تعليقات وشروح

(ب٢–٥) تقوم الفكرة الأساسية في هذه الفقرات من النص على أن سمو الخلق في ظل الفقر أفضل من الجاه والغنى مع الشر والانحطاط، وأن السعادة لا تتوقف على امتلاك الخيرات والمظاهر الخارجية بل على الحالة النفسية الطيبة. وقد انطلق أرسطو من أفكار مشابهة وردت في محاورات أوريثيديموس (٢٧٨ﻫ/٢٨٢د) والدفاع (٢٩د ﻫ) والقوانين (٦٦١أ ب) لأفلاطون، أما في الفكرة التي ترد في الفقرة (ب٣) عن التعساء الذين يقدرون الثروة أكثر مما يقدرون خيرات النفس فيمكن الرجوع فيها إلى جمهورية أفلاطون (٧–١، ١٣٢٣أ ٢٣–٣٥) والأخلاق الأويديمية (٨–٣، ١٢٤٨ ب٢٧–٣٧).

(ب٦) يعتمد النص في هذه الفقرة على عبارة الإسكندر الأفروديسي (في شرحه لطوبيقا أرسطو)، والتي يذكر فيها كلام أرسطو عن ضرورة التفلسف أو عدم ضرورته في كتابه الحالي (البروتريبتيقوس)، أما العبارة المشهورة التي تحدثنا عنها في المقدمة عن ضرورة التفلسف في كل الأحوال فلم ترد في هذا الكتاب بنفس الصيغة المأثورة، وإن كانت الفقرة الأخيرة منه (ب١١٠) تعبر عن معناها تعبيرًا واضحًا.

(ب٧–٩) يبدو أن «يامبليخوس» تدخل في هذا النص بالاختصار والتعديل الشديدين، ولعل أرسطو كان يعبر في الأصل عن الأفكار التالية التي نقدمها بترتيب الفقرات:
  • (١)

    نريد أن نتناول بالبحث دور الفلسفة في الحياة العملية، وخصوصًا أهميتها بالنسبة للسياسي أو رجل الدولة.

  • (٢)

    إن الجسد والأشياء المادية مجرد أدوات، وسوء استخدام هذه الأدوات مضر، وضررها يصيب من يسيء استخدامها أكثر مما يصيب غيره؛ ولهذا ينبغي علينا تحصيل العلم بطريقة استخدام الأدوات، وتشتد ضرورة هذا التحصيل عند السياسي لأنه أحوج الناس إليه.

  • (٣)

    ربما يكون أرسطو قد تعرض ضمنًا لتفرقة أفلاطون الحاسمة بين التفكير والإدراك الحسي. فالموضوعات التي يحققها الفكر هي المُثل المتعالية. ولهذا يتحرك الفكر الخالص في عالم آخر هو عالم المعقولات المجردة، ومن هنا يختلف العلم عنده اختلافًا حاسمًا عن الرأي أو الظن ولا يتطابقان بحال. وإذا تتبعنا النزعة الحسية عند أرسطو كما عرضها في كتاباته عن النفس وجدنا أن صور المخيلة هي التي تُحقِّق المَلَكة الموجودة في العقل بالقوة تحقيقًا فعليًّا، أي أنها تتحقق في العقل الذي يمكن أن يُعد في هذه الحالة مرحلة راقية من ملكة التصور والتخيل. بهذا يكون الفرق عنده بين العلم والرأي فرقًا في الدرجة فحسب (إذ لا يحتاج العلم أن يكون مختلفًا عن مجرد الرأي، بشرط أن يقوم هذا الأخير على أساس متين، قارن الطوبيقا ٦–٢، ١٣٩ ب٣٣، والتحليلات الثانية ١-٢، ٧٢ ب٣). والملاحظ على كل حال في هذا الموضع وفي الكتاب كله أن أفكار أرسطو تبدأ من التجربة لتنتهي إلى النظر الخالص، وذلك على العكس من أفلاطون الذي يبدأ عادةً من النظر — ليصل أو لا يصل — إلى عالم التجربة.

وهذا في الواقع تعبير عن التعارض الأساسي بين تفكير الرجلين ومنهجهما في البحث، أما عن العبارة التي تبدأ بها هذه الفقرات من النص «لما كنا نتوجه بحديثنا إلى أناس من البشر لا إلى أولئك الذين لهم حياة ذات طبيعة إلهية … إلخ» فهي تذكرنا بعبارة مشابهة لأفلاطون تقول: إن علينا أن نتكلم عن البشر لا عن الآلهة (القوانين ٧٣٢ﻫ). فهل يحق لنا أن نسأل: أكان أرسطو متأثرًا بأفلاطون، أم تأثر أفلاطون بأرسطو؟!

(ب١٠–١٧) تلمس هذه الفقرات فكرة أرسطو عن «الغائية». وهي الفكرة التي تُتوَّج مذهبه وتطبعه بخاتمها. ولقد هوجمت فلسفته ولا تزال تُهاجم بسبب هذه الفكرة، وأُدينت ولا تزال تُدان بتهمة تعويق تطور العلم الطبيعي الذي لا يبحث ولا ينبغي له أن يبحث عن الغاية، وإنما يدرس أسباب الظواهر وعلاقاتها ببعضها البعض ليصوغها في النهاية في صورة رياضية وإحصائية تمثل قانونًا عامًّا يحتمل التعديل. والحق أن فكرة الغائية عند أرسطو ليست فكرة تأملية مجردة كما يتصور بعض الباحثين، وإنما تقوم على وقائع تجريبية وتلخص عددًا من أفكاره الأساسية، والعبارة التالية من «الكون والفساد» (٢–١٠) تمثل رأيه فيها: «إن الكون والفساد دورة خالدة (أزلية أبدية)، ولهذا الاستمرار سبب لا غبار عليه، وأقصد به انتظام الطبيعة (قانونيتها) وأنها تسعى دائمًا إلى الأفضل.» وتلتقي في الغائية بعض تصوراته الرئيسية: حضور العام أو «الصورة» (الأيدوس)١ في حياة الطبيعة المبدعة؛ الخشوع والإجلال لدورة السماء ذات النجوم — وهي الدورة التي تخضع لقوانين يستطيع العقل البشري أن يعرفها ويحسبها — الجمال الرائع الذي يتجلى في كل كائن حي ناضج مزدهر، سواءٌ أكان هذا الكائن الحي نباتًا أم حيوانًا أم إنسانًا (مصداقًا لقوله في «أجزاء الحيوان»: إن الغاية النهائية التي من أجلها ينشأ شيء أو يكون قد نشأ، هذه الغاية حلت محل الجميل (١–٥، ٦٤٥أ ٢٥))، وأخيرًا الحقيقة الثابتة التي تؤكد أنه من بذرة واحدة ينشا فرد من نفس نوع الفرد الذي تولدت عنه تلك البذرة، ومن ثَم يلد الإنسان الإنسان، كما تقول عبارته التي يكررها في كثير من كتاباته. والغائية — شأنها شأن أغلب أفكار أرسطو الرئيسية — مُستلهَمة عن نبع أفلاطون الجياش وإن كانت تأخذ على يديه صورة أخرى مختلفة عن صورتها عند أستاذه (قارن دورة الكون والفساد بالدورة الحيوية كما ترد على لسان ديوتيما في خطبتها المشهورة في محاورة المأدبة). ويعبر كلام أرسطو في الفقرة (ب١٤) عن نواة فكرته عن الغائية، فإذا كانت الصنعة البشرية — التي تتجه بطبيعتها إلى تحقيق هدف أو غاية — تُحاكي الطبيعة، فلا بد أن يكون النظام الطبيعي نفسه غائيًّا، بل إن الفيلسوف الذي يرتفع فوق العمال اليدويين وأرباب الحرف العاديين يقتبس نماذجه من تأمل «الطبيعة نفسها»، والسمو والرفعة المذكوران في الفقرة (ب١٦) يبرزان غائية أرسطو في أوضح صورة، فالسامي هنا مرادف للكامل والإلهي (انظر الأخلاق النيقوماخية ١–١٢). وكل ما أبدعته الطبيعة في رأيه إلهي (أجزاء الحيوان ١–٥، ٦٤٥أ ١٥–٢٠). أما الحيوانات الدنيا فهي ناقصة أو غير سامية، وربما يرد أرسطو بهذا على كاتب آخر أراد أن يفسر الغاية الطيبة التي تقصد إليها الطبيعة فتصور أن كل الحيوانات ضارة ومؤذية. أما العبارة الأخيرة في (ب١٧) «إننا نعيش لكي نفكر في شيء ونتعلم.» فهي متفقة مع عبارتين أخريين وردت الأولى أثناء كلامه عن فيثاغورس وتأكيده أن الإله أوجد الإنسان لكي يعرف وينظر (ب٢٠)، وجاءت الثانية في معرض كلامه عن فاعلية النفس وأنها هي التفكير والنظر.

