فليب رُوث يَحرُث الأرض الخصبة
يعيش الكاتب في أي مكان من العالَم مفارقة غريبة، ليست في الحقيقة إلا واحدة من المكوِّنات الخصوصية لشخصيته، ولوجوده في آنٍ واحد، إذا اتفقْنا بأن هذين الطرفين يتطابقان فعلًا، أو هما على الأقل مُهيَّئان للتكامل في صيغة تُقدِّم لنا الذي نريد أو نتصور. تكمن المفارَقة بادئ ذي بدء في أن هذا الكاتب — ولنفترضه في وضع الروائي، هو أصح الأوضاع — يأخذ بيدنا من أول جملة ليدخلنا إلى عالَم يعجُّ بالشخصيات، عالَم مليء بالحياة، مزدحم بالأشياء. لا يتوانى، حسب المذهب الذي ارتضاه لنفسه، في الكشف عن الوجوه المختلفة للمجتمع، والتعرية المثيرة أحيانًا للواقع، مع التغلغل في حياة الشخصيات، بدءًا من وصفها من خارج بإبراز ما ينحت ملامحها ويفرزها، مرورًا بتشابكات علائقها، وانتهاءً، لو شئنا، باستبطان بيت الداء، أي عالَمها الداخلي موطن العُقَد والأسرار. نرى الكاتب يفعل ذلك وأكثر — وهو مظهر مُعمِّق للمُفارَقة، كما سنرى — وقد اصطنع له شخصية أخرى تُعاضِده، إن لم نَقُل تُصعِّده، وأعوانًا آخرين لتنفيذ مهام السَّرد والوصف والعَقْد والحل، أعلاهم رتبة شخص — شخصية؟ — اصطلح على تسميتها ﺑ «السارد العليم». وهي في عُرف السَّرد تحيط داخل الرواية بكل شيء علمًا؛ تراها لا تَفوتها شاردة ولا واردة كما ليس لفضولها حدود.
أوليس من المُفارق حقًّا أن من في وضع مماثل لا يعرف عنه الناس شيئًا، وقُرَّاؤه بالدرجة الأولى تكاد معلوماتهم عنه تنتهي في حدود ما يتبرع به هو أو الناشر على ظهر الغلاف، ونستثني من هذا بعض الأعلام الراحلين ممن توضع لهم، عادة، بيوغرافيا مناسبة في المدخل — وهو نادر في المطبوعات العربية — أو بعض الذين يشهرون حياتهم عمدًا وحتى تهريجًا على الإعلام، وإلا فالكُتَّاب الحقيقيون عاكفون على أنفسهم، منغلقون على حياتهم كالمَحار، منصرفون إلى شغلهم، واشتراكهم في الشأن العام بأشكال ومواقف عديدة لا يفضي بالضرورة إلى فتح مغاليق عالَمهم، يعتبرونه يخصهم، اللهم حين يستفيض المفوَّهون منهم في لقاءات الصحافة، بالكلام والصورة، أو حين يقررون كسر المَحارة عامدين إلى كتابة سيرتهم الذاتية، وهو ما لا يضمن تمامًا أن القراء سيتعرفون عليهم بما يُشبِع نَهَم فضولهم.
مصدر هذا، من جهة الواقعين خارج الغلاف، أن الكاتب عندهم إنسان مختلف، بل لا بد أن يكون مختلفًا بهذه الدرجة أو تلك، وإلا لماذا يحشر أنفه في شئون الآخَرِين ويُرى وكأنه غني عن العالمين. إننا نتحدث، بطبيعة الحال، عن الكاتب ضمن الوضع الاعتباري المتوفر له في مجتمعات المدنية الحديثة التي تعتبر الثقافة بواسطة القراءة والكتابة خبزها اليومي الآخر. في هذا الوسط يشغل حامل القلم موقعًا معتبرًا في سُلَّم القيم الرمزية والمادية، أيضًا. ونلاحظ أن محيطه يضفي عليه، بل ويسقط صفات سحرية تفصح في الواقع عن مسافة الغموض الممتدة بين المؤلف وجمهوره، سواء كانت تلقائية أو مصطنعة. ومن غير أن نخوض في تفاصيل موضوع قابل للجدل وخاضع، على الأغلب، للمزاجية، يَحسُن بنا الحفر في مسألة المفارَقة المُنوَّه بها، وهي لا تفترق عن الاستطراد السابق الذي يعمقها ويجعلنا، نحن المُولَعين بهذا الكائن الاستثنائي، نجبله من أوهامنا وأفكارنا أكثر من واقعه المخصوص به.
حسنًا، فبأي عمل يتعلق الأمر؟ هذا ما يسلمنا إلى صلب الموضوع، وطبعًا إلى تفكيك أطراف المفارَقة، ربما لإعادة تجميعها في الأخير بصيغة أخرى تفيد التركيب.
الجواب المباشر الأول يعلنه فيليب رُوث مباشرة عندما ينهض هو بمهمة يعتقد، عمومًا، أنها تعود إلى الصحفيين والحال أنها اختصاص الكُتَّاب بالدرجة الأولى؛ تلك التي تتمثل في الحوار والاستفسار وتوليد الأسئلة وإنجاز حُفور في أرض ومناجم الإبداع لتقليب تربتها وإعادة استخراج ذخائرها، في صيغة صوتين يتطارحان الرأي وذلك عَبْر معرفة صميمية بذات الآخر، أو بالمحاوِر ومؤلَّفاته، أعطت الرسائل المتبادَلة بين الأدباء في الغرب، وقليل منها في الأدب العربي، نموذجًا طيبًا عن تواصل ينجب معرفة بِكرًا عن شجون شخصية وأسرار في الصنعة ومسائل أخرى، كثيرًا ما تثير فضول القُراء الذين يوجد بينهم من يحبون الاستحواذ على حياة الكاتب، ويعتبر بعضهم، بفهم مُعيَّن، أن الخطوة الأولى في هذا السبيل هي الحظوة بإهداء خصوصي ممهور طبعًا بالتوقيع الشخصي للرجل نفسه. لكن الحوار يبدو تعبيرًا أفضل وأكثر ملاءمة وخاصَّة لمن يسعى لاستخلاص تصوُّر بذاته من وراء مسعاه. هذا بالضبط ما انتهجه الروائي الأمريكي الكبير، أو جلُّه، بأن انتقل يُمارس، كما نقول، العمل أو لونًا آخَر من العمل الذي يخرجه من استراتيجية التخييل الخاصة به، مؤقتًا طبعًا، ويدفعه في زحام أقرانه وأنداده يجالسهم وجهًا لوجه، لا يرى غضاضة في ذلك أو انتقاصًا من شخصه. هنا يعطي الكاتب صورة مغايرة عنه؛ أي عن الشخص الجالس في ركنٍ ما عاكفًا على أوراقه وخيالاته وحبكاته ومخلوقاته. وقِلة هم القراء الذين يتفطنون لما تطلبه النص المنجز بين أيديهم بحثًا وتنقيبًا، سواء عن وثائق أو أشخاص أو زيارة بل معايشة لأماكن بعينها وأحيانًا خوضًا لتجارب غير مسبوقة في حياته، وهذا كله عمل يتهيأ به لكتابة النص السردي حيث تمتحن أدواته وتتجلى خبرته.
