عندما اختفى دكتور «بالم»!
وقف «أحمد» يرقب المكان، ودارت برأسه عشرات الاحتمالات. وكشريط السينما، دارت في رأسه كلُّ المعارك التي حدثت. تذكَّر كل تفاصيل مغامرة «رجل المستقبل»، تذكَّر كلمات رقم «صفر» التي تعني أن دكتور «بالم» يُمثل أهمية خاصة، وأن العصابة إذا استطاعت أن تحتفظ به، فإن ذلك يعني ظهور عصابات جديدة خطيرة!
قال في نفسه: هل خطفه أحد؟! ومَن الذي خطفه؟! إن الموجودين كانوا أربعة فقط، وها هم الآن بلا حَراك! هل يمكن أن يكون قد افترسته إحدى حيوانات الغابة؟! إن ذلك لو حدث، فإن صوتًا سوف يصدر. إما عن الحيوان، وإما عن «بالم» نفسه! هل يكون قد هرب؟! ولماذا يهرب، وهو يعرف الخطر الذي يختفي في كل مكان من الغابة؟!
عشرات الاحتمالات والأسئلة كانت تدور برأسه؛ فكر: هل يرسل رسالة إلى رقم «صفر»، يشرح فيها ما حدث؟! هل يرسل رسالةً إلى الشياطين؛ لينتشروا في الغابة بحثًا عنه؟!
لكنَّه لم يقطع بشيء. حدَّدَ المكان الذي يقف فيه؛ حتى لا يفقد أثره، ثم تحرَّك من مكانه. فجأةً، تناهى إلى أُذنيه صوت كلاب تنبح. قال في نفسه: هذه هي نهاية دكتور «بالم». إنَّ الكلاب سوف تعثر عليه، وينتهي كلُّ شيء! إن نجاح مغامرة «رجل المستقبل» قد انتهى، وأفسد اختفاؤه كل الجهود التي بذلها الشياطين.
تحرَّك من مكانه في حذَر وبطء. كان يُريد أن يستمع إلى أي شيء. توقَّف مرة أخرى؛ فكَّر: هل يتراجع، أو أنه يجب أن يتقدَّم في اتجاه أصوات الكلاب؟ فهي الآن إمَّا أن تكون في المعسكر، أو تكون في طريقها إليه.
عاد أدراجه مرَّة أخرى، في نفس الاتِّجاه الذي يأتي منه صوت الكلاب هذه المرة. كان يُسرع الخُطى؛ فهو يريد أن يسبق الزمن. إن الوقت أصبح الآن أكثر خطورة من أي لحظة مضت، والليل يُمثل لهذه المغامرة أهمية خاصة؛ فهي ينبغي أن تنتهي الليلة، وأن يخرج الشياطين من الغابة، أو يقضوا على رجال العصابة.
أسرع «أحمد» أكثر، لكنه توقف فجأة؛ فقد ظهرت بقعة ضوء تتحرك. أسرع في اتِّجاه بقعة الضوء، حتى إذا بدأ يسمع صوت الرجال توقَّف. فالآن كما فكَّر يمكن أن يعرف خُططهم جميعًا. اقترب، ظل يمشي وهو ينظر حواليه، حتى بدا صوت الرجال واضحًا. قال في نفسه: هذه هي اللحظة المناسبة للقضاء على العصابة؛ إن معرفة خُططهم سوف تكون هي البداية.
استمع لحظة، ثم فكر: هل يمكن أن ينسحب الشياطين من الغابة، بينما رجال العصابة مشغولون باجتماعهم؟!
غير أن إجابة السؤال تردَّدَت في ذهنه: من الممكن أن تكون الغابة كلها محاصرة، وهؤلاء فقط في مُهمة للبحث داخل الغابة.
ثم تردَّدَ في ذهنه من جديد: ما جدوى كل شيء الآن، بعد أن اختفى دكتور «بالم»؟!
فجأةً، سمع صوتًا حادًّا يقول: إنني أعترض على هذه الخُطة؛ إن البحث الليلي لن يُوصل إلى نتيجة؛ ينبغي أن نرتاح الليلة، ونبدأ عملنا مع بداية الضوء.
ردَّ صوت هادئ: لا داعي للصراخ يا «جوردان»؛ إن «بيللي» لم يصل بعد، إننا فقط نعرض الأمور؛ أليس كذلك يا «براش»؟
فهم «أحمد» أن المتحدث هو «بوش»، وأنهم في انتظار «بيللي»، الذي يرقد الآن بلا حَراك هو ومن معه. قال «براش»: اسمع يا «بوش»، إن تأخُّر «بيللي» يعني أشياء كثيرة؛ فهو لم يتصل بنا، وكذلك رجاله، مع أن معهم أجهزة الاتصال. وهذا قد يعني أن شيئًا ما قد حدث.
