الفصل الثامن
استمع الملك المريض إلى ما نبَّأه به بارون جلزلاند الصادق الأمين، ثم قال: «هذه قصةٌ عجيبة يا سير توماس، هل أنت على يقينٍ من أنَّ هذا الرجل الاسكتلندي صادق أمين؟»
فردَّ عليه الرجل الغَيور ساكن الحدود وقال: «لا أستطيع أنْ أُجيبك على ذلك يا سيدي، إني أسكُن بلدًا شديد القُرب مِن الاسكتلنديين، ولكني لم أتبيَّن فيهم كثيرًا من الصِّدق، وقد وجدتُهم أبدًا يتذبذَبون بين الحقِّ والباطل؛ ولكن هذا الرجل يتخلَّق بالصِّدق. وسواء كان شيطانًا أم اسكتلنديًّا، فإنَّ من واجبي أن أعترِف له بهذا إرضاءً لضميري.»
ثم سأله الملك وقال: «وماذا ترى في هيئته كفارسٍ يا دي فو؟»
«إنَّ جلالتكم أعرَفُ منِّي بهيئات الرجال وسلوكهم، وإني على ثقةٍ من أنكم قد لحظتُم كيف كان مسلك رجل النمر هذا، فلقد تحدَّث الناس عنه طويلًا.»
قال الملك: «حقٌّ ما قلتَ يا توماس؛ إنا شهدناه بأنفسنا، ولقد كان مَرمانا أبدًا من تصدُّر المعارك أن نرى كيف يقوم مَوالينا وأتباعُنا بواجباتهم، ولم نتقدَّم قطُّ الصفوف مدفوعِين بشهوةِ الزَّهو والغرور، كما قد يتطرَّق إلى أذهان بعضكم؛ إنَّنا نعلم أنَّ ثناء الإنسان زهوٌ باطل، وإنْ هو إلا كبُخار الماء، ولذا فلقد شكَكْنا السلاح لأغراضٍ أخرى، لا طمعًا في اجتلاب المدْح والثناء.»
فصُعِق دي فو حينما سمِع الملك وهو يُلقي هذا البيان الذي لا يتَّفِق وطبيعته، وظنَّ لأول وهلةٍ أنه لم يعمد إلى هذا الحديث المُهين عن الشُّهرة العسكرية — وقد كانت له بمثابة الأنفاس يستنشِقها — إلا لاقتراب المَوت منه على الأقل، ولكنه تذكَّر أنه التقى في السُّرادَق الخارجي بالقسِّ الذي تعوَّد الملك أن يعترِف له، ففطِن إلى أنَّ إذلال النفس هذا، الذي تملَّك الملك إذ ذاك، هو من أثَرِ الوعْظ الذي ألقاه ذلك الرجل المقدَّس، فلم يُحِر جوابًا، وإنما أخذ يكابِد الملك وقد استأنف الحديث.
وقال رتشارد مُستطردًا: «أي نعم، لقد شهدتُ حقًّا بأي أسلوبٍ كان هذا الفارس يقوم بواجبه، والله لولا مُلازمته لي لَما كان لعصا قيادتي شأنٌ يُذكَر؛ لقد أصابه قبلَ اليوم شيءٌ من جُودنا، ولكنِّي لحظتُ فيه الاعتداد بالنفس والصلَف والإقدام»:
وهنا لَحظ بارون جلزلاند أنَّ الملك قد تغيَّرت ملامحه فقال: «مولاي، إني لأخشى أن أكون قد اعتدَيتُ على جلالتكم بإغضائي قليلًا عن تجاوزِه وعدوانه.»
فأجاب الملك وقد قطَّب جبينَه وتكلَّم بلهجة الدهشة والغضب وقال: «كيف هذا يا دي ملتن؟ هل أنت تتجاوز عن قِحَتِه؟ إنَّ هذا لن يكون.»
«هل لِمولاي أنْ يأذن لي أنْ أُذكِّرَه أنَّ من حقِّ وظيفتي أن أسمح لمن كان من دمٍ كريم أن يَقتني كلبًا أو كلبَين في المعسكر، وذلك إبقاءً على الفنِّ النبيل، فنِّ الصيد والقنص؛ بل إنه لمِن الجُرم أنْ نشوِّه أو نؤذي مخلوقًا وديعًا ككلبِ هذا الرجل الكريم.»
فقال الملك: «إذن إنَّ له لكلبًا مليح المنظر.»
