تحليل
-
(١)
يستهلُّ أرسطو كتابه بالإهداء الذي عرفنا قصته، ثم يعرض أول قضية أساسية فيه:
إن السعادة في الحياة تقوم على الحالة النفسية الطيبة (وهي كما أشرنا قضية سبق
أن عبَّر عنها أفلاطون على لسان سقراط في محاورة الدفاع، كما يرجع إليها أرسطو
في فقرات تالية)،
١ كما أن امتلاك الخيرات الخارجية بغير مبادئ أخلاقية هو الشر
بعينه.
-
(٢)
يتحدث أرسطو عن «التفلسف» فيقول إنه يعني أمرين؛ فهو من ناحيةٍ سؤال يُطرَح
عما إذا كان ينبغي على الإنسان أن يتفلسف. وهو من ناحيةٍ أخرى تكريس الحياة
للفلسفة، ويتناول القضية الأساسية الثانية فيبين ضرورة التفلسف وقيمته في
الحياة السياسية والعملية.
٢ فإذا كان أصحاب الصنائع وأرباب المهن اليدوية يكتشفون أفضل الأدوات
عن طريق ملاحظة الطبيعة فيتحتَّم على السياسي ورجل الدولة أن تكون لديه معايير
يستمدها من الطبيعة ومن الحقيقة، ويحكم بها على كل ما هو عادل وجميل
ونافع.
ولا سبيل لمن لم يهب حياته للفلسفة ولم يعرف الحقيقة أن يتوصل إلى هذه
المعايير المستمدة من المعرفة النظرية بالمبادئ والعلل الأولى، إلا أنها هي
التي تسمح لنا بتصريف جميع أعمالنا.
ويستطرد أرسطو في تقديم الأمثلة من الحياة العملية والمادية ليؤكد أنها
جميعًا لا تستغني عن المعرفة النظرية، فالأشياء الجسمية مجرد أدوات، وعلينا أن
نطلب المعرفة التي تساعدنا على حسن استخدامها.
وتسير الحُجة التي يسوقها لإثبات هذه القضية في خطوات؛ فالأشياء تنشأ عن طريق
الصنعة والطبيعة أو عن طريق الصدفة والحظ،
٣ وعملية النشوء تمضي في خطٍّ لا يُعكس من كون إلى نمو إلى تحقيق
غاية إلى تحلل ففساد،
٤ وهي عملية تعبِّر عن حقيقة «الغائية» التي تَطبع بخاتمها مذهب
أرسطو كله، والطبيعة نفسها هي منبع كل خير وجمال، وتكون مظاهر إبداعها جميلة
بقدر ما تسير العملية الطبيعية السابقة في طريقها السوي، كما تكون منتجات الفن
والصنعة البشرية جميلة بقدر ما تُحاكي الطبيعة وتُكمل ما تركته ناقصًا.
ويأتي الحديث عن سُلم التطور الطبيعي الحي؛ فالطبيعة نفسها تقضي بأن يكون
الهدف الأسمى للإنسان هو تحقيق مَلَكة العقل التي نسميها الحِكمة أو الفِطنة
(ب١١–٢١)، وبحكم الطبيعة نفسها توجد مستويات مختلفة لمَلَكة العقل والقدرة على
التفكير، هذه المستويات تُؤلِّف سُلمًا من القيم يتربَّع على قِمَّته الفكر
الذي تتم فاعليته ويُختار كذلك لذاته، والطبيعة يسودها النظام والترتيب وتُراعي
الحد ولا تتعداه، فهي عاقلة ولا تعمل شيئًا بالصدفة (ب٢٢–٣٠، وهي فكرة تمثل
نواة الفلسفة الأرسطية وتتردد في معظم كتابات مُعلم البشرية). هل يستعصي على
الناس بلوغ هذه الغاية الرفيعة؟ إن أرسطو يؤكد أن الحياة الفلسفية أو الموقف
الفلسفي من الحياة ليس هدفًا مستحيلًا على الإطلاق، بل إن صعوبة تحصيل الفلسفة
تقل في رأيه بكثير عن الفائدة التي تتيحها والفرح الذي نجنيه منها (ب٣١)، وهناك
في الواقع علم بالعدل والعدالة كما أن هناك علمًا بالطبيعة وبكل ما هو موجود
على الحقيقة ونحن قادرون على تحصيلهما سواءً بسواء (وهما علم الأخلاق وعلم
الطبيعة بالمعنى الأرسطي)، والمسألة في النهاية مسألة نظر وعلم نظري بالمبادئ والأصول.
٥
هذا العلم الخالص يسبق كل علم لاحق بالأشياء والأدوات والأجسام، كما تسبق
العِلَّة المعلول ويتقدم الشرط على ما يتقدم به ويعتمد عليه، فمعرفة الأوَّلي
والبسيط في الطبيعة أسهل وأبسط من المعرفة بأي شيء آخر؛ لأن كل ما عداهما
يتكوَّن من هذه العناصر ويُبنى منها، ثم إن كل ما هو خير فهو كذلك محدد ومنظم،
والمهم بعد كل شيء هو العلم بالأسباب والعوامل والعناصر الأولية، أو هو — كما
نقول اليوم — معرفة «البنية» الأساسية بحيث تكون الأولوية دائمًا للبسيط على
المُركَّب، وبحيث تسبق المبادئ ما يترتب عليها.
وبجانب فروع العلم الأخرى يوجد علم بفضيلة النفس (أو كفاءتها وصلاحها
ب٣٢–٣٧)، وامتلاك القدرة على التفكير ومَلَكة العقل وفقًا لمبدأ الغاية هو أسمى
الخيرات التي يُتاح للإنسان امتلاكها، ومن ذا الذي يمكنه أن يُجسِّد لنا
المعيار الدقيق للخير والدليل الهادي إليه غير البصير الحكيم؟ لا بد للإنسان من
التمييز بين ما هو خيرٌ وما هو ضروري، وحتى لو ثبَت له أن امتلاك الحكمة وملكة
العقل والتفكير لا ينفعه في الحياة العملية (بل ربما جنى عليه في معظم الأحيان
كما تؤكد لنا تجربة الحياة اليومية)، فإن هذا لا يمنع أن التفكير يحمل قيمته في
ذاته، وأنه جدير بالاختيار والتفضيل في كل الأحوال (ب٣٨–٤٤)، ويرجع أرسطو في
ختام هذا الجزء من كتابه إلى الحجة التي انطلق منها (ب١١)، وهي غائية الطبيعة
التي تميل بها إلى تحقيق الأقيم والأجمل والأرفع (ب٤٥).
-
(٣)
ومع كل هذه المحاذير فإن النظر العقلي في أصول الأشياء ومبادئها أمر نافع
للحياة العملية؛
٦ فالسياسي يتحتم عليه كما سبق
أن يلمَّ ببعض المعالم والمعايير
التي يستمدها من الطبيعة ومن الحقيقة، ويستعين بها في الحكم على ما هو عدل وحق
وجمال (ب٤٦–٥١)، غير أن معرفة المعايير لا تكفي، فواقعية أرسطو وخبرته بالعالم
والناس تجعله يفلسف للعمل كما يفلسف للنظر؛ ولهذا يقول صراحةً إن من الواجب
تحويل المعايير إلى أفعال، وتجسيد النظر في ثوب العمل؛ فالفلسفة عنده تحصيل
للحكمة وتطبيقها (ب٥٢-٥٣)، والنظر في حقيقته فعل لا مجرد تأمل، إنه معرفة منتجة
للتحقيق والإنجاز، صحيح أن الإنسان الذي يوقف حياته على النظر ويهبها للفلسفة
لا يتلقى من الناس أجرًا ولا جزاءً، ولكنها تستولي عليه ويجد سعادته الكبرى في
الاشتغال بها والعكوف عليها (ب٥٥–٥٧).
-
(٤)
ويتساءل أرسطو: ما هي مهمة الفلسفة؟ ولماذا كان بلوغ الحكمة هو غايتنا
القصوى؟ ويبدأ في الإجابة على هذا التساؤل بالحديث عن العلاقة بين الجسم
والنفس، ففي داخل النفس يكون الأعلى هو الجزء الحائز على العقل وملكة التفكير،
هذا الجزء الصغير (كما يصفه أفلاطون في الجمهورية ٤٤٢ﺟ) هو العقل (نوس)، وهو
يعبر وحده أو في المقام الأول عن ذاتنا الحقيقية (ب٥٩–٦٢)، أما عن المهمة
الأساسية للفكر فهي التوصل للحقيقة (ب٦٣–٦٦)، ونحن نسعى في طلبها عن طريق
التأمل الفلسفي، ونبلغ أسمى درجة في هذا التأمل عندما نطلبها لذاتها (ب٦٦–٦٩)،
ثم يستطرد أرسطو إلى الكلام عن العلاقة بين العلم والرأي؛ فالعلم والمعرفة
الدقيقة أجدر بالاختيار من الرأي الصادق، وأجدر شيء بالاختيار عند الإنسان هو
التبصر الفلسفي؛ ولهذا يسعى الناس جميعًا في طلب المعرفة (كما تقول العبارة
المشهورة في مقالة الألفا من كتاب الميتافيزيقيا ١، ٩٨٠أ ٢١)، ويمتد هذا القسم
من الكتاب من الفقرة (ب٧٠) إلى الفقرة (ب٧٧).
-
(٥)
والحياة العقلية بجانب هذا كله حياة غنية بالفرح، والعقلاء من الناس ينشدونها
ويجدُّون في طلبها للاستمتاع بالأفراح الحقة والمسرات النبيلة (ب٧٨–٩٢)، وهنا
يجد المُعَلِّم الأَول فرصة مواتية للحديث عن فكرته الرئيسية المعروفة عن القوة
والفعل، ويعرضها عرضًا مبسطًا
يتقبله القارئ العادي، فيميز بين المستيقظ والنائم، بين المبصر بالفعل والقادر
على الإبصار، بين العارف بالإمكان ومن يستخدم معرفته ويطبقها، لينتهي من ذلك
إلى القول بإن الفعل أعلى قيمة من الانفعال، وإن أسمى أفعال النفس هو التفكير،
وأعلى درجات التفكير هو التفلسف؛ ولهذا تكون الحياة الكاملة من نصيب أصحاب
الفعل الخالص، أي من نصيب المتفلسفين، وهؤلاء هم الذين يبلغون الغاية؛ لأنهم هم
الذين يقومون بالفعل الفلسفي — على أساس العلم المتناهي في الدقة لا على أي وجه
كان! — ويجدُّون في طلب الحقيقة في حياة النظر والعمل على السواء.
(ب٧٩–٨٦) ولما كانت هذه الفاعلية القصوى المطلقة من كل قيدٍ هي التي توفر
الفرح فمن الواضح أن المتفلسف هو الذي يحيا أكمل حياة ويتمتع بأعمق
الأفراح.
عند هذه القمة من الدفاع البليغ عن الفلسفة تبرز قمة أخرى مضادة، إذ يقول
أرسطو ما معناه: لكن الناس للأسف لا يدركون مصلحتهم ويجشِّمون أنفسهم الجهد
والمشقة في سبيل أشياء عقيمة وعاطلة من كل قيمة (ب٨٧–٩٢).
-
(٦)
هكذا تكون الحياة الفاعلية على الوجه الصحيح — أي الحياة العقلية — هي الشرط
اللازم لبلوغ السعادة، وهنا يهيب أرسطو بإجماع الناس على طلب السعادة ليؤكد من
جديد أن التفلسف هو الحياة السعيدة الكاملة، أو هو على الأقل أنجح الوسائل
المؤدية إليها (ب٩٧–١٠٢).
-
(٧)
ويسوق أرسطو حُجة بلاغية جديدة يبدأ بها نغمة سوداء لا تُقارن بالنغمة
السابقة المتألقة بالبهجة والفرح؛ فهو يوازن بين الحياة العاقلة وبين حياة
الناس الذين يَقْصِرون همهم على مجرد الحياة وبأي ثمن، وتُفاجئنا نظرة النسر
الحزين الذي يطل على وادي الأشباح، فالأشياء التي تبدو في أعين الناس عظيمة
ليست في حقيقتها إلا ألعاب ظلال.
وتتصل خاتمة اللحن المكتئب فتقتبس من الحكماء والشعراء القدماء مؤكدة أن حياة
البشر تكفير عن ذنب كبير جنيناه، لتبلغ في النهاية قلب القتامة نفسها وترسم
لوحة لا تُنسى عن المساجين الذي تُقيد جثث الموتى بأجسادهم بحيث يواجه الوجه
بالوجه، ويلتصق العضو بالعضو
٧ (ب١٠٥–١٠٧).
هل أراد المُعَلِّم الأَول أن ينفِّرنا من حياتنا العادية المشغولة بالنهم
إلى الثروة والغنى والشهرة وغيرها من الخيرات الظاهرية الخادعة لنحقق العلو
فوقها على جناح التفلسف، أم غلبته تجربته أو قراءاته فانساق إلى هذه الصور
الأليمة؟ مهما يكن الجواب فإن الكلمات الختامية هي أبلغ دفاع يمكن تصوره عن
الفلسفة؛ فليس ثمَّة شيء إلهي في الإنسان إلا شيء واحد يستحق وحده عناء الجهد،
ذلك هو العقل والتبصر الحكيم (أو التفلسف)، وإن حياة تخلو من التأمل لهي حياة
تخلو من كل قيمة ولا تليق بإنسان (ب١٠٨–١١٠).