سأل «بوش»: ماذا تقترح إذن؟
صرخ «جوردان»: لا بُدَّ أن يستمر العمل في الغابة، لكن من الممكن أن تقوم به فرقة واحدة، وليس كل الفِرق. إن حركتنا في الليل يمكن أن تكشف وجودنا.
كانت أصوات الكلاب ترتفع في بعض الأحيان، فتُغطي على بعض الكلمات، فلا يسمعها «أحمد»، إلا أنه كان يفهم المعنى كاملًا.
قال «بوش»: نُعِد فريقًا للبحث، ويرتاح الباقون.
قال «جوردان» بلهجة انتصار: هذه خُطَّة حكيمة.
أضاف «بوش»: فقط ينبغي أن نُرسل للزعيم.
صمت الرجال جميعًا، ولم يعد «أحمد» يسمع شيئًا، وبينما هو مستغرق في تتبُّع ما يُقال. تذكر دكتور «بالم» مرَّة أخرى. قال في نفسه: إن العثور على «بالم» أهمُّ من أي شيء الآن، خصوصًا بعد أن عرفت المكان، وكيف يُفكِّرون. إذا تحرَّكوا فسوف تكون هذه أفكار الزعيم، وإذا لم يتحرَّكوا فهذه أفكارهم. وفي الحالة الأخيرة، سوف يكون القضاء على فريق البحث سهلًا.
تحرَّك عائدًا إلى مكانه القديم الذي حدَّده، والذي اختفى فيه دكتور «بالم». تذكَّر فجأة أنه نسي شيئًا. إن معه جهازًا للكشف، يمكن أن يرصد وجود أي جسم بشري، فهو يستقبل الإشعاعات التي يُصدرها جسم الإنسان، ويحوِّلها إلى موجات كهربية، تُضيء في حالة وجود جسم بشري. أخرج الجهاز الصغير بسرعة، ثم ضغط زرًّا فيه، وبدأ يُوجِّهه إلى اتجاهات مختلفة، غير أن الجهاز لم يُضئ ولا مرَّة. لكن ذلك لم يجعله يشعر باليأس؛ إنَّه يعرف أن قوة الجهاز تصل إلى عشرين مترًا، وهذا يعني أنه ربما كان «بالم» قد تحرَّك من مكانه إلى مسافة أبعد، لكن إلى أي اتِّجاه تحرك «بالم»؟!
رسم لنفسه عدة دوائر يمكن أن يتحرك فيها؛ حتى لا يبتعد عن المكان؛ فهو يثق بأن «بالم» لم يبتعد كثيرًا. بدأ بالدائرة الأولى، وجعل مركزها نفس المكان الذي كان يقف فيه «بالم». دار حول نفسه وهو يُوجه الجهاز إلى جميع الجهات، غير أن الجهاز لم يُعطِ أي إشارة. انتقل إلى دائرة أخرى، تُلامس نهايتها بداية الدائرة الأولى؛ حتى لا يدَعَ مكانًا واحدًا بلا بحث. دار نفس الدورة، ولم يُعطِ الجهاز إشارة. انتقل إلى دائرة ثالثة، وقبل أن يدور حول نفسه فكَّر: هل أُرسِلُ رسالة إلى الشياطين؟ ربما يكون «بالم» قد اتجه إليهم.
لكنه ردَّ في نفسه، بعد لحظة: إن «بالم» لا يعرف مكانهم.
ألغى هذه الفكرة، ثم ضغط زرَّ الجهاز، ودار حول نفسه. فجأة، أُضيئت لمبة الجهاز؛ شعر «أحمد» بفرح شديد. أخذ يتقدم، وظلت اللمبة مضيئة. تقدم أكثر، لكنها فجأة انطفأت! تراجع عدة خطوات، فأضاءت من جديد. قال في نفسه: إن «بالم» يقع في هذه الدائرة، على بُعد عشرين مترًا.
فكر: هل يسمعني لو تحدثت إليه، أو ناديته؟!
لكنه خشي أن يرتفع صوته فيسمعه أحد، خصوصًا وأن هناك فرقة سوف تخرج للبحث … أخذ يتقدم خطوة خطوة، ولمبة الجهاز مُضاءة. فجأة توقَّف؛ فقد سمع صوت أنين. أخذ يُحدد مصدر الصوت حتى عرفه. تقدَّم في هدوء وحذر؛ كان الصوت يقترب أكثر. فكر: هل يكون «بالم» قد أُصيب بشيء؟!