فأجاب البارون، وهو رجل شديد الحبِّ للقنص في الخلَوات، وقال: «إنه لمخلوقٌ سماوي وافِر الكمال، وهو من أنبل الفصائل الشمالية، عريض الصدر، قوي العجز، أسود اللون، مُرقَّش من قُبُل وعلى الأقدام بخطوطٍ داكنة، عليه سماتٌ شهباء تضرِب إلى البياض، فيه قوة يصرَع بها الفحل، وسرعة يُطارد بها الوعل.»
فضحك الملك من هذه الحماسة وقال: «وقصارى القول إنك قد أذِنتَ له باقتناء الكلب وانتهى الأمر. ولكنِّي أُحذِّرك ألَّا تتهاوَن في إصدار إذنك كلَّ هذا التهاوُن بين هؤلاء الفرسان، الذين ليس لهم أمير أو قائد يركَنون إليه؛ إنهم قوم شديدو المِراس، وقد لا يُخلِّفون في فلسطين بأسرِها صيدًا يُقتنَص. ولكن دعْنا من هذا، وخبِّرني عن عِلم هذا الرجل المُشرك، إنك تقول إنَّ الاسكتلندي قد لاقاه في الصحراء. أليس كذلك؟»
«كلَّا يا سيدي، قصَّة الاسكتلندي كما يلي: كان في طريقه رسولًا إلى ناسك عين جدَّة الذي يتحدَّث الناس عنه كثيرًا.»
وهنا هبَّ رتشارد من مَرقده وقال: «يا لَفداحة الخطْب! من الذي بعَثَ به، وفي أي أمرٍ من الأمور؟ من ذا الذي يجرؤ على إرسال رجلٍ أيًّا كان إلى هناك، ومَلِكتي في دَير عين جدة، وقد حجَّتْ إليه تدعو لي بالشفاء؟»
فأجاب البارون دي فو وقال: «هو رسول من قِبَل مجمع الصليبيين يا سيدي، وقد أبى أنْ يُخبرني بالغرَض من بِعثته، ويُخيَّل لي أنَّ أحدًا في المعسكر لا يعلَم أنَّ الملكة زوجكم قد رحلتْ إلى الحج، وحتى الأمراء أنفسهم قد لا يعلمون ذلك؛ إذ إنَّ الملكة قد تنحَّت عن الجماعة مُذ حرَّمت عليها جلالتكم أن تدنوَ منكم حفظًا لها من العدوى.»
فقال رتشارد: «إنَّ هذا لأمرٌ يتطلَّب النظر. إذن لقد التقى هذا الرجل الاسكتلندي، هذا الرسول، بطبيبٍ مُتجوِّل لدى كهف عين جدة. أليس كذلك؟ خبِّرني!»
فأجاب دي فو وقال: «كلا يا سيدي، إنما التقى هذا الرسول، حسب ظنِّي، قريبًا من ذلك المكان بأميرٍ عربي، وكان بينهما عِراك، قصدا به امتحان ما هما عليه من جرأةٍ وشجاعة، ولمَّا ألْفاه جديرًا برفقة الشجعان، انطلقا معًا إلى غار عين جدة، كما ينطلق فارسان شاردان.»
وهنا سكت دي فو، لأنه لم يكن ذلك الرجل الذي يستطيع أن يروي قصةً طويلة في عبارةٍ وجيزة.
فسأله الملك وقد نفد صبرُه: «وهل التقيا بالطبيب هناك؟»
فأجاب دي فو: «كلا يا سيدي، ولكنَّ العربي حينما علِم بمرَض جلالتكم العُضال، وعد بأن يبعَثَ صلاح الدين بطبيبه الخاص إليك، مؤكدًا لك أشدَّ التأكيد براعتَه وحذقَه. فجاء الطبيب إلى الغار بعد أن لبِثَ الفارس الاسكتلندي يترقَّبُه يومًا وبعض يوم؛ جاء تحُوطه الرعاية كأنه أمير تُدقُّ له الطبول ويتبَعُه الحشَم راكبين وراجلين، ومعه خطاباتُ الاعتماد من صلاح الدين.»
«وهل فحَصَها جياكومو لورداني؟»
«لقد عرضتُها على التُّرجمان قبل أن آتي بها إلى هنا، وإليك ما اشتملتْ عليه.»