(ب١٨–٢١) لا تزال هذه الفقرات من النص موضع اختلاف كبير بين العلماء؛ إذ يشك البعض في صحة نسبتها إلى الكتاب الحالي، والعبارتان المنسوبتان إلى فيثاغورس وأنكساجوراس مذكورتان في (الأخلاق الأويديمية ١–٥، ١٢١٦أ ١١)، ويُلاحظ من النص أن أرسطو يصف الطبيعة بأنها إلهية ويجعلها في كثير من الأحيان مرادفة للإله (انظر ب٥٠ من النص) ومن المعروف أن إله أرسطو هو المحرك الأول الذي لا يتحرك كما أن «الإلهي» يشمل الطبيعة كلها (انظر كتاب الميتافيزيقا، مقالة اللام ٩، ١٠٧٤أ ٣٨ ب١٤، وكذلك ٧، ١٠٧٢ ب٢٩) وعبارته المشهورة التي يقول فيها: «إن الإله والطبيعة لا يصنعان شيئًا عبثًا أو باطلًا» (عن السماء ١–٤، ٢٧١أ ٣٣) تؤكد أن الإله عنده هو الطبيعة نفسها (انظر كذلك المؤلفات المجموع تحت اسم أبقراط، وكذلك مسرحية الطرواديات ليوريبيدز، البيت ٨٨٦). أما ما يقوله في (ب٢٠) عن نظام الكون أو أي طبيعة أخرى فلعله يشير إلى الطرفين المتقابلين؛ دراسة الطبيعة والبحث فيها على طريقة الفلاسفة الطبيعيين أو الأيونيين وعلى طريقته هو نفسه من ناحية، وتراث البحث الذي يبدأ من ناحيةٍ أخرى بالإيليين ويبلغ ذروته في نظرية أفلاطون عن المُثل ومبادئ الوجود.

ويرجِّح الأستاذ «ديرنج» سقوط أجزاء من النص كانت تقع بين الفقرتين ٢٠، ٢١ وهو أمر يدعو للأسف؛ لأن الفقرة الأخيرة توحي بأن أرسطو كان يُمهد لفقرة لم تصل إلينا عن الصلة بين التبصُّر الخلقي والتبصُّر النظري، بين استخدام العقل في التفكير لتحقيق الغاية من وجود الإنسان، وواجبه أن يعمل كل شيء من أجل الخير الكامن في نفسه. ولا غرابة في أن نتوقع إضافات مفقودة؛ لأن هذا الجمع بين «النظر والخير» هو أساس التراث المتصل من سقراط وأفلاطون حتى أرسطو الذي تقوم عليه النزعة الإنسانية القديمة بأكملها.

ومع ذلك فالإشارة السابقة كافية لمعرفة موقف المُعَلِّم الأَول الذي يتردد بوضوح في مواضع أخرى من هذا الكتاب وفي الأخلاق إلى نيقوماخس، ويكفي أيضًا لتعزيز هذا الموقف أن نراجع العبارات التالية المتناثرة في تضاعيف الكتاب: «ويشعرون بالخجل من أن وضعهم الحاضر لا يحفزهم على النهوض بما يرونه واجبًا عليهم» (ب٢)، «نحن جميعًا نختار ما يكون في نفس الوقت ميسورًا ونافعًا، ومن ثَم يجب الاعتراف بأن الفلسفة تملك هاتين الصفتين» (ب٣١)، «ومن ذا الذي يمكنه أن يمثل لنا المعيار الدقيق ويكون لنا بمثابة الدليل الهادي إلى الخير غير الإنسان الحكيم؟ إن اختياره يتم على أساس العلم» (ب٣٩)، «ما من شيء يمكن أن يبدو لنا خيرًا إن لم تتحقق الغاية منه عن طريق النشاط العقلي» (ب٤١) … «وبهذه الطريقة نفسها يتحتم على السياسي أن تكون لديه معايير معينة يستمدها من الطبيعة نفسها ومن الحقيقة ويستعين بها في الحكم على ما هو عادل» (ب٤٧)، «إن سلوك الفيلسوف وحده هو السلوك (أو الفعل) الصحيح» (ب٤٩)، «وعلى الجملة فنحن نكتسب عن طريق هذه المعرفة كل ما هو خير» (ب٥١)، «… إن كل ما هو خير للإنسان ونافع للحياة إنما يكمن في الفعل والممارسة لا في مجرد المعرفة (النظرية) بالخير»، «إننا لا نحيا حياة طيبة (جميلة ونبيلة) عن طريق معرفتنا ببعض الحقائق عن الموجود، بل من خلال عملنا الطيب» (ب٥٢)، أضف إلى هذا كله ما يقوله شيشرون: «لقد ولد الإنسان، كما قال أرسطو، لأمرين؛ ليعقل ويعمل، وهو لهذا أشبه بإلهٍ فانٍ.» وكل هذه النصوص تؤكد اقتران الفكر بالعمل عند أرسطو، كما تؤكد ما يقوله بعض المحدثين والمعاصرين (ماركس وفيتجنشتين مثلًا) من أن التفلسف في صميمه فعل، مهما اختلفوا في مفهوم هذا الفعل، يبقى أن نقول إن أضعف نقطة ينفذ منها الناقد إلى النظرية الغائية هي هذه: فأعلى أشكال المعرفة عند أرسطو هو معرفة الغاية واﻟ «لماذا»، ولكن ما الذي يضمن أن ينصرف المتفلسف «الذي يثبِّت بصره على الطبيعة نفسها» ويستخدم عقله استخدامًا صحيحًا، ما الذي يضمن أنه سينصرف إلى فعل الخير أو يفكر في القيام به أو يجده إن حاول طلبه؟ ألا يقدم تاريخ العالم القديم والحديث ألف دليل ودليل على أن أبشع الشرور لم تأتِ إلا من الذين يُسمون بالعقلاء ويبلغون من «العلم» درجات ودرجات؟! ألا يزيد العقل من شرور من لا يكون خيرًا بطبعه؟! وكيف نفسر نحن العرب نظالم الاستعمار وفظائع الصهيونية ومظاهر العدوان والتعذيب والقهر في أوطاننا وفي عالمنا المعاصر؟!

(ب٢٢–٣٠) يبدو أنه لن يمكننا أن نقطع بأن هذه الفقرات مأخوذة عن كتاب أرسطو الأصلي (البروتريبتيقوس)، صحيح أنها تشير إلى بعض الأفكار التي يتناولها أرسطو بالتفصيل في مواضع أخرى من الكتاب ولكنها تتضمن أفكارًا ووجهات نظر أخرى لا ترد في الشذرات الباقية منه، ولعل الأرجح أن تكون مقتطفة من كتاب آخر من كتب أرسطو المفقودة، ونستطيع على كل حال أن نقسِّم نصوص هذه الفقرات إلى ثلاثة أقسام:
  • (١)

    فالقسم الأول (من ٢٢ إلى ٢٤) أرسططالي بحت وإن كان يامليخوس قد غيَّر فيه تغييرات طفيفة، والعبارة الأولى في الفقرة (٢٣) تقول: لما كان النظام (أو العقل) يسود الطبيعة كلها … إلخ، والكلمات الأصلية تفيد أن الطبيعة تملك العقل، وعبارات أرسطو واستعاراته التي يتحدث فيها عن الطبيعة التي تحيا وتعمل الخير وتريده … إلخ تدل على انتظام سير الأحداث الطبيعية وخضوعها لقانون يحكمها، والملاحظ في هذه الفقرة نفسها أن أرسطو لا يكاد يقدم فكرته عن اتجاه الطبيعة نحو الهدف (ب٢٣) حتى يفاجئنا بكلام جديد عن تقسيم الإنسان إلى نفس وجسد، ثم تقسيم النفس إلى جزء غير عاقل وآخر عاقل يبلغ ذروته في العقل (النوس)، فهل يؤكد هذا أن الناقل قد أسقط أجزاء من كتابه أو أقحم عليه أجزاء أخرى من كتاب لا نعلمه؟

  • (٢)

    القسم الثاني (من ٢٤ إلى ٢٨) يقوم على التفرقة المعروفة بين الغاية وبين ما يكون وسيلة لغاية، ويؤكد أن الفعل العقلي الذي يُمارس لذاته أعلى قدرًا وأكبر شرفًا من أي فعل آخر يتوسل به لغاية غريبة عنه، وقد سبق أفلاطون إلى الفكرة نفسها (انظر مثلًا محاورة جورجياس ٤٦٧د) كما وردت عند أرسطو لأول مرة في الجدل أو الطوبيقا (٢-٣، ١١٠ ب١٨) قبل أن تصبح حجة يلجأ إليها باستمرار.

