تعليقات وشروح
(ب٢–٥) تقوم الفكرة الأساسية في هذه الفقرات من النص على أن سمو الخلق في ظل الفقر أفضل من الجاه والغنى مع الشر والانحطاط، وأن السعادة لا تتوقف على امتلاك الخيرات والمظاهر الخارجية بل على الحالة النفسية الطيبة. وقد انطلق أرسطو من أفكار مشابهة وردت في محاورات أوريثيديموس (٢٧٨ﻫ/٢٨٢د) والدفاع (٢٩د ﻫ) والقوانين (٦٦١أ ب) لأفلاطون، أما في الفكرة التي ترد في الفقرة (ب٣) عن التعساء الذين يقدرون الثروة أكثر مما يقدرون خيرات النفس فيمكن الرجوع فيها إلى جمهورية أفلاطون (٧–١، ١٣٢٣أ ٢٣–٣٥) والأخلاق الأويديمية (٨–٣، ١٢٤٨ ب٢٧–٣٧).
(ب٦) يعتمد النص في هذه الفقرة على عبارة الإسكندر الأفروديسي (في شرحه لطوبيقا أرسطو)، والتي يذكر فيها كلام أرسطو عن ضرورة التفلسف أو عدم ضرورته في كتابه الحالي (البروتريبتيقوس)، أما العبارة المشهورة التي تحدثنا عنها في المقدمة عن ضرورة التفلسف في كل الأحوال فلم ترد في هذا الكتاب بنفس الصيغة المأثورة، وإن كانت الفقرة الأخيرة منه (ب١١٠) تعبر عن معناها تعبيرًا واضحًا.
- (١)
نريد أن نتناول بالبحث دور الفلسفة في الحياة العملية، وخصوصًا أهميتها بالنسبة للسياسي أو رجل الدولة.
- (٢)
إن الجسد والأشياء المادية مجرد أدوات، وسوء استخدام هذه الأدوات مضر، وضررها يصيب من يسيء استخدامها أكثر مما يصيب غيره؛ ولهذا ينبغي علينا تحصيل العلم بطريقة استخدام الأدوات، وتشتد ضرورة هذا التحصيل عند السياسي لأنه أحوج الناس إليه.
- (٣)
ربما يكون أرسطو قد تعرض ضمنًا لتفرقة أفلاطون الحاسمة بين التفكير والإدراك الحسي. فالموضوعات التي يحققها الفكر هي المُثل المتعالية. ولهذا يتحرك الفكر الخالص في عالم آخر هو عالم المعقولات المجردة، ومن هنا يختلف العلم عنده اختلافًا حاسمًا عن الرأي أو الظن ولا يتطابقان بحال. وإذا تتبعنا النزعة الحسية عند أرسطو كما عرضها في كتاباته عن النفس وجدنا أن صور المخيلة هي التي تُحقِّق المَلَكة الموجودة في العقل بالقوة تحقيقًا فعليًّا، أي أنها تتحقق في العقل الذي يمكن أن يُعد في هذه الحالة مرحلة راقية من ملكة التصور والتخيل. بهذا يكون الفرق عنده بين العلم والرأي فرقًا في الدرجة فحسب (إذ لا يحتاج العلم أن يكون مختلفًا عن مجرد الرأي، بشرط أن يقوم هذا الأخير على أساس متين، قارن الطوبيقا ٦–٢، ١٣٩ ب٣٣، والتحليلات الثانية ١-٢، ٧٢ ب٣). والملاحظ على كل حال في هذا الموضع وفي الكتاب كله أن أفكار أرسطو تبدأ من التجربة لتنتهي إلى النظر الخالص، وذلك على العكس من أفلاطون الذي يبدأ عادةً من النظر — ليصل أو لا يصل — إلى عالم التجربة.
وهذا في الواقع تعبير عن التعارض الأساسي بين تفكير الرجلين ومنهجهما في البحث، أما عن العبارة التي تبدأ بها هذه الفقرات من النص «لما كنا نتوجه بحديثنا إلى أناس من البشر لا إلى أولئك الذين لهم حياة ذات طبيعة إلهية … إلخ» فهي تذكرنا بعبارة مشابهة لأفلاطون تقول: إن علينا أن نتكلم عن البشر لا عن الآلهة (القوانين ٧٣٢ﻫ). فهل يحق لنا أن نسأل: أكان أرسطو متأثرًا بأفلاطون، أم تأثر أفلاطون بأرسطو؟!