فتناول رتشارد قرطاسًا دُوِّنت عليه هذه الكلمات: «سلام الله ورسوله محمد. تحية من صلاح الدين ملك الملوك، سلطان مصر وسوريا، نور الدُّنيا وملاذها، إلى رتشارد العظيم ملك إنجلترا. أما بعد، لقد نمى إلينا، يا أخانا في المُلك، أنَّ المرَض قد مدَّ إليكم يدًا ثقيلةً لا تُحتمَل، وأن ليس لديكم من الأطباء غير النصارى واليهود، الذين يعملون بغير بركةِ الله ونبينا الكريم ولذا فإنَّا مرسلون إليكم بطبيبنا الخاص يقوم برعايتك، ويسهَر على راحتك، وهو «أَدُنْبَك» الحكيم الذي إنْ رآه عزرائيل نشَر جناحَيه ورحل عن غرفة المريض، والذي يعلم مزايا الأعشاب والأحجار، ومَسير الشمس والقمر والنجوم، وفي وُسعِه أن يُنقِذ الإنسان من كلِّ ما لم يُكتَب على الجبين؛ وإنا لهذا فاعلون، مُتوسِّلين إليك من أعماق القلوب، أن تُكرِمه وتُفيد من حذقِه، وإنا لم نفعل ذلك خدمةً لقدرك وشجاعتك فحسْب — وهما فخر دوَل الفرنجة قاطبة — وإنما فعلْناه كي نقضي على الخصومة القائمة بيننا الآن، إما باتفاقٍ شريف وإما علنًا بحدِّ السيف في ساحة القتال، وذلك لأنَّا نرى أنه لا يليق بمكانتك وشجاعتك أنْ تموتَ ميتةَ العبد قد أنهكَهُ سيِّدُه بالعمل، ولا يلائم اسمَنا بين الناس أن يَنتزِع المرض من أسنَّةِ رماحنا خصمًا جريئًا مثلك. إنَّ رسول الله ﷺ …»
فصاح رتشارد: «كفى، كفى. والله إنه ليُضاعِف من مرضي أنَّ هذا السلطان الشجاع، صاحب المقام الرفيع، يعتقِد في دين الإسلام؛ أجل سوف أرى طبيبه، وسوف أُسلِّم نفسي لهذا الحكيم، وسوف أردُّ لهذا السلطان النبيل جُودَه ونوالَه، وسوف ألتقي بصلاح الدين في ميدان القتال وفقًا لرأيه السديد؛ ولن نترُك له مجالًا كي يسِمَ رتشارد ملك إنجلترا بالجحود ونُكران الجميل، وسوف أدقُّ عنُقَه وأُلقيه طريح الأرض بفأسي، وسوف أَرُدُّه إلى حرَم المسيحية بضرباتٍ لا أظنُّه عانى لها من قبل مثيلًا، ولسوف ينبذُ ضلالَه أمام سيفي الكريم، ذي اليد الصليبية، ولسوف أُعمِّده بالمسيحية في ساحة الوَغى من خُوذتي، حتى وإن امتزجتْ مياه الطهور بدَمي ودمِه؛ هيا يا دي فو، ولا تؤخِّر عنِّي هذه النهاية الراضية البهيجة، هات الحكيم هنا.»
فقال البارون وقد رأى أثَر الحُمَّى في هذه الثقة بالنفس المُتدفِّقة: «اعلَم مولاي أنَّ السلطان من المسلمين وأنت خصمه اللدود.»
«ولهذا حقَّ عليه أن يخدُمني في هذا الشأن، كي لا تحسِم هذه الحمَّى الطفيفة نزاعًا بين مَلِكَين مثلي ومثله؛ اعلَمْ أنه يُحبُّني كما أحبُّه — وكما يتحابُّ الخصوم النبلاء في كلِّ حين — وشرَفي إنه لَمِن الجُرم أن أرتاب في حُسن طويَّته!»
فقال لورد جلزلاند: «ومع ذلك فإني أرى من الحِكمة يا مولاي أن تتريَّث حتى ترى أثرَ هذا الدواء في الخادم الاسكتلندي، إنَّ هذا أمر تتعلَّق به حياتي، فإني لو اندفعتُ في هذه السبيل، وتحطَّمَتْ سفينة العالم المسيحي على يدي، لحقَّ عليَّ أن أموت كما يموت الوغد الدنيء.»
فردَّ عليه ريتشارد وهو يؤنِّبه: «لم أعرفك قبل اليوم مُتردِّدًا خشية الموت.»
فأجاب البارون ذو القلب الحديدي: «وما كنتُ لأتردَّد الآنَ يا مولاي لولا أنَّ حياتك مع حياتي على كفِّ عفريت.»