  • (٣)

    والقسم الثالث (من ٢٨ إلى ٣٠) قد أصابه تعديل كبير على يد يامبليخوس، ولعله لم ينقله عن كتاب أرسطو الضائع، بل عن مصدر آخر يرجِّح الأستاذ «فلاشار» أنه كتاب بنفس العنوان لفرفوريوس (تلميذ أفلوطين وكاتب سيرته)؛ ولهذا نجد في النص تأثيرات رواقية وأفلاطونية مُحدثة وفيثاغورية جديدة، ومع ذلك لا يمكننا أن نجرِّد النص تمامًا من الروح الأفلاطونية والأرسطية؛ فتقسيم وظائف النفس والحياة عمومًا إلى نامية أو غاذية (نباتية) وحاسَّة (حيوانية) وناطقة تقسيم أرسطي معروف، والقول بأن العقل (نوس) هو العنصر الإلهي في الإنسان يرد بوضوح في الفقرة الأخيرة من الكتاب الذي بين أيدينا (ب١١٠) كما يعبر عنه في الأخلاق النيقوماخية (المقالة العاشرة، ٧، ١١٧٧ب و١١٧٨أ ٨) وكذلك عند أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس (١٧٦ب).

(ب٣١–٣٧) يُلاحظ أن تعبير الأيسر والأنفع لا يُقصد به التقييم الأخلاقي، وإنما يُقصد به الأولوية وتقديم المبدئي على الثانوي والأصل على الفرع، وهي حجة يلجأ إليها أفلاطون وأرسطو، والمعنى في (٣٣) واضح: إن العناصر (أو العوامل) البسيطة أوضح وأقرب إلى المعرفة من الأشكال المتنوعة التي تتجلى بها في عالم الظواهر ونتصور عادة أنها أيسر منها في المعرفة؛ فالحروف البسيطة أسهل في المعرفة من المقاطع … إلخ، ولهذا يحتل الحرف في سلم الأولويات مكانًا أعلى من المقاطع والكلمات لأنه هو الشرط اللازم لوجودها، وتُساق الحجة لإثبات أن تحصيل المعرفة الفلسفية ممكن ونافع وميسور، وهو تعبير عن الدعوة إلى التفلسف والحث عليه وتأكيد لصحة نسبته لكتاب أرسطو الذي يشغلنا.

وترد كلمة أيتيا٢ (العلل) في سياق هذه الفقرة خصوصًا بعد الكلام عن قيمة التنظيم والتحديد في تيسير المعرفة، وحديث أرسطو عن العلل الأربع المشهورة تحديد لفلسفته عن الغاية وتوجيهه إليها، وهو كذلك تعبير عن تفكيره في أصول المعرفة وترابط الموجودات في نظام على أن «العلة» تجيب على سؤالين، فنحن نجيب على السؤال «عن أي طريق»؟ بذكر السبب أو العلة، مصداقًا لقوله في كتاب الطبيعة (٢-٣، ١٩٤ ب١٩): «ولكننا لا نبلغ المعرفة قبل أن ندرك السبب في كل موضوع.»
أما السؤال: ممَّ يتكون شيء؟ فنجيب عنه بذكر المادة والصورة «فالحروف هي علة المقاطع، والعناصر علة الأجسام»، وتحدد الصورة بذكر «التعريف، والكل أو التركيب والشكل» (الطبيعة، ٢-٣، ١٩٥أ ٢٠)، وكل هذا يدل على أن تعليم الفلسفة في أكاديمية أفلاطون (التي عاش فيها أرسطو كما ذكرنا طالبًا ومعلمًا وقضى فيها ثُلث حياته) كانت تلتقي فيه نظرية المعرفة والمنطق ونظرية الوجود (الأنطولوجيا) في نسيج واحد، ويصور لنا أرسطو العلل الأربع المشهورة على هذا النحو:
  • (أ)

    ما يتكون عنه الشيء كالتمثال المكون من البرونز.

  • (ب)

    الشكل أو النموذج، أي تفسير ما يكون أساسيًّا بالنسبة للشيء أو لوجوده، وأنا أقصد بذلك النوع أو حدود التعريف (الطبيعة، ٢-٣، ١٩٤ ب٢٦).

  • (جـ)

    بداية التحول أو الحركة، كالناصح أو الأب بالنسبة للطفل، وبالجملة ما يحدث أثر أو نتيجة فعلية.

  • (د)

    الهدف والغاية أو اﻟ «لماذا»، كالصحة بالنسبة للتنزه.

ويلاحظ القارئ أن العلة الثالثة هي وحدها العلة أو السبب بمعناه الحقيقي، أما العلتان الأوليان فهما «مبادئ» الكون والنشوء، وأما الرابعة التي تعبر عن المبدأ والغاية في نفس الوقت فقد شرَحها في محاورته «عن الفلسفة»، والمهم أن العلل الأربع كانت عند أرسطو بمثابة أداة للعمل في يد الباحث، أو بمثابة الخطة والمنهج الذي يطبقه على بحوثه المختلفة. وفي نص الفقرة (٣٦) يذكر أرسطو في معرض كلامه عن العلل والعوامل الأولية الهواءَ والنارَ (عند الفلاسفة السابقين على سقراط) والعددَ (عند الفيثاغوريين) والطبائعَ أو الموجوداتِ الأخرى (كالمُثُل عند أفلاطون، وقد ذكرها أيضًا في مقالة «الثيتا» من كتاب الميتافيزيقيا ٨، ١٠٥٠ ب٣٤)، وهو بهذا كله إنما يؤكد حجته عن أسبقية المبدأ والأصل على ما يترتب عليه وينتج عنه عن طريق الأمثلة التي يستمدها عادةً من التراث الفلسفي السابق عليه. أما كلمة «الطبيعي» فيريد بها الشيء الذي يكون وجوده متفقًا مع الطبيعة وملائمًا لها.

(ب٣٨–٤٢) هذه الفقرات موجهة بصفة خاصة إلى معاصره «إيزوقراطيس»٣ (٤٣٦–٣٣٨ق.م) الذي انتقد منهج التعليم في الأكاديمية نقدًا قاسيًا وإن كان مهذبًا (انظر مجموعة خطبه المعروفة «أنتيدوزيس» من ٨٤ وكذلك ٢٨٥) مؤكدًا فيها «أهمية المنفعة» في توجيه الشباب، وقد سبق لأفلاطون نفسه في محاورة فايدروس أن وصف منهج إيزوقراط في التربية (دون أن يذكر اسمه) بأنه «تلقين» على حين أن منهجه هو نفسه يقوم على تحويل النفس بكليتها «أي تغيير اتجاهها من الظلام إلى النور، من الظن والتخمين والمعرفة الحسية إلى المعرفة بالمعقولات والمُثل ذاتها» (الجمهورية، ٥١٨ﺟ، ٥٢١ﺟ، ٥٢٥ﺟ، ٥٣٢ﺟ). والملاحظ في النص ورود كلمة «الفعل»٤ أو التحقق التي تعبر عن فكرة أساسية في فلسفة أرسطو التي أشرنا مرارًا إلى أنها فلسفة فعل (وهو في النهاية فكرة استمدها من أفلاطون)، فغاية الشيء عنده (التيلوس)٥ هي تحقيق فعله الخاص به، وكل شيء في الطبيعة يتجه نحو تحقيق هذا الفعل المتسق المنظم الذي يتعلق بالشيء ويلائم طبيعته.

(ب٤٣–٤٥) يغلب الأسلوب البلاغي والخطابي على هذه الفقرات، ولعل الهدف منه هو تصوير الحجة المنطقية الواردة في الفقرة السابقة عليها، ويلاحظ أن أرسطو (في الفقرة ٤٤) يلعب بالمعنيين المفهومين من كلمة النظر (ثيوريا) وهما التأمل الفلسفي من ناحية، ومشاهدة التمثيل والتفرُّج عليه من ناحيةٍ أخرى، وهي إشارة تفيدنا في البحث عن اشتقاق الكلمات والنظر في معانيها الأصلية التي كانت تدل عليها في السياق الاجتماعي والحضاري وحياة الناس العملية والحسية.