تقدَّم أكثر، حتى أصبح الأنين قريبًا منه. خطا خطوة أخيرة في نفس اتِّجاه مصدر الصوت، فوجد «بالم». كان يئنُّ بما يدل على أنه مُتعب تمامًا. انحنى عليه وهمس: دكتور «بالم»؟! لمعت عينا «بالم» في الظلام، وهمس: صديقي … أين أنت؟!
مدَّ «أحمد» يديه، وجذبه برفق، فوقف. همس «أحمد»: لماذا تركت مكانك؟!
همس «بالم»: لم أستطع مشاهدة ما حدث، خصوصًا ذلك الذي أخرج مُسدَّسه وأطلق عليك النار. جَريتُ، كنت أريد أن أبتعد؛ فبدوني سوف تجد أكثر من سبب يُنجيك من الخطر، لكن وجودي يجعلك في موقف صعب!
ابتسم «أحمد» وهو يقول: يا صديقي الدكتور، لا تخشَ شيئًا؛ لقد قلت لك إنني أعرف كيف أتعامل مع الكلاب!
صمت لحظة، ثم سأله: هل تستطيع السير؟
ابتسم «بالم»، وقال: الآن … نعم!
قال «أحمد»: إذن، هيا بنا؛ حتى نستطيع الانضمام إلى الآخرين قبل أن يحدث شيء!
أسرعا في اتجاه الشياطين، وكان «أحمد» يسترشد بالبوصلة التي يحملها، والتي تُحدِّد مكانهم. كان كل شيء قد هدأ الآن، حتى أصوات الطيور قد اختفت؛ فقد نامت، بعد أن تقدم الليل. فجأة، صدر صوت بجوارهما، جعل «بالم» يقفز، إلا أن «أحمد» كان أسرع منه، فأمسك به وهو يبتسم ويقول: لا تخشَ شيئًا؛ إنه أحد الحيوانات في الغابة، قد أزعجناه، ففرَّ هاربًا!
أسرعا في خطواتهما، فقد كان اتِّجاههما بعيدًا عن معسكر العصابة، غير أن «أحمد» كان يُفكِّر في هذه اللحظة في شيء آخر. كان يتمنَّى أن يعود إلى المعسكر؛ حتى يعرف ماذا سوف يحدث، إلا أن وجود «بالم» كان يمنعه من تنفيذ ما يُفكِّر فيه. فجأة، شعر بدفء جهاز الاستقبال، فعرف أن هناك رسالة. استقبل الرسالة بسرعة، وكانت من الشياطين، يقولون فيها إنَّهم غيَّروا مكانهم إلى النقطة «ع». دسَّ الجهاز في حقيبته، ثم عدَّل البوصلة على النقطة «ع»، فتغير الاتِّجاه، وإن كان بعيدًا عن مكان معسكر العصابة. سأله «بالم»: لماذا غيَّرنا اتجاهنا؟
ابتسم «أحمد»، وقال: إننا لا نتقدم في اتجاه مستقيم، وإلا انكشف وجودنا.
هزَّ «بالم» رأسه علامة للفهم، ثم تقدَّم بجوار «أحمد»، إلا أن تقدمها لم يستمر طويلًا؛ فقد بدأت تظهر أصوات الكلاب. فكر «أحمد»: يبدو أن فرقة البحث الليلي بدأت رحلتها، من نفس المكان الذي نتَّجهُ إليه.
نظر «بالم» له، وقال: هل تسمع هذه الأصوات؟!
ابتسم «أحمد» قائلًا: هذه الكلاب.
ابتسم «بالم»، وفهم ما قاله «أحمد».
فجأةً، علا صوت الكلب أكثر، أمسك بيد «بالم» وتوقَّف. كان يُفكِّر: إن هذا معناه أن الكلاب قد اكتشفت مكان الشياطين، ما دام نُباحها قد علا!
أرسل رسالة سريعة إليهم، وانتظر الرد، غير أن الدقائق مرت دون يصل ردٌّ ما. قال في نفسه: لعلهم مشغولون بمعركة!
فجأةً، ارتفع صوت طلقات كان يُدوِّي في هدوء الليل، أخذ يتسمَّع لصوت الطلقات، فعرف أنها طلقات العصابة، وليست طلقات الشياطين. مرَّت دقائق أخرى، ثم تلقَّی ردًّا. كان الردُّ من «عثمان»: انسحبت وکابتن «م» و«بالم ٢»؛ هناك معركة قد بدأت بين العصابة، وبين «خالد» و«باسم» و«إلهام».