فقال رتشارد: «إذن فلتذهب عنِّي ما دمتَ رجلًا تُداخِله الرِّيبة، وارقِب سَير هذا الدواء؛ والله إني لأودُّ لو شفاني أو أوْدى بحياتي، فلقد كللتُ من رقدتي هنا كالثور يقضي عليه الطاعون في وقتٍ تدقُّ فيه خارج السرادق الطبول، وتدوس فيه الأرض الخيول، ويرنُّ فيه رنين الأبواق.»
حينئذٍ سارع البارون بالرحيل واعتزم أن يُبلِّغ رسالته رجلًا من رجال الكنيسة، إذ قد أحسَّ ببعض الوخْز في ضميره؛ لأنه أدرك أن سيِّدَه سوف يكون تحت رعاية رجلٍ من المنافقين.
وكان رئيس أساقفة «صور» هو أول من بثَّ إليه شكوكه، إذ كان يعرِف عنه اهتمامه بمَولاه رتشارد، الذي كان يحبُّ هذا الأسقف الحكيم ويُجلُّه، فاستمع الأسقف إلى هذه الشكوك التي حدَّثه بها دي فو، مُتنبِّهًا ذلك التنبُّه الدقيق الذي يتميَّز به رجال الدين من الرومان الكاثوليك، ونظر إلى هذه الرِّيبة الدينية التي كانت تُساور دي فو بالاستخفاف الذي يلائم نيافَتَه أنْ يُقابل به أمرًا كهذا من أمور الدنيا.
فقال: «إنما الأطباء — كالدواء الذي يستخدمونه — عظيمو النفع، ولكنهم من أرذل بني الإنسان مولدًا ونشأة، كما أنَّ الدواء كثيرًا ما يُستخرَج من أحطِّ المواد.» ثم قال: «ولكم معشر الرجال أنْ تستعينوا عند الحاجة بالكفَّار والمشركين، بل إني ليُخيَّل لي أنَّ من أسباب استبقائهم على وجه الأرض أنهم قد يعمَلون على راحة المسيحيِّين المُخلصين، ولذا فنحن نستعبِد الأسرى من الكفَّار شرعًا.»
هذه الأدلَّة أزالت عن توماس دي فو كلَّ شكٍّ قائم في ضميره، وقد كان للمُقتَبَسات اللاتينية خاصَّة أثرٌ شديد على نفسه لأنه لم يفقَه منها كلمةً واحدة.
ثم استطرد الأسقُف الحديث، وهو أقلُّ طلاقةً من ذي قبل، وعرَض له أنَّ الرجل العربي قد يتقدَّم إلى العمل بنيَّةٍ سيئة، ولكنه لم يستطِعْ أنْ يحسم في الأمر على عجل، وقدَّم له البارون خطابات الاعتماد فقرأها وقرأها وقارن بين الأصل والترجمة.
ثم قال: «والله إنها لمَكيدة قد دُبِّرت على هوى الملك رتشارد، وإني لا يسعني إلا أن أرتاب في هذا العربي الماكر؛ إنهم قوم برَعوا في فنِّ السموم، ويستطيعون أن يُخفِّفوها حتى تلبَث الأسابيع وهي تسري في الجسم، فيتسنَّى لمُحضِّر السمِّ إبَّان ذلك أن يلوذَ بالفرار؛ إنهم يستطيعون أن يدسُّوا في الأقمِشة والجلود، بل وفي الورق والرقِّ خَفيَّ السموم — غفرانك يا مريم! — كيف لي وأنا بهذا عليم أنْ أُمسك بخطابات الاعتماد هذه وأُدنيها من عَيني؟! خُذها منِّي يا سير توماس، خلِّصني منها سريعًا.»
ثم سلَّمها للبارون، وهي منه على بُعد ذراع، وعليه لهفة العاجل، واستطرد قائلًا: «ولكن هيَّا بنا يا سيدي دي فو إلى خيمة الخادم المريض، حيث نستطيع أن نعرِف إنْ كان هذا الحكيم خبيرًا حقًّا بفنون العلاج التي يدَّعيها لنفسه، قبل أن نفكر في سلامة الملك إذا نحن أذِنَّا له أن يُباشِره بفنِّه. ولكن قف! ودَعْني أولًا آتي بصندوق عطوري، فإنَّ هذه الحميَّات تنتشِر انتشار العدوى، وإني أُشير عليك يا سيدي بأنْ تتناول حصى البان مَنقوعًا في الخلِّ فإني كذلك أعلم شيئًا عن فنون العلاج.»