فيليب رُوث، يسافر لكي يعمل. ثمة كتابات عظيمة عن الرحلة، كانت وستبقى جنسًا فريدًا في المغرب والمشرق وعند الغرب، وإن كان الكتَّاب الغربيون المُحدَثون لا يسافرون للتنطع وإنما لحصاد التجربة، وصاحِبُنا هذا انطلق وفي رأسه أكثر من فكرة وسؤال ويقين يريد لها إما جوابًا أو نفيًا أو تأكيدًا، تصب جميعها في مجرى عالمه من دون شك، وهذا أثمن أجر. لا عجب، والحالة هذه، وهو الروائي الأمريكي، اليهودي الأصل، إن خص أهم لقاءاته بأبناء عمومته فثَمَّة هواجس مشترَكة، وأسئلة مؤرِّقة عبرت الوضع اليهودي في القرن العشرين وتحديدًا تجاه وتحت وطأة النازية، مع ما أنْتَجه هذا من تداعيات نفسية وفلسفية وفكرية وأدبية بما بات يمثل جزءًا هامًّا من تراث العصر الحديث.
Primo Levi: الكاتيائي
في يوم جمعة من شهر سبتمبر لسنة ١٩٨٦م وصل رُوث إلى مدينة «تورين» الإيطالية، قادمًا إليها من نيويورك حيث يقيم. جاء إلى هذه المدينة الصناعية المشتهرة بصناعة السيارات لغرض محدَّد، وعلى إثر موعد مضروب: اللقاء مع الرجل الهائل، المُلغِز، مع هذه الشخصية المركَّبة والخصوصية جدًّا بين الكُتَّاب، يهودًا كانوا أو من جنسيات وأديان أخرى. إنه بريمو ليفي (١٩١٩–١٩٨٧م). التقاه قبل سنة واحدة من موته منتحرًا وهو وضع مُلغِز آخَر، وكانَا قد بدآ حديثًا أول في لندن لم يَتمكَّنا من إتمامه فاتَّفقَا على تُورين مكانًا، حجًّا وحاجة، إذا علمنا أن رُوث كان راغبًا، فضلًا عن الحوار والحديث، في التعرف على ذلك المكان الذي سَلخ فيه مُضيفه أطول وأغنى سنوات عمره. إن سيرة ليفي عملية خالصة؛ أي بالمعنى الدارج عندنا نحن العرب الذين لا نعتبر الكتابة والالتزام بها شغلًا حِرَفيًّا أو جديًّا، دائمًا، يمكن أن ينصرف إليه الإنسان في حياته كلها، ولا نقول يكسب به رزقه حتى لا يَتَّهمنا أحد بالبطر، دَعْك من أن يحقرنا بالسؤال، كما سُئل محمود درويش مرة، ومحقًّا في دهشته لم يحر جوابًا: «وماذا تعمل أنت؟» إنما لو وُجه السؤال إلى بريمو ليفي لوجد في الجواب عنه ضالَّته، بل ولَتَمادى في الإنكار بأن عمله أي شيء آخَر غير أنه كيميائي، وستكون عندئذٍ إجابة هي مزيج من تلقائية ونكران ذات واحترام للأدب الذي لا ينبغي الخوض فيه بأي شكل، علاوة على أن الكتابة/الأدب جاءت إليه بقوة الأشياء ولم يسعَ إليها عنوة.
كان رُوث قد طلب من مريده وصديقه أن يصطحبه لزيارة معمل الصباغة الذي عمل فيه باحثًا، أولًا، فمديرًا، لاحقًا، إلى بلوغه سن التقاعد. ويصف لنا الضيف المكان بتفاصيل الرائحة الجديرة به، أصوات الآلات بقعقعة معهودة لديه، وموحية أيضًا بحنين ينعكس على مُحيَّاه وجسده الفتيَّين، لا تخونه سبع وستون سنة من عمره، وتجلَّى في أصفى كتابة وأغربها وأجدِّها كذلك، ولكل هذا علاقته المكينة بالكيمياء التي يرى ليفي أن أقوى عنصر فيها هو التقطير. درَسَ الكيمياء في الجامعة ونبغ فيها على عكس المواد الأدبية التي خيَّب الآمال بشأنها، وهو تلميذٌ بَعدُ في الثانوي. انتماؤه، وهو اليهودي الإيطالي في إيطاليا الواقعة تحت نير الحكم الفاشي، والمتحالِفة مع ألمانيا النازية، حرمه من المستقبَل الأكاديمي وقاده إلى أن يصبح كيميائيًّا مستخدَمًا في معمل للصباغة. هذا الانتماء نفسه هو ما سيصنع وضعه كاتبًا ويُوجِّه مصيره في التركيب المزجي الذي اقترحنا هنا — الكاتيائي — أي الكاتب الكيميائي وبالعكس. يقول روث: «من بين كل الفنانين الموهوبين ثقافيًّا لهذا القرن — وليفي فريد في هذه الناحية من حيث إن وضعه كفنان في الكيمياء يضاهيه ككاتب كيميائي — يمكن أن يُعَد الأكثر تكيُّفًا مع حياة وسطه في كليتها» (ص١٤). حياة سينخرط خلالها في المقاوَمة، وفي سن الرابعة والعشرين، سنة ١٩٤٣م، سيُعتقل ويُنقل إلى معسكرات النازية في (أوشفيتز)، هناك قضى عامين عانى وشاهد خلالهما كل ما سيشكل رصيد حياة جديدة تمتد في القديمة وتتفاعل معها بطريقة كيميائية عجيبة تتناسب تمامًا مع تكوين صاحبها ومزاجه: «لقد وعيتُ منذ المعسكر بأن مِهنَتِي أو بالأحرى مِهنتَيَّ، الكيمياء والكتابة، قد لعبَتا وما زالتا تلعبان دورًا أساسًا في حياتي. وأنا مدرك بأن الكائن البشري مصوغ بيولوجيًّا لكي يتعاطى نشاطًا ينزع نحو هدف، وأن التَّعطُّل، أو العمل العبثي لهو مصدر ألمٍ وضمور» (ص١٧). وأصح أنه وعي حادٌّ بمسألة العمل ومفهومه، لن يذهب سدًى ما دام قد تدخَّل بكيفية حاسمة في صُنع الوضع الخصوصي، ربما الاستثنائي للكاتب قيد التجربة أولًا، والكاتب في صيرورته الإبداعية ثانيًا، وهما حالتان تختلفان وتتكاملان في آنٍ. لنحلل قليلًا:
Klima: عمل المضطهد
هناك طراز آخَر من العمل يُمارسه الكاتب أو بالأحرى يُضْطَر إليه اضطرارًا حين يجد نفسه يعيش في أوضاع القهر والتَّسلُّط واغتصاب الحقوق الأولية للفرد، للإنسان. الكاتب فرد. لا خلاف أنه يعيش مع الجماعة وله معها هموم مشتركة. لكن الجماعة لا تكتب، ولا هي مشحونة بحوافزه، وساوسه للكتابة، وبذا فهي لا تشترك معه في هذه التجربة مطلقًا — حين تغتصب منه شروط أداء موهبته الخصوصية — وقد تلتقي معه وهو يقوم بتمثيل وضعها الاجتماعي الإنساني، على صعيد السرد التَّخْيِيلي، مثلًا.