متى وضع أرسطو هذا الكتاب؟ أهو من كتابات الشباب «المنشورة» أم من مؤلفات الرجولة
«المستورة»؟ ألدينا أي دليل على زمن التأليف أم لا نملك إلا الترجيح؟ هل كان عند تأليفه
تلميذًا مخلصًا لأفلاطون أم استطاع أن يتحرر من سطوته وبدأ يفكر لنفسه ويُعلي بناء
مذهبه؟ أكان شابًّا لا يزال أم رجلًا يرفل في إهاب الرجولة الناضجة؟
أسئلة يبدو أننا لن نعثر في شأنها على اليقين، أقصى ما نملكه أن نعرض آراء العلماء
وهي لا تزال إلى اليوم تتأرجح على حافة الرأي والترجيح والتخمين.
•••
كان الرأي بين معظم الباحثين منذ
ألَّف العالم الألماني «ييجر» كتابه المشهور عن أرسطو وتطوره الفكري سنة ١٩٢٣ — أن
أرسطو ظل طوال الفترة التي قضاها طالبًا ومعلمًا في الأكاديمية الأفلاطونية وقاربت
العشرين عامًا — ظل طوال هذه الفترة وحتى موت أفلاطون تلميذًا مخلصًا لأستاذه، تأثَّر
به في كل ما كتب في ذلك الحين، وشارك في نشر أفكاره وتعاليمه — غير أن كل ما كتبه أثناء
حياته في الأكاديمية قد ضاع، لم يبقَ من أشعاره ومحاورات شبابه سوى بضع شذرات متفرقة
من
أهمها ما بقي من «أويديموس» و«عن الفلسفة». وهذه المحاورة التي نتحدث عنها الآن: «بروتريبتيقوس»،
٨ وقد زعم «ييجر» أن الكتاب الأخير كان بمثابة برنامج دراسي للأكاديمية،
ودعوة إلى المَثَل الأعلى الذي بشَّر به أفلاطون وحث على السير على طريقه. ومع ذلك فإن
«البروتريبتيقوس» يسجل التحول الذي أصاب نفوس الجيل الجديد من شباب الأكاديمية وغيَّر
من نظرتهم إلى الحياة العقلية. لقد حرص أفلاطون على تحقيق المَثَل الفلسفي الأعلى في
الحياة، ولكنه أراد بفلسفته كلها أن يُصلح الواقع ويُنقذه من الفساد، وينقل إلى ظلام
الحياة العملية قبسًا من نور المُثل والحقائق الخالدة. أما الجيل الشاب فوجد قيمة
الحياة في تأمل الباطن، في بهجة الرؤية والنظر الخالص، بهذا تحولت مثل الإصلاح السياسي
والأخلاقي عند أفلاطون إلى التأمل العقلي المتشرب بالروح الدينية. ولقد أكد «ييجر» أن
أرسطو كان يقف في هذا الكتاب على أرض ميتافيزيقية مختلفة عما نجده في كتاباته التعليمية
المتأخرة، وأن الأفكار الأساسية فيه أفكار أفلاطونية تحمل طابع معلمه الكبير، سواءٌ في
لغتها أو موضوعاتها، بل إن الكتاب يُردد في زعمه نظرية المُثُل ويذكر رأي أفلاطون
المتأخر في أنها أعداد، ويقتبس منهج أفلاطون في عرض الأخلاق على طريقة أصحاب الهندسة.
وكل هذا يؤكد في رأيه أن أرسطو ظل في هذا الكتاب وفي سائر محاوراته الضائعة وفيًّا
لأفلاطون، وأنه لم يصبح «أرسططاليًّا» إلا بعد أن مات أستاذه ومر في حياته بأزمة باطنية
حادة.
بَيْدَ أن النظرة إلى فلسفة أرسطو قد
تغيرت بعد إعلان «ييجر» عن هذه الآراء، وأثبت بعض العلماء — ومنهم الأستاذ «انجمار
ديرنج» الذي ألَّف كتابًا ضخمًا عن تفكير أرسطو ونشر النص الذي نعتمد عليه وحققه — أن
هذه الآراء التي ذهب إليها «ييجر» لا تستند إلى كتابات أرسطو ولا إلى التراث القديم من
مؤلفات المؤرخين وكُتَّاب السير، أضف إلى هذا أن لغة أرسطو ومصطلحاته الأساسية لم تكد
تتغير منذ أن كتب «الطوبيقا» أو المواضع الجدلية التي ثبت أنها تسبق الكتاب الذي بين
أيدينا بحوالي عشر سنوات،
٩ والأهم من هذا كله أنهم قدموا الأدلة اللغوية والموضوعية على أن
«البروتريبتيقوس» ليس من كتابات الشباب لأرسطو، وأنه كان قد قضى عند كتابته أكثر من
خمسة عشر عامًا في البحث والتعليم في الأكاديمية، وأن الكتاب نفسه قد وُضع حوالي سنة
٣٥٠-٣٥١ق.م، أي عندما كان أرسطو في الرابعة والثلاثين أو الخامسة والثلاثين من عمره وفي
أوج تفكيره ونشاطه العقلي، وفي نفس الوقت الذي كتب فيه أفلاطون رسالته السابعة.
١٠ وإذا كان من المستحيل إثبات هذا التاريخ بالدليل القاطع، فهو في رأي
«ديرنج» أقرب إلى الصواب من غيره، والمهم على كل حال أن الكتاب يعطينا فكرة طيبة عن
تفكير أرسطو في هذه المرحلة من حياته الخصبة الجادة، لا سيما إذا تذكَّرنا أنه لم يُعِد
النظر فيه على عكس ما كان يفعل مع كتاباته التعليمية الأخرى، وأننا لا نملك كتابًا آخر
من كتبه يحمل نفس الدعوة التي يحملها هذا الكتاب أو يوحي بها، وأن محاورة «السياسي»
التي يُظنُّ أن «يامبليخوس» قد نقل عنها أيضًا قد ضاعت ولم تبقَ منها سوى شذرة ضئيلة
لا
تُثبت شيئًا.
لا يزال العلماء — كما قلت — مختلفين حول تفسير «البروتريبتيقوس» وترتيب أجزائه،
وذلك
منذ أن بدأ «ييجر» محاولاتهم المستمرة حتى
اليوم، ولكنهم لا يختلفون في أصل النص الذي
وردت أجزاء كبيرة منه عند «يامبليخوس» (في كتاب اختار له نفس الاسم) والمؤرخ اليوناني
«ستوبايوس». وكذلك في إحدى برديات «أوكسيرنكوس» تحت رقم ٦٦٦-٤.
١١ ولقد مضى أكثر من قرن على الفرض السابق الذكر الذي قدمه «بايووتر» مع نصوص
الكتاب التي وجدها عند يامبليخوس ورجَّح نسبتها لأرسطو. واتصلت المناقشات حول هذا الفرض
طوال هذا الزمن قبل أن يفكر أحد في نقد النص منهجيًّا أو يشرع في تحليل كلماته وأسلوبه
ومضمون معانيه وتطابقها مع نظائرها في سائر كتبه البعيدة عن الشك، ولا نريد أن ندخل في
دقائق هذه التحليلات اللغوية والنقدية المضنية للأسباب التي ذكرناها من قبل، ولكننا
نكتفي بالإشارة الموجزة إلى أهم هذه المحاولات لعلها تقدم لنا لمحة عن عمق البحث العلمي
الذي نكتفي في العالم العربي بالوقوف عند سطحه أو نهب زبده ورذاذه!
ربما كان الأستاذ السويدي «انجمار ديرنج» هو أهم هؤلاء الباحثين الذين عكفوا على
هذا
الكتاب؛ فقد نشر [ثلاثة أبحاث كبيرة]
١٢ عن الكتاب نفسه وعن أرسطو وعرض تفكيره وتفسيره، وقدَّم النص اليوناني وحلل
كلماته وأسلوبه وقابله بكلمات الكتب الأرسطية المُعتمَدة وأسلوبها وأفكارها الأساسية
كما قدم معه ترجمة ألمانية للنص المُختلَف عليه، والنص الذي قدمه وأعاد بناءه يضم ٦٤٠٠
كلمة وضع فهرسًا لسبعمائة كلمة مختلفة منها ثَبَتَ له أن اثني عشرة كلمة منها فقط لا
وجود لها في كتب أرسطو الأصيلة، وإن كانت من الكلمات المألوفة عند أفلاطون أو عند
كُتَّاب العصر، والأهم من هذا أنه قدم الأدلة الكافية على أن أسلوب الكتاب في أدق
تفاصيله أسلوب أرسطي لا غبار عليه، وحتى المواضع التي يعمد فيها «يامبليخوس» إلى اختصار
النص الأصلي أو التعبير عنه بأسلوبه إلى حد الخروج في بعض الأحيان عن أسلوب المُعَلِّم
الأَول وأفكاره؛ إنما تدل جميعها على أن هذا الأفلاطوني الجديد قد نقل عن أرسطو في معظم
الأحوال فقرات طويلة نقلًا حرفيًّا لا شك فيه، سواءٌ من كتابه المذكور أو من بعض
كتاباته الأخرى التي تولَّى نشرها بنفسه (وهي الكتب المنشورة أو غير العلمية بالمعنى
الدقيق التي كان يقصد بها عامة المثقفين؛ تمييزًا لهم عن الكتب «المستورة» أو الفلسفية
البحتة التي كانت تُدرَّس في اللوقيون). ولقد رجَّح الباحث السويدي أيضًا أن هذا
الاختصار والترتيب من جانب يامبليخوس لم يُغرِه مع ذلك بتزييف النص أو خلطه بنصوص
أفلاطونية أو غير أفلاطونية غريبة عليه؛ ولهذا يبقى احتمال أصالة النص أكبر من عدم
احتماله؛ إذ يستحيل كما قدمنا أن يُقطع في أمره على وجه اليقين،
١٣ كما أن المحاولات المختلفة لترتيب النص ستظل محاولات لا تختلف بعضها عن
بعضٍ إلا بقدر ما يقدم كلٌّ منها من الأدلة العلمية والنقدية، وبقدر ما تعتمد على الحجة
والبرهان، وهي كلها دليل متجدد على أن العلم نفسه محاولة، وسيبقى محاولة بشرية لا
يفسدها إلا الكذب والتسرع وادعاء اليقين المطلق.
تلك — باختصار — هي محاولة «ديرنج» التي انتهى منها إلى أن الذي أعاد ترتيبه وتحقيقه
نصٌّ أرسطي أصيل، وأننا نملك الجزء الأكبر من الكتاب أو المحاورة المفقودة، بل إننا
نستطيع أن نحدد بدايته ونهايته بما يشبه اليقين، كما نستطيع أن نضع أسلوبه وأفكاره
ومنهجه في إقامة الحُجة
١٤ والاستشهاد بأمثلة من الحكمة الشعبية … إلخ في سياق الفلسفة الأرسطية على
وجه الإجمال.
•••
بقي أن نشير إلى محاولتين أخريين في بناء النص وتحقيقه قام بهما
الأستاذان أ. ﻫ. كروست، وج. شنفيس، أما الأول فقد
تابع «ديرنج» صراحة في تحقيقه للنص وتفسيره له وأضاف إليه بعض التعديلات التي لا تستحق
الذكر،
١٥ وأما الثاني فقد اكتفى بنشر النص اليوناني كما تراءى له بغير ترجمة حديثة
ولا تعليقات، وذلك في رسالة للدكتوراه قدمها في سنة ١٩٦٦ إلى جامعة ميونخ.
١٦ ويختلف ترتيب النص في هذا البحث اختلافًا كبيرًا عن طبعة «ديرنج»؛ فالمؤلف
يعتمد — بجانب النص المأثور عن يامبليخوس — على مواضع مختلفة من نصوص أرسطو المعروفة
في
كتبه التعليمية (كالأخلاق الأويديمية، والأخلاق النيقوماخية والسياسة، ومقالة الألفا
من
كتاب الميتافيزيقا)، بل يضيف إليها نصوصًا أخرى من كتب مؤلفين مختلفين — مثل
«بروتريبتيقوس» المنسوب لإيزوقراطيس (المعاصر لأرسطو) والمُهدى إلى دومينيقوس — بجانب
نصوص من كتابات سترابو
١٧ وجالينوس،
١٨ وديوجينيس لائيرتوس،
١٩ وسينزيوس، وستوبايوس. ويضم الباحث كل هذه النصوص إلى نص يامبليخوس وبردية
أكسيرنكوس اللذين اعتمد عليهما «ديرنج» و«فلاشار»، وذلك دون أدنى مبرر مقنع يُسوِّغ
ضمها إليه أو بالأحرى حشرها فيه؛ فقد تكون نصوصًا قريبة من أفكار الكتاب الأصلي، ولكن
وضعها فيه أمر يثير التساؤل ولا يساعد على مزيد من الفهم والاقتناع.
ولا شك أن الحكم على مثل هذه المحاولات وترجيح إحداها على الأخرى أمر يستلزم إتقان
اللغة الأصلية التي كتب بها أرسطو، والاطلاع الدقيق على تفاصيل مذهبه والمعرفة الحقيقية
بتطور تفكيره، وهي أمور — لا أمر واحد! — لا يستطيع كاتب السطور أن يدَّعيها لنفسه. إن
محاولته تقديم هذه الدعوة الملحَّة إلى الفلسفة لقارئه العربي ستظل أضعف هذه المحاولات
وأكثرها تواضعًا، وإن كانت هي كل ما استطاع تقديمه في حدود علمه وجهده، وندرة المراجع
التي بين يديه!