فأجاب توماس الجلزلاندي وقال: «أشكرك يا نيافة الأسقف؛ إني أظنُّ أن لو كان لهذه الحمَّى أن تنال منِّي لأصابتني منذ زمنٍ طويل وأنا مُلازم جوار فراش سيدي.»
فخجل أسقف صور من هذا الجواب لأنه كان يتحاشى الملك المريض، ثم أمر البارون أن يُتابع المسير.
ولمَّا مرَّا بالكوخ الحقير، الذي كان يقطن به كنث صاحب النمر وتابِعه، قال الأسقف لدي فو: «والآن اعلم يا سيدي يقينًا أنَّ هؤلاء الفرسان الاسكتلنديين أقلُّ بأتباعهم عنايةً منَّا بكلابنا، فهذا فارس يقولون إنه جريء في القتال، ويرَونه جديرًا بأن يتحمَّل جسيم التبِعات في زمن الهُدنة، وهذا تابع من أتباعه يسكن في كوخٍ أحطَّ من أسوأ بيوت الكلاب في إنجلترا، فماذا أنت قائل في جيرانك هؤلاء؟»
فقال دي فو: «إني أرى أنَّ السيد يقوم بما يكفي نحو خادمِه إذا أسكنه في بيتٍ لا يقلُّ عن بيته.» ثم دخل الكوخ وتبِعَه الأسقف، وعليه أمارات التأبِّي والإحجام بادية، فهو، وإن لم تنقُصه الشجاعة من بعض نواحيها، إلا أنها كانت شجاعةً ممزوجة باعتبارٍ قوي شديد لسلامته وأمنِه، ولكنه تذكَّر أنَّ من واجبه أن يحكُم بنفسه على حذْق الطبيب العربي، فدخل الكوخ مُتعاليًا بذاته شامخًا بأنفه، مُتكلفًا ذلك، ظنًّا منه أن في هذا ما يدعو إلى احترام القادم الغريب.
وكان الأسقف حقًّا رجلًا يجذِب النظر، عليه سيماء الهيبة والنفوذ؛ كان في شبابه فارِط الجمال، وحتى في شيخوخته لم تقِلَّ رغبته في التظاهُر بالجمال، فكان زِيُّه الكنسي من أنفس طراز، حواشيه مُزركشة بالفراء الثمين، ويتلفَّع بعباءةٍ جملة التطريز، وعلى أصابعه خواتم تليق برجلٍ يتأمَّر على مقاطعة من المقاطعات الكبيرة، ويلبَس على رأسه قلنسوة كانت إذ ذاك محلولة الرباط، ومطروحةً إلى الخلف من حمارة القَيظ، وللقلنسوة أزرارٌ من الذهب الخالص يُوثِقها بها حول رقبته وتحت ذقنه وقتما يشاء، ولحيته الطويلة التي فضَّضَها العمر تتدلَّى على صدره. وكان له سادنان شابَّان يَرعَيانه، أحدهما يحمل فوق رأسه مظلَّةً من أوراق النخيل الهندي ينشُر بها ظلًّا مُصطنعًا، كانت تألَفُه بلاد الشرق حينذاك، والآخر بيدِه مروحة من ريش الطاووس يهزُّ بها كي يروِّح عن سيِّده الكريم.
وحينما دخل الأسقُف كوخ الفارس الاسكتلندي كان صاحب الدار مُتغيبًا، والطبيب العربي — الذي جاء لرؤيته — يجلس الجلسة عينها التي خلَّفه عليها دي فو منذ ساعاتٍ عديدة، مُتصالب الساقَين فوق حصيرٍ من أوراق الأشجار المقصوصة، إلى جوار العليل الذي كان في سباتٍ عميق، والذي كان يجسُّ نبضَه حينًا بعد حين؛ ولبِثَ الأسقف مُنتصبًا قُبالته في سكونٍ مدَّة دقيقتَين أو ثلاثٍ كأنه يرتقِب منه تحيةً شريفة يُحيِّيه بها، أو كأنه كان على الأقلِّ ينتظِر من هذا العربي أن يُذهَل لنُبل مظهره، ولكن «أدنبك» الحكيم لم يُعرْه التفاته، اللهم إلا لمحة عَجلى. وأخيرًا لمَّا حيَّاه الأسقف باللغة الفرنجية السائدة في تلك البلاد، لم يُجبْه بأكثر من التحية الشرقية المألوفة، وقال: «عليكم السلام.»