معلوم أن عددًا لا بأس به من كبار الكُتَّاب المنتسبين للغرب من ذوي الأصول اليهودية ينتمون في غالبيتهم إلى بلدان أوروبا الشرقية، وبولونيا خاصة، حيث كتبوا بلغتهم «اليديش» المحلية. ومن الطبيعي أن يضعهم رُوث في دائرة اهتمامه بحكم ما أسلَفْنا، فإن ما يستحق الاهتمام فعلًا هو الوقوف على وضْع اضطهاد الكاتب وأوزاره جراء ذلك، وهذا من مُنطلق الواقع الحي للتجربة الأدبية التشيكية، وبالحوار المباشر مع أعلامها ومنهم، كما ذكرنا، كليما، أولًا، ويليه كونديرا وشولتز من بولونيا وآخرون.
وُلِد إيفان كليما في براغ سنة ١٩٣٩م وعانى بدوره من معسكرات الاعتقال النازي، وهو شأن أضرابه، وقد أصبح روائيًّا ومؤلفًا مسرحيًّا وناقدًا، تعرَّضت أعماله للمنع والرقابة على يد السلطات الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا. من بين رواياته الخمس عشرة تُعَد «حب وأزبال» الأقوى تمثيلًا عن الأوضاع الفاشية التي عانى منها الكُتَّاب في هذه المرحلة، والمُعبِّرة عن وضع العمل الخصوصي لهم، الذي هو جزء من موضوعنا الشامل. فهي تحكي قصة كاتِب تشيكي مشتهر وممنوع في آنٍ، مما يضطره للعمل كنَّاسًا، وقد وجد طريقة للإفلات من حياته الأُسَرية الخانقة رابطًا علاقة جانبية مع امرأة متزوجة وذات طباع شاذة، ستجعله مشدودًا إلى الجنس حتى العُصاب الإدماني. والرواية في الوقت نفسه تأمل في عالَم كافكا، وفي ضنك العيش، والموت والأمل. يمكن أن نعتبر هذا مدخلًا لمُعاينة وضْع أولئك الكُتَّاب الذين لن يبقى لهم من خيار غير مزاولة مِهَن بسيطة وعارضة: باعة سجائر في أكشاك؛ مُنظِّفون لمؤسَّسات عمومية؛ بَنَّاءون في أوراش؛ وخارج المدينة مستخدَمون لملء صهاريج المياه، يرتدون جميعًا بدلة العمل الزرقاء، بيدٍ آلةٌ، وفي الجَيْب كِتابٌ ناتئ.
إنها أجمل مناسَبة للحديث عن كافكا، عملاق الرواية في القرن العشرين وصانع أحد منعطفاتها الحاسمة، لا لكونه مواطنًا تشيكيًّا — كتب بالألمانية — لا فيما يناسبه السياق بل لوقوعه في قَلْب عُقدة التوتر بين السُّلطة والمبدع، بين القانون والأعراف والمُواضعات العامة وحتى الخاصة وبين البصيرة النفاذة للانسحاق المأساوي العاجز إزاءها. عدا أن كافكا أبو الرواية الحديثة، بعد القديمة التي دشَّنها ميجيل دي ثربانتس سابيدرا، فهو عند رُوث أبٌ آخَر في شجرة العائلة الممزَّقة بين عِرقين وثقافتين، وإذا كانت الجذور اليهودية لصاحب «المسخ» لا تطفو إلى السطح فإن آخَرِين حاوَلوا استغلالها داخل الجدل المرير الذي دار بشأن المصير الإنساني والهُوِّيات المأزومة، آخذًا تارة مدارًا فلسفيًّا وأخرى توجهًا أدبيًّا، وفي ما يخصنا، هنا، منزعًا لما تفكر فيه الرواية في عملها وعمل صاحبها. في أي حال فإن أي روائي جدِّي، مالك رؤية، لا يمكن أن يقفز على كافكا أو يتحايل عليه، وهو بصدد العمل، باللفتة العابرة.
إن ما يعنيني تسجيله هنا حقًّا هو التعارض الحَدِّي في تأويل النهج الكافكاوي بين روائي قادم من وراء المحيط، في العالَم الجديد، وآخَر، هو صاحب البيت، لو شِئنا، يوجد في ظروف مماثلة أو قريبة لما ولد الوضع التراجيدي موضع الجدل. لنأخذ، أوَّلا، وجهة نظر الروائي الأمريكي الذي يذهب إلى القول بأن كافكا يمكن أن يؤخذ على أي مَحمَل: «إلا مؤلفًا غرائبيًّا يصنع عالَمًا من الحلم والكوابيس نقيضًا للعالَم الحقيقي. إن مَحكياته لَتُؤكد، على العكس، بأن ما يظهر لنا قريبًا من الهلوسات والمُفارَقة المؤسية لَهو بالذات ما يُشكِّل الحقيقة أو الواقع. ففي أعماله مثل: «المسخ»، و«المحاكمة»، و«القصر» يعيد رسم مَسار تربية شخص ينتهي به المطاف إلى قبول أن ما يبدو مبالَغًا فيه، غير معقول ومُنكَر ومُفتقر للمعنى لهو بالفعل ما يحدث له؛ هذا المصير المُنكَر هو مصيره. ليتذكر القُرَّاء، القدامى منهم والمُحدَثون، كيف استيقظ غريغوار سامسا — بطل «المسخ» — ليكتشف كيف انقلب من ابن الذوات النموذجي إلى حشرة كريهة.» إن هذه الرؤية تدفع رُوث إلى التعليق بقوله: «سيكون الحلم عند كافكا عالَمًا مقبولًا، عالَم تفاوتات، عالَم استقرار ونظام، وحيث الأسباب تؤدي إلى نتائج. عالَم يستساغ تسوده الكرامة والعدالة؛ هذا ما يظهر له غرائبيًّا حد العبث.» لكن ما الذي جعل كوابيس كافكا تطارد سُلطات براغ لتمنع تداول أعماله في المدارس والجامعات وفي تشيكوسلوفاكيا برمتها؟
يقلب إيفان كليما تأويل زميله من زاوية معينة تتصل بمفهوم الحلم أو موضوعه. نراه يميل إلى تعويض كلمة «الغرائبي» ﺑ «ما يستعصي النفاذ إليه». بعبارة أخرى فإن: «ما يعتقد أنه عالَم حلم كان هو الحقيقة عينها لدى كافكا، عالَم نظام، وحيث البشر الذين يعيشون فيه يمكن أن يعلقوا بعضهم ببعض، وأن يُمارِسوا الجنس ويُؤسِّسوا أُسرة ويتولوا مهامهم. إلا أن الصراحة التي كانت دَيدَنه حالَت دون نفاذه إلى هذا العالَم. وأبطاله لا يعانون من العجز عن تحقيق أحلامهم ولكن من عدم امتلاك القوة للدخول كما ينبغي إلى العالم الحقيقي، ليتولوا بالشكل الملائم مهامهم.» أما حول الخوف من كوابيسه فالمُعضلة تختصر، حسب كليمان، في أن الخط الفارز في شخصية كافكا هو صراحته، ومن الطبيعي أن ينفر نظام قائم على الغش والرياء والتَّوجُّس من كل المشككين في أعماله من مؤلِّف كان مهمومًا بالحقيقة إلى حد مُطلَق. ومن ناحية أخرى، وفي خط التأويل المعطى لاستعارات كافكا، يذهب البعض إلى القول بأنها كانت بمثابة نبوءات عن المصير المنذور لليهود في الحرب العالمية الثانية، هو الذي مات خمسة عشر عامًا قبل اندلاعها. لكن كليما ينقض هذا التفسير بقوله: «إن الأعمال المَعنِيَّة [لكافكا] لا تفيد إلا شيئًا واحدًا هو أن المبدع الذي يعرف كيف يعكس تجربته الأكثر حميمية بعمق وصراحة يتجاوز من هذا المنطلق نفسه هذا الفلك ليصل إلى الاجتماعي. وهذا ما ينقلنا للحديث عن المضمون السياسي للأدب، أولًا حاجته لتوضيح الأمور السياسية، والانشغال بالأنظمة التي تُعبِّر عن الكَبْت؛ فبإمكانه أن يَتعالى عليها من حيث يجيب على الأسئلة التي يُولِّدها في نفوس الناس. أظن أنه الدرس الذي استخلصتُه لنفسي عن هذا الكاتب.»