•••
وأخيرًا فلا بد منذ ذكر بعض الملاحظات عن أسلوبي في تعريب النص والتعقيب عليه في
الهوامش والتعليقات الملحقة به، والزيادات التي رأيت إضافتها إلى النص نفسه رغبة في
المزيد من الوضوح.
لقد قرأت النص فأذهلتني الكنوز التي ينطوي عليها، وأعدت قراءته مرات قبل أن يتحرك
في
نفسي الدافع الملحُّ لنقله إلى العربية. كنت في البداية أستبعد الفكرة لإشفاقي مما
ستسببه من عناء، ولعلمي بأن معرفتي المتواضعة باللغة اليونانية لا تسمح لي بمواجهة النص
ومشكلاته وتحدياته (وكنت قد تعلمت هذه اللغة قبل عشرين سنة ثم طحنتها مرارة الأيام!)
ولكن حبي للنص وإعجابي بعظمة صاحبه لم يتركا لي فرصة للتردد، رحت أنقله وأراجع كلَّ
كلمة وكل سطر على الترجمة الألمانية الحديثة المواجهة له في الطبعة التي بين يديَّ،
وإذا كان من حقي أن أقول بأنني استوعبت النص الأصلي — باستثناء عبارات قليلة أشرتُ
إليها في الهامش — فإن من واجب الأمانة أن اعترف بأنه لولا الترجمة الألمانية التي قام
بها الأستاذ «ديرنج» ما تأكدت من صحة عبارةٍ واحدة نقلتها، ولا تجرأت أصلًا على هذه
المحاولة، ولهذا يطيب لي أن أسجل شكري وعرفاني بجهود هذا العالم الجليل؛ ففضله عليَّ
وعلى هذا الكتاب الذي بين يديك لا يُمكن أن يجد الكلمات التي تفيه حقه.
وقد اعتمدت على شروح محقِّق النص وناشره، واستعنت بها على كتابة الهوامش والتعليقات،
ولم أشأ أن أُثقل على القارئ العربي بكلمات يونانية لم أجد داعيًا للإكثار منها،
فاكتفيت بالإشارة في الهامش لما وجدته ضروريًّا لا غنى عنه في التعرف على المصطلحات
الأرسطية الأساسية، ولكني لم أستطع في نفس الوقت أن أهمل حاجة الباحث المتخصص في الفكر
اليوناني عمومًا والفكر الأرسطي بوجهٍ خاص إلى مزيد من التفاصيل، فأضفت التعليقات التي
تجدها ملحقة بالنص، واعتمدت في جانبها الأكبر على تعليقات الناشر نفسه، مع إضافات يسيرة
لا تقلل — بل تزيد — من امتناني له وعرفاني بفضله، وقد كان الإغراء بالمزيد من
التفصيلات كبيرًا، وكان من الممكن الرجوع إلى المصادر المشار إليها (وخصوصًا محاورات
أفلاطون وبالأخص الجمهورية) رغبة في المزيد من التعمق في جذور الفلسفة الأرسطية والتعرف
إلى «الآباء» الذين يَنحدر منهم نص هذا الكتاب وكثير من عباراته، ولكنني اقتصرت على
التوسع — المحدود — في بعض الجوانب الهامة عن فلسفة أرسطو، حتى يخرج القارئ بتصور مجمل
عن جذور شجرته وثمارها، ويرتبط هذا الكتاب في ذهنه بقدر الإمكان بالسياق العام لتفكير
المُعَلِّم الأَول وتطوره.
وقد دفعتني الرغبة في الوضوح والتيسير على القارئ أن أضع بين قوسين كلمات تربط بين
عبارات أرسطو المعروفة بالتركيز المرهق والإيجاز الشديد، كما التزمت بالترقيم العلمي
الذي وضعه الناشر المحقق لفقرات الكتاب، وهو تقليد مُتَّبع في سائر الطبعات المعتمدة
لأرسطو وغيره من الكُتَّاب الكلاسيكيين. ويُهمني قبل كل شيء وبعد كل شيء أن يجد القارئ
في هذا الكتاب — بجانب الفائدة العلمية الخالصة — شيئًا من المتعة والبهجة العقلية التي
أشاد بها المُعَلِّم الأَول وأوشك أن يجعلها غاية الحياة على هذه الأرض، وأمَلي أن يخرج
منه القارئ العربي وهو أقدر على التفلسف، أي على التفكير الكلي الحر الذي اشتدت حاجتنا
إليه مع توالي المِحَن والآلام.
بداية كتاب دعوة للفلسفة
إن تطلعك للمعرفة، أي عزيزي ثيميسون،
٢٠ وسعيك إلى الرفعة والحياة السعيدة أمور أعلمها عن طريق السماع، وإني لمقتنع
(ب١) بأنه ما من أحد يَملك أنسب مما تملك من مَلَكات
٢١ تُعينك على الإقبال على الفلسفة؛ فأنت غني بحيث يمكنك أن تُنفق على تعلُّمها،
٢٢ وأنت كذلك تحتل مكانة مرموقة، ويعتقد معظم الناس أن الحياة السعيدة تعتمد
على امتلاك الخيرات الخارجية، وهم «لا يذهبون إلى هذا الرأي» بغير مبرر؛ فنحن نلاحظ أن
بعض الناس يوفَّقون في جميع شئونهم ويبلغون النجاح على الرغم من حُمقهم، ولا شك أنك
صادفت في حياتك حالات أخرى حَدَث فيها العكس، وقد يمكنك، من معرفتك بالماضي أو من
تجربتك الخاصة، أن تتذكر عددًا من الوقائع التي كان فيها الغرور سببًا للسقوط.
٢٣ لقد عرفت رجالًا أسرفوا في الثقة بالثروة والحظ والقوة ولهذا قُضي عليهم
بالانحدار «إلى هاوية» الشقاء، وعلى قدر تفوقهم السابق في النجاح يشتد عمق إحساسهم
بالإخفاق وسوء الحظ، ويشعرون بالخجل من أن وضعهم الحاضر (ب٢) لا يحفزهم على النهوض بما
يرونه واجبًا (مفروضًا) عليهم.
ولمَّا كنا نلمس
٢٤ نَكَد الطالع الذي يُلمُّ بهؤلاء الناس، فإن علينا أن نتحاشى مثل هذا
القَدَر ونعلم أن السعادة في الحياة لا تقوم على امتلاك الثروة الكبيرة، وإنما تعتمد
على الحالة النفسية الطيبة.
٢٥ وكذلك الأمر فيما يتعلق بالجسم؛ فلن يصف إنسان أحدًا من الناس بأنه «مبارك
الحظ من الآلهة» لمجرد أنه يرتدي ثيابًا فخمة، بل سيخلع هذه الصفة على من وُهِب الصحة
وتمتع بالمزاج الصحيح، حتى ولو لم يكن له أدنى نصيب من الزخرف الخارجي.
٢٦ وبالمثل لا يصف المرء نَفْسًا بأنها سعيدة إلا إذا كانت نَفْسًا مثقفة، ولا
إنسانًا بالسعادة إلا إذا كان مهذبًا، ولكننا نمنع هذه الصفة عمَّن يتحلى بمظاهر الزينة
الفخمة دون أن يكون له أية قيمة في ذاته، ويصدق هذا أيضًا على الحصان؛ فمهما يكن من
لجامه الذهبي وحلاه الثمينة فلن نُضفي عليه أي قيمة ما دام لا يصلح لشيء غير ذلك،
وسنفضِّل عليه حصانًا آخر «نتوسَّم فيه» الصفات الطيبة.
٢٧ (ب٣) ثم إن من عادة المنحطِّين من الناس
٢٨ إذا حصلوا على ثروة طائلة أن يُقدِّروا قيمة هذه الثروة تقديرًا يفوق
تقديرهم لخبرات النفس، وهذا هو أحقر شيء (يمكن تصوُّره). ولو ظهر سيد في مظهر مَن هو
أقل شأنًا من خَدَمه لأصبح عُرضة للسخرية والاستهزاء، وكذلك يتحتَّم علينا أن نَحشر في
زمرة التعساء
٢٩ أولئك الذين يجعلون لاكتساب الثروة أهمية تفوق «العناية» بطباعهم وأخلاقهم.
(ب٤) والواقع أن هذه هي الحقيقة؛ فالتخمة — كما يقول المثل السائر — تلد الغطرسة، وإذا
ما اقترن النقص في التربية
٣٠ بالقوة والسلطة تولَّد عن ذلك الجنون، وأولئك الذين ساءت نفوسهم لن ينفعهم
الثراء ولا القوة ولا الجمال شيئًا، بل كلما توافرت هذه الأمور ازداد ضررها على صاحبها
عمقًا وتنوعًا، وذلك إن لم تقترن بالتبصر (والحكمة).
٣١ إن المثل القائل: «لا تعطِ السكين للطفل» يعني ألا تضع القوة في أيدي الرعاع.
٣٢ (ب٥) إن التبصر الفلسفي
٣٣ — وهذا ما سوف يوافقنا عليه الجميع — هو ثمرة الجهد الجاد والبحث عن
الأشياء التي تؤهلنا الفلسفة للبحث عنها؛ لهذا يتحتم علينا — دون لجوء إلى مماحكات
لفظية — أن نتفلسف.
(ب٦) إن كلمة «التفلسف» تدل من ناحيةٍ على السؤال عمَّا إذا كان من واجب الإنسان
أن
يتفلسف، كما تدل من ناحيةٍ أخرى على أنْ نهَب أنفسنا للفلسفة. (ب٧) لمَّا كنا نتوجَّه
بحديثنا إلى أناس من البشر لا إلى أولئك الذين لهم حياة ذات طبيعة إلهية، فلا بد أن
نضيف إلى تلك التنبيهات
٣٤ (السابقة) تنبيهات أخرى نافعة في الحياة الاجتماعية والعلمية.
وفي هذا الصدد نقول: (ب٨) إن ما يقع تحت تصرفنا لتيسير شئون الحياة، كالجسد وما يخدم
الجسد، إنما يقع تحت تصرفنا كنوع من الأداة، واستخدام هذه الأدوات مقرون بالخطر؛ فهي
تؤدي إلى عكس نتيجتها «على يد» أولئك الذين لا يُحسنون استعمالها؛ ولهذا يجب علينا أن
نسعى إلى معرفةٍ تُعينُنا على استخدام كل هذه الأدوات على الوجه الصحيح، كما يجب علينا
أن نسعى إلى تحصيل هذه المعرفة وتطبيقها بطريقة ملائمة، يجب علينا أن نصبح فلاسفة إذا
أردنا أن نصرِّف شئون الدولة بصورة صحيحة، ونشكِّل حياتنا الخاصة بطريقة نافعة. (ب٩)
بَيْد أن المعرفة على أنواع مختلفة، فهناك المعرفة التي تُنتج خيرات الحياة، وهناك
المعرفة التي تستخدمها، وثَمة تقسيم آخر؛ فهناك أنواع المعرفة التي تخدم وتطيع، وهناك
الأنواع التي تأمر، والأنواع الأخيرة أعلى درجة، وفيها يكمن الخير بمعناه الحقيقي.
ولمَّا كان هذا النوع الوحيد من المعرفة الذي يتوصل للحكم الصحيح ويستخدم العقل ويضع
الخير في مجموعه نُصب عينيه — ونعني به الفلسفة — هو الذي يستطيع الانتفاع بسائر أنواع
المعرفة وتوجيهها وفق قوانين الطبيعة،
٣٥ فإن هذا دليل آخر على ضرورة التفلسف.
ذلك أن الفلسفة وحدها تنطوي على الحكم الصحيح والتبصُّر المعصوم (من الخطأ)
٣٦ الذي يملك القدرة على تحديد ما ينبغي علينا أن نأتي من الأفعال وأن ندع.
(ب١٠) دعنا الآن نتعمق سؤالنا ونتأمله من وجهات النظر الغائية لكي نصل إلى نفس التنبيه
(السابق).
٣٧
(ب١١) من بين الأشياء التي تنشأ «وتُكوِّن» ما يُدين «وجود» بعضه للتدبير «العقلي»
والمقدرة «البشرية على الصنعة»
٣٨ — كما هو الحال في البيت والسفينة اللذين يشترطان المقدرة والتدبير — في
حين أن بعضها الآخر لا ينشأ عن طريق المقدرة البشرية «على الصنعة»، بل بواسطة الطبيعة،
إن الطبيعة هي الأصل
٣٩ في الحيوانات والنباتات، وكل نشوء من هذا النوع يتم وفقًا للطبيعة، ولكن
هناك أيضًا أشياء تنشأ عن طريق الصدفة، ونحن نقول عن معظم الأشياء التي لا تنشأ عن طريق
الصنعة ولا الطبيعة ولا الضرورة (نقول): إنها تنشأ عن طريق الصدفة، (ب١٢) وليس فيما
ينشأ عن الصدفة شيء له هدف أو غاية
٤٠ (من كونه ونشوئه). أما الأشياء التي تنشأ عن المقدرة البشرية (على الصنعة)
فلها غاية وهدف؛ «لأن من يملك المقدرة سيُبيِّن لك دائمًا لماذا كتب ولأي هدف»، وهذا
الهدف (نفسه) أفضل من الشيء الذي نشأ من أجله.