فقال الأسقف وقد صُعِق من هذا الاستقبال الفاتر: «أأنت طبيبٌ أيها الكافر؟ أريد أنْ أتحدَّث إليك في هذا الفن.»
فأجاب الحكيم وقال: «لو كنتَ تعلم فذلكةً من الطب لعرفتَ أنَّ الأطباء لا يتشاوَرون ولا يتجادَلون في غُرَف مرضاهم.» ثم قال وقد سمِع للكلب من الكوخ الداخلي دمدمةً خافتة «اصغِ! حتى الكلب يُعلِّمك التعقُّل، فهل علمت؟ إنَّ غريزته تهديه أن يكتُم نباحَه حتى لا يسمعه الرجل المريض.» ثم قال وقد هبَّ من مكانه وتقدَّم نحو الطريق: «هيا بنا خارج الخيمة إن كان لديك شيء تريد أن تُحدِّثني عنه.»
ورغم سذاجة الطبيب العربي في ملبَسِه، وضآلة جسمِه إذا قِيس بالأسقف الطويل القامة والبارون الإنجليزي الضخم، فلقد كان في مسلكه وطلعته شيءٌ يجذب الأنظار، شيءٌ حالَ بين أسقف صور وبين أنْ يحتجَّ على هذه الإهانة التي لحِقَتْه من الاستخفاف بمَقدِمه؛ ولمَّا بَعُدا عن الكوخ، صَوَّب نظرَه بضع دقائق في صمتٍ نحو «أدنبك»، وذلك قبل أن يستقرَّ بينه وبين نفسه على خير أسلوبٍ يُجدِّد به ما انقطع بينهما من حديث؛ وكان العربي يلبس فوق رأسه عمامةً كبيرة لا تظهر من تحتها خُصَل الشعر؛ وكانت العمامة تُخفي كذلك أحد حاجبَيه، وكان غزيرًا طويلًا ناعمًا خاليًا من التجاعيد، كما كانت وجنَتاه البادِيَتان تحت ظلِّ لحيتِه الطويلة. هذا وقد ذكرْنا من قبل نفاذ عينَيه السوداوَين.
وفهِم بارون جلزلاند هذه العبارة على ظاهر معناها، وظنَّ أن العربي قد عاش قرنًا من الزمان، فنظر إلى الأسقف نظرةَ الشكِّ والرِّيبة، ورغم أنَّ الأسقف كان خيرًا منه فهمًا لِما رمى إليه الحكيم، إلا أنه ردَّ عليه نظرته بهزِّ رأسه هزَّة الدهشة والتعجُّب؛ ثم استردَّ هيئة الجدِّ وأعاد السؤال على «أدنبك» بصيغة الجزْم والأمر، وطلب إليه أن يُقدِّم الدليل على كفاءته في طبِّه.
فردَّ عليه الرجل الحكيم — وقد وضع يدَه على عمامته دليلًا على الاحترام والتقدير — وقال: «إنَّ لدَيك كلمة صلاح الدين العظيم، وهي كلمة لم يحنَث فيها قطُّ لعدوٍ أو صديق، فهل تريد شيئًا أكثر من ذلك أيُّها النصراني؟»
فقال البارون: «أريد منك دليلًا على مهارتك أشهدُه بعَيني، ولن تقرَب سرير الملك رتشارد بغَير ذلك.»
فقال العربي: «جزاء الطبيب شفاء المريض؛ انظر إلى هذا الجندي الذي جفَّفَتْ دماءَه الحُمَّى — وقد أصابت مُخيمكم فبيَّضَت أديمه بعظام الموتى — تلك الحُمَّى التي وقف فنُّ أطبائكم المسيحيين إزاءها كما تقِف الصدرة الحريرية في وجه الرمح الصلب؛ انظر إلى أصابعه وذراعَيه وقد هزُلت وباتَت كمخالِب الكركي وعظام سُوقه. والله لقد حلَّق الموت هذا الصباح فوق رأسه، ولكن لو أن عزرائيل بجانب سريره، وأنا بجانبه الآخر، ما فارقت الرُّوح منه الجسد؛ لا تُزعِجني بسؤالٍ بعد هذا، وإنما تريَّث حتى تحلَّ ساعة الفصل واشهد الخاتمة العجيبة وأنت صامِتٌ ذاهل.»