حالة كونديرا Kundera
يمكننا اختصارها في؛ أولًا: الحساسية المعهودة اتجاه كل المشتهرين، سواء في المثال التشيكي أو غيره، وهذا شأن قليل الأهمية. ثانيًا: يُؤخَذ عليه ما وُصِف بالكيفية المسطحة والمبهرجة لتقديمه تجربته التشيكية، علمًا بأنه كان مدللًا، في عُرفهم، لدى النظام الشيوعي إلى حدود الغزو السوفياتي. إن مُناوئي كونديرا، من هذه الناحية، يَرون أنه طَبَخ سيناريوهات، ورسم لوحات تلائم القارئ في الغرب وتستجيب لانتصاراته. ثالثًا: وهو هام جدًّا لدى زملائه المَحلِّيِّين؛ ففي الوقت الذي كان صاحب «كتاب الضحك والنسيان» يتلذذ بنشوة الشهرة في الخارج، كان أدباء بلاده يواجهون ويَتصدَّون لفترة اضطهاد عاتية من النظام التوليتاري الحاكم. يمكن لهذه الأسباب، إذا أخذت مفردة، أن تمحق صورة كونديرا وخاصة الذين يأخذون من الكاتب وَجْهَه النضالي، أما روائيٌّ مما يُسمَّى بالعالَم الحُر، فقد لا يحفل هذا التشنيع، ليعطي الأولوية للاعتبار الشخصي لصاحب التجربة، والطريقة التي يراها أنسب له في مضمار العمل الأدبي؛ مضمار استوجب منه صنع استراتيجية أدبية تناسب انتقاله إلى عالَم أجنبي وتوليد حوافز جديدة لهذا الغرض.
يبدو الروائي الأمريكي غير مقتنع بانتماء «كتاب الضحك والنسيان» إلى الجنس الروائي بمعناه المتماسك، المتداول، فضلًا عن أن مؤلِّفه نفسه أسقط التجنيس من الغلاف وإن لم يَفُتْه أن يشير في ثنايا النص إلى القول: «هذا الكتاب رواية في صورة تنويعات.» هنا نَتوفَّر على رَد أو توضيحات هي بمثابة نظرات في نظرية الرواية شخصية ومجربة، نعرضها في مقاطع حرفيًّا كالتالي:
– «يبيح الشكل الروائي حرية هائلة، ومن الخَطل اعتبار بنية مُنمَّطة ما بمثابة الجوهر غير القابل للاختراق للرواية.»
– «الرواية نثر طويل تركيبي ينهض على لعبة، بشخصيات مختلقة.»
– «وحدة الرواية لا تتأتى بالضرورة من قصتها، بل يمكنها أن تأتي من موضوعها.»
– «إنني أتوجَّس من كلمات من قبيل: تفاؤل – وتشاؤم؛ فالرواية لا تُصرِّح بشيء، إنها تبحث وتطرح الأسئلة. أنا أبتكر حكايات، أجعلها تتواجه، وهذه طريقتي في طرح الأسئلة. إن غباء البشر آتٍ من كونهم يملكون الجواب لكل شيء، فيما حكمة الرواية هي امتلاك سؤال عن كل شيء. حين خرج دون كيخوطي لمُواجَهة العالَم، ظهر له هذا العالم غريبًا، وهذه هبة أول رواية أوروبية لكل التاريخ الذي يتبعها. إن الروائي يُعلِّم القارئ مقارَبة العالم كسؤال.»
عند كونديرا لا تتوقف المساءلة، بل إنها تتحول إلى قطب الرحى في عمل الكاتب يستخدمها لتفكيك الاقتناعات السابقة ولمراجعة نفسه على ضوء أسئلة تستجد أو ما ينفك، هو، يولدها معيدًا النظر في طرائق كتابة الآخرين وطريقته ضمنها. أعتبر هذا أسلوبًا آخر من العمل، حيث تزدوج النظرية بالسليقة، أو التأمل بالحدس، حيث تتناوب عمليتان تبدوان من طراز متباين ولكنهما تؤديان وظيفة واحدة هي حسن أداء الكتابة عبر وعي أفضل بأداتها. معلوم أن الروائي التشيكي المخضرم، الذي غادر بلده بعد الغزو السوفياتي لبراغ سنة ١٩٦٨م وانتقل إلى الغرب الليبرالي، باريس تحديدًا، سينقل معه كثيرًا من تصورات ومفاهيم المحيط الأوروبي الشرقي عن الرواية والثقافة الروائية، فضلًا عن رؤية أخرى للعالَم هي نتاج فكر وفلسفة وجود وواقع مادي ممتحن بالأيديولوجية.
حالة V. S. Naipaul
يسلمنا وضْع كونديرا إلى حالة أكثر خصوصية من جانب تأثير العوامل العِرقية واللغوية والجغرافية، أيضًا، على نموذج الكتابة التي يصوغها الكاتب بعد جهد وتجربة طويلتين في الزمن والمِران. يسلمنا إلى مثال غني سنرى من خلاله كيف تُؤثِّر طبيعة عمل الكاتب على تجنيس نصوصه، وإعطائها خصوصية نوعية بلا نظير، تدفعنا إلى التفكير في أن الأدب بقدر ما هو عطاء موهبة يلزم المُتعاطين له بجد إلى وعي شروط إنتاجه، داخلية وخارجية، منظورًا إليها في كونها ليست دائمًا بدهية ولا هي مبذولة بأي حال.