(ب٤٦–٥١) هذه الفقرات من النص هي أكثر فقرات الكتاب إثارة للخلاف بين العلماء، وقد استند «ييجر» (في كتابه المشهور عن أرسطو، برلين، ١٩٢٣، ص٩١) إلى مثل هذه العبارات «من الطبيعة نفسها، من المبادئ الأولى ذاتها» استند إليها لتأييد رأيه في أن أرسطو يقف في كتابه هذا «البروتريبتيقوس» على أرض النظرية الأفلاطونية المعروفة عن المُثُل. ولعله قد استوحى نموذج المشرِّع — الذي يستمد معاييره وقوانينه الثابتة من الطبيعة نفسها والحقيقة من محاورة السياسي لأفلاطون (٢٩٦ﻫ-٢٩٧أ)، حيث يتكلم هذا عن المعيار الدقيق لسياسة المدينة وإدارتها ويستخدم استعارة الملَّاح، ولعل أرسطو أيضًا قد تناول نفس الموضوع في إحدى محاورات شبابه بعنوان «السياسي»، وإن كنا لن نتحقق من ذلك أبدًا بسبب ضياع هذه المحاورة التي لم يبقَ منها سوى شذرات ضئيلة. مهما يكن الأمر فإن أرسطو ينطلق من عبارته المشهورة «الفن محاكاة للطبيعة» ثم يرتقي معها سُلم الحجج البلاغية والخطابية؛ فالمشرع أو رجل الدولة والسياسة يختلف عن أرباب المهن والصنائع في أن هؤلاء يحاكون الطبيعة، أما هو فيتلقى نماذجه من الطبيعة نفسها، أي من المشاهدة المباشرة للأحداث الطبيعية. ومن المبادئ الأولى ذاتها، أي من البدايات التي ينطلق منها الفكر، والمبادئ أو البدايات الأولى٦ مصطلح مألوف في لغة أرسطو، حدده في الطوبيقا (١-١، ١٠٠ ب١٨)، كما أن تعبيره «من الحقيقة ذاتها»٧ وارد في كتاب الطبيعة (١–٥، ١٨٨ب، ٢٩)، وأجزاء الحيوان (١-١، ٦٤٢أ ١٩)، و«الخير ذاته»٨ في الأخلاق الأويديمية (١–٨، ١٢١٨ ب٨) ومقالة الألفا من الميتافيزيقيا (٤، ٩٤٥أ ١٠). إن أرباب المهن وأصحاب الصنائع يقفون عند محاكاة الطبيعة، ويقلدون صورًا منها من الدرجة الثانية أو الثالثة (كما تقول جمهورية أفلاطون ٥٩٩د)، أما الفيلسوف فهو وحده الذي يتأمل الموجود ذاته على حدة (كما يقول أفلاطون في السياسي ٤٧٦د، ٥٠٧ب) وهو وحده الذي يُحاكي المبادئ الأولى (ب٤٨ من هذا الكتاب).
هل معنى هذا أن أرسطو يُحاكي بدوره أفلاطون؟! الواقع أن الأمر على خلاف هذا، فبينما يُحاكي الفيلسوف عند أرسطو المبادئ الأولى كما ذكرنا، نجد عند أفلاطون أن السفسطائي — لا الفيلسوف — هو الذي يُحاكي الموجودات (السفسطائي ٢٣٥أ)، وربما استوحى أرسطو عبارته المشهورة «الفن يُحاكي الطبيعة» من قول أفلاطون في محاورة السياسي (٢٧٤د): إن الصنائع التي تخدم الإنسان وتُحافظ على بقائه تعمل على غرار الكون كله وتُحاكي نموذج النظام السائد فيه. أما الصورة الجميلة التي يُعبر بها أرسطو عن المشرِّع الفيلسوف ويقول فيها «إنه هو وحده الذي يحيا وبصره مثبَّت على الطبيعة» فقد أخذها عن نصٍ مشهور في محاورة الجمهورية لأفلاطون (٥٠٠ﺟ د). وأما استعارته الجميلة التي يشبهه فيها بالملَّاح فقد استمدها كما يرى ييجر (في كتابه المعروف بإيدايا، الجزء الثالث ص٢٤) من الكتابات الطبية في عصره، وهي التي دُونت في رأي بعض العلماء حوالي سنة ٣٥٠ق.م ونقل عنها أرسطو كثيرًا من صوره واستعاراته وتشبيهاته. والفقرة الأخيرة (ب٥١) تُشير إلى نظرية أرسطو المعروفة عن أن الإنسان نفسه هو الذي يخلق أعماله، وهو الأصل الذي يتولد عنه سلوكه الخُلُقي، وغير الخلقي. وهذا دليل على أن مثل هذا السلوك يسبقه الاختيار الحر،٩ كما أن الهدف من الفعل تحدده المعرفة بالخير؛ ولهذا يربط أرسطو بين المعرفة النظرية والأخلاقية في سياق متكامل ويُؤكد العمل كما يؤُكد النظر في وقتٍ واحد.

(ب٥٢–٥٧) الفقرة الأولى مأخوذة من كتاب ليامبليخوس (غير شذرات نصوصه التي تحمل نفس عنوان كتابنا الحالي)، وهو كتابه عن العلم الرياضي بالإجمال، ٧٩ (طبعة ن، فستا، تويبنر ١٨٩١) ولهذا يستبعد بعض العلماء (مثل ديرنج وشنيفايس) أن تكون مقتطفة من كتابه الحالي «الحث على الفلسفة» وإن كانا مع ذلك يدمجانها في النص لقربها من لغة أرسطو ومن الفقرة السابقة عليها مباشرة. والملاحَظ أن أرسطو يعتمد على حجته عن سهولة التفلسف لتأييد دعوته إليه وحث القارئ عليه، بل إن الكلمات التي يختم بها الفقرة (٥٦) لتشهد على إيمانه القوي بإمكان التوصل إلى الحقيقة ذاتها كما تُعبر عن ذلك أيضًا بعض كتبه التعليمية (قارن أجزاء الحيوان ١-١، ٦٤٢أ ١٨ والطبيعة ١–٥، ١٨٨ ب٢٩). والغريب حقًّا أنه يُثني على الفلسفة ويؤكد سهولتها بكلمات وحُجج ليست سهلة على الإطلاق! (كما ترى مثلًا في الفقرتين ٥٥، ١٠٣) ويلجأ في هذه الحجج كما أشرنا مرارًا إلى أسلوب المبالغة الخطابية الذي كثيرًا ما تتصادم فيه الأدلة وتتعارض وتتناقض.

(ب٥٨–٧٧) يتردد في هذه الفقرات أكثر من تعبير عن أداء الفعل وعن الواجب وما ينبغي عمله، وكلها أفكار أفلاطونية نجدها في محاورتَي جورجياس (٥٠٣ﻫ) والجمهورية (٣٤٦ﻫ) حيث يتحدث أفلاطون عن أصحاب الحرف والصنائع الذين يضعون عملهم نُصب أعينهم، وتقوم نفس الفكرة بدور كبير في فلسفة أرسطو، ويكفي أن يطبقها على الطبيعة في عبارته المشهورة التي سبق ذكرها أكثر من مرة: إن الطبيعة لا تصنع شيئًا عبثًا، والموضوع هنا هو العمل الذي يقوم به العقل، ويبدو من بداية النص المفاجئة أنه كان مسبوقًا بجزء مفقود، والمهم أن الفقرات (٥٩–٦١) تنتهي إلى أن العقل هو الجزء المتحكم في النفس، وأنه هو وحده — أو في المقام الأول — ذاتنا الحقيقية، هذا الانسجام بين الانفعال والعقل وبين العاطفة والمنطق، ركن أساسي في الأخلاق الأرسطية. بل إنه (على حد تعبير الأستاذ دير لماير في تعليقه على كتاب الأخلاق الكبرى، دار مشتات وبرلين ١٩٥٨، ص٤١٢–٤١٩) هو التحول الكوبرنيقي أو الثورة الكوبرنيقية في فلسفة الأخلاق (نسبة إلى كوبرنيقوس الذي قال بمركزية الشمس؛ وبذلك بدأ التحول التاريخي في النظرة الكونية والحضارية الذي نقل الإنسان من العصر الوسيط إلى عصر النهضة والعصر الحديث)، وسواءٌ أكانت فكرة هذا التجانس ذات أصل أفلاطوني (كما يرى ديرلماير) أم فكرة أرسطية خالصة، فإنها علامة هامة على النزعة الإنسانية في الأخلاق.

وكلام أرسطو عن جزء النفس الذي يحقق فضيلته الخاصة به أو عمله الخاص به (ب٦٠ وكذلك ٦٥، ٧٠) يقوم على الفلسفة التي صاغها أفلاطون في الجمهورية (٣٥٢أ-٣٥٣ﻫ)، أما كلامه اللاحق (ب٦١، ٦٢) عن الارتباط بين فضيلة هذا الجزء العاقل من النفس وبين الشرف والقيمة فهو يُعبر عن تفكير أرسطو ووجهة نظره الخاصة التي تؤكد أن الرقيَّ على سلم الغايات ملازم للتصاعد في سلم القيم، وهو أمر لا ينفصل عن فلسفته الغائية بوجهٍ عام، وبقية الكلام الذي يؤكد أن الجزء المذكور هو ذاتنا الحقيقية يأخذ تعبير «الجزء الصغير» من جمهورية أفلاطون (٤٤٢ﺟ)، ولكنه يترجم بعد ذلك عن أفكار أرسطية أصيلة تجد ما يشبهها في كتاب الميتافيزيقا، مقالة الإيتا (٣–١٠٤٢ ب٢)، ومقالة الزيتا (١٠، ١٠٣٦أ ١٧). وهذا الجزء نفسه — وهو الجزء العارف الذي يُعد وحده أو مع أجزاء النفس الأخرى أكثر قيمة من بقية النفس مجتمعة — يُذكِّرنا أيضًا بمحاورة السياسي لأفلاطون (٢٥٨–٢٦٠)، ومع أنه لم يَرِد في سائر كتابات أرسطو بهذه الصيغة، فهو مرادف عنده للعقل (نوس)، ولما كان النظر عند أرسطو لا ينفصل كما قلنا عن العمل، فإننا نجده يذكر «المعرفة المنتجة» (في الفقرة ٦٩)، وقد كان تقسيمه للمعرفة إلى معرفة نظرية وأخرى عملية مثارًا لسوء الفهم الطويل، وربما أوحى أرسطو نفسه بذلك في بعض الأحيان عند حديثه عن المعرفة النظرية حديثًا يُفهم منه أنها رؤية سلبية، مع أن الحياة الفلسفية في رأيه وبكلماته نفسها «فعل مستمر» (قارن الأخلاق النيقوماخية ١٠–١٢٠٤٧ ب٢٥–٣٢) وليست نوعًا من التهدئة أو الراحة من متاعب الحياة؛ فلقد كان أرسطو نفسه رجل عمل، ومن الطبيعي أن يكون العمل شعاره في الحياة، وكلامه عن الحياة النظرية لا يُراد به الحياة الموهوبة للتأمل الخالص (كما تصور ييجر وجوتييه في كتاب الأول عن أرسطو وكتاب الثاني عن الأخلاق النيقوماخية — لوفان ١٩٥٨-١٩٥٩) وإنما يُراد به حياة الدرس والبحث العلمي التي لا تنفصل عن حياة الفعل والعمل، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان هنالك معنًى لربطه بعد ذلك بين الحياة الفلسفية التي تتسم بالحكمة والتبصر وبين الفضيلة والسعادة، ولما استطعنا أن نجد في أنفسنا هذا التعاطف الشديد مع الفقرة الختامية من الكتاب.