ثم لجأ الطبيب إلى الإسطرلاب، وهو مصدر الوحي للعِلم في الشرق، ولبِث يرقب بجدٍّ وإمعان، حتى إذا ما حان وقتُ صلاة العشاء، خرَّ على رُكبتَيه ويمَّم وجهَهُ شطر مكة، وصلَّى لله الصلاة التي يختَتِم بها المُسلمون اليوم بعد العمل، فتبادل الأسقف والبارون الإنجليزي النظر، وعليهما أمارات الازدِراء والحنق، ولكنَّ أحدًا منهما لم يرَ أنَّ من اللياقة في ذلك أن يعترِض الحكيم في صلواته مهما تكُن في اعتبارهما خاليةً من كل تقديس.
ونهض العربي من الأرض التي خرَّ عليها ساجدًا، وولَج الكوخ حيث كان العليلُ ممتدًّا على فراشه، ثم أخرج من صندوقٍ صغيرٍ من الفضة اسفنجةً مُشربة بقطراتِ العطر، ووضعَها على أنف النائم، فعطس وتيقَّظ، ثم تلفَّتَ حوالَيه هائجًا مذعورًا، وكان مَرآه مروِّعًا، وقد هبَّ على سريره شِبه عارٍ، عظامه وغضاريفه ينمُّ عنها ظاهر الجلد، كأنَّها لم تكتَسِ يومًا بلحم، ووجهه طويل، تُشقِّقه الغضون أخاديدَ، وكانت عَيناه أول الأمر حائرتَين، ولكنهما أخذتا تهدآن شيئًا فشيئًا، ويظهر أنه قد أحسَّ بوجود زائريه ذوي المكانة الرفيعة، لأنه حاول — في دهشةٍ — أن ينزِع الغطاء عن رأسه احترامًا لهما، وسأل عن سيِّدِه بصوتٍ فيه ذلَّةٌ وخضوع، فقال له لورد جلزلاند: «هل تعرِفنا أيها التابع؟»
فأجابه التابِع بصوتٍ خافت: «لا أعرفكما حقَّ المعرفة، إنَّ سُباتي كان طويلًا ومليئًا بالأحلام، ولكنِّي أعرف أنك من كبار اللوردات الإنجليز، كما يدلُّ على ذلك صليبُك الأحمر؛ وصاحبك أسقف مقدَّس يتُوق إلى بركاته آثِمٌ مسكين مثلي.»
فقال الأسقف: «لك منِّي البركات، وغفر الله لك.» ثُم رسم علامة الصليب ولكنه لم يدنُ من فراش المريض.
فقال العربي: «ها أنت ذا تشهد بعينَيك أنَّ الحُمَّى قد غُلبت على أمرها وقُهرت، وها هو ذا الرجل يتكلَّم في طمأنينةٍ ورويَّة، وخفقاتُ قلبه هادئة كخفقات قلبك، وتستطيع أن تَخبُر نبضها بنفسك.»
فأبى الأسقف أنْ يقوم بهذه التجربة، ولكن توماس الجلزلاندي — وقد كان أشدَّ إصرارًا على هذا الاختبار — جسَّ نبض المريض، واقتنع بأنَّ الحُمَّى قد أدبرت وتولَّت.
ثم نظر الفارس إلى الأسقف وقال: «إنَّ هذا لشيء عُجاب؛ لقد تمَّ شفاء الرجل ولا رَيب في ذلك، لا بدَّ لي أن أصطحِب هذا الطبيب توًّا إلى خيمة الملك رتشارد؛ ماذا ترى يا نيافة الأسقف؟»
فقال العربي: «البَثا قليلًا ودَعاني أُتمُّ علاجًا قبل أن أشرَع في الآخر؛ سوف أصحِبكما بعدَ أن أُناوِلَ مريضي الكأس الثانية من هذا الإكسير المبارك.»
وبعد أنْ فرغ من حديثه، استخرج كأسًا فضيةً وملأها بالماء من جرَّةٍ كانت إلى جانب السرير، ثم أخرج كيسًا صغيرًا من الحرير المُطرَّز مجدولًا بالفضَّة، ولم يعلَم الحاضرون ما بداخله، ثُم غمرَه في الكأس ولبِثَ يرقُبه في سكونٍ مدَّة خمس دقائق، وخُيِّل للنظارة أنَّ الماء قد فارَ وجاش من هذا العمل، ثم هدأ بعد لحظة.
وقال الطبيب للرجل المريض: «اشرَبْ ونَمْ ثم اصح بريئًا من المرض.»