٤١ وأنا أتكلم عن الأشياء التي تكون العلة فيها هي المقدرة في ذاتها لا بطريقة
عَرَضية فحسب، فإن الشفاء هو بالتأكيد علة الصحة قبل أن يكون علة المرض، وفن البناء هو
علة «تشييد» البيت لا علة الهدم؛
٤٢ فكل ما ينشأ عن طريق المقدرة البشرية إنما ينشأ من أجل «تحقيق» هدف معين،
وهذه هي غايته وأفضل شيء «بالنسبة له». أما ما ينشأ عن طريق الصدفة فلا ينشأ لهدف، ومع
ذلك فقد يتفق أن يتولَّد عن الصدفة بعض الخير، غير أنه لا يكون خيرًا من خلال الصدفة
ومن حيث نشأته عن طريق الصدفة؛ لأن ما ينشأ عن طريقها يكون دائمًا غير محدد. (ب١٣) إن
ما ينشأ وفقًا للطبيعة إنما ينشأ لأجل هدف بحيث يكون النتاج الطبيعي دائمًا أكثر ملاءمة
للهدف من النتاج الفني؛ فليست الطبيعة هي التي تُحاكي الصنعة «البشرية»، بل هذه هي التي
تُحاكي الطبيعة، كما أن المقدرة البشرية (على الصنعة) قد وجدت لمساندة الطبيعة وإكمال
ما تركته ناقصًا؛
٤٣ ذلك لأن من بين الموجودات ما يبدو أن الطبيعة وحدها قادرة على إتمامه
بنفسها دون حاجة إلى مساعدة، ومن بينها الآخر ما لا تتمكن «من إكماله» إلا بالجهد أو
تعجز عنه عجزًا تامًّا، ويتضح هذا لدى نشوء الكائنات الحية؛ فبعض البذور تتفتح دون أدنى
«قدر من» الرعاية، أيًّا كانت الأرض التي تسقط عليها، أما بعضها الآخر فيحتاج إلى فن
الزراعة، وكذلك تستطيع بعض الكائنات الحية أن تنمو بنفسها نموًّا كاملًا وأن تبلغ
النضج، على العكس من الإنسان الذي يحتاج إلى عدد كبير من المهارات الضرورية للمحافظة
«على حياته»، وهو يحتاج إليها في البداية بعد ولادته مباشرة، ثم يحتاج إليها بعد ذلك
لتغذيته؛ (ب١٤) فإذا كانت القدرة البشرية (على الصنعة) تُحاكي الطبيعة، فمن الواضح أن
غائية منتجات القدرة البشرية أمر يعتمد على الطبيعة، ويصح لنا أن نقول: إن كل ما ينشا
نشأة سليمة إنما ينشا من أجل هدف (معين)؛ فكل ما يؤدي إلى شيء جميل قد نشأ نشأة صحيحة،
وكل ما ينشأ أو قد تم نُشؤه بالفعل يُنتج شيئًا جميلًا حتى تتم العملية الطبيعية بصورة
سوية، أما ما يشذُّ عن الطبيعة فهو رديء ومضاد لما يوافق الطبيعة، وهكذا تتم النشأة
٤٤ السوية المطابقة للطبيعة لأجل تحقيق هدف معين، (ب١٥) ويمكننا أن نتبين هذا
«من ملاحظة» كل جزء من أجزاء جسمنا على حدة، فإذا تأملت الجفن مثلًا وجدت أنه لم يتكون
«عبثًا» ولغير هدف، وإنما وجد لحماية العينين وتوفير الراحة لهما والحيلولة دون نفاذ
شيء من الخارج إليهما، ونحن نقصد نفس الشيء عندما نقول: إن الأشياء الطبيعية قد تكونت
٤٥ لتحقيق هدف معين، أو عندما نقول: إن الأشياء المصنوعة
٤٦ قد أُنتِجت لغرض ما، فعندما يتم بناء سفينة لنقل البضائع عن طريق البحر
يكون الهدف المقصود من بنائها قد قُدِّم بالفعل. (ب١٦) إن جميع الكائنات الحية أو (على
الأقل) أفضلها وأرفعها قدرًا قد نشأ عن الطبيعة وفي تطابق مع الطبيعة، ولا معنى
للاعتراض على هذا بأن أغلب الحيوانات قد نشأ ضد الطبيعة، أي للإفساد وإلحاق الأذى
والضرر. إن أسمى الكائنات الحية (التي تعيش على الأرض) هو الإنسان، وهذا يدل بوضوحٍ على
أنه قد نشأ نشأةً طبيعيةً وفي تطابُق مع الطبيعة؛ (ب١٧) فإذا كان الهدف دائمًا أفضل من
الشيء (إذ إن كل شيء يكون — أو ينشأ — من أجل الهدف، كما أن اﻟ «لماذا»
٤٧ هي الأفضل على الدوام بل تفوق جميع الأشياء في الفضل)، وإذا كان الهدف
المطابق للطبيعة هو آخر ما يتوصل إليه في مجرى الكون الطبيعي
٤٨ عندما يسير هذا سيرًا متصلًّا نحو الكمال،
٤٩ وإذا سلَّمنا إلى جانب هذا بأن الجسد هو أول ما يبلغ الكمال عند الإنسان،
ثم يأتي بعده ما يتعلق بالنفس، وإن كمال الأفضل بالنسبة للكون (النشوء) إنما يأتي على
نحوٍ من الأنحاء دائمًا فيما بعد، وإذا سلَّمنا بعد هذا بأن النفس تنشأ متأخرة عن الجسم،
٥٠ وأن آخر ما ينشأ من «مَلَكَات» النفس هو ملكة العقل؛
٥١ «إذ إننا نلاحظ أن هذه الملكة هي بطبيعتها آخر ما يتكون عند الإنسان؛ ولهذا
كانت هي الخير الوحيد الذي تطمح الشيخوخة إلى امتلاكه.» إذا سلَّمنا بهذا كله تبين لنا
أن ملكة العقل بحسب طبيعتها هي هدفنا، وأن استخدامها هو الغاية الأخيرة التي من أجلها
نشأنا، وإذا صح القول بأننا قد وُجدنا
٥٢ وفقًا للطبيعة، فقد اتضح أننا نعيش أيضًا لكي نفكر في شيء ولكي
نتعلم.
(ب١٨) دعنا نسأل الآن لأي موضوع من موضوعات الفكر (القائمة) قد أوجدنا الله؟ عندما
سُئل فيثاغورس عن هذا أجاب بقوله: «لكي أتأمل السماء»،
٥٣ وقد تعوَّد أن يصف نفسه بأنه «إنسان» يتأمل السماء وأنه إنما جاء إلى
الحياة من أجل هذا الغرض. (ب١٩) ويُروى أيضًا عن أنكساجوراس أنه سُئِل عن الهدف الذي
يمكن أن يبتغيه الإنسان من مولده وحياته فأجاب، بقوله: لكي يتأمل السماء والنجوم
«الطالعة» فيها والقمر والشمس، وكأن كل ما عدا ذلك لا يستحق عناء الجهد.
٥٤ (ب٢٠) هكذا يكون فيثاغورس قد زعم بحق
٥٥ أن كل إنسان قد أوجده الإله لكي يعرف وينظر ويتأمل، وسواءٌ أكان موضوع هذه
المعرفة هو «نظام» الكون أم أي طبيعة أخرى، فذلك أمر قد نفحصه فيما بعد، ويكفي الآن ما
قلناه ليكون أساسًا نعتمد عليه، وما دامت الغاية — بمقتضى الطبيعة — هي مَلَكة
التعقُّل، فإن أفضل الأشياء هو استخدامها «في التدبُّر والتفكير»؛ (ب٢١) لهذا يجب على
المرء أن يعلم سائر الأشياء من أجل الخير الكامن في الإنسان نفسه، ومن «مجموع» هذا
الخير «يقوم» بالأمور الجسيمة من أجل «الأمور» النفسية، «ويُؤثِر» الفضيلة من أجل
مَلَكة التعقل؛ لأن هذه هي أسمى الأشياء جميعًا.
(ب٢٢) وتقودنا الفكرة التالية إلى نفس الهدف (وهو أن من يريد أن يكون سعيدًا فلا
بد
له أن يتفلسف). (ب٢٣) لمَّا كان النظام يسود الطبيعة كلها، فإنها لا تفعل شيئًا
بالصدفة، وإنما توجِّه كل شيء نحو هدف محدد، وهي حين تستبعد الصدفة (والاتفاق)
٥٦ تحرص على تحقيق الهدف (أو الغاية) بقدر يفوق كل فن بشري؛ إذ إن الصنعة البشرية،
٥٧ كما نعلم، محاكاة للطبيعة. ولمَّا كان الإنسان يتألف بحسب طبيعته من نَفْس
وجسد، وكانت النفس أعلى قيمة من الجسد، كما كان الأقل شأنًا يندرج دائمًا تحت الأفضل
في
سبيل تحقيق هدف معين، فإن وجود الجسد إنما يكون من أجل وجود النفس، ونحن نعلم أن النفس
تكون في جزء منها عاقلة، وفي جزء آخر غير عاقلة، وأن الجزء غير العاقل منها أقل قيمة
(من العاقل). ونستنتج من هذا أن الجزء غير العاقل يوجد من أجل الجزء العاقل، والجزء
العاقل يحتوي على العقل،
٥٨ وهكذا يسوقنا البرهان ضرورة إلى «القول» بأن كل شيء يوجد من أجل العقل.
(ب٢٤) إن فاعلية العقل هي التفكير،
٥٩ والتفكير يقوم على النظر في موضوعات الفكر،
٦٠ على نحو ما تكون فاعلية «عضو» الإبصار هي رؤية المرئيات، هكذا يجعل الفكر
والعقل كل شيء جديرًا بأن يسعى إليه بنو الإنسان؛
٦١ إذ تكون بقية الأشياء جديرة بالسعي إليها من أجل النفس، والعقل هو أرفع
الأمور قيمةً في مجال النفس، ومن أجله (وحده) يكون كل شيء آخر، (ب٢٥) وتكون بعض الأفعال
العقلية حرة حرية كاملة، وهي الأفعال التي تتحقق لذاتها،
٦٢ أما الأفعال العقلية التي تُنتِج المعارف لأجل أي شيء آخر فهي تُشبه الخدم.
إن كل ما يتم فعله لذاته يفوق دائمًا في قيمته ما يكون «فعله» وسيلة لشيء آخر، وكذلك
يكون الحر أعلى قدرًا من غير الحر.
(ب٢٦) ونحن عندما نستعين في سلوكنا بالتفكير
٦٣ فإنما نهتدي بهديه حتى ولو وضع المتفكر مصلحته الخاصة نُصْب عينيه وحدد
أسلوب فعله وسلوكه من خلال وجهة النظر هذه، إنه ليستخدم جسده (عندئذٍ) كما يستخدم
الخادم، بل إنه ليضطر إلى إفساح مجال كبير للصدفة، وهو على العموم يُقبِل على تلك
الأفعال التي يقوم فيها التفكير (العقل) بدور أساسي، حتى لو استلزم الأمر منه في أغلب
أعماله أن يستخدم الجسد استخدام الأداة.
٦٤ (ب٢٧) وهكذا نرى أن التفكير المحض الخالص من الهدف أشرف وأقيم من التفكير
الذي يكون «مجرد» خادم «يُتوسَّل به» لبلوغ شيء آخر. إن التفكير الخالص يستمد شرفه من
ذاته، وحكمة «العقل» هي الشيء الذي يستحق «من الإنسان» أن يسعى لطلبه منه، كما أن
الفِطنة العملية في الحياة
٦٥ جديرة بالسعي إليها من أجل الفعل (أو السلوك)، وإذَن فالخير والشرف ملازمان
للتفكير الفلسفي قبل كل شيء آخر، وإن لم يلازما بطبيعة الحال أي نوع من هذا التفكير
كيفما اتفق؛ إذ ليس كل تصور بوجهٍ عام مقرونًا بالشرف، وإنما نتوقع من تفكير المعلم
الحكيم وحده
٦٦ — عندما يتجه هذا التفكير إلى المبدأ السائد في الكون — أن يكون قريبًا من
الحكمة وأن يكون حكمة بالمعنى الحقيقي.
٦٧
(ب٢٨) إن الإنسان إذا حُرم الإدراك الحسي والعقل فقد صار شبيهًا بالنبات، وإذا حُرم
العقل وحده تحوَّل إلى حيوان، أما إذا تحرر من غير المعقول
٦٨ وتمسَّك بالعقل فقد صار شبيهًا بالإله؛ (ب٢٩) ذلك أن العقل، الذي نتميز به
عن سائر الكائنات الحية، لا يتحقق بصورة كاملة
٦٩ إلا في ذلك الشكل «من أشكال» الحياة الذي لا يعترف بالاتفاق (والصدفة)
٧٠ ولا بما هو عديم القيمة، صحيح أن لدى الحيوانات ومضات ضئيلة من الفِطنة
والعقل، غير أنها لا تتمتع بأدنى نصيب من الحكمة النظرية،
٧١ فهذه الحكمة لا يُوصف بها غير الآلهة ولا تُنسَب إلا للعقل الإنساني،
٧٢ ومن جهة أخرى يتفوق كثير من الحيوان تفوقًا بعيدًا على الإنسان في حدة
الإحساس وفي الغرائز الطبيعية.