بدا مبكرًا متطلعًا إلى أن يصبح كاتبًا، أما الكاتب عنده فهو مؤلِّف الروايات والقصص القصيرة، لا شيء غير ذلك، رغم أنه تغذَّى سنين طويلة من السينما وليس الكِتاب. لكن كيف يتأتَّى له كتابة رواية وهو يعلن في البداية إحساسه بانعدام الإلهام الأدبي. وقد فكَّر في الأمر من زاوية التعريف المناسب للرواية، التي رآها كشيء مُختلَق تمامًا. وفي الوقت نفسه لم يجد بدًّا من الاعتراف بنصيبها من الحقيقة، واستمدادها من الحياة. وهو ما حدَا به إلى التفكير إما بنبذ نصف التخييل، أو البحث عن الحقيقة عَبر الخيال. سيتبَدَّد عنده هذا الاضطراب لاحقًا وتمتزج العمليتان بكيفية حدسية. سيجد التعريف المناسب عند «إيلفين ووغ» بقوله: إن التخييل «هو التجربة المحوَّلة كليًّا.» لكن المُعضِلة لم تُحَل بسهولة؛ فنايبول يعترف أنه بعد أن غادر جامعة أوكسفورد وقرَّر أن يتفرغ للقلم وصل إلى حافة اليأس وأمضى شهورًا لا يعرف أي سبيل يأخذ للحكي، إلى أن اهتدى بصُدفة بارقة إلى أن موضوعه يكمُن في تلك الحياة التي عاشها وأهله في بورت برانس، والحياة التي قَبْلها في القرية وفق عادات ونمط عيش هنديَّين مسترجعين بالذاكرة. لقد كان هذا حاضرًا عنده، ولكن شيئًا آخَر سيأتي مع الكلمات والصوت والنبرة والشَّكل وكأنه كتلة واحدة.
يعيد نايبول سؤال كيف يُصبح كاتبًا وليست له أي وصفة عن الموضوع؟ ظن أنه يكفي أن يكتب كتابًا واحدًا لتتوالى الأعمال الأخرى تباعًا، وهو ما لم يتحقق بالبساطة المحسوبة. كلَّا، يقول، فمع كل كتاب جديد كان يواجه القلق والفراغ ذاتهما. وتوالت الكُتب الأولى، أيضًا، مدفوعة بالحدس والبراءة أو الأمل، من غير تدبُّر كبير أين ستقوده أدوات العمل. ثم تأتي المعرفة مع الكتابة، وكل كتاب يحمل فهمًا وحساسية أكثر عمقًا، وبالتالي يُؤدِّيان إلى طريقة في الكتابة مختلفة. تدريجيًّا أحس بأن الرواية، أن التخييل الذي بطبيعته يُعنى بالبنيات الاجتماعية المُحدَّدة، بات يحجزه في مناطق أضيق مما يعيش. لقد أدرك بالحدس والمعرفة أنه أمضى حياته الشابة في بلدان عاش فيها أجنبيًّا عمليًّا، ولا يستطيع أن يكتب عن أكثر من تجربته فيها، ولذلك فلو واصل الكتابة بالسرد الروائي وحده لانتهى مبكرًا، وهنا سر انتقاله في العمل الأدبي إلى جنس آخر. هكذا سيبرز لنا أن الاشتغال بهذا الشكل أو ذاك رهن بتجربة الكاتب وأين تضعه الحياة التي لا تترك له حيلة أخرى لتدبر أمره. وما أكثر ما تلعب الصدفة أخطر الأدوار في الحياة، فتَحول نايبول، مثلًا، إلى كاتب أسفار أو رحلات، بناء على تكليف من ناشر أمريكي طلب منه إعداد كتاب عن ترينداد. وقد استسهل الأمر في البداية أو لم يحسب بتاتًا حساب الشكل الفني الذي وجده يفرض نفسه بحدة، وخاصة وضع «أنا» المؤلف الذي يمتزج بأنا السارد. هذا الانتقال دفعه إلى الحفر واستشارة الوثائق؛ أي عدم الاعتماد على التخييل وحده كأداة في السرد. نراه يختصر تجربته من هذه الناحية بقوله: «كانت المرة الأولى والأخيرة التي أنجزت فيها كتابًا معتمدًا على الوثائق وحدها، ولكني تبنيت التقنية المستخدمة — أي أن أنسج قصة بشرية مركزية عَبْر تعددية من الانطباعات — مطبقًا إياها في كتب الرحلات. وهكذا كلما اتسع عالمي أبعد من الأوضاع الشخصية الطارئة المستوجبة للتخييل، وتنامى فهمي، كنت أجد الأشكال الأدبية التي أستخدم تذوب وتندمج في بعضها، من غير أن أجزم بتفوق الواحدة على الأخرى. فالشكل ارتهن بالمادة، وكل كتاب عندي أضحى خاضعًا للمسلسل ذاته من الفهم. إلى هذا قادتني مسيرتي ككاتب، والتي بدأت مجرَّد تهويم لطفل، ثم رغبة يائسة لسرد حكايات» (٣٩).
ستنمِّي الهند، التي يعتبرها المؤلف جرحه الشخصي، بما أنها بلده الأصلي الذي سيحاول استعادته لاحقًا بالزيارة والكتابة، انتباهه لدِقَّة وتعقيد مسألة الشكل الفني، فتكفُّ تمامًا عن أن تظهر اعتباطية أو حدسية، وذلك انطلاقًا، كما يقول، من أن «كل نوع من التجربة يلائمه شكل مخصوص» (٥٠). مضيفًا بأن «التخييل يعمل في فضاء ثقافي وأخلاقي محدود، بقواعد معروفة، أو أنه في أحسن الأحوال يعالِج مشاعر وحوافز وانشغالات قد لا يتم إدراكها أو يعتريها النقص في أشكال أدبية أخرى» (ن). وعنده، في نفس السياق، أن الرواية الميتروبوليتانية — نسبة إلى الميترروبول الغربي، يعني هنا لندن — هي رغم إغرائها، ويُسْر تقليدها، تَرتفِق بافتراضات ميتروبولية عن المجتمَع: «من قَبيل توفُّر معرفة أوسع، وفكرة عن التاريخ، وكذا انشغال بمعرفة الذات. أما حيث هذه البواكير ليست واعدة، وحيث تغيب المعرفة المطلوبة، أو هي ناقصة، فإنني أشكُّ في أن الرواية قادرة على أن تُعطِي أكثر من سطح الأشياء. نعلم لقد استورَد اليابانيون الشَّكل الروائي مُلقِّحينه بتقاليدهم الأدبية والتاريخية الغنية فلم يحدث أي خلل. لكن هنا، في الهند، التي انْتُزِع فيها الماضي، وتاريخها مجهول، أو مُلغًى، فأخشى أن الشَّكْل المستورَد للرواية لن يُقدِّم سوى حقيقة جزئية، ليس أكثر من نافذة شاحبة الضوء في ظلام دامس» (٥١). ليوغل في الاستنتاج بأن: «الشكل المستعار عن الرواية الإنجليزية أو الأوروبية عمومًا — في الهند — حتى بقدرته على معالجة ظاهر الأشياء، فإنه أعجز عن أن يبلغ جوهرها الرهيب. وأنا نفسي (…) ما كنت لأبدأ بأكثر من سطح الأشياء. أما لأذهب بعيدًا، وهو ما كان مستعجلًا، فقد لزمني العثور على طرق أخرى» (٥٥).