فقال أسقف صور: «أفبهذه الجرعة الهيِّنة تأخُذ على نفسك علاج الملك؟»
فردَّ عليه الرجل الحكيم وقال: «لقد شهدتَ أني عالجتُ بها رجلًا بائسًا، فهل ملوك الفرنجة من طينةٍ غير الطينة التي خُلِق منها أدنى رعاياهم؟»
فقال بارون جلزلاند «لنَسُقْه توًّا إلى الملك؛ لقد دلَّ على أنه يعرِف سرَّ السبيل إلى استرداد صحَّته، ولو أنه أبى مُباشرة العلاج لأرديتُه حيث لا يُجدي فِعل الدواء.»
وبينما هم يتأهَّبون لمغادرة الكوخ، صاح الرجل المريض وقد رفع صوتَه بقدْر ما سمح له ضعفُه وقال: «أبانا المقدَّس، ويا أيها الفارس النبيل، وأنت أيها الطبيب الرءوف، إنْ أردتموني على أن أنام وأُشفى فخبِّروني برًّا مِنكم وإحسانًا؛ ماذا دها سيِّدي العزيز؟»
فأجاب القس: «لقد رحل يا صديقي إلى بلادٍ نائية يحمِل رسالةً نبيلة قد تستبقيه بضعة أيامٍ.»
وقال بارون جلزلاند: «كلا، ولماذا تخدع هذا الرجل المسكين؛ لقد عاد سيِّدُك إلى المعسكر وعمَّا قريبٍ تراه.»
فرفع المريض إلى السماء يدَيه الهزيلتَين حمدًا لله، ولم يعُد يقدِر على مقاومة فعل الإكسير المُنوِّم، واستولى عليه نعاسٌ خفيف وديع.»
وقال الأسقف: «إنما أنت يا سير توماس طبيبٌ خير منِّي، ولَلْباطل المُرضي أليقُ بحجرة المريض من الحقِّ الكريه.»
فأجاب دي فو مُتعجِّلًا: «ماذا تعني يا سيدي المُوقَّر، أفتظنُّ أني أقول كذبًا كي أُنقِذ عشرةً من أمثال هذا الرجل؟»
فقال الأسقف وأمارات الذعر بادية عليه: «إنك تقول إنَّ سيد هذا التابع — أعني فارس النمر الرابض — قد عاد. أليس كذلك؟»
قال دي فو: «وحقًّا لقد عاد، وتحدَّثتُ إليه منذ بضع ساعاتٍ مضَتْ، وقد عاد برفقة هذا الطبيب النطاسي.»
فقال الأسقف وهو بادي الاضطراب: «يا للعذراء البَتول! ولماذا لم تنبئني بإيابه؟»
فأجاب دي فو غير مُبالٍ وقال: «ألم أقُلْ لك إنَّ هذا الفارس، فارس النمر، قد عاد بصحبة الطبيب؟ أظنُّني خبَّرتُك بذلك، ولكن ما شأن إيابه وحذق الطبب أو شفاء المليك؟»
فردَّ عليه الأسقف وقد أمسك إحدى يديه بالأخرى، وضرب بقدمِه الأرض، وبدتْ عليه دلائل الجزَع، وقال، وكأنه مُكرَه على ما يقول «شأن كبير يا سير توماس، ولكن هلَّا خبَّرتَني أنَّى ذهب هذا الفارس؟ رحماك اللهم! لقد نقَعُ الآن في إثمٍ ما بعدَه إثم!»
فأجاب دي فو وقد أدهشَه انفعال الأسقف وقال: ربما خبَّرَنا ذلك التابع الواقف بعيدًا في الخلاء أنَّى ذهب سيِّدُه.»
ودعا الصبيَّ للحضور، وأخذ يُحدِّثهم بلغةٍ لا يكادون يفقهون لها معنى، واستطاع بعد لأيٍ أن يُفهِمهم أنَّ ضابطًا جاء لسيِّده واستدعاه إلى السُّرادق الملكي قبل قدومهما إلى خيمة مَولاه بزمنٍ وجيز، وحينئذٍ ازداد بالأسقف القلق حتى بلغ أقصاه، واستطاع دي فو أن يَتبيَّنه، رغم أنه لم يكن بالرجل الدقيق الملاحظة، ولا بالمُرتاب الظنين، وكلَّما تزايد قلق الأسقف اشتدَّت رغبتُه في كبتِهِ وكتمانه عن العيان؛ ثم استأذن دي فو في الانصراف على عجل، فنظر إليه دي فو حائرًا مذهولًا، وهزَّ كتفَيه إلى أعلى في صمتٍ وعجب، ثم شرع يُرشِد الطبيب العربي إلى خيمة الملك رتشارد.