درس المعلم، أو كلوفسكي يرمي البيض الفاسد
دروس أولى
أهمية هذا الكتاب، كما أشَرْنا، تَتعدَّى توجيه ناشئة الأدب، وتنبيههم إلى مخاطر الطريق ومصاعب الوصول، بل أبعد لتطرق أبواب الكبار أنفسهم ممن رسَت سُفنهم إلى النضج والكمال. وهو كتاب ظهر في فترة كانت فيها الآداب الروسية تعيش مرحلة غليان وتحوُّل في الأنواع والأفكار والمدارس (١٩٢٧م) مما يعني كثرة التوَّاقين إلى التعبير والتشكيل الفني حدَّ الازدحام والتدافع بالمناكب، وهو وَضْع عايَنه ووعاه كلوفسكي، ويكشف عنه في المُقدِّمة متحرجًا أن يصرح مباشرة بأنه يتدخَّل لوضع حد لفتنة المتزاحمين في طريق كَثُرت فيها حوادث «السَّيْر» الأدبي، وإن عمد إلى التمثيل بما هو أقوى: «يوجد اليوم عدة آلاف من الكُتَّاب؛ إنه شيء هائل!» نفهم، بعد هذا توجهه إلى فئة تُقبل على الكتابة وتتخبط في متاهاتها، فيأتي كتابه لِيُزْجي، أولًا، للناشئة النصح المفيد. وهو مُؤهَّل لهذه المهمة، وأحس بضرورتها على ضوء عمله الصحفي، إلى جانب السينمائي، كمصدر للعيش. لقد لاحظ وهو يقرأ ويفحص مئات المراسلات توقًا كبيرًا لدى المُرسِلِين عُمَّالًا وموظَّفين وطلبة لينقلوا ذواتهم أو أشياءهم، لكن تَعثُّرهم في ذلك، أيضًا، وهذا هو الجانب التربوي في عمله. وكان الدافع الثاني سعيه إلى توسيع دائرة الجمهور القابل لتلقي وتمثل الخبرة النظرية الجديدة التي يقدمها الشكلانيون إلى الحقل الأدبي، كواضعي قواعد ونواميس تَتحكَّم في الشيء الأدبي. ومن ناحية ثالثة نجد أن كلوفسكي، الروائي كاتب السِّير، إلى جانِب وَضْع الدارس، والمؤسس الشكلاني، كأنما تَحسَّس الهيمنة الشمولية التي ستمتد خلال المرحلة الاستالينية، فاستبقَ تكميم الأفواه، والتَّعبِئة الأحادية للمنتوج الأدبي، فاتَّجَه تكملةً لأعمال سابقة له، إلى وَضْع أنساق وقواعد تصون الأدب، وتجعله يقاوم التسطيح والابتذال، وتغليب المحتوى على القالب الفني.
يَعتبر كلوفسكي الكتابة (= الأدبية) حرفة ككل الحرف، وعلى صاحبها أن يتقنها. لا، قبل ذلك أن يَتوفَّر على حِرفة سواها. بواسطتها تحصل الخبرة بالحياة، وتتوفَّر المادة، بدونهما ماذا تراه سيكتب؟ وكيف سيُعبِّر عن الأشياء؟ كيف يصفها بطريقته المتميزة؟ وهذا هو المهم في الأمر. تولستوي، مثلًا، كتب كملاك أراضي وجندي مُحترِف (في سلاح المدفعية)، وبوشكين، وغيرهما. الرأي عنده، في كل حال، أن التَّسرُّع غير مقبول لاحتراف الأدب، والمطلوب المرور بمراحل، وبعد قضاء سنين طوال في الكتابة، وإن اقتضى الأمر التزام الصمت مؤقتًا إذا أصيب المرء بالوهن؛ أَوَلمْ يَمرَّ بهذا الحال غوغول، وغوركي، وبلوخ؟! الكاتب عنده هو مَن يضع اللمسة الفريدة، ما ينسب له، وهذا يكفيه، أو إنه سيستنسخ ما لدى الآخرين، إن لم ينتحل بضاعتهم، فتراه إنما يغير الأسماء، وبعض التفاصيل، مبقيًا على الهيكل والخطة كاملة.
