهم من الفسطاط الداخلي كي يكبَحُوه.
فقال الملك وهو حانق — وقد تعلَّقت أنفاسه وأنهكَه العِراك، فاضطرَّ أن يخضع لقوةٍ فوق قوته، وأن يستقرَّ على فراشه في سكون: «أنت خائن غدَّار يا دي فو، يا ليتَ لي من الطاقة ما يكفي لأن أُهشِّم رأسك بسيفي.»
فقال دي فو: «يا ليتَ لك هذه الطاقة يا مولاي، بل ويا ليتك تصرِفها كما ذكرتَ وتُعرِّضني لأخطارها؛ لو مات توماس ملتن، وعاد قلب الأسد كما كان، إذن لرجحتْ كفَّة العالَم المسيحي.»
فقال رتشارد وقد مدَّ يدَه ولثمَها البارون إكرامًا وتبجيلًا: «إنما أنت خادم مُخلص أمين، فهل تعفو عن سيِّدك وقد انتابه الجزع؟ إنْ هي إلا هذه الحُمَّى المُحرقة التي تزجرُك، أما سيدك رتشارد ملك إنجلترا فرءوف بك رحيم؛ ولكني أرجوك أن تذهب وتأتيني بالخبر اليقين: من هؤلاء الأغراب الذين حلُّوا بالمُخيَّم، فإني لا أظنُّ هذه الأصوات من أصوات المسيحيين.»