ويحتمل أن يكون يامبليخوس قد تدخل بالتغيير أو الحذف في الفقرات السبع الأخيرة (من ب٧٠ إلى ب٧٧) التي تعرض حجة متسقة متماسكة، ويُلاحظ التقارب الشديد بين الفكرة الواردة في العبارة التي تبدأ مع الفقرة (٧١) وبين الفكرة التي جاءت في جمهورية أفلاطون (٧–١، ١٣٢٣ب ١٣–١٦). ويُقارن «ييجر» في كتابه عن أرسطو (ص٦٩) بين الفقرة (٧٢) وبين نص في مقالة الألفا من كتاب الميتافيزيقا (ألفا ١–٩٨٠أ ٢١–٢٨) ويقول: إن العبارة المشهورة التي يبدأ بها هذا الكتاب الأخير «إن البشر جميعًا يسعون بطبيعتهم إلى المعرفة» تُعد صورة مكررة من العبارة «الكلاسيكية» الواردة في هذه الفقرة من «البروتريبتيقوس»، وإذا كانت هذه الملاحظة تُوحي بأن مقالة الألفا قد كُتبت قبل كتابنا هذا فإن الأستاذ «ديرنج» يُرجَّح أن يكون الاثنان قد دونا في نفس الوقت.

وترد في الفقرة (٧٤) عبارة تتكرر بعد ذلك بقليل: «إن الحياة تُحدد ﺑ «القدرة» على الإحساس.» ويمكن التوسع بالنظر إلى كتاب أجزاء الحيوان (٣-٤، ٦٦٦أ ٣٥). ولعل تعريفه للإحساس في الفقرة التالية (٧٥) بأنه القدرة على معرفة شيء عن طريق الجسم لعله كان تعريفًا شائعًا في الأكاديمية (قارن الفقرة (ب٢٤) من هذا الكتاب، وكذلك الجمهورية ٥٣٢أ). أما أن الناس جميعًا يسعون في طلب المعرفة ويفضلونها على كل شيء آخر (ب٧٧) فهي عبارة أساسية يدور حولها أرسطو في كتابنا هذا، ولعله قد استوحاها من محاورة أفلاطون «أويثيديموس» (٢٧٨ﺟ–٢٨٢ﺣ)، لا سيما أن الحجة هنا وهناك متطابقة (كما أثبت الأستاذ ديالماير في تعليقه على الأخلاق الكبرى ١–٣، ١٨٨٣أ ٣–١٤ ص١٩٢).