الدرس الثاني يختص بالقراءة، وهنا إجماع أهل حرفة الأدب، أن لا إبداع بجد ونضج إلا بقراءة مماثلة. إنها بداهة، والأهم في توجيه كلوفسكي هو طريقة القراءة، يريد التريث والفهم والإعادة ما أمكن. نزع القشرة لبلوغ الجوهر: مع الروائي ننتبه إلى كيف تتكلم الشخصيات، وعلاقة حديث كل شخصية بطباعها، وأين تبرم الحبكة، ومتى تشرع في التطور المتحكم في الرواية برمتها. مناط أهمية القراءة وطريقتها عند الدارس الشكلاني الروسي يكمن في كونها تُعرِّفنا على نِتاج الآخَرين، مما يسمح لنا بالحفاظ على تميزنا. ومن الخطل في نظره، كما يفعل كثير من المؤلِّفين الشباب، الإشاحة عن أعمال الغير، فما الكتاب إلا حصيلة تجربة متراكِمة، وبالقدر نفسه لا ينبغي الاستعجال في تلقِّي هذه الأعمال مخافة الوقوع في تقليدها، أو استنساخها شكلًا أو روحًا. هكذا «إذا أردنا الحفاظ على أصالتنا لا بد أن نقرأ، وكثيرًا لا قليلًا، وأن نفعل ذلك بالتدقيق في نصوص الآخَرِين، بتحليلها، وفَهْم مرمى كل سطر، وأي أثر قصد المؤلف إحداثه» (ص١٧).
النثر الأدبي: الموضوع وتبعاته
يحتاج الموضوع، شأن باقي مُكوِّنات العمل الأدبي، إلى بناء، إلى إعداد، وهذا ما نجده عند كُتَّاب مرموقِين، يجمعون موادهم، أولًا، ثم ينظمون وينتخبون. يعرفون ما يستحق أن يسجل موضوعًا ويدخل في تكوينه. يقدم كلوفسكي مثالين من مُدوَّنات تشيكوف وديكنز، يجمعان أسماء عائلات، وتعابير لطيفة، وخصائص طباع، ويهيئان سيناريوهات واحتمالات عدة يمكن أن تتقلب فيها القصة، أو يعرفها الحَدَث، وسلوك هذه الشخصية وتلك، وعليه فإنه:
والحاصل أن على الكاتب الناشئ أن «يحتفظ في ذاكرته بالجهد الجبار الذي بذله عباقرة الماضي؛ فلقد احتاج ليون نيكولا يفيتش تولستوي إلى تعديل روايته (الحرب والسلم) ثماني مرات. وكان ديكنز في حاجة إلى وضع تخطيط مفصل لرواياته ولتصميم أجزائها المختلفة، سنوات قبل الشروع فيها. مع العمل لا توجد معجزات؛ فإن كنت تنوي كتابة عمل خلال ساعات راحتك، دون أن تكلف نفسك عناء دراسة كل ملمح مفردًا، كمهمة إضافية، فإنك لن تفلح. لكن، ومن أجل إنجاز عمل واستثمار الجهد فيه، ينبغي التوفر، لو صح القول، على حياة مزدوجة. إنما خارج الحياة فأنت لا تملك إلا واحدة، وكما كنا نقول في زمن خلا، فإن العمر قصير، والفن صعب. لذا من الملائم تعلُّم كيف نستعمل في فننا الحياة الوحيدة التي نملك» (٧٣).
وماذا عن اللغة، عن الكلمات مِهماز كل تعبير، والتعبير الأدبي خاصة؟ ما كان كلوفسكي ليغفل عن هذا المكون، هو المؤسس من جماعة الشكلانيين الذين حولوا نظرتنا إلى الأدب، بإخضاعه لمقاييس، ووضعه في قوالب جمالية وسبائك منضدة تساعد على مقاربته في أدبيته؛ أي إوالياته الفنية والتركيبية، لا مضمونه أو نوايا مؤلفه أو أغراضه العامة، خارج النص.
لقد انتبه هؤلاء إلى أن اللغة الأدبية، مثل أي صناعة، تحتاج إلى قاموسها التقني بمصطلحات ومادَّة مخصوصين بها، بما يُجنِّبنا التعميم ويقود إلى القصد مباشرة فيحصل المعنى المطلوب. داخل اللغة الأدبية لغات، منها المختصة بالوصف، وهي من الأدوات المُعتمَدة لدى القاصِّ والروائي. وبشأنها يُنبِّه المعلم الروسي إلى ضرورة تَجنُّب الجمل الطويلة، وتركيب جُمل واضحة. ينبغي أن يُراعى في الكلمات تَوجُّهها لوصف الأشياء والأفعال، وعدم استخدامها لملء الفراغات. ولا بد، أيضًا، من الاختيار الجيد لها، ووقوعها ملائمة. لتكن كل كلمة معينة لما هو محدَّد، «فإن وصفتَ شيئًا فليأتِ الوصف حقًّا، ليُرسم، فالتسمية لا تكفي، وليُعيَّن فلا يمكن تعويضه بغيره. وحين تريد الوصف فالأفضل تمثل الموصوف من كل وجوهه، ثم حين نطلقه، يلزم توصيف حركته» (٩٢). وإن كنا نريد نَقْل العالم حولنا بدقة ووفاء، فالحاجة ماسَّة لامتلاك قاموس غني، بمثل ما نحتاج إلى التوفُّر على المُعيِّنات التقنية للأشياء، وهذا لا لغرض التزيين، وإنما لإعطاء الدلالة الدقيقة لها (ن).