٧٣ (ب٣٠) والحقيقة أن الحياة العقلية هي «الشيء» الوحيد الذي لا يمكن فصله عن
الخير، ومن المعترف به بوجهٍ عام أنها متضمنة في تصور الخير، ذلك أن الرجل «النابه»
الرفيع القدر الذي يتبع في حياته «طريق» العقل هو الذي لا يقع ضحية للصدفة، بل يعرف
أكثر من غيره من الناس كيف يحرِّر نفسه من «كل» ما يخضع لها، فإذا استطعت أن تهب نفسك
دائمًا لهذه الحياة
٧٤ عن اقتناع كامل أمكنك أن تحيا حياة آمنة مطمئنة.
(ب٣١) نحن جميعًا نختار ما يكون في نفس الوقت ميسورًا ونافعًا،
٧٥ ومن ثَم يجب الاعتراف بأن الفلسفة
٧٦ تملك هاتين الصفتين، وأن صعوبة تحصيلها أقل من النفع الذي تتيحه؛ ذلك أننا
جميعًا نهتمُّ بأسهل «الأمور» وأيسرها، (ب٣٢) ومن السهل إثبات قدرتنا على اكتساب العلم
بما هو عادل ومفيد، كذلك على تحصيل المعرفة بالطبيعة وبالموجودات الحقيقية الأخرى.
٧٧ (ب٣٣) إن الأوَّليَّ والبسيط يكون على الدوام أكثر من الثانوي والمُركَّب،
٧٨ وكذلك يكون الأعلى في سُلم الأولويات الطبيعي معروفًا أكثر من الأدنى،
والمعرفة تنصرف «إلى الاهتمام» بما هو محدد ومنظم من الناحية المنطقية أكثر مما تهتم
بضده، كما تنصرف إلى «العلل» والمكونات الأساسية أكثر مما يترتب على هذه «العلل أو المكونات».
٧٩ والأشياء الطيبة تتفوق في تحددها
وتنظيمها على الأشياء السيئة
٨٠ على نحو ما يتفوق الإنسان المترفع
٨١ على الإنسان الوضيع، ومثل هذه الأضداد يتحتم أن تحمل نفس الصفات؛
٨٢ فالأوليُّ يحمل طابع العلة أكثر من الثانوي، فإذا انتفى ذلك فقد انتفى معه
ما تلقَّى عنه وجوده، وهكذا تنتفي الخطوط عندما تنتفي الأعداد، كما تنتفي السطوح
بانتفاء الخطوط والأجسام بانتفاء السطوح، وكذلك الأمر مع الكلمة عندما ينتفي المقطع،
ومع المقطع عندما ينتفي الحرف. (ب٣٤) ولمَّا كانت النفس أعلى قيمة من الجسد (لأنها بحسب
طبيعتها هي المسيطرة)، وكانت توجد فيما يتعلق بالجسد صنعة «بشرية»
٨٣ وعلم، كالطب والرياضة البدنية (اللذَين نصفهما بأنهما فرعان من فروع
المعرفة ونؤكد أن هناك نفرًا من الناس يتقنونهما) فمن الواضح أن الضرورة تقتضي وجود نوع
من الرعاية ومن الصنعة التي تتعلق بالنفس وفضيلتها، كما تستلزم أن نكون قادرين على
تحصيلهما؛ إذ إننا نملك القدرة على «اكتساب» معرفة بأمورٍ يكون جهلنا بها أكبر كما تكون
معرفتنا بها أشق وأصعب، (ب٣٥) ويصدق هذا على معرفة الطبيعة؛ فالتبصُّر بالعوامل الأساسية
٨٤ في الطبيعة وبأبسط عناصرها يكون منذ البداية أكثر ضرورة من التبصُّر بما قد
نشأ عنها (بصورة ثانوية لاحقة)؛ إذ إن هذا الأخير لا ينتمي للأشياء الأولى من الناحية
المبدئية،
٨٥ كما أن الأوليَّ لا يُستمد منه وجود، بل إن من الواضح أن سائر الأشياء تنشأ
عن ذلك الأوليِّ وعن طريقه تُوجد. (ب٣٦) ومهما تكن النار والهواء والعدد أو أي «طبائع»
أخرى هي العوامل الأساسية،
٨٦ ومهما تكن هي الأولية بالنسبة «للموجودات» الأخرى، فمن المستبعد في كل
الأحوال أن نعرف أي شيء عن هذه ما لم نعرف تلك،
٨٧ إذ كيف يتسنَّى لأحد أن يفهم الكلمات المنطوقة إذا كان لا يعرف المقاطع، أو
كيف يمكنه أن يفهم المقاطع إذا كان لا يعرف شيئًا عن
الحروف؟ (ب٣٧) ليكن هذا هو «صفوة» القول عن
وجود علم بالحقيقة
٨٨ وعلم بفضيلة النفس وعن قدرتنا على تحصيلها.
(ب٣٨) أما أن هذا «التبصُّر بالمبادئ» هو أعظم الخيرات وأنه أنفع من كل ما عداه،
فلذلك ما سيتضح مما سنقوله بعد، إننا جميعًا متفقون «في الرأي» على أن أرفع الرجال
خلقًا وأشدهم بطبيعته قوة هو الذي ينبغي أن يتولى الحكم،
٨٩ كما أننا متفقون على أن القانون وحده هو الحاكم والسيد، ذلك القانون الذي
يُعبِّر منطوقه عن حكمة وبصيرة، (ب٣٩) ومَن ذا الذي يمكنه أن يمثل لنا المعيار الدقيق
ويكون لنا بمثابة الدليل «الهادي» إلى الخير غير الإنسان الحكيم
٩٠ (في خُلُقه وسلوكه). إن الأمر الذي يختاره، حين يتم اختياره على أساس من
الروية والعلم هو الخير، أما الضد (المخالف له) فهو الشر. (ب٤٠) إن جميع الناس يميلون
إلى اختيار ما يلائم طباعهم؛ فالعادل يختار الحياة العادلة، والشجاع حياة الشجاعة،
والبصير العاقل حياة التبصُّر والعقل، ومن هذا يتضح كذلك أن الإنسان الذي وُهِب ملكة
العقل
٩١ سيختار الفلسفة؛ لأن التفلسف هو مهمة هذه المَلَكة، ومن هذا الحكم الصادر
بأقصى درجة من اليقين يتبين أن ملكة التعقل
٩٢ هي أسمى الخيرات جميعًا، (ب٤١) ويتضح صدق هذه القضية مما سيأتي قوله. إن
التأمل والمعرفة جديران بأن يسعى إليهما الإنسان؛ إذ بغيرهما يستحيل على المرء أن يحيا
الحياة التي تليق بإنسانيته، ولكنهما كذلك نافعان للحياة العملية، فما من شيء «يمكن أن»
يبدو لنا خيرًا إن لم تتحقق الغاية منه عن طريق التدبر والنشاط العاقل الحكيم.
٩٣ وسواءٌ أكانت الحياة السعيدة تكمن في البهجة والهناء أم في الفضيلة (والسمو
الخُلقي) أم في التعقل (وممارسة العقل)، فلا بد للإنسان في كل هذه الأحوال من أن
يتفلسف؛ لأننا لا نتوصل إلى الرأي الواضح في كل هذه الأمور إلا عن طريق التفلسف.
٩٤ (ب٤٢) إن مَن يبحث في كل علم عن نتيجة مختلفة عنه ويتطلب من كل معرفة أن
تكون نافعة
٩٥ إنما يجهل تمام الجهل مدى الفارق الأساسي بين ما هو خير وما هو ضروري، وإنه
في الواقع لفارق عظيم؛ ذلك أن تلك الأشياء التي نحبها من أجل شيء آخر ولا نستطيع أن
نعيش بغيرها، هي الأشياء التي نصفها بأنها ضرورية وعلل مصاحبة، أما «الأشياء» التي
نحبها لذاتها، حتى ولو لم ينتج عنها شيء آخر، فهي التي نصفها بأنها خيرات بالمعنى
الصحيح لأن الواحد «منها» ليس جديرًا بالاختيار من أجل شيء آخر، وهلم جرًّا إلى ما لا
نهاية؛ إذ لا بد من التوقُّف في موضع ما، والحق أنه لمن السخرية أن نبحث في كل شيء عن
منفعة مختلفة عن الموضوع نفسه، ومن المضحك أن نسأل «فيمَ ينفعنا هذا؟» و«لأي غرض يمكننا
أن نستخدم هذا؟» فالذي يتكلم على هذا النحو لا يمكن بأي حال من الأحوال — كما هي عادتي
في القول
٩٦ — أن يُشبَّه بذلك الذي يعرف النُّبل والخير ويستطيع التفرقة بين العلة
والعلة المصاحِبة.
(ب٤٣) وربما كانت «أفضل وسيلة» لمعرفة حقيقة قولي أن ينقلنا أحد عن طريق الفكر
٩٧ إلى جُزر السعداء، هنالك لن نشعر بأننا في حاجة إلى شيء،
٩٨ ولن يتيح لنا أي شيء من الأشياء الأخرى أية منفعة، ولن يتبقَّى (لنا) إلا
شيء واحد هو التفكير والتفلسف،
٩٩ أي هذا الذي نصفه الآن بالحياة الحرة، وإذا صحَّ هذا،
١٠٠ فكم يحق للواحد منا أن يخجل من نفسه إذا ما أتيحت له فرصة
١٠١ الإقامة في جزر السعداء، «فأقعده» العجز والتقصير عن اغتنامها؛ ولهذا فإن الجزاء
١٠٢ الذي تمنحه المعرفة للإنسان لا يدعو أبدًا للاحتقار، كما أن الخير الذي
يتمخَّض عنه غير قليل، وكما أننا نحصد ثمار العدالة في «هاديس»
١٠٣ — على نحو ما يقول الحكماء من الشعراء — كذلك يجوز لنا أن نأمل في «حصد»
ثمرات الفلسفة من جزر السعداء؛
١٠٤ (ب٤٤) ولهذا لا يصح أن نبتئس إذا بدا لنا أن التفلسف غير نافع أو مفيد؛
١٠٥ لأننا لا نؤكد أنه مفيد وإنما «نؤكد» أنه خير، وأن ليس على الإنسان أن
يختاره من أجل شيء آخر، بل عليه أن يختاره لذاته، وكما أننا نسافر إلى «أوليمبيا»
لمشاهدة التمثيل نفسه، حتى ولو لم نحصل منه على مكسب آخر (إذ إن المشاهدة في ذاتها أكبر
قيمة من المال الكثير)، وكما أننا لا نتفرج على الاحتفالات المسرحية في الأعياد الديونيزية
١٠٦ لكي نأخذ شيئًا من الممثلين — فنحن في الواقع ننفق عليها من مالنا — وكما
أننا نقدر الكثير من المشاهد التمثيلية الأخرى تقديرًا يفوق ثروة وفيرة من المال، فسوف
يقدِّر المرء تأمل الكون تقديرًا يفوق (في قيمته) كل تلك الأشياء التي تُعد في نظر
الرأي العام «أشياء» نافعة.
١٠٧ وليس يصح بغير شك أن يبذل الإنسان الكثير من الجهد في السفر إلى أناس
يظهرون (على المسرح) في صورة نساء وعبيد، أو يتنافسون (في الألعاب الأوليمبية) على
المبارزة والسباق (في العَدْو)، ثم يذهب من ناحيةٍ أخرى إلى أن الإنسان لا ينبغي عليه
أن يتأمل طبيعة الأشياء «أو يتأمل» الحقيقة بغير مقابل (مادي). (ب٤٥) وهكذا نكون الآن
قد تقدمنا (على طريق بحثنا) من غائية الطبيعة بوصفها المنطلق (الذي نبدأ منه) للتنبيه
إلى «ضرورة» التفلسف، مقتنعين بأن التفلسف خير وأنه إذا أُخِذ في ذاته جدير بالشرف
والتكريم، حتى ولو لم يترتب عليه شيء نافع في الحياة العملية.
١٠٨
(ب٤٦) أمَّا أن نشاط الفكر يتيح في الواقع للحياة اليومية (للبشر) أعظم الفائدة،
فذلك
ما سوف نتبينه بسهولة «من النظر» في المهن والصنائع، إن جميع الأطباء الحاذقين ومعظم
معلمي الألعاب الرياضية مجمعون على أن الذي يريد أن يكون طبيبًا أو معلمًا بارعًا
(للألعاب الرياضية) يتحتَّم عليه أن يعرف الطبيعة معرفة وثيقة،
١٠٩ والأمر كذلك مع المشرعين المبرِّزين
١١٠ الذين يجب عليهم أن يعرفوا الطبيعة معرفة دقيقة، بل أن تفوق خبرتهم بها
خبرة أولئك؛ لأن أولئك يظهرون حِذْقهم في المهنة بتنمية كفاءة
١١١ الجسد، أمَّا هؤلاء فينصرفون إلى فضيلة النفس ويسعون لتوجيه الناس
١١٢ إلى السُّبُل المؤدية لسعادة المجتمع أو شقائه؛ ولهذا تزيد حاجتهم إلى
الفلسفة. (ب٤٧) وفي المهن اليدوية الأخرى تُكتَشف أفضل الأدوات عن طريق ملاحظة الطبيعة؛
ففي النجارة مثلًا «يكتشف» الفادن
١١٣ والمسطار والأداة التي ترسم بها الدائرة،
١١٤ وفي بعض الأدوات تكون ملاحظة الناء هي النموذج (الذي نحاكيه)، وفي بعضها
الآخر «نحتذي» بأشعة الشمس التي تلتقطها، وبمساعدة هذه الأدوات نتثبت مما هو مستقيم
ومستوٍ بحيث يلائم الإدراك الحسي بدرجة كافية، وبهذه الطريقة نفسها يتحتم على رجل الدولة
١١٥ أن تكون لديه معايير معينة يستمدها من الطبيعة نفسها ومن الحقيقة ويستعين
بها في الحُكم على ما هو عادل وجميل ونافع. فكما يمتاز النوع المذكور من الأدوات في
الأعمال اليدوية عن كل ما عداه، كذلك يكون هذا المعيار هو أفضل المعايير إذا توفَّر له
أكبر قدر ممكن من التوافق مع الطبيعة. (ب٤٨) ولا سبيل لإنسان لم يهبْ حياته للفلسفة ولم
يعرف الحقيقة أن يتوصل إلى هذا «المعيار».