(ب١٨–٢١) لا تزال هذه الفقرات من النص موضع اختلاف كبير بين العلماء؛ إذ يشك البعض في صحة نسبتها إلى الكتاب الحالي، والعبارتان المنسوبتان إلى فيثاغورس وأنكساجوراس مذكورتان في (الأخلاق الأويديمية ١–٥، ١٢١٦أ ١١)، ويُلاحظ من النص أن أرسطو يصف الطبيعة بأنها إلهية ويجعلها في كثير من الأحيان مرادفة للإله (انظر ب٥٠ من النص) ومن المعروف أن إله أرسطو هو المحرك الأول الذي لا يتحرك كما أن «الإلهي» يشمل الطبيعة كلها (انظر كتاب الميتافيزيقا، مقالة اللام ٩، ١٠٧٤أ ٣٨ ب١٤، وكذلك ٧، ١٠٧٢ ب٢٩) وعبارته المشهورة التي يقول فيها: «إن الإله والطبيعة لا يصنعان شيئًا عبثًا أو باطلًا» (عن السماء ١–٤، ٢٧١أ ٣٣) تؤكد أن الإله عنده هو الطبيعة نفسها (انظر كذلك المؤلفات المجموع تحت اسم أبقراط، وكذلك مسرحية الطرواديات ليوريبيدز، البيت ٨٨٦). أما ما يقوله في (ب٢٠) عن نظام الكون أو أي طبيعة أخرى فلعله يشير إلى الطرفين المتقابلين؛ دراسة الطبيعة والبحث فيها على طريقة الفلاسفة الطبيعيين أو الأيونيين وعلى طريقته هو نفسه من ناحية، وتراث البحث الذي يبدأ من ناحيةٍ أخرى بالإيليين ويبلغ ذروته في نظرية أفلاطون عن المُثل ومبادئ الوجود.
ويرجِّح الأستاذ «ديرنج» سقوط أجزاء من النص كانت تقع بين الفقرتين ٢٠، ٢١ وهو أمر يدعو للأسف؛ لأن الفقرة الأخيرة توحي بأن أرسطو كان يُمهد لفقرة لم تصل إلينا عن الصلة بين التبصُّر الخلقي والتبصُّر النظري، بين استخدام العقل في التفكير لتحقيق الغاية من وجود الإنسان، وواجبه أن يعمل كل شيء من أجل الخير الكامن في نفسه. ولا غرابة في أن نتوقع إضافات مفقودة؛ لأن هذا الجمع بين «النظر والخير» هو أساس التراث المتصل من سقراط وأفلاطون حتى أرسطو الذي تقوم عليه النزعة الإنسانية القديمة بأكملها.
ومع ذلك فالإشارة السابقة كافية لمعرفة موقف المُعَلِّم الأَول الذي يتردد بوضوح في مواضع أخرى من هذا الكتاب وفي الأخلاق إلى نيقوماخس، ويكفي أيضًا لتعزيز هذا الموقف أن نراجع العبارات التالية المتناثرة في تضاعيف الكتاب: «ويشعرون بالخجل من أن وضعهم الحاضر لا يحفزهم على النهوض بما يرونه واجبًا عليهم» (ب٢)، «نحن جميعًا نختار ما يكون في نفس الوقت ميسورًا ونافعًا، ومن ثَم يجب الاعتراف بأن الفلسفة تملك هاتين الصفتين» (ب٣١)، «ومن ذا الذي يمكنه أن يمثل لنا المعيار الدقيق ويكون لنا بمثابة الدليل الهادي إلى الخير غير الإنسان الحكيم؟ إن اختياره يتم على أساس العلم» (ب٣٩)، «ما من شيء يمكن أن يبدو لنا خيرًا إن لم تتحقق الغاية منه عن طريق النشاط العقلي» (ب٤١) … «وبهذه الطريقة نفسها يتحتم على السياسي أن تكون لديه معايير معينة يستمدها من الطبيعة نفسها ومن الحقيقة ويستعين بها في الحكم على ما هو عادل» (ب٤٧)، «إن سلوك الفيلسوف وحده هو السلوك (أو الفعل) الصحيح» (ب٤٩)، «وعلى الجملة فنحن نكتسب عن طريق هذه المعرفة كل ما هو خير» (ب٥١)، «… إن كل ما هو خير للإنسان ونافع للحياة إنما يكمن في الفعل والممارسة لا في مجرد المعرفة (النظرية) بالخير»، «إننا لا نحيا حياة طيبة (جميلة ونبيلة) عن طريق معرفتنا ببعض الحقائق عن الموجود، بل من خلال عملنا الطيب» (ب٥٢)، أضف إلى هذا كله ما يقوله شيشرون: «لقد ولد الإنسان، كما قال أرسطو، لأمرين؛ ليعقل ويعمل، وهو لهذا أشبه بإلهٍ فانٍ.» وكل هذه النصوص تؤكد اقتران الفكر بالعمل عند أرسطو، كما تؤكد ما يقوله بعض المحدثين والمعاصرين (ماركس وفيتجنشتين مثلًا) من أن التفلسف في صميمه فعل، مهما اختلفوا في مفهوم هذا الفعل، يبقى أن نقول إن أضعف نقطة ينفذ منها الناقد إلى النظرية الغائية هي هذه: فأعلى أشكال المعرفة عند أرسطو هو معرفة الغاية واﻟ «لماذا»، ولكن ما الذي يضمن أن ينصرف المتفلسف «الذي يثبِّت بصره على الطبيعة نفسها» ويستخدم عقله استخدامًا صحيحًا، ما الذي يضمن أنه سينصرف إلى فعل الخير أو يفكر في القيام به أو يجده إن حاول طلبه؟ ألا يقدم تاريخ العالم القديم والحديث ألف دليل ودليل على أن أبشع الشرور لم تأتِ إلا من الذين يُسمون بالعقلاء ويبلغون من «العلم» درجات ودرجات؟! ألا يزيد العقل من شرور من لا يكون خيرًا بطبعه؟! وكيف نفسر نحن العرب نظالم الاستعمار وفظائع الصهيونية ومظاهر العدوان والتعذيب والقهر في أوطاننا وفي عالمنا المعاصر؟!
- (١)
فالقسم الأول (من ٢٢ إلى ٢٤) أرسططالي بحت وإن كان يامليخوس قد غيَّر فيه تغييرات طفيفة، والعبارة الأولى في الفقرة (٢٣) تقول: لما كان النظام (أو العقل) يسود الطبيعة كلها … إلخ، والكلمات الأصلية تفيد أن الطبيعة تملك العقل، وعبارات أرسطو واستعاراته التي يتحدث فيها عن الطبيعة التي تحيا وتعمل الخير وتريده … إلخ تدل على انتظام سير الأحداث الطبيعية وخضوعها لقانون يحكمها، والملاحظ في هذه الفقرة نفسها أن أرسطو لا يكاد يقدم فكرته عن اتجاه الطبيعة نحو الهدف (ب٢٣) حتى يفاجئنا بكلام جديد عن تقسيم الإنسان إلى نفس وجسد، ثم تقسيم النفس إلى جزء غير عاقل وآخر عاقل يبلغ ذروته في العقل (النوس)، فهل يؤكد هذا أن الناقل قد أسقط أجزاء من كتابه أو أقحم عليه أجزاء أخرى من كتاب لا نعلمه؟
- (٢)
القسم الثاني (من ٢٤ إلى ٢٨) يقوم على التفرقة المعروفة بين الغاية وبين ما يكون وسيلة لغاية، ويؤكد أن الفعل العقلي الذي يُمارس لذاته أعلى قدرًا وأكبر شرفًا من أي فعل آخر يتوسل به لغاية غريبة عنه، وقد سبق أفلاطون إلى الفكرة نفسها (انظر مثلًا محاورة جورجياس ٤٦٧د) كما وردت عند أرسطو لأول مرة في الجدل أو الطوبيقا (٢-٣، ١١٠ ب١٨) قبل أن تصبح حجة يلجأ إليها باستمرار.