(ب٧٩–٨٧) في هذه الفقرات عرض مبسط ودقيق لنظرية أرسطو المشهورة عن الإمكان والتحقق أو الوجود بالقوة والوجود بالفعل، وقد كان أرسطو أول من استخدم كلمة الفعل «أنيرجايا»١٠ (التي لا نجدها في الكتابات الطبِّيَّة المجموعة تحت اسم أبقراط). ويمكن تتبع هذين المفهومين المتقابلين — اللذين يعبران عن تصور أساسي في تفكير أرسطو — تتبعًا يلمس جذورهما في مؤلفات أفلاطون وأرسطو نفسه؛ ففي محاورة أفلاطون «أويثيديموس» نجد كلمتين متقابلتين تفيد إحداهما تحصيل المعرفة أو اكتسابها وتملكها،١١ وتعني الأخرى استخدامها والانتفاع بها.١٢ وفي محاورة ثيايتيتوس نجد كلمتين متقاربتين تدلان على التملك والاستعمال (١٩٧ب، ١٩٩أ) ويرد التصوران السابقان (الحصول والاستخدام أو الملك والاستعمال) لأول مرة في الطوبيقا (٥–٢، ١٢٩ ب٣٤) ثم نجدهما في كتابنا هذا (البروتريبتيقوس أو الدعوة للفلسفة) في الفقرات الآتية: (ب٥٣، ٧٩، ٨١) كما نجد في الفقرة (٨٣) تنويعًا على الكلمة الثانية له أهميته؛ إذ تحل كلمة «الفعل» محل كلمة «الاستخدام»، كما نجد في الفقرة نفسها تشبيه الملك والعمل بالنوم واليقظة على الترتيب، وهي استعارة يتوسع فيها أرسطو في الأخلاق الأويديمية (٢-١، ١٢١٩أ ٩–٣٨). أما التقابل الأساسي بين القوة والفعل فنجده لأول مرة في «الطوبيقا» (٤-٤، ١٢٤أ ٣٢) كما نلتقي به كذلك في كتابنا هذا في الفقرة (٧٩). والواقع أن أرسطو يذكر نظريته الخاصة بالقوة والفعل في كتب الطبيعة (١–٨)؛ إذ يقول إن القوة أو الإمكان (الديناميس) هو اللاوجود الذي يمكن أن ينشأ عنه وجود معين هنا والآن، غير أنه لم يتناولها بالتفصيل إلا في مقالة «الثيتا» (من كتاب الميتافيزيقا ٦–٩) التي تُعد متأخرة نسبيًّا في سياق تطوره الفكري، ومهما يكن الأمر فإننا نراه يعرض أساس نظريته الهامة في الفقرة (٨١) مبينًا أن الفعل أشرف وأعلى قيمة من القوة، وأن الفعل يسمو على الانفعال سمو اليقظة على النوم، وهو يعود إلى تأكيد أفضلية الفعل على القوة في المقالة السابقة من الميتافيزيقا (الثيتا ٩، ١٠٥١أ ٤) حيث يقول إن من الواضح أنه — أي الفعل — أفضل وأشرف من القوة، كما يزيده تأكيدًا في كتاب النفس (٣–٥، ٤٣٠أ ١٨)؛ حيث نجد هذه العبارة الحاسمة: «إن الفعل دائمًا أشرف من الانفعال.»
أما في الفقرتين (ب٨٣-٨٤) فنجد أرسطو يتحدث عن فعل النفس وحياتها، وهو شيء ربما يبدو لنا أشبه بتحصيل الحاصل. ولو تذكرنا ما قاله أفلاطون عن «فاعلية النفس» لاكتشفنا وراءه فلسفة عميقة (الجمهورية ٣٥٢د–٣٥٤أ)، ولو نظرنا في بعض كتب أرسطو الأخرى لوجدنا نفس الأفكار تتردد بصورة أو بأخرى (الأخلاق الكبرى ١–٤، ١١٨٤ب، ٢٢–٨٥أ ١، والأخلاق الأويديمية ٢-١، ١٢١٩أ ٢٣–٣٥ والأخلاق النيقوماخية ١–٧، ١٠٩٨أ ٧–١٧). وأهم ما يلفت النظر في هاتين الفقرتين وفي سائر أجزاء الكتاب أن فاعلية النفس أو أفضل طريقة لاستخدام أعلى قدراتها هو تأمل الموجودات والنظر الخالص في أصولها ومبادئها؛ لأن هذا في رأي أرسطو (سواءٌ في هذا الكتاب أو في سائر كتبه الأخرى وخصوصًا الميتافيزيقا والأخلاق) هو أسمى أنواع الفعل (انظر أيضًا الفقرتين ب٦٦، ٩١)، وهذا يتفق مع فلسفته عن الغاية (التيلوس) أتم اتفاق، أضف إليه أننا نجد التسلسل والتدرج المتصاعد نحو الأعلى والأشرف في عالم التفكير؛ فهناك الفطنة عند بعض الحيوانات الذكية (كالنحل والعناكب وعصافير الجنة)، وهناك القدرة المتزايدة على التفكير عند الطفل والعبد والمرأة، حتى الرجل الحر الناضج الذي يبلغ ذروة التفكير حين يصبح فيلسوفًا يطرح المنفعة الأنانية وراء ظهره ويوجه بصره إلى التأمل والبحث الخالص (وهذا هو الجانب النظري) فيغدو أسعد الناس وأفضلهم وأكملهم (وهذا هو الجانب العملي)، ونجد أفكارًا مشابهة عن شتى مستويات التفوق الأخلاقي لدى العبيد والأحرار والرعية والحكام في كتاب السياسة (١–١٣)، وفي نص فقرتنا هذه (ب٨٤) نجد أرسطو يؤكد سُلم الأفعال المتدرجة في قيمتها، ثم يبلغ ذروة حُجَته المسهبة في الفقرة التالية عندما يتكلم عن حياة الحائزين على المعرفة الفلسفية ولا يترك هذه الذروة بعد ذلك أبدًا، وليست هذه الذروة العالية غير الحياة الفلسفية التي هي عنده الحياة الحقيقية ومصدر الفرح الحقيقي. ويلاحظ القارئ أنه يجمع الخيوط التي بسطها في الفقرة (ب٣٣) وأحكم نسجها في الفقرات التي نحن بصددها، ثم شدها في نسيج بهيج رائع في الفقرة (ب٩١) والفقرات الختامية من النص. ولعل شيشرون (في كتابه عن الغايات١٣ ٢–١٣، ٤٠) قد استلهم كتاب الدعوة للفلسفة وهذه الأجزاء من النص بوجهٍ خاص عندما قال: «وكذا يكون الإنسان — كما قال أرسطو — قد وُلد لأمرين هما التعقل والفعل، وكأنما هو أشبه بإلهٍ فانٍ.»
(ب٨٧–٩٢) تتضمن هذه الفقرات نظرات أرسطية حول اللذة والسعادة يختلف الباحثون في تفسيرها، وهي تقوم في هذا الموضع من النص على الإشادة بالفاعلية التي لا يعوقها عائق ولا تتعلق بشيء ولا بهدف تسعى إليه غير الفعل نفسه، فتكون فاعلية منطوية على الفرح والسعادة أو تكون هي نفسها الفرح والسعادة. والواقع أن الفكرة التي تذهب إلى أن كل ما هو جسمي، كل ما يراه الإنسان ويسمعه، وكل ألم أو لذة إنما يعوق فاعلية الإنسان الحقة التي هي مصدر سعادته، هذه الفكرة ترجع لأفلاطون الذي يعرضها عرضًا مؤثرًا في محاورة «فايدون» بوجهٍ خاص (٦٥ﺟ-٦٦ﺟ). وربما كان أرسطو — في الفقرة (ب٨٨) التي لا تخلو من غموض — يحاول أن يصف الحياة السعيدة التي لا يعوقها عائق خارجي أو قيد عرضي، وهي في النهاية حياة التفلسف (انظر كذلك الأخلاق النيقوماخية ٧–١٣، ١١٥٣أ ١٥)، ويرى بعض الباحثين أن أرسطو في هذا الكتاب يُعادي اللذة، ولكن لو قرأنا نص الفقرات التي نحن بصددها قراءة متأنية ووضعناها كذلك في سياق الكتاب كله لوجدنا أنه يقف في صف اللذة التي يمكن أن نصِفها — إن جاز هذا الوصف — بأنها لذة نبيلة، ولا بد لتبرير هذا الرأي من الرجوع إلى الفقرة (ب٧٧) التي تبلغ فيها حجة أرسطو في الدعوة للتفلسف ذروتها؛ إذ يصل به الحماس إلى حد القول بأن المعرفة الفلسفية أولى باختيار الإنسان من حاسَّة البصر، بل أولى من الحياة نفسها؛ لأنها هي «سيدة الحقيقة» ولا بد من تتبع حجته في هذا الكتاب في سُلم القيم؛ فهو يعرض هذا التدرج في سُلم الموجودات الطبيعية في الفقرات (ب١١–٢١)، ثم نعرف من الفقرات (ب٢٢ حتى ٣٠) أن النظر الخالص هو أعلى شكلٍ من أشكال التفكير، وبعد أن يثبت أن هذا التفكير هو الشرط الذي لا غنى عنه للفعل الأخلاقي «حتى ولو لم يترتب عليه في الظاهر أية منفعة عملية» (من ٥٨ إلى ٦٩) نجده يؤكده أنه يبعث على الفرح (٥٦، ٩١)، ويصل أخيرًا إلى هدفه وصول القائد المنتصر فيؤكد (في الفقرة ٧٧) أن الناس جميعًا تسعى إلى المعرفة وتفضلها على أي شيء آخر. وهنا نلاحظ التقارب الشديد بين صيغة هذه العبارة وبين عبارتين أخريين، وردت أولاهما في الأخلاق النيقوماخية (٧–١٤، ١١٥٣ ب٣٠) وهي «أن الجميع يطلبون اللذة»، وذُكرت ثانيتهما — كما أسلفنا — في مدخل مقالة «الألفا» من كتاب الميتافيزيقا: «إن البشر جميعًا يسعون بطبيعتهم إلى المعرفة.» فهل نستنتج من هذا كله أن لأرسطو رأيًا واحدًا في اللذة أو السعادة وأنها مساوية عنده للنظر والتأمل الخالص، أم أنه غيَّر وجهة نظره بتغير مراحل تطوره الفكري؟ يبدو أننا لن نستطيع القطع برأي واحد في هذه المسألة، وربما كان أرسطو نفسه هو المسئول عن هذا؛ فهو يناقش مشكلة اللذة كما يناقش مشكلة السعادة من زوايا متعددة، ويقدم — على عادته في استعراض الآراء المختلفة في كل مسألة يبحثها — أجوبة وتفسيرات شتى أتعبت علماء العصور القديمة والحديثة! وقد ذهب «ييجر» إلى أن أرسطو غيَّر رأيه في اللذة بعد موت أفلاطون؛١٤ وذلك استنادًا إلى اعتقاده بأنه (أي أرسطو) لم يستقلَّ بفلسفته إلا بعد موت أستاذه. بَيْدَ أن آراء «ييجر» قد تعرضت للنقد والتعديل من جانب علماء عديدين، ويتفق معظمهم الآن على أن رأي أرسطو في اللذة بقي على ما هو عليه؛ فالنصوص التي بين أيدينا تدل على أنه كان متفقًا مع رأي معاصره «أويدوكسوس»١٥ في أن اللذة خير إيجابي، وأنه حاول خلال مراحل تطوره التي لا تُنكر أن يؤيد قول معاصره هذا بأنها خير طبيعي أو حيوي وأن يلائم بينه وبين نزعته المثالية التي تميل إلى وجود تسلسل أو تدرج في اللذات. ولا ننسى أن كتابنا هذا ليس عرضًا منهجيًّا لطبيعة اللذة، كما أنه يخرج بطبيعته عن التصدي للمشكلات وفحص المعضلات، إنه كما سميناه «دعوة للتفلسف» وهي دعوة ملحَّة، والدعوات بطبيعتها تنفر من التعقيد وتغري الضيوف والمدعوِّين بكل سبيل، ولهذا غلب عليه — كما رأينا — الأسلوب البلاغي والخطابي. وربما صح رأي بعض الباحثين في أن المُعَلِّم الأَول لم يكلِّف نفسه عناء كتابته، بل أملاه على بعض تلاميذه ارتجالًا. ويمكن على كل حال أن نلخص رأيه في اللذة كما عرضه في الفقرات المشار إليها (من ٨٧ إلى ٩٢) على النحو التالي: هناك أشياء مرذولة توصف بأنها لذَّات ولكن هناك أيضًا لذات طيبة وحقيقية، ولهذا تنطوي أكمل أشكال الحياة على اللذة الكاملة؛ فالمستيقظ يحيا حياة تفوق في قيمتها حياة النائم، والمفكر يحيا حياة أكمل من حياة العاطل من التفكير (بسبب تخلُّفه أو عدم نضجه). والفرح والسعادة اللذان ينبعان من الفكر الفلسفي هما أصدق فرح وأكمل سعادة، ويكفي أن نتأمل العبارة الأخيرة في الفقرة (٩١) لنرى كيف يتحد كمال الصياغة الفنية واللغوية مع كمال الفرح والسعادة بالحياة!
(ب٩٧–١٠٣) تُعبِّر الحجة التي يسوقها أرسطو في هذه الفقرات عن طابع تفكيره؛ فقد بدأ بتبرير حجته تبريرًا نظريًّا واتخذ منها برهانًا يثبت به ما يقول، وهذه الحجة هي إجماع الناس في كل الشعوب والعصور١٦ على وجود الله وعلى طلب السعادة، وهي حجة كانت لها شهرتها في العصور القديمة وعصر آباء الكنيسة، وما زالت معيارًا للحقيقة في ميدان فلسفة الدين، ولعلها تكمن وراء الدليل «الأنطولوجي» المشهور منذ القديس «أنسيلم» حتى ديكارت وناقديه، والمهم أن حجة أرسطو تتضمن العناصر الآتية:
  • (أ)

    الحياة المُفتقِرة للقدرة على التفكير حياة لا قيمة لها.