١١٦ والواقع أن الناس لا يتوصلون في الصنائع (والمهن) الأخرى إلى الأدوات وأدق
الحسابات عن طريق المبادئ الأولى، بل يستمدون «معرفتهم بها» من مبادئ من الدرجة الثانية
والثالثة والرابعة مشتقة عنها؛
١١٧ ولهذا يكون علمهم تقريبيًّا كما يُقيمون أحكامهم على الخبرة. إن الفيلسوف
وحده هو الذي يُحاكي الأشياء الدقيقة نفسها لأنه هو الذي يتأمل الأشياء ذاتها لا الصورة
المقلدة لها.
١١٨ (ب٤٩) وكما يمتنع على المهندس الذي لا يستخدم المسطار وما شابهه من الأدوات
— بل يعمد ببساطة إلى محاكاة البيوت الأخرى — أن يصبح مهندسًا جيدًا، كذلك يصعب على من
يشرِّع القوانين للمجتمع أو يباشر العمل السياسي (في الدولة) بمجرد النظر إلى الأعمال
الأخرى أو المجتمعات الأخرى ومحاكاتها — كمجتمعات الإسبرطيين والكريتيين — (يصعب عليه)
أن يصبح مشرِّعًا جيدًا أو رجلًا ممتازًا؛
١١٩ ذلك لأن محاكاة شيء غير جميل لا يمكن أن تكون جميلة، ولا يمكن أن تصبح
محاكاة شيء هو بطبيعته غير إلهي ولا دائم خالدة أو دائمة. إن الفيلسوف وحده من بين
العاملين جميعًا هو الذي يتصف بثبات قوانينه ونبلها؛ (ب٥٠) ذلك لأنه هو الوحيد الذي
يحيا وبصره مثبت على الطبيعة وعلى «كل ما هو» إلهي، إنه يشبه الملاح الجيد الذي يُرسي
«سفينة» حياته عند ما هو أبديٌّ ودائم، وهناك يُلقي مرساته ويحيا سيد نفسه. (ب٥١) إن
هذه المعرفة في ذاتها معرفة نظرية، ولكنها تسمح لنا بتصريف جميع أعمالنا وفقًا لها،
وكما أن «قوة» الإبصار لا تخلق شيئًا أو توجد شيئًا؛ لأن مهمتها الوحيدة هي تمييز كل
شيء من الأشياء المرئية على حدة وتوضيحه، وإن كانت تمكننا من عمل كل شيء وتساعدنا عند
العمل أكبر مساعدة (إذ لولاها لأصبحنا عاجزين كل العجز عن الحركة)؛ فإن من الواضح أيضًا
أننا نستطيع عن طريق هذه المعرفة، على الرغم من أنها نظرية، تحقيق حدٍّ لا يُحصى من
الأعمال، كما نستعين بها في تقرير الأخذ بشيء أو تجنب شيء آخر، وعلى الجملة فنحن نكتسب
عن طريق هذه المعرفة كل ما هو خير.
(ب٥٢) مَن شاء أن يضطلع بمهمة فحْص ما قلناه، فيجب عليه أن يتبين بوضوح أن كل ما
هو
خير للإنسان ونافع للحياة يكمن في الفعل والممارسة لا في مجرد المعرفة بالخير؛ فنحن لا
نبقى أصحاء عن طريق معرفتنا بالأشياء التي تفيد صحتنا، بل عن طريق تزويد الجسم بها، ولا
نكون أثرياء عن طريق المعرفة «بماهية» الثروة، بل عن طريق اكتساب ثروة كبيرة، والأهم
من
هذا كله أننا لا نحيا حياة جميلة ونبيلة من خلال معرفتنا ببعض «الحقائق» عن الموجود،
بل
من خلال عملنا الخير؛
١٢٠ لأن هذه هي الحياة السعيدة بحق. يلزم عن هذا أن الفلسفة بدورها — إذا صح ما
نقوله من أنها نافعة — إمَّا أن تكون ممارسة للأفعال الطيبة، أو أن تكون مفيدة
١٢١ في القيام بمثل هذه الأفعال. (ب٥٣) وهكذا ينبغي على الإنسان أن لا يهرب من
الفلسفة، إن كانت
١٢٢ — كما أعتقد — هي اكتساب الحكمة وتطبيقها وكانت الحكمة نفسها من أعظم
الخيرات، وإذا كان الإنسان يجشم نفسه عناء السفر إلى أعمدة هرقل ويعرضها للأخطار
الكثيرة في سبيل المال، فلماذا لا يشق على نفسه ويتكلف الجهد في سبيل الفلسفة؟
١٢٣ الواقع أن من طبع الرجل العادي أن يسعى إلى الحياة لا إلى الحياة الخيِّرة،
وأن يتبع آراء الجمهور بدلًا من أن ينتظر منهم الاستجابة لرأيه، وأن يبحث عن المال ولا
يكترث على الإطلاق بما هو نبيل. (ب٥٤) يبدو لي الآن أنه قد تمت البرهنة على فائدة
الموضوع وأهميته برهنة كافية، أمَّا أن «تحصيل المعرفة الفلسفية» أسهل بكثير من تحصيل
أي خير آخر، فذلك أمر يمكن الاقتناع «بصحته» مما يأتي: (ب٥٥) إن أولئك الذين يَهبُون
حياتهم للفلسفة لا يتلقُّون من الناس أجرًا يمكن أن يحفزهم على مثل هذا الجهد، ومهما
يبلغ الجهد الذي بذلوه في «تحصيل» مهارات أخرى
١٢٤ فإنهم يتمكنون في وقت قصير من إحراز تقدم سريع نحو المعرفة الدقيقة، وهذا
في رأيي دليل على سهولة تحصيل المعرفة الفلسفية. (ب٥٦) وثَمَّةَ حُجة أخرى «تقول» إن
جميع الناس يأنسون للفلسفة ويريدون عن طيب خاطر أن يتفرغوا لها ويتركوا كل ما عداها،
وهذا أيضًا دليل لا يُستهان به على أن الاشتغال بها متعة، ولو كانت مجرد جهد وعناء لما
فكر أحد في أن يُشقي نفسه بها وقتًا طويلًا،
١٢٥ أضف إلى هذا أن النشاط الفلسفي ميزة كبيرة عن كل ما عداه من ألوان النشاط
فلا يحتاج المرء في ممارسته إلى أي أدوات أو أمكنة خاصة، بل حيثما وجد على الأرض إنسان
يهتم «بأن ينصرف» إلى التفكير، فقد وجدت لديه كذلك القدرة على الإمساك
١٢٦ بالحقيقة كأنها حاضرة (بين يديه). (ب٥٧) هكذا نكون قد أثبتنا أن في الإمكان
أن يهب الإنسان حياته للفلسفة وأنها أعظم الخيرات جميعًا، وأن من السهل تحصيلها
واكتسابها ولهذه الأسباب تستحق الإقبال عليها بهمة وحماس.
(ب٥٨) نأتي الآن إلى السؤال عن المهمة الحقيقية للمعرفة الفلسفية، وعن السبب الذي
يجعلنا نسعى إليها، وهذا ما أريد الآن أن أشرحه من وجهة نظر جديدة. (ب٥٩) نحن البشر
نتألف من نفس وجسم، جزء منها يُسيطر والجزء الآخر يُسيطَر عليه،
١٢٧ أحدهما يستخدم والآخر يوجد وجود الأداة وتطبيق الجزء الذي تتم السيطرة
عليه، أي الأداة، يكون دائمًا على علاقة محددة بالجزء الذي يقوم بالسيطرة والاستخدام.
(ب٦٠) في النفس يوجد العقل من ناحية، وهو الذي يسيطر ويسود بحكم طبيعته ويقرر شئوننا،
١٢٨ كما يوجد من ناحيةٍ أخرى ذلك الذي يخضع (ويطيع) ويقبل السيطرة عليه، ويكون
كل شيء في حالة طيبة عندما يحقق كل جزء من أجزاء النفس الفضيلة
١٢٩ التي يختص بها بطبعه، وبلوغ هذه الغاية هو الخير. (ب٦١) ويسود النظام
الكامل قبل كل شيء عندما «يتمكن» أفضل جزئيَ النفس وأكثرهما وأجدرهما بالشرف
١٣٠ من تحقيق فضيلته، وكلما كان الشيء بحكم طبيعته أكثر امتيازًا وتفوقًا تميزت
فضيلته الملائمة لطبيعته وازداد تفوقها. وتزداد قيمة الشيء عندما يكون بحسب طبيعته
متفوقًا في سيادته وقيادته، كما هي حال الإنسان مثلًا بالقياس إلى الحيوانات، كذلك تزيد
النفس في قيمتها على الجسد (لأنها أعلى منه درجة في السيادة والسيطرة)، وفي داخل النفس
يكون الأعلى هو الذي يملك الفعل ومَلَكَة التفكير.
١٣١ ومن هذا النوع ذلك الذي يأمر وينهى ويخبر بما ينبغي عمله أو تجنبه. (ب٦٢)
وأيًّا ما كانت فضيلة هذا الجزء من أجزاء النفس، فلا بد أن يكون الأجدر بالاختيار
بالنسبة للجميع على وجه الإجمال وبالنسبة لنا، إذ يصح، فيما أرى، أن نقول: إن هذا
الجزء، سواءٌ وحده أو بالدرجة الأولى، هو ذاتنا الحقيقية. (ب٦٣) وفضلًا عن هذا لا يصح
أن نصف عملًا بأنه خير
١٣٢ إذا حقق شيء (من الأشياء) مهمته
١٣٣ الملائمة لطبيعته على أحسن صورة ممكنة (بحيث لا يتم ذلك بطريقة عَرَضية، بل
من حيث هو في ذاته).
١٣٤ والفضيلة التي تمكِّن الشيء من إنجاز هذا هي التي نصفها بأنها أسمى فضائله،
«كما نعتبرها» فضيلته الحقة.
(ب٦٤) إن الشيء المركب (من أجزاء) والقابل للتجزئة له أنواع من الفاعلية متعددة
ومختلفة، أما ما يكون بسيطًا بحكم طبيعته ولا يمكن وجوده في مجرد علاقته بشيء آخر فيلزم
بالضرورة أن تكون له فضيلة واحدة تميز ماهيته. (ب٦٥) ولمَّا كان الإنسان
١٣٥ كائنًا حيًّا بسيطًا وكانت تُحدَّد طبيعته
١٣٦ بالفكر والعقل
١٣٧ فليست له سوى مهمة واحدة هي بلوغ الحقيقة المتناهية في الدقة، أي المعرفة
الحقة بالموجودات. أما إذا كانت له قدرات عديدة تميزه، فإن أَقْيَم فعلٍ «تحققه» هذه
القدرات هو الذي يساعده على تحقيق أعظم فعل ممكن؛ فالصحة مثلًا هي فعل الطبيب، والسفر
المأمون هو فعل ربَّان السفينة، ولا يسعني أن أصف أقيَم أفعال الفكر أو الجزء المفكر
من
النفس إلا أنه البحث عن الحقيقة. والحقيقة هي أسمى فعل يقوم به هذا الجزء من النفس،
(ب٦٦) هذا الفعل يحققه الجزء المفكر عن طريق تحصيل العلم، بحيث يكون تحققه على أفضل وجه
كلما ازدادت قيمة العلم، وإن أسمى غاية للعلم لهي المعرفة الفلسفية؛
١٣٨ لأنه إذا وُجد شيئان وكان أحدهما جديرًا بالاختيار بسبب الآخر، فإن الأقيم
والأجدر بالاختيار هو الذي بسببه وقع الاختيار على الآخر، على نحو ما يكون الأمر مع
اللذة بالنسبة لما ينتج اللذة مع الصحة بالقياس إلى ما يسبب الصحة؛ إذ إننا نقول إن ذلك
قد نتج عن هذا. (ب٦٧) وليس ثَمَّةَ شيء أجدر بالاختيار من البصيرة الفلسفية
١٣٩ التي نصفها بأنها هي قدرة أسمى وظائفنا النفسية؛
١٤٠ وذلك إذا قارنا بين وظائف النفس المختلفة، لأن الجزء العارف من النفس هو
بذاته وحده أو بالاتحاد مع الأجزاء الأخرى أكثر قيمة من بقية النفس مجتمعة، وفضيلته هي
العلم؛ (ب٦٨) ولهذا لم تكن أية فضيلة من الفضائل التي يتكلم عنها الناس بوجهٍ عام
١٤١ من فعل البصيرة الفلسفية؛ لأنها أسمى منها جميعًا.