فکَّر «أحمد» لحظة: هل ينضم إلى الشياطين في المعركة، أو ينضم إلى «عثمان»؟!
بسرعة أرسل إليه: إلى أيِّ نقطة يتمُّ الانسحاب؟
جاءه رد «عثمان»: إلى النقطة «ص».
اتَّسعت عينا «أحمد». إنَّ النقطة التي يُحدِّدها «عثمان» تقع في اتجاه معسكر العصابة، أي إنه يمكن أن يقع في أيديهم، ومعه «بالم ٢».
أرسل رسالة سريعة ﻟ «عثمان»؛ قالت الرسالة: «غيِّر الاتجاه؛ النقطة «ص» هي مكان العصابة الآن.»
في نفس الوقت، قرر الانضمام إلى «خالد» و«إلهام» و«باسم»، وإن كان قد فكَّر كثيرًا في وجود دکتور «بالم».
غير أنه تقدَّم في اتجاه الشياطين؛ لأن الانضمام إلى «عثمان» سوف يُمثِّل عقبة أخرى.
أسرع في الاتجاه، لكنه توقف فجأة؛ فقد سمع طلقات الشياطين، في نفس الوقت الذي كانت أصوات الكلاب لا تتوقَّف. قال في نفسه: إنها إذن معركة مُسدَّسات.
نظر إلى «بالم»، وقال: يجب أن نجري؛ حتى نلحق بهم. لم يتحرك «بالم»، وقال: أين اختراعی؟!
ابتسم «أحمد»، وقال: إنك في أمان؛ لا تخشَ شیئًا.
أخذ الاثنان يجریان، وهما يُزيحان أغصان الأشجار التي كانت تَعُوق تقدمهما. فجأة، ظهر ضوء طلقات الرصاص المتبادَل. كانت تبدو طلقات الشياطين في اتجاه الشمال، بينما طلقات العصابة في اتجاه اليمين. في نفس الوقت كان «أحمد» يتقدم في المنتصف بين الاثنين تمامًا. فكَّر لحظةً: إنَّ اشتباکي مع العصابة من موقعي، سوف يُخفف الضغط عن الشياطين من جهة، ومن جهة أخرى سوف يُؤكد للعصابة أن القوة التي أمامهم ليست صغيرة، وإن كان ذلك سوف يجعلهم يدفعون بقوة أكبر، لكن ذلك لا يُهِمُّ. إن الشياطين يستطيعون دخول أي معركة.
أسرع أكثر، وخلفه دكتور «بالم»، حتى تأكَّد أنه قد أصبح في مكان مُلائم تمامًا للاشتراك في المعركة. أخرج مُسدَّسه السريع الطلقات، ثم وضع فيه طلقات إضافية، وقال ﻟ «بالم»: قف خلف هذه الشجرة؛ حتى لا تتعرَّض لأي إصابة.
ابتسم، ثم أضاف: أرجو ألا تنزعج هذه المرة؛ أنت تعرف أن الغابة مملوءة برجال العصابة، ولو تحرَّكتَ فقد تقع في أيديهم، أيضًا هناك فرقة الكلاب التي تسمع صوتها.
ابتسم «بالم»، وقال: لن أتحرَّك.
سدَّدَ «أحمد» مُسدَّسه في اتجاه طلقات العصابة. انتظر لحظة حتى حدَّد مصدر إحدى الطلقات من خلال الضوء الذي يُصاحب انطلاق الرصاص، ثم ضغط زِناد المسدس، فخرجت مجموعة الطلقات كالمطر. ولم تمضِ لحظة حتی سكت مصدر الطلقات. فجأة، سكت الشياطين؛ فقد عرفوا أن «أحمد» قد انضمَّ إليهم، وأن عليهم الآن أن يُنفِّذوا الخُطَّة «ج».
استمرَّ «أحمد» في إطلاق الرصاص، فتحوَّلت طلقات العصابة إليه، ومرَّت دقائق في تبادل الطلقات. فجأة، شعر أن هناك رسالة يستقبلها الجهاز. كانت الرسالة من «خالد»، تقول: سوف ندور حولهم؛ يجب أن تنتهي المعركة بسرعة، قبل أن تنضم إليهم قوة أخرى.
كثَّف «أحمد» طلقات الرصاص، في نفس الوقت الذي كان يُراقب فيه دكتور «بالم»؛ حتى لا يحدث شيء. غير أنَّه فجأة سمع صرخة قريبة حادَّة جعلته يلتفت بسرعة. لقد كان دكتور «بالم» هو مصدر الصرخة!