تبدو ملاحظات نايبول من الأهمية بمكان، ليس فقط في فهمه العميق والناضج لكيفية اشتغال الشكل وحسب، بل وكذلك في التأمل المطلوب الذي يجريه الكاتب بثقافة وإحساس ذكيين إزاء ما يعيش من تجارب، وتفاعله الحي معها، وهو ما يصنع الجدل الصميم بين المادة والأسلوب الذي تخرج به للقراء؛ هؤلاء القراء الذين يصل إليهم العمل مكتملًا بصورة أو بأخرى، ولكنه قبل ذلك مر بأطوار اختبارية لها نتيجتها المباشرة عطاء كاتب، وتمنح للأدب عامة امتدادًا في فَهْم نمذجته الفنية، وتوسيعًا وتنويعًا لأَجْنَاسِيَّته. الأدب بوصفه حصيلة اكتشافاته وتُتوِّجه الأمثولة التي ينبغي أن تستخلص منه؛ المفيد أو الجميل. نعم، العبرة عند نايبول بالجمال، ولكن، أيضًا، وبالضرورة، بالتحوُّل الذي لا بد يعتري الأشكال. لنقرأه ثانية: «إن الأدب، شأن كل فن حي، دائم الحركة. وأن يخضع الشكل المهيمن فيه للتغيير باستمرار فذا جزء من حياته. لا يستطيع أي شكل أدبي (…) الحفاظ أبدًا على شموخ إلهامه، فكل شكل لا بد واصلٌ في نهاية المطاف إلى أوج ما هو قادر على عطائه» (٦٠). من المُؤكَّد أننا لسنا أمام تسويغ شخصي لحرية التَّنقُّل بين الأشكال، وهو أمر مشروع على كل حال، بل في قلب استنتاج مُستمَد من سيرورة تاريخ الأدب الذي يصبح الكُتَّاب الكبار مُتهيِّبين أمامه، وتراهم، وهذا هو الأهم، يشعرون بالفخر للانتساب إليه، لا بِنبذ تراث أسلافهم، أو الزعق بقطائع مفتعلة، بل عَبْر المراحل المُنتجة بتطوير يغنيه، مُؤكِّدة حتمية قانون التغيير فيه، وفي الرواية أو التخييل بتعريفها الجوهري الناهض على قاعدة التحول. لا عجب أن تكون النتيجة — كما جاء على لسان الروائي الترينيدادي، الهندي في خطاب تَسلُّم جائزة نوبل — الواجب استخلاصها من تجربته هي أن: «التخييل وقصة الرِّحْلات هما ما منحني طريقتي في الرؤية …» (٨٤).
ينبغي أن نعتبر أن كل شيء موجود في هذه العبارة، تمامًا كما يقول المثل العربي بأن كل الصيد في جوف الفرا، وهو ما من شأنه أن يزيد في تعريفنا بطريقة عمل نايبول، من جهة، وفي العلاقة المفترَضة التي أقمناها وإياه مع قرينه كونديرا، من جهة أخرى. نظن أن إلحاح الكاتب الرَّحالة على مسألة الاختيار الخُصوصي الذي قادته إليه كتابة الرحلات نابِع في العمق من إحساس بالتَّحرُّر من القيود التي تفرضها على الكاتب الغربي تقاليد الفن الروائي الموروثة، والتي لا يستطيع عنها حيادًا مَهما نوَّع أو تَحذْلَق في أي مهارات تعبيرية مُستجدة. في تأمُّلاته النظرية كلها يبدأ كونديرا من الإقرار بهذه الحقيقة، بصيغة أو بأخرى، مُمجِّدًا حد العبادة الأساس الذي أرساه ثيربانتس مع الكيخوطي، فرابلي، وصعدَا عَبْر سُلَّم الرواية الواقعية الفرنسية، ومنها إلى منجزات فلوبير وستندال، حتى بروست، على ضفة. وفي ضفة أخرى، كما أسلفنا، يقف البناة الكبار الآخرون للرواية في العالم الأوروبي وفي مقدمتهم كافكا. ولقد فعل هذا الأخير ذلك في الحقيقة للإفلات من الحدود الضيقة التي فرضها عليه الوضع الأدبي لبلده، وحرصه، منذ غادر براغ، للانتساب إلى الأفق الأوسع للأدب الأوروبي (الميتروبولي) وليكتب (يعمل) من موقعه كمَنفِي بالطريقة التي يراها أنسب له؛ أي بالحِجاج، والفحص، والبرهنة، أو الأطروحة أخيرًا. إن الوضع الوجودي يَنسجم مع لون الكتابة ونمط الخطاب، ويحدث التناغم التام عندما يسمع الإيقاع الحقيقي للحياة بينهما. بَيْدَ أن نايبول كان وما يزال مخادعًا، فهو اكتشفَ واقتحم أفقًا آخر من وحي تلمذته على تراث سابق وتمثله له، نظريًّا ومُمارسةً. لقد بدأ بالتخييل «الرواية» وانتهى إلى فن الرحلة، التي هي اكتشاف كتابة لديه في الامتداد، عَبْر الهند؛ أي بالعودة إلى الرحم. وما في اختراق كونديرا للطوق السوفياتي وهجرته إلى الغرب الليبرالي «الحر» إلا عودة إلى رَحِم حرية مُفتقَدة، وإلى ما يدافع عنه هو نفسه في كتاب «الستار» بانتساب أدب أوروبا الشرقية إلى العالَم الغربي أولًا. وعلينا أن ندرك، بعد هذا وذاك، بأن ما يوجد في قلب هذه الوضعية يتعدَّى الشكل واللغة والأسلوب وأي أداة مُمكِنة للكتابة. ذلك أن الأمر يتعلَّق بمسألة التَّثاقف أو المُثاقفة والتمازج، قُل الخلاسية بين الأعراق والثقافات، وهي حالة نايبول، وكونديرا، وقبلهما الرؤي العامة، لكن المركبة التي التمسها فليب رُوث في عمله المُنوَّه به أعلاه، وهي دارت، كما ينبغي التذكير، حول كوكبة من الأعلام عاشوا ووُجِدوا كلهم، وفي قلبهم بريمو ليفي، في مُفترَق طُرق عِرقية ولغوية وفكرية، فجاء إبداعهم من وحي هذا التقاطع وآخذًا السِّمات التي يمليها.
Stephen King: صنعة الكتابة
مع الروائي الأمريكي ستيفن كينغ (١٩٤٧–…) ذائع الصيت في فن الرواية البوليسية، تتحول الكتابة، الإبداع السردي، إلى طريقة في الحياة ومَهارة عملية بالدرجة الأولى، تستلزم من صاحبها التَّوفُّر على أدوات العمل الضرورية لكل حرفة؛ ذلك أن الكتابة عند صاحب الروايات الشهيرة ذات المبيعات الفائقة، «شاينينغ»، مثلًا، المنقولة إلى السينما على يد المخرج الشهير ستانلي كوبريك، تخرج عن ذلك المدار السحري المُسمَّى بالإلهام وعطاء الموهبة لتنبت وتترعرع بالأحرى في حقل الشحذ والمراس ذوي الوسائل المخصوصة، وحيث المُثابرة والوعي بها، بشروطها ومناخها، وتحديدًا، كونها حرفة دقيقة، كأي حرفة أخرى، مما هو مبذول في السوق، وخاضع لقوانينه. من هذه الناحية يعنينا «كينغ» الذي نختاره لالتماس هذا المُكوِّن الأساس لوضع الكتابة وطريقة/طُرق اشتغالها، ونعتبر أن الاطلاع عليه، قمين بأن يوفر التكامل، ليس الكمال قط، لموضوعنا.