  • (ب)

    القدرة على التفكير والتفلسف لا يُقاس بها شيء آخر، وكل ما عداها لا يساوي شيئًا إذا قورن بها.

  • (جـ)

    النوم شيء ممتع ومحبَّب إلى النفس، ولكن من المستحيل تفضيله على اليقظة، أي على الفكر الإيجابي الفعال.

  • (د)

    إننا نحب كل ما هو واضح ومضيء؛ ولهذا نحب التفكير والمعرفة.

  • (هـ)

    وأخيرًا فإن القدرة على التفكير والتفلسف شرط ضروري لقيام الحياة السعيدة الكاملة.

ونرى في الفقرة (٩٨) كيف يلجأ أرسطو — كما كان يفعل أستاذه — إلى الحُجة التي تقوم على المقابلة بين الأضداد١٧ — وقد كان كلاهما يستعين كثيرًا بهذا الأسلوب من الحجاج — فيزيد بذلك من الإحكام والدقة اللذين يُميزان هذا الكتاب، ويبلغ بعقلانيته أقصى حد ممكن، أما أن معظم حججه — كما أشرنا مرارًا — حجج بلاغية وخطابية وبراهين ظاهرية تُرد في أغلب الأحوال إلى تحصيل الحاصل، فذلك أمر آخر …

تَرِد في الفقرة (١٠١) عبارات تدل على رأي أرسطو القاطع في تكذيب الأحلام واعتبار الرؤى والتخيلات التي تطوف بنا في النوم نوعًا من الخداع الذي لا نصيب له من الحقيقة. وإذا كان أفلاطون في مناقشته المشهورة لموضوع الأحلام (الجمهورية ٥٧١-٥٧٢) قد ذهب إلى أن «الرجل الحكيم» يمكن أن يقترب من الحقيقة في أحلامه بحيث لا تبتعد رؤاه وتخيلاته عن الواقع المألوف أدنى بعدٍ، فإن أرسطو ينفي في كتابنا هذا وفي مواضع أخرى من كتبه أن يكون للأحلام أي نصيب من الحقيقة والصدق، وإن كانت تُعبر عن نوع من الإدراك أو الإحساس الذي ليس من السهل احتقاره ولا الاقتناع به (كما يقول في مقالته عن النوم ٤٦٢ ب١٢ انظر كذلك الميتافيزيقا، مقالة الدلتا ٢٩، وكذلك الفقرة التي نحن بصددها من هذا الكتاب).

أما كلامه في الفقرة التالية عن الهروب من الغامض والمجهول والسعي إلى الواضح والمعروف فلعله أن يكون متأثرًا برأي أفلاطون في أن مثال الخير — وهو أسمى المُثل وأرفعها قدرًا — يفيض النور والوجود والمعرفة على الأشياء الموجودة في عالم الحس (الجمهورية ٥٠٩أ). وإذا كان الفكر الفلسفي اليوناني يوجد بوجهٍ عام بين النظر العقلي والنظر بالعين، بحيث يمكن القول أن التأمل عنده مقترن بالمشاهدة والرؤية الجمالية (خصوصًا عند أفلاطون!) فليس غريبًا أن تتردَّد عند أرسطو وعند غيره من مفكري اليونان صور العقل والنور والبصر (انظر مثلًا الخطابة ٣–١٠، ١٤١١ ب١٢، والطوبيقا ١–١٧، ١٠٨أ ١١، والأخلاق النيقوماخية ١–٤، ١٠٩٦ ب٢٩).

(ب١٠٤–١١٠) يبدو من روح هذه الفقرات الأخيرة والتشاؤم الغالب عليها (والمتأصل في الروح الإغريقية جنبًا إلى جنب مع التفاؤل العقلي، وهذا هو وجه المفارقة النادرة فيها!) أنها مستوحاة بوجهٍ خاص من محاورة فايدون لأفلاطون (٦٤أ–٧٠ب) التي تعرض نفس الفكرة تقريبًا على النحو التالي: «إن التفلسف معناه تحرير النفس من الجسم،١٨ صحيح أن الرجل العادي يرى أن الحياة بغير لذة الحواس لا قيمة لها (٦٥أ) ولكن هذه اللذة عديمة القيمة؛ فالعقل١٩ يفكر أوضح تفكير عندما يسعى في طلب الموجود. إن الفيلسوف يتوصل للحكمة٢٠ والحقيقة عندما يبحث بالفكر الخالص عن الطبيعة الحقة للأشياء، ولكنه لا يستطيع بلوغ المعرفة الصادقة بالوجود الحقيقي طالما بقيت نفسه مطروحة مع جسده السيئ؛٢١ لهذا ينبغي علينا أن نسعى إلى تحرير النفس من الجسد (٦٧ﺟ) حتى تتمكن من التركيز على الفاعلية الباطنة، «وتكون» حرة من أغلال الجسد. إنك إذا تأملت عامة الناس وجدت كل سعيهم باطلًا، «ولاحظت» أنه في معظم الأحوال نوع من المهادنة لاجتناب شر معين. إنهم يعيشون في قلق دائم ولا يفهمون أن الحكمة وحدها هي العملة الأصيلة التي يمكننا أن نشتري بها فضيلة النفس، وليست الحياة الخالية من الحكمة إلا لعبًا أو رسمًا بالظلال (٦٩ب)، وهي في الواقع حياة الاستعباد.»

والتقارب بين هذا النص وبين عبارات الفقرات التي نحن بصددها أوضح من أن نشير إليه، صحيح أنه تقارب في الشكل أكثر منه في المضمون ولكنه ينطق في الحالين بأن الحياة العاطلة من التبصر والحكمة حياة باطلة لا تستحق أن تُسمى حياة، وأن القيم التي يحتفل بها الناس لا تبدو لهم كذلك إلا بسبب ضعفهم الذي يزينها في أعينهم، مع أنها لا تعدو أن تكون ظلالًا سخيفة وأشباحًا عارية من كل حقيقة. غير أن التقارب الشكلي بين الفيلسوفين لا ينفي عن أرسطو أصالته، فليس ما يقوله مجرد محاكاة لأستاذه، وصوره ليست مجرد ظلال باهتة لذلك الأثر المشهور. ويتضح هذا بوجهٍ خاص إذا تأملنا الاستنتاج الذي يخرج به أرسطو من كلامه المصبوغ بالقتامة؛ فهو في الحقيقة يبتعد عن كلام أفلاطون بقدر ما يقترب من «دفاع» سقراط. إنه ينكر إمكان التوصل إلى المعرفة الحقيقية في هذا العالم، ولا يرجح هذا الإمكان في عالم آخر بعد الموت، وإنما يؤكد أن الحياة بغير تفلسف لا تستحق أن تكون حياة. وإليك عبارات أفلاطون التي توضح الفارق الشديد بينه وبين تلميذه الناضج المستقل برأيه: «إذا كان من المستحيل إذَن التوصل إلى المعرفة الحقيقية ما بقيت النفس مرتبطة بالجسد، فليس «أمام الإنسان» إلا أحد أمرين ممكنين؛ إما أن يكون اكتساب المعرفة الحقيقية مستحيلًا على الإنسان، وإما أن يكون محتملًا بعد الحياة الحاضرة» (فايدون، ٦٦د). لا شك أن الفقرات الأخيرة توحي للوهلة الأولى بتشاؤم أرسطو، مما جعل «ييجر» (أرسطو، أسس تاريخ تطوره، برلين، ١٩٢٣، ١٩٥٥، ص١٠٠) يقول إنه كان في كتابيه (ويقصد بهما الأخلاق الأويديمية وهذا الكتاب) مُفعم النفس بالتشاؤم من هذا العالم الأرضي ومن خيرات الدنيا، وتابعه في ذلك بعض الباحثين الإيطاليين (مثل باريجاتسي وبنيونه وتلاميذه) الذين أسرفوا في تأكيد تشاؤم أرسطو في شبابه ورجولته إلى حد القول بأنه دعا في كتابيه السابقين إلى ترك الأرض التي لا يُتاح فيها للإنسان أن يحيا الحياة الحقة! والواقع أن هذا الزعم مبالغ فيه أو مغلوط من أساسه؛ فأرسطو لم يتخلَّ أبدًا عن نزعته العقلية المتفائلة، ولا تخلى أبدًا عن واقعيته التي تنفذ ببصرها الحاد إلى كل مجالات الواقع في الطبيعة والعقل والحضارة. وإذا كان عقله الأرستقراطي يطل كالنسر من عليائه ويرصد جوانب الضعف والشقاء الإنساني، فما ذلك إلا لأن عين الفيلسوف تنظر إلى الواقع — كما يُعبِّر اسبينوزا — ومن وجهة نظر أبدية أزلية فترى كل ما نتصوره خيرًا مجرد مظهر خدَّاع وشبح زائل، وتعرف أن القيم التي نهتم بها في حياتنا اليومية عديمة القيمة. وإذا كان الرجل العادي مثلنا يمر بهذه التجربة في بعض المواقف «الحدية» والأزمات الطارئة، فهل نستكثر على الفيلسوف أن تكون هذه هي تجربته الأصلية؟ وهل يمنع التعاطف مع الشقاء البشري من التفاؤل بقدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة والإيمان بقدرة الإنسان على أن يحيا الحياة الجديرة به؟ لقد كان أرسطو في صميمه إنسانًا واقعيًّا، وهذه الواقعية «اليونانية» هي التي جعلته يرصد ضعف الإنسان ويعرف أن شقاء البشر أمر واضح للعيان (السياسة ٢–٧، ١٢٠٧ ب١). وقد كان ضعف الإنسان بالقياس إلى الآلهة موضوعًا أثيرًا طرقه مفكرو اليونان وكُتابهم وشعراؤهم منذ هوميروس حتى عهده؛ ولهذا اقترن به كذلك موضوع آخر ظلوا يعبرون عنه منذ عهد الحكماء السبعة في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وهو ضرورة التزام الحد وتجنب الغطرسة والسعي إلى معرفة النفس، أي معرفة الإنسان بأنه حيوان عاقل فانٍ.