تَوخِّي الدِّقة، الحرص على الضبط، العناية بالمرئي، الحِسِّي، أولًا، نَبْذ التَّجريد والكلمات الفضفاضة، عَدَم إطلاق الكلمات أو إرسال الكلام على عواهنه، الملاءمة، التخفف من الزخرف فهو تَلَف وتَرَف، الاختصاص في اللغة، في المُفرَدة ضمن القاموس الفني المطلوب، تنكُّب التعميم لمن يريد أن يصيب الهدف … هذه السنن وسواها مما له علاقة بإحكام النسيج الروائي، أو وَضْع الشخصية، وكيفية التقاط المواد الصالحة للتوظيف، أضف الخبرة اللازمة بالمحيط، بدونها لا تتأتَّى الكتابة، يضعها الشكلاني الروسي في مُقدِّمة لوازم الكاتب المبتدئ، عليه أن يتقنها، ويهتدي بها إذا شق طريق النَّثر، وكما لاحظنا فهي أكبر من قواعد أو نصائح عامة، بل تظهر جزءًا من منظومة نقدية لفن النثر وعلم الأدب، أو الأدبية … لكن ماذا عن الشعر؟ وما موقعه؟ وأي عُدَّة للناشئ كي يَسلس له القياد فيُحلِّق في سمائه بجموح واقتدار؟
كلمة عن الشِّعر
في مدخل حديثه عن الشِّعر لا يُخفِي كلوفسكي امتعاضه، كما فعل في مَدخل الكتاب، من العدد المتكاثِر ممن ينظمون الشعر أو يطمحون للقول الشِّعري. وبحكم تجربته الصحفية يستطيع أن يُقدِّم الأدلة الساطعة عن عَدد المراسلات في الموضوع. التجربة ذاتها، ومعرفة زمانه ومحيطه الأدبيَّين جعلته يتشاءم ويقسو في أحكامه إلى حد القول، وهو على الأغلب مُحِق، لو أَرَدْنا أن نُقارن مع هذا الزمن، بأن عدد الشعراء ممن يعرفون كتابة الشعر، وقد ينجحون في نشره يُعدُّون بالآلاف، لكن بضاعتهم بائرة، وقليل من يساومها في السوق. ما يزيد مِن تحفُّظه على اتخاذ الأدب مهنة، والشعر بصفة خاصة.
ما يُقلِق المُوجِّه الأدبي الروسي ليس ضَعف الإقبال على البضاعة، وعدم التعويل على اتخاذها مصدر عيش، بل العنت يأتي من صعوبة المُضِي في طريقها كما لو أنها معبَّدة دائمًا. عنده أن الكتاب الأول يسيرٌ أو في المُتناوَل، ما دُمنا معه نستثمر خبرة ومعرفة هما بحوزتنا. في الكتاب الثاني أو الثالث يَتعقَّد الأمر، ونحتاج أكثر إلى التجربة والكياسة للتوفُّر على عناصر جديدة، وتقنية أبعد ما تكون عنا. عمومًا، فالكاتب الناشئ في هذه المرحلة يُصاب بالخيبة. وهو يضع يده على سبب وجيه، خاص بالمحيط، الذي لا يُولِي العناية أو ما يكفي للوافدِين الجُدد على المضمار الأدبي، الشعري، فإن فتح لهم الأذرع في مطلع الظهور متوقعًا منهم لاحقًا نبوغًا فذًّا، سرعان ما يتخلَّى عنهم، وهو ما يحتاج إلى رباطة جأش للتحمل، وقوة عزيمة لمواصلة الطريق، فقد لا يذوقون نشوة الفوز إلا في الكتاب الثالث.
لذا تراه لا يَملُّ من تكرار السؤال القديم: ما هو الشعر؟ لا يقنع، كما لا يقتنع بالتعريف السائد، المُعطى بداهة من أن الشعر نقيض النثر، باعتباره يخضع لنموذج ما، ونظام، لطريقة في ترتيب الكلمات، تتكرر عدة مرات. وهذا يعني أن الخطاب الشعري بالمُقارنة مع نقيضه المفترض، النثري، يُدخِل مبدأ جديدًا هو المبدأ الإيقاعي (١٠٢). لكن كلوفسكي سرعان ما ينزاح عن تعريف هو في مذهبه مُتجاوِز ضمنًا، فينكر أن «يخضع البيت الشعري لمثال أو لنموذج. كما ينكر تكوُّنه من مقاطع لفظية ولكن من كلمات تشكل جملًا يُغيِّر معناها نبرة النص، وتمتلك الكلمة طاقة مختلفة حسب ما تحمله من دلالة.» ليخلص إلى القول والحكم بأن: «الشعر على غرار النثر ينهض، أيضًا، على قاعدة الصراع والتَّوتُّر في سياق الحركة — الموضوع هو الحركة — والمحتوى الحقيقي للبيت [الشعري] شكله الحقيقي، يكمن، بالضبط، في الصراع القائم بين المثال الإيقاعي والمحتوى الحي للبيت المعتمَد» (١٠٢).