١٤٢ فالغاية التي يتم بلوغها تكون دائمًا أعلى شأنًا من العلم الذي نبلغها عن
طريقه. ومع ذلك فليست كل فضيلة «من فضائل» النفس نتيجة مترتبة على البصيرة الفلسفية،
ولا كذلك الحياة السعيدة؛ إذ لو كانت البصيرة الفلسفية
١٤٣ فاعلة لأنتجت شيئًا آخر مختلفًا عنها هي نفسها، على نحو ما ينتج فن البناء
بيتًا دون أن يكون هو نفسه جزءًا من البيت.
١٤٤ أما البصيرة الفلسفية فهي على العكس من ذلك جزء من فضيلة «النفس» ومن
الحياة السعيدة؛ لأنني أزعم أن الحياة السعيدة إما أن تنشأ عنها أو أنها (أي البصيرة
الفلسفية) هي نفسها الحياة السعيدة.
١٤٥ (ب٦٩) على أساس هذه الحُجة
١٤٦ يستحيل على البصيرة الفلسفية أن تكون علمًا منتجًا؛ إذ يتحتَّم أن تسمو
الغاية على الطريق المؤدي إليها، ولكن ليس هناك ما هو أسمى من الحياة الفلسفية، إلا أن
يكون أحد الأشياء التي ذكرناها قبل قليل (أي فضيلة النفس والحياة السعيدة)، وليس
فعلُهما شيئًا آخر غير الحياة الفلسفية.
١٤٧ وإذَن فلا بد من التمسك بأن العلم الذي نتكلم عنه علم نظري؛ لأن من
المستحيل أن تكون الغاية منه إنتاجًا (أو إنجازًا عمليًّا). (ب٧٠) هكذا تكون المعرفة
والنظر الفلسفي
١٤٨ هما المهمتان الحقيقيتان للنفس، إنهما لأجدر الأشياء جميعًا باختيارنا نحن
البشر، حتى يمكن — في رأيي — أن نقارنهما بقوة الإبصار التي تظل خليقة بالتقدير ولو لم
ينتج عنها إلا الإبصار نفسه. (ب٧١) يمكننا أن نثبت هذا على النحو التالي:
١٤٩ إذا اتفق لأحدٍ أن يحب شيئًا بسبب شيء آخر يكون بمثابة صفة مضافة إليه، فمن
الواضح أنه سيزداد حبًّا لذلك الشيء الذي تتوافر فيه هذه الصفة بدرجة أعلى، فلو أحب
إنسان التنزُّه
١٥٠ — على سبيل المثال — لأنه صحي، فسوف يُؤثِر العَدْو عليه إذا تبين له أنه
أصح منه
١٥١ وكان هو نفسه قادرًا عليه، بل لقد كان من المحتمل أن يُؤثِره لو عرف ذلك من
قبل. «وثَمَّةَ حُجة أخرى» فعندما يكون الرأي الصادق
١٥٢ شبيهًا بالمعرفة العلمية (إذ إننا نُقرُّ بقيمة الرأي الصادق بقدر ما يكون
مضمون الحقيقة الذي ينطوي عليه شبيهًا بالمعرفة العلمية)، وعندما يتعلق مضمون الحقيقة
هذا بوجهٍ خاص بالمعرفة العلمية،
١٥٣ عندئذٍ تصبح المعرفة أجدر بالاختيار من الرأي الصادق. (ب٧٢) وإذا كنا نحب
قوة الإبصار لذاتها، فإن هذا دليلٌ كافٍ على أن الناس جميعًا يحبون التفكير والمعرفة
إلى أقصى حد ممكن؛
١٥٤ (ب٧٣) ذلك لأنهم يحبون الحياة كما يحبون معها التفكير والمعرفة، وليست
الحياة (في نظرهم) جديرة بالتكريم إلا بسبب الإدراك الحسي وبالأخص «بسبب» الإبصار،
والظاهر أنهم يقدرون هذه المَلَكة فوق كل حدٍّ لأنها في علاقتها بسائر الإدراكات الحسية
تكاد أن تكون نوعًا من المعرفة،
١٥٥ (ب٧٤) بَيْدَ أن الحياة تفترق عن عدم الحياة عن طريق الإدراك.
١٥٦ ونحن نحدد الحياة «بوجود» الإدراك والقدرة، فإذا انتزعت هذه القدرة لم
تَعُدِ الحياة تستحق العيش، ويبدو الأمر في هذه الحالة وكأن الحياة — ومعها الإدراك —
قد قضي عليها. (ب٧٥) وتتميز قوة
١٥٧ الإبصار عن سائر أعضاء الحس؛ لأنها أشدها حدة؛ ولهذا أيضًا نُقدرها تقديرًا
يفوق «كل ما عداها». إن كل إدراك هو القدرة على معرفة شيء عن طريق الجسم، كما يدرك
السمع الأنغام عن طريق الأذنين؛ (ب٧٦) فإذا كانت الحياة جديرة بالاختيار بسبب الإدراك،
وكان الإدراك نوعًا من المعرفة، وإذا كنا نفضِّل الحياة لأن النفس تستطيع أن تتوصَّل
إلى المعرفة عن طريق الإدراك، (ب٧٧) ثم إذا كان الأحق بالاختيار بين شيئين هو دائمًا
—
كما قلت منذ قليل — ذلك (الشيء) الذي يتصف بنفس الصفة (المرغوبة). «إذا صح ما سبق» لزم
أن يكون الإبصار أجدر الإدراكات الحسية
١٥٨ بالاختيار وأشرفها جميعًا، وأن تكون المعرفة الفلسفية أَولى بالاختيار من
هذه الحاسة ومن سائر الإدراكات الحسية، (بل) ومن الحياة نفسها؛ لأنها (أي المعرفة
الفلسفية) هي سيدة الحقيقة، وهذا هو السبب «الذي يدفع» الناس جميعًا على السعي إلى
المعرفة وتفضيلها على أي شيء آخر.
(ب٧٨) أمَّا أن أولئك الذين يختارون الحياة العقلية
١٥٩ قادرون على أن يعيشوا أهنأ حياة ممكنة، فذلك ما سيتضح مما يأتي بعد. (ب٧٩)
يبدو أن من الممكن الكلام عن الحياة بمعنيين؛ «فنحن نتكلم عنها» من جهة القوة كما نتكلم
عنها من جهة الفعل، ونحن نصف جميع الكائنات الحية التي لها أعين ووُلدت قادرة على
الإبصار بأنها (كائنات) مبصرة، سواءٌ أغمضت عيونها عرضًا أو استخدمت قدرتها على الرؤية
وأبصرت شيئًا، ويصدق الشيء نفسه على العلم والمعرفة، فنصف أحدهما بأنه الاستخدام والنظر
الفعلي
١٦٠ ونصف الآخر بأنه امتلاك المقدرة والحصول على العلم. (ب٨٠) إذا كنا نميز
الحياة من عدم الحياة على أساس امتلاك القدرة على الإدراك الحسي أو عدم امتلاكها، وكنا
نتكلم عن الإدراك بمعنيين؛ بالمعنى اللغوي المعتاد من الاستخدام الفعلي للإدراك، وكذلك
بمعنى إمكان الإدراك
١٦١ (ويبدو أن هذا هو السبب في قولنا أن النائم أيضًا يدرك)؛ فقد تبين من هذا
أننا نتكلم عن الحياة كذلك بمعنيين؛ فنحن نقول عن المستيقظ إنه يحيا بالمعنى الحقيقي
والكامل للحياة، ونقول عن النائم إنه حي لأنه يملك القوة على الانتقال إلى النشاط الفعلي
١٦٢ الذي يُعد علامة على اليقظة وعلى الإدراك الفعلي للأشياء؛ على هذا الأساس
وبالنظر إلى هذه التفرقة (بين القوة والفعل) يحق لنا أن نقول إن النائم حي. (ب٨١) وما
دمنا إذَن نستخدم نفس الكلمة بمعنيين، هما الفعل من ناحيةٍ والانفعال من ناحيةٍ أخرى،
١٦٣ فسوف نقول: إن الأول يعبر عن المعنى الحقيقي للكلمة أوفى تعبير،
١٦٤ «فيعرف» على سبيل المثال تعني أن امرءًا يستخدم معرفته أو يمتلكها، «ويرى»
تعني أنه يبصر شيئًا أو أنه يملك القدرة على الإبصار، وفي الحالين يعبر المعنى الأول
عن
قيمة أعلى؛ (ب٨٢) فعندما نكون بصدد أشياء تنطبق عليها نفس الكلمة المنطوقة، لا نتكلم
عن
«الأعلى» بمعنى «الأكثر» فقط، وإنما نتكلم عنه كذلك بمعنى الأَولَى والأسبق (من الناحية
المنطقية).
١٦٥ وهكذا نقول على سبيل المثال إن الصحة خيرٌ أعلى درجةً مما يسبب الصحة، وأن
«الشيء» الذي يكون بحكم طبيعته وفي ذاته جديرًا بالاختيار هو خير يفوق ذلك «الشيء» الذي
ينتج خيرًا، بَيْدَ أننا نلاحظ أن نفس الكلمة «الخير» تُقال على الاثنين معًا، وإن كانت
لا تُقال بنفس المعنى؛ لأننا نُطلق صفة الخير على الأشياء النافعة كما نطلقها على
الفضيلة؛ (ب٨٣) ولهذا يجوز لنا أن نقول إن المستيقظ يحيا حياةً أعلى درجةً من «حياة»
النائم، وأن الفاعل بنفسه
١٦٦ «يحيا كذلك حياة» أعلى درجةً ممن يمتلك النفس فحسب. ولو وضعنا الأولوية
المنطقية نُصب أعيننا لأمكننا أن نقول إن الأخير يحيا لأن الأول حي؛ ذلك أنه في حال
تسمح له بأن يعيش حياة الفعل أو الانفعال.
١٦٧ (ب٨٤) إن الفاعلية تعني في كل الأحوال ما يلي: إذا توفرت لأحد الناس القدرة
على القيام بفعل ومارسه في الواقع، «فإننا نقول عنه إنه فاعل»، وإذا كان يمتلك عددًا
من
القدرات، قلنا إنه فاعل لو قام بممارسة أفضل هذه القدرات وأكبرها قيمة، كأن يقوم عازف
الناي مثلًا بالعزف على ناي مزدوج، فإذا كان يعزف الناي فهو إما أن يكون فاعلًا على وجه
الجملة أو فاعلًا على درجة عالية (أي يعزف عزفًا جميلًا)، وكذلك يكون الأمر في حالات
أخرى (عندما نستخدم كلمة فاعل). يلزم إذَن أن نقول إن من يفعل «الفعل» على وجهه الصحيح
إنما يبلغ في فعله أعلى درجة؛ ذلك أن الذي يقوم بممارسة فعل من الأفعال بصورة جميلة
ودقيقة إنما يضع هدفًا (وهو الخير) نُصب عينيه ويؤدي عمله بطريقة طبيعية (أي يفعل ما
أملته عليه الطبيعة). (ب٨٥) إن فاعلية النفس، كما سبق أن قلت، تقوم — بصورة تامة أو على
نحو التفضيل — على التفكير والتأمل العقلي؛ ولهذا يسهل علينا أن نرى، كما يسهل على كل
إنسان أن يستنتج أن الذي يفكر تفكيرًا صحيحًا يحيا أقيم حياة، وأن الذي يبذل أقصى جهده
من أجل الحقيقة هو الذي يتفرد من دون الناس بأفضل حياة ممكنة.
١٦٨ وهذا ما يفعله الإنسان الذي يفكر ويتفلسف على أساس العلم المتناهي في الدقة،
١٦٩ وتتوفر الحياة الكاملة لأولئك الذين يمتلكون المعرفة الفلسفية عندما
يتفلسفون. (ب٨٦) ولما كانت الحياة عند كل كائن حي مساوية للوجود، فمن الواضح أن الفيلسوف
١٧٠ من دون الناس جميعًا هو الذي يبلغ أقصى درجات الوجود بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة،
١٧١ وخصوصًا عندما يمارس أفعاله ممارسة فلسفية ويوجه فكره إلى أقرب الموجودات
إلى المعرفة.