بيد أن الأهم، ثانيًا، في كتاب س. كينغ كَشفُه عمَّا اعتاد كثير من الكُتَّاب التَّستُّر عليه، باعتباره من أسرار المهنة أو قواعد «الصياغة» كما عند صُنَّاع الذهب أو صاغته. وهذا ليس لأنه لا يحفل، أو يبتذل العمل الإبداعي، على الأقل في مستوى ما ينتجه هو ويدخل في نطاق استهلاك جماهيري واسع جدًّا، بل لأنه يدرك ويصرح بأن هذا الشأن يعود إليك أنت وحْدَك، وغيرك لا يستطيع أن يُقدِّم لك سوى مبادئ عامة؛ بعبارة أخرى، لا ولن توجد أبدًا وصفات جاهزة للكتابة (= الفنية) نظير عناوين نقرؤها على أغلفة تزعم تعليم كيف تكتب رسالة، أو حتى قصة قصيرة ومسرحية، وربما كيف تتعلم اللغة الإنجليزية في أربع وعشرين ساعة. خذ على سبيل المثال قوله: «حين نكتب قصة فإننا نرويها لأنفسنا، وحين نعيد القراءة فإن القسم الغالب من الشغل هو ذاك الذي يتطلب حذف ما ليس في القصة.» قولة تفيد أن الانتخاب والحذف سيد القص. أو قوله الآخر، اعتمادًا على سرده لما أوصاه به أحد معلميه (السيد غولد، كرئيس تحرير لأسبوعية في لشبونة أيام عمل تحت إمرته وتوجيهه محررًا رياضيًّا): «اكتب وبابك مُغلَق، وصحِّح والباب مفتوح. بعبارة أخرى، إن أشياءك تَخصُّك وحدك، ثم تأخذ استقلالها تدريجيًّا. ما إن تسيطر على قصتك، وتصبح في مكانها المطلوب، فإن من حق أيٍّ كان قراءتها، أو نقدها، وإن كنت محظوظًا وجدْتَ مَن يفعل الأمرين معًا.» أو هذه القولة التي يمتزج فيها الإحساس بالإدراك في كيف يكون الكاتب، مما قد يصلح نصيحة أو توجيهًا عامًّا، ذا صلة بالعبارات السابقة: «أن تَكتُب فهذا عمل متوحد.» ليضيف الفرق: «وأن يكون لك من يؤمن بك، فهذا يصنع الفرق. إن هذا الآخر ليس في حاجة ليخطب، فأن يؤمن بك فهذا كافٍ.»
هذه مقبِّلات لا غير، فالأهمُّ قابع في العلبة، وأساسًا في كيفية ترتيب الأدوات داخلها. إنما عن أي علبة يا تُرى أتحدَّث، ذاك ما يسميه استيفن كينغ أولًا مشغلة أبيه وكنزه الثمين، قبل أن يكشف لنا عن السر المكنون، الذي يحمل علامة الصنعة. وبالطبع، فإن الطريقة المثلى لروائي هي أن يحكي: أن يحكي كيف أن له عمًّا نجارًا، وبحكم المهنة فهو يتوفر على صندوق أو علبة يضع فيها ما يحتاج إليه من أدوات للممارَسة. كانت لها ثلاثة مستويات، وبها جميعًا جوارير كأنها مخابئ صينية تَحوي أسرارًا سِحرية. ثم يسهب في وصف التكوينات الدقيقة والبديعة لهذه العلبة، محتويات وصناعة، ليتوقَّف أخيرًا عند لحظة من طفولته مَحفورة في الذاكرة مع العم «أورن». حينما وقف إلى جانبه يساعده وهو بصدد إصلاح سرير خشبي، يطلب منه بين الفَينة والأخرى أن يناوله هذه الأداة أو تلك، مشيرًا عليه بالضبط إلى المستوى المطلوب، وأي جارور ينبغي أن يفتح ليمكِّنه مما هو في حاجة إليه للمعالجة حينه. بعد أن ينهي العم إصلاح السرير يطلب من الولد أن يجمع ما هو مُتفرِّق ويُعيده كامله إلى العلبة حسب وضْعِه الأصلي. لكن هذا الأخير لا يفوته أن يتساءل بفضول مناسب عمَّا يجعل عمه يحمل علبة ثقيلة حقًّا، لحد أنه استعان بطفلين لحملها إذا كان لا يحتاج إلا لبرغي ومِطرقة فيأتيه الجواب الحكيم هكذا: «صحيح ما تقول يا استيفي، إنما عليك أن تعلم بأنني لم أكن على بَيِّنة مما ينبغي إصلاحه في عين المكان؛ ولذا فمن الأفضل أن نَتوفَّر دائمًا على أدواتنا معنا، وإلا فإنك قد تُصادِف ما هو غير مُتوقَّع، فتشعر، عندئذٍ، بالإحباط.»
بعد أن كملت «الحدُّوتة»، واستُخلصت العبرة، تلك المرتبطة بالطفولة يكون استيفي قد كَبر، وأصبح له اسم كبير هو «كينغ»، تعلم كثيرًا من الحياة وبوسعه أن يتقاسم بعض تَعلُّمه مع الآخَرين، تحديدًا الذين يُمارِسون مهنته، أو المتطلعين إلى ذلك، وهو ما سيفعله بسخاء وتعقل؛ لنستمع أو لنقرأه، حسب وضْعِنا وهو ينقل واقعة العمِّ إلى مستواها الرمزي، إلى مضمار الكتابة:
«ما أبغي اقتراحه [من وراء الحدوتة] هو أنك إن أردت أن تكتب بأفضل ما لديك من إمكانات، فسيكون عليك أن تصنع بنفسك علبة أدواتك، وأن تقوِّي عضلاتك لتقدر على حملها. بهذه الطريقة، ستتجنب الوقوع في صعوبات من شأنها أن تثبط همتك، وستتوفر على الأداة الجيدة، وتنهمك في العمل.» ثم يدخل، كما يجب، في التفاصيل، هذه التي هي من صلب طريقة الإعداد للعمل، عمل الكتابة، طبعًا، وكيفية تنظيمه، وهو فعل في منتهى الجِدِّية والدِّقة، أبعدُ ما يكون عن العشوائية أو التهويم اللذين تُوصَف بهما هذه العملية المؤسِّسة، بما أنها خلَّاقة حقًّا. علبة أدوات على ثلاثة مستويات، أما علبتكم [أنتم الكُتَّاب] فيجب أن تحتوي على أربعة، لمَ لا خمسة وحتى ستة. إنما حَذارِ، فقد تصبح من الثقل حدًّا لا قِبل لكم بحملها، وهنا تفقد مزيتها الأساس. ستحتاجون، أيضًا، إلى جوارير صغيرة لبراغيكم، ومساميركم … أما ماذا ستضعون داخلها، فهذا بعض حديقتكم السِّرِّية، أليس كذلك؟ ستكتشفون أنكم تملكون سلفًا أغلب ما أنتم بحاجة إليه من أدوات، لكنني أنصحكم بفحصها واحدًا، واحدًا، قبل وضعها في الداخل. جَرِّبُوا أن تفحصوها كما لو أنها جديدة عليكم، تَذكَّروا وظائفها، وإن وجدتم فيها الصَّدِئَ، (وهو أمر محتمل جدًّا إن لم تتعهدوها) فنظفوها.