- (٣)
والقسم الثالث (من ٢٨ إلى ٣٠) قد أصابه تعديل كبير على يد يامبليخوس، ولعله لم ينقله عن كتاب أرسطو الضائع، بل عن مصدر آخر يرجِّح الأستاذ «فلاشار» أنه كتاب بنفس العنوان لفرفوريوس (تلميذ أفلوطين وكاتب سيرته)؛ ولهذا نجد في النص تأثيرات رواقية وأفلاطونية مُحدثة وفيثاغورية جديدة، ومع ذلك لا يمكننا أن نجرِّد النص تمامًا من الروح الأفلاطونية والأرسطية؛ فتقسيم وظائف النفس والحياة عمومًا إلى نامية أو غاذية (نباتية) وحاسَّة (حيوانية) وناطقة تقسيم أرسطي معروف، والقول بأن العقل (نوس) هو العنصر الإلهي في الإنسان يرد بوضوح في الفقرة الأخيرة من الكتاب الذي بين أيدينا (ب١١٠) كما يعبر عنه في الأخلاق النيقوماخية (المقالة العاشرة، ٧، ١١٧٧ب و١١٧٨أ ٨) وكذلك عند أفلاطون في محاورة ثيايتيتوس (١٧٦ب).
(ب٣١–٣٧) يُلاحظ أن تعبير الأيسر والأنفع لا يُقصد به التقييم الأخلاقي، وإنما يُقصد به الأولوية وتقديم المبدئي على الثانوي والأصل على الفرع، وهي حجة يلجأ إليها أفلاطون وأرسطو، والمعنى في (٣٣) واضح: إن العناصر (أو العوامل) البسيطة أوضح وأقرب إلى المعرفة من الأشكال المتنوعة التي تتجلى بها في عالم الظواهر ونتصور عادة أنها أيسر منها في المعرفة؛ فالحروف البسيطة أسهل في المعرفة من المقاطع … إلخ، ولهذا يحتل الحرف في سلم الأولويات مكانًا أعلى من المقاطع والكلمات لأنه هو الشرط اللازم لوجودها، وتُساق الحجة لإثبات أن تحصيل المعرفة الفلسفية ممكن ونافع وميسور، وهو تعبير عن الدعوة إلى التفلسف والحث عليه وتأكيد لصحة نسبته لكتاب أرسطو الذي يشغلنا.
- (أ)
ما يتكون عنه الشيء كالتمثال المكون من البرونز.
- (ب)
الشكل أو النموذج، أي تفسير ما يكون أساسيًّا بالنسبة للشيء أو لوجوده، وأنا أقصد بذلك النوع أو حدود التعريف (الطبيعة، ٢-٣، ١٩٤ ب٢٦).
- (جـ)
بداية التحول أو الحركة، كالناصح أو الأب بالنسبة للطفل، وبالجملة ما يحدث أثر أو نتيجة فعلية.
- (د)
الهدف والغاية أو اﻟ «لماذا»، كالصحة بالنسبة للتنزه.
ويلاحظ القارئ أن العلة الثالثة هي وحدها العلة أو السبب بمعناه الحقيقي، أما العلتان الأوليان فهما «مبادئ» الكون والنشوء، وأما الرابعة التي تعبر عن المبدأ والغاية في نفس الوقت فقد شرَحها في محاورته «عن الفلسفة»، والمهم أن العلل الأربع كانت عند أرسطو بمثابة أداة للعمل في يد الباحث، أو بمثابة الخطة والمنهج الذي يطبقه على بحوثه المختلفة. وفي نص الفقرة (٣٦) يذكر أرسطو في معرض كلامه عن العلل والعوامل الأولية الهواءَ والنارَ (عند الفلاسفة السابقين على سقراط) والعددَ (عند الفيثاغوريين) والطبائعَ أو الموجوداتِ الأخرى (كالمُثُل عند أفلاطون، وقد ذكرها أيضًا في مقالة «الثيتا» من كتاب الميتافيزيقيا ٨، ١٠٥٠ ب٣٤)، وهو بهذا كله إنما يؤكد حجته عن أسبقية المبدأ والأصل على ما يترتب عليه وينتج عنه عن طريق الأمثلة التي يستمدها عادةً من التراث الفلسفي السابق عليه. أما كلمة «الطبيعي» فيريد بها الشيء الذي يكون وجوده متفقًا مع الطبيعة وملائمًا لها.
(ب٤٣–٤٥) يغلب الأسلوب البلاغي والخطابي على هذه الفقرات، ولعل الهدف منه هو تصوير الحجة المنطقية الواردة في الفقرة السابقة عليها، ويلاحظ أن أرسطو (في الفقرة ٤٤) يلعب بالمعنيين المفهومين من كلمة النظر (ثيوريا) وهما التأمل