١٧٢
(ب٨٧) أضف إلى هذا أن الفاعلية الكاملة التي لا يعوقها عائق تنطوي في ذاتها على
الفرح؛ ولهذا كانت الفاعلية الفلسفية
١٧٣ أكثر الأفعال بعثًا على الفرح، (ب٨٨) بَيْدَ أن الفرح تتفاوت علاقته
بالفاعلية؛ فالشرب بفرح والإقبال على الشرب بفرح ليس نفس الشيء؛
١٧٤ إذ لا شيء يمنع من أن يشرب إنسان دون أن يشعر بالعطش، فيتناول شرابًا لا
يوفر له متعة، «ولا شيء يمنع» أن يحس مع ذلك بالفرح لا بتناول الشراب بل لأنه يتفق له
«عَرَضًا»، أثناء جلوسه في مكانٍ ما، أن يتأمل شيئًا أو يكون هو نفسه موضع التأمل، سوف
نقول عنه (في هذه الحالة) إنه يشعر بالفرح ويشرب بفرح، ولكن فرحه لا يأتي من الشراب،
كما أنه لا يفرح بالشرب، وبنفس الطريقة نصف كذلك المشي، والجلوس والتعلم وكل نوع «من
أنواع» الحركة بأنه مفرح أو مؤلم، لا لأننا نشعر عرَضًا بالفرح أو الألم أثناء قيامنا
بهذا الفعل، بل لأننا جميعًا نحس عن طريق هذا الفعل نفسه بالفرح أو الألم، (ب٨٩) وكذلك
نطلق صفة الفرح على تلك الحياة المفرحة التي يكون حضورها مفرحًا بالنسبة لمن يعيشونها،
ولا نتكلم عن حياة مفرحة بالنسبة لمن يكون فرحهم بالحياة متعلقًا بشيء ما، بل بالنسبة
للذين تكون الحياة نفسها مصدر فرحتهم والذين يسعدون بالحياة ذاتها. (ب٩٠) وبالنظر إلى
هذه الاعتبارات نقول إن حياة المستيقظ أعلى درجة من حياة النائم وأن العاقل يحيا حياة
أعلى درجة من الخالي من العقل، كما نزعم أن الفرح بالحياة يأتي من استخدام الإنسان
للنفس؛ ففاعلية النفس هي الحياة الحقة. (ب٩١) يمكن أن تكون فاعلية النفس على أنحاء
مختلفة، ولكن أهمها جميعًا هو أن يفكر «الإنسان» أعمق تفكير ممكن؛ فمن الثابت إذَن أن
الفرح الذي يصدر عن التفكير الفلسفي هو وحده — أو هو على وجه التفضيل — الفرح بالحياة،
وهكذا تكون الحياة في فرح، «ويكون» الإحساس الحقيقي بالفرح أمرًا يختص به الفلاسفة
وحدهم أو يتعلق بهم على وجه التفضيل؛ ذلك أن فاعلية أصدق أفكارنا التي تتغذى على أسمى
مبادئ الموجود وتصر دائمًا على الاحتفاظ بالكمال الملازم لها، هذه الفاعلية هي التي
تتفوق على كل ما عداها من ألوان الفاعلية في خلق الفرح بالحياة؛ (ب٩٢) ولهذا ينبغي على
العقلاء أن يتفلسفوا لكي يستمتعوا بالأفراح الحقيقية الطيبة.
١٧٥
(ب٩٣) «هل الحياة العقلية تجعل الإنسان سعيدًا؟» يمكننا أن نصل إلى نفس النتيجة،
لا
عن طريق النظر في الجزئيات التي تقوم عليها الحياة السعيدة فحسب، بل كذلك عن طريق تعمق
المشكلة وتأمل السعادة
١٧٦ من حيث هي كل، فلنؤكد بوضوح أنه كما تكون علاقة الحياة العقلية
١٧٧ بالسعادة، كذلك تكون علاقتها بنا تبعًا لما طُبِعنا عليه من رفعة أو ضِعة؛
١٧٨ ذلك أن جميع الناس يجدون أن الشيء الجدير بالاختيار هو الذي يؤدي إلى
السعادة أو الذي يكون نتيجة مترتبة عليها، أضف إلى هذا أن الأشياء التي تجعلنا سعداء
يكون بعضها ضروريًّا وبعضها الآخر مفرحًا. (ب٩٤) إننا نُعرِّف السعادة إما بأنها مَلَكة
عقلية
١٧٩ ونوع من الحكمة، أو بأنها فضيلة «أخلاقية»، أو أعظم قدر ممكن من الفرح، أو
بأنها تعني كل هذه الأمور مجتمعة. (ب٩٥) إذا كانت السعادة هي القدرة على التفكير فمن
الواضح أن الحياة السعيدة ستكون من نصيب الفلاسفة وحدهم، وإذا كانت هي فضيلة النفس أو
هي الحياة الغنية بالفرح، فستكون أيضًا من نصيب هؤلاء، سواءٌ اقتصرت عليهم وحدهم أو
كانوا أحق بها من الجميع، لكن الفضيلة هي المسيطرة على دخيلتنا،
١٨٠ وإذا شئنا أن نقارن شيئًا بغيره كانت مَلَكة التفكير هي أقدر «الأشياء
جميعًا» على بعث الفرح والسرور، وحتى لو زعم أحد أن كل هذه الأمور تجلب السعادة (في
الحياة)، لوجب تعريفها (أي السعادة) بأنها هي القدرة على التفكير؛
١٨١ (ب٩٦) لهذا يجب التفلسف على كل القادرين عليه؛ لأنه إما أن يكون هو الحياة
الكاملة نفسها، أو هو — إن شئنا أن نذكر حالة واحدة — أنجح الوسائل التي تقود النفس إليها.
١٨٢
(ب٩٧) لعل من المناسب الآن أن نسلط الضوء على موضوعنا بذكر بعض الآراء المعترف بها
بوجهٍ عام. (ب٩٨) من الأمور الواضحة للجميع أنه ما من إنسان يمكن أن يختار حياة قد تكون
مزودة بأعظم قدر من الثروة والغنى، بينما يكون هو نفسه محرومًا من القدرة على التفكير
ومصابًا بالجنون، وهو لن يقدم أيضًا على ذلك لو أتيح له أن يتمتع بأروع اللذات في الوقت
الذي يعيش فيه كما يعيش بعض المجانين، ولا مِراء في أن الناس تفرُّ من البلاهة
١٨٣ أكثر مما تفر من أي شيء آخر، ويبدو أن البلاهة مضادة للقدرة على التفكير،
والمرء يتجنب أحد هذين الضدين ويختار الآخر؛ (ب٩٩) ذلك أننا حين نتحاشى المرض فإنما
نفعل ذلك لأننا نُؤثِر عليه الصحة، وعلى أساس هذه الحُجة يبدو أيضًا أن القدرة على
التفكير هي أقدر الأشياء جميعًا بالاختيار، «مع العلم بأن هذا الاختيار» لا يرجع في
الواقع إلى أي نتيجة مترتبة عليها،
١٨٤ (وهذا أمر تؤيده شهادة الرأي العام)،
١٨٥ فحتى لو امتلك امرؤ كل شيء، وظل مع ذلك مريضًا في نفسه المفكرة مرضًا لا
شفاء منه، فسوف تكون الحياة بالنسبة إليه شيئًا غير جدير بالاختيار؛ لأن سائر مزاياه
لن
تُغني كذلك عنه شيئًا، (ب١٠٠) من أجل هذا يرى جميع الناس — بقدر ما يتصلون بالفلسفة
وتُواتيهم القدرة على تذوُّق شيءٍ منها — أن بقية الأشياء «تُعد بجانبها» عديمة القيمة،
ولهذا السبب لن يحتمل أحدٌ منا أن يبقى حتى نهاية حياته في حال السُّكْر أو في حالة الطفولة؛
١٨٦ (ب١٠١) ولهذا السبب نفسه قد يكون النوم في الواقع ممتعًا غاية الإمتاع، غير
أنه لا يمكن أبدًا أن يُفضَّل «على اليقظة»،
حتى ولو سلمنا بأن النائم يتنعم بكل اللذات
١٨٧ الممكنة؛ ذلك أن التصورات
١٨٨ «التي تَرِد» في النوم كاذبة، أما تصورات اليقظة، فهي على العكس من ذلك
صادقة. والحق أن النوم واليقظة لا يختلفان إلا في أن النفس غالبًا ما تعرف الحقيقة وهي
في «حال» اليقظة، أما في النوم فهي تخدع على الدوام؛ لأن جميع الأحلام إنما هي صور وأوهام.
١٨٩ (ب١٠٢) وكذلك فإن كون الرجل العادي
١٩٠ يهاب الموت تدليلًا على رغبة النفس في التعلم والمعرفة، إنها تهرب مما لا
تعرفه، من الغامض والمجهول، وتسعى بطبعها إلى الواضح
١٩١ والمعروف؛ ولهذا السبب قبل كل شيء نقول إن أولئك الذين ندين لهم برؤية
الشمس والنور هم أجدر الناس منا بالتكريم، وأن علينا أن نشعر نحو الأب والأم بالخشوع
(والإجلال)؛ لأنهما السبب «فيما ننعم به» من أعظم الخيرات، إنهما — كما يبدو لي — على
معرفتنا بالشيء ورؤيته. ولهذا السبب نفسه نسعد بالموضوعات التي اعتدنا عليها وبالناس
الذين ألفناهم ونصف هؤلاء الناس الذي نعرفهم بأنهم أصدقاء.
١٩٢ كل هذا يبيِّن بجلاء أننا نحب المعروف والمرئي والواضح، وإذا كنا نحب
المعروف والواضح، فنحن بالمثل نحب المعرفة والتفكير. (ب١٠٣) وكما أن الأمر من وجهة نظر
التملُّك «يقتضي» أن لا تكون الأشياء التي يحصل عليها الناس لمجرد العيش هي نفس الأشياء
التي يحصلون عليها ليعيشوا سعداء، فكذلك الأمر بالنسبة لملكة التفكير. إن التفكير الذي
نحتاج إليه لمجرد الحياة ليس — في رأيي — هو نفس التفكير الذي نحتاج إليه للحياة الكاملة،
١٩٣ ولا بد أن نلتمس العذر للرجل العادي إذا قصر جهده على الجانب الأول. صحيح
أنه يصلي من أجل «الحصول على» السعادة «في الحياة»، ولكنه يشعر بالابتهاج إذا تمكن من
مُجرد العيش. وإذا وُجد إنسان يرفض أن يرضى بالحياة بأي ثمن، فإن من المضحك حقًّا أن
لا
يتحمل كل جهد ويشق على نفسه بكل وسيلة لكي يحصل على ملكة التفكير التي تمكنه من معرفة
الحقيقة، (ب١٠٤) وفي وسعنا أن نعرف نفس الشيء مما سيأتي بعد إذا استطعنا أن ننظر إلى
الحياة البشرية نظرة خالصة، عندئذٍ سنكتشف أن جميع تلك الأشياء التي تبدو للناس عظيمة
ليست سوى لعب بالظلال؛ ولهذا يُقال أيضًا بحق أن الإنسان عدم،
١٩٤ وألا شيء يخص الإنسان له ثبات (أو دوام)؛ فالقوة والعظمة والجمال أشياء
مضحكة ولا قيمة لها، وهي لا تبدو لنا على هذه الصورة
١٩٥ إلا لعجزنا عن رؤية أي شيء رؤية دقيقة.
(ب١٠٥) ولو استطاع أحد أن يبلغ من حدة البصر مبلغ لينكويس
١٩٦ — الذي يُروى عنه أنه كان ينفذ ببصره خلال الجدران والأشجار — فهل كان في
مقدوره أن يحتمل رؤية رجل «مثل ألكيباديس المُحتفى به»
١٩٧ إذا رأى معه كل البؤس الذي رُكب منه؟ إن الشرف والشهرة،
١٩٨ اللذين اعتاد الناس على السعي وراءهما أكثر من
أي شيء آخر، يطفحان (في الواقع) بحُمق لا
يوصف؛ لأن من رأى شيئًا من الأمور الأبدية سيجد من السذاجة أن يبذل جهدًا في سبيل هذه
الأشياء، وأي شأن من شئون الإنسان دائم أو طويل العمر؟ إن ضعفنا وقصر حياتنا هما — في
رأيي — اللذان يجعلان هذا الشيء يبدو لنا عظيمًا، (ب١٠٦) لو أخذنا هذا في الاعتبار فمن
ذا الذي يملك أن يزعم بأنه سعيد ومبارك؟ من منا نحن الذين نشأنا سواءٌ بحكم الطبيعة منذ
البداية (كما يُقال عندما يُسمح لأحد الناس بالانتماء إلى عبادة الأسرار) وكأن علينا
أن
نُكفِّر عن ذنبٍ جنيناه؟
١٩٩ ألا إنها لحكمة إلهية من القدماء عندما قالوا إن على النفس أن تقدم
الكفارة، وإن حياتنا عقاب لنا على ذنوب كبيرة ارتكبناها. (ب١٠٧) وإن الصورة التالية
لتوضح في رأيي ارتباط النفس بالجسم توضيحًا تامًّا؛ فكما يُروى عن الثوريين من أنهم
كثيرًا ما كانوا يلجئون إلى تعذيب المساجين بربط الأحياء (منهم) بجثث الموتى بحيث
يجعلون الوجه في مواجهة الوجه ويقيدون العضو بالعضو، فكذلك يبدو أن النفس منتشرة في
الجسد وملتصقة بكل أعضائه الحاسَّة،
٢٠٠ (ب١٠٨) وإذَن فليس عند البشر ما هو إلهي أو مبارك سوى هذا الشيء الواحد
الذي يستحق وحده أن يبذلوا الجهد «من أجله»، وأقصد به ما يوجد فينا من العقل وملكة
التفكير، ويبدو أنه وحده الخالد، وهو وحده الإلهي من كل ما ينطوي عليه كياننا.
٢٠١ (ب١٠٩) وإن حياتنا، على الرغم من أنها بطبيعتها شقية ومضنية قد نُظمت بفضل
قدرتنا على المشاركة في هذه الملَكة — تنظيمًا بلغ من الروعة حدًّا يجعل الإنسان يبدو
إلهيًّا بالقياس إلى سائر الكائنات الحية؛ (ب١١٠) ذلك أن الشعراء يقولون بحق: «إن العقل
هو الإله «الكامن» فينا،
٢٠٢ كما يقولون إن حياة الإنسان (الغائية) تنطوي على جزء من الإله.» هكذا ينبغي
على الإنسان إما أن يتفلسف أو يودع الحياة ويمضي من هنا؛
٢٠٣ إذ يبدو أن كل ما عدا ذلك إنما هو ثرثرة حمقاء ولغو فارغ.