«توضع الأدوات الأكثر استعمالًا في الطبقة العليا، والأشد استعمالًا بينها، خبز وملح الكتابة هي المفردات. وإذن، بوسعكم، وبكل ارتياح، ترتيب ما لديكم منها دونما شعور بالذَّنب، أو أي إحساس بعقدة نقص. أي نظير ما خاطبت به بائعة هوى العامل الذي يراودها: «المهم ليس ما عندك يا عيني، لكن كيف تستعمله!» هناك كُتَّاب يستعملون كلمات هائلة، مُدوِّية، (…)، وآخرون مفردات محدودة، وأكثر بساطة (…) ضعوا مفرداتكم في أعلى طبقة، ولا تقوموا بأي مجهود واعٍ لتحسينها؛ إن اسوأ ضربة ستوجهونها إلى نص تكتبونه هي مُعاقبة المفردات، بالسعي إلى إقحام كلمات طويلة، أو نادرة لظنكم أن من المعيب استخدام العادي والجاري على الألسنة. هذا ما يُشبِه هندمة قط أو كلب بلباس السهرة، مما سيسبب لهما أعتى الضيق. التزموا بوعد شخصي أنكم لن تعمدوا أبدًا إلى كتابة عبارة من قبيل: «أخذ جون الوقت الكافي ليذهب إلى بيت الطهارة». والحال أنكم تقصدون: «أخذ جون وقته ليتغوَّط»، فإن ارتأيتم أن العبارة الأخيرة مقذعة أم غير مناسبة، ستصدم القراء، عندئذٍ اكتبوا: «ذهب جون ليفرغ أمعاءه» أو «ليرتاح …»، المطلوب، باختصار، ليس الإسفاف، لكن البساطة والمباشَرة. وعليه، لا تنسوا أبدًا أن القاعدة الأولى في مِضمار الكلمات هي استعمال أول مفردة تَرِد على البال، في حال ملاءمتها وتعبيرها.»
يستطيع س. كينغ بعد ذلك أن يذهب أبعد في إزجاء النُّصح، ورسم مَعالم الطريق التي يراها أسلم لمن يرغب في التَّحوُّل بجد إلى كاتب؛ أي إلى نجار ماهر ومحترز كعمه أوين تمامًا. فإذا كان معلومًا أن الكتابة عمدتها اللغة، أولًا؛ لذا رأيناه يعطي الأولوية للكلمات، لمفردات التعبير، فإن السياق كثيرًا هو ما يحدد قيمة المُفرَدة المستعمَلة، ومعه توخي المعنى. علينا أن نتذكر كم مرة ردَدْنا فيها عبارة مثل: «كلَّا، ليس هذا ما قصدتُه» أو «إني عاجز عن وصف ذلك الشيء …» إلخ … لذا ﻓ «قضية المعنى جوهرية … وما الكلمة إلا تمثيل للمعنى» (ص١٣٩).
وماذا عن النحو، القواعد الضابطة لاستعمال اللغة، وبدونها لا يستقيم المعنى؟ ينصح كينغ بوضعها في الطابق العلوي للعلبة، ويرفض التسامح مع المُشتَكين في هذا الشأن، أو منح «ظروف التخفيف» إلى حد قوله بأن كتابه، الذي نحن بصدده، ليس موجَّهًا للعاجزين عن السيطرة على المسائل النحوية. ومن نافِل القول إن التحكم في هذه الأدوات لا يكفي عُدَّةً في هذا الباب؛ فثمة التراكيب، الصيغ اللغوية والتعبيرية؛ ثمة أخيرًا الأسلوب الذي به تتكون الكتابة وتنطبع. بالإمكان، حينئذٍ، الانتقال إلى الطبقة الثالثة في العلبة، المُنوَّه بها، بل من الواجب عنده أن يتم؛ أي لكتابة التخييل ﻓ «الرواية تُبنى فقرة، فقرة بواسطة مفرداتكم ودرايتكم النحوية والأسلوبية الأولية» (١٦١).
سنكون واهمين، أو مُتسرِّعين إن اعتبرنا أن خطاطة س. كينغ عن صنعة الكتابة تقف هنا، ذلك أنه لا ينظر إلى الصنعة من زاوية الأدوات والمهارة في استخدامها وحدهما، بل يذهب نحو الأفق الأبعد حيث جمرة الكتابة، من لم يحترق بها أخطأَتْه المهنة، الطريق، أو ضاع في الزحام، وهم كثر. من ثم نراه يَنتَبه بعناية شأن النُّقاد العرب القدامى إلى طبقات الكُتَّاب، وبالتالي إلى مستويات الكتابة، ويؤكدها تحس به راغبًا أن يحول هذا العالم الصنائعي إلى جنة لا يدخلها إلا الراسخون في الموهبة: هكذا الكُتَّاب عنده ثلاث درجات: الرديئون في الدَّرْك الأسفل، يعلوهم الأكْفَاء، فالموهوبون في القدح المعلَّى. من هؤلاء، على سبيل المثال: شكسبير، فوكنر، ييتس، برنار شو، أشبه ﺑ «حوادث إلهية»، هم أنفسهم عاجزون عن فَهم أنفسهم!
لكينغ تعلُّق خصوصي بهؤلاء، فكتابه المعلوم ينهض على الدفاع عن أطروحتين: الأولى خاصة بالعلبة وأدواتها، أما الثانية فهي رسم الطبقات وتبعاتها. يعرف الأخيرة كالتالي: «إذا كان مستحيلًا أن نجعل من كاتب رديء كاتبًا كفؤًا، شأن كونه من المستحيل أن نصنع كاتبًا كبيرًا من آخَر كفؤ، ففي المقابل، من الممكن، ومع بَذْل جهود قصوى، وتضحيات ومساعدات، أن نصنع كاتبًا جيدًا من مجرَّد كاتب كفؤ» (١٦٩). دون أن يفوته التذكير، بله التحذير، فلا يَتصوَّرنَّ أيُّ كاتب رديء أنه سيتلقَّى العون ليصبح كاتبًا جيدًا، ولا كفؤًا، أما إن كنتَ جيدًا وتريد أن تصبح عظيمًا، فهيتَ لك … وما هذا التصنيف عنده إلا لمزيد من رسم الطريق الصحيح لمن ينشد الرسوخ، فتراه يوصي ﺑ : كثير من القراءة، وكثير من الكتابة، شرطان أَوَّلِيَّان بلا جدال. وهو يملك بخصوص القراءة رأيًا لطيفًا يجدر عرضه، يقول: «إننا نقرأ، من بين أمور أخرى، لنتآلف مع الضعيف والمُدقِع؛ فمثل هذه التجارب تساعدنا في التعرف على الضعف والإدقاع حين يتسللان إلى نصوصنا، فنغير الاتجاه. ونقرأ، أيضًا، لنتعرف على مستوانا تجاه الكُتَّاب الجيدين والكبار، ولنحكم على كل ما يحدث. ونقرأ أخيرًا لنتآلف مع أساليب مختلفة» (١٧٢)، ليخلص أن القراءة «تقع في مركز النشاط الإبداعي للكاتب» (١٧٣).