أمَّا أن العقل هو وحده الخالد وأنه هو وحده الإلهي من كل ما ينطوي عليه كياننا، فهي فكرة لم ترد عند أرسطو وحده، وإنما هي قديمة في الفكر اليوناني. نجدها في شذرات باقية من ديوجينيس الأبوللوني (من القرن الخامس قبل الميلاد) (٦٤أ ١٩) وعند ثيوفراسط٢٢ (من حوالي ٣٧١-٣٧٠ إلى ٢٨٨-٢٨٧ق.م) الذي يقول في كتابه عن الإحساس (٤٢): إن العقل (نوس) هو جزء صغير من الله، كما قال بها أفلاطون في شيء من الحذر (في القوانين ٨٧٥ﺟ) وورَدَت عند أرسطو نفسه (في كتابه أجزاء الحيوان ٤–١٠، ٦٨٦أ ٢٨-٢٩) حيث يقول: إن العقل أو التبصُّر هو أكثر الأعمال حظًّا من الألوهية، ومن الطبيعي أن يستخلص أرسطو النتيجة المترتبة على هذا القول فيذهب في الفقرة قبل الأخيرة (١٠٩) إلى أن الإنسان يبدو بفضل العقل إلهًا بالقياس إلى سائر الكائنات الحية. وقد ردَّد شيشرون هذا القول الأخير كما رأينا من قبل (في رسالته عن الغايات ٢، ١٣، ٤٠) فوصف الإنسان بأنه أشبه بإلهٍ فانٍ، وصاغه أبيقور (٣٤١–٣٧٠ق.م) بصورة أخرى حين قال: إن الإله يحيا في الإنسان (وذلك في خطابه إلى مينوكيوس Ep. ad Men وهو في الأخلاق واللاهوت ويُعارض في بعض أجزائه كتاب أرسطو هذا).

وفي النهاية ترتفع هذه النغمة الرائعة لتتوج اللحن الختامي في الفقرة الأخيرة، فنسمع أن حياة الإنسان الفانية تنطوي على جزء من الإله، وهو قول تتردد فيه عبارة اقتبسها أرسطو — كما اقتبسها غيره — من مسرحية «ميديا» للشاعر المسرحي يوريبيدز (ميديا، البيت رقم ٧٧٠).

وتأتي العبارة الأخيرة في الكتاب لتعزز إيمان أرسطو بما قاله سقراط في خطبة الدفاع (٣٨أ)، وتؤكد أنه (أي أرسطو) أقرب إلى هذا الحكيم — الذي جرؤ على السؤال٢٣ — من أفلاطون نفسه «إن الحياة الخالية من التأمل والنظر لحياة لا تليق بالإنسان.» وربما أمكننا أن نضيف: والحياة الخالية من الحرية لا تسمح بتأمل ولا نظر ولا عمل، بل ليست في الحقيقة حياة.
(تم بحمد الله وتوفيقه.)
١  Eidos.
٢  Ta Aitia أو Hai Aitiai وتُعرف عادة بالعلل.
٣  أيزوقراطيس كاتب ومربٍّ ومعلم خطابة. أسس في أثينا — حوالي سنة ٣٩٢ق.م — مدرسة لتعليم فنون الخطابة اجتذبت الشباب من أنحاء بلاد اليونان، وتخرَّج فيها عدد كبير من الكُتَّاب والساسة والخطباء والمؤرخين. وقال عنها شيشروج الذي تأثر به كبيرًا: «كانت أشبه بحصان طروادة لا يخرج منها إلا القوَّاد.» وقد افتتح أفلاطون أكاديميته بعد أن أسس إيزوقراط مدرسته بقليل، واشتدت المنافسة بينهما. مات بعد هزيمة أثينا أمام جيوش فيليب المقدوني في معركة خايرونيا. بقيت تسعٌ من رسائله وإحدى وعشرون خطبة، التي كان يكتبها تلاميذه و«زبائنه» ليلقوها في دُور القضاء، ولم يواجه بها الجمهور لاعتلال صحته، وكلها تتميز بجمال الأسلوب والإيقاع الشعري وتحتوي على آرائه في تربية الشباب تربية عملية وأخلاقية تهتم بالقيم الإنسانية الشاملة، وتنادي بحضارة يونانية تتعدى حدود المدن المستقلة، وتصمد الإمبراطورية الفارسية. وكتابه الأنتيدوزيس Antidosis — الذي يُحتمل أن يكون كتاب أرسطو هذا ردًّا عليه — يضم خطبه التي تُعبِّر عن فلسفته في تربية الشباب كما تسجل صراعه مع الأكاديمية والمدارس الأخرى المعاصرة، وقد كتبه كما قال بنفسه وهو في سن الثانية والثمانين …
٤  الفعل أو العمل Ergon.
٥  Telos.
٦  Ta Porta.
٧  an autes tes alytheias.
٨  Auto to agathon.
٩  Proairesis.
١٠  energia (الفعل) في مقابل القوة والقدرة dynamis.
١١  Ktesis.
١٢  chresis.
١٣  هو كتاب شيشرون (١٠٦–٤٣ق.م) عن الخير الأسمى والشر الأقصى، ويناقش فيه مسألة الخير الأسمى وهل هو اللذة أو الفضيلة أم شيء أكثر تركيبًا.
١٤  يمكن الرجوع إلى نصوص أرسطو الثلاثة الأساسية (بجانب كتابنا هذا) عن اللذة في الأخلاق الكبرى (٢، ٧)، والأخلاق النيقوماخية (٧، ١٣–١٥، ١٠، ١–٥)، والخطابة (١، ١١)، ومقالة اللام من الميتافيزيقا (٧)، وملاحظات أخرى في كتاب الطبيعة (٣٧، ٢٤٧أ ١٤–١٨)، وكتاب النفس (٣، ٧، ٣٤١أ ١٠-١١).
١٥  هو أويديكسوس الكنيدي (من حوالي ٤٠٠ إلى حوالي ٣٤٧ق.م)، عالم يوناني تفوَّق في الرياضيات والفلك والجغرافيا. كان من أعضاء الأكاديمية الأفلاطونية، وربما ترأسها في غياب أفلاطون عنها (سنة ٣٦٧ في رحلته إلى صقلية) وفي نفس الوقت الذي التحق فيه أرسطو بها. قدَّم أثناء وجوده في الأكاديمية تفسيرًا لنظرية المُثُل من وجهة نظر العلم الطبيعي، وكان لرأيه في أن اللذة هي الخير الأسمى أثر كبير على أرسطو الذي يناقش نظريته في المقالة العاشرة من كتاب الأخلاق النيقوماخية، ويُحتمل أن يكون قد أثَّر عليه أيضًا في نظريته عن المحرك الأول الذي لا يتحرك.
١٦  Argumentum e cosensu Omnium.
١٧  ex enantion مواجهة رأي برأي آخر مضاد له ومتعارض معه (والملاحظ أن أرسطو يستخدم هنا رصيده القديم من أمثال هذه الحجج التي عرضها في «الطوبيقيا» أو المواضع الجدلية).
١٨  أو طالما بقيت ملقاة مع الجسد أو مقذوفًا بها فيه.
١٩  أو مما هو جسمي.
٢٠  أو الروح.
٢١  أو التبصُّر العاقل الحكيم (فرونيزيس).
٢٢  هو ثاوفراسطوس، صديق أرسطو وتلميذه وخليفته في رئاسة مدرسته (اللوقيون) من سنة ٣٢٢ إلى سنة ٢٨٧ق.م.
٢٣  عنوان رواية فلسفية رائعة للكاتبة الأميركية «كورا ماسون»، نقلها إلى العربية الأستاذ محمود محمود، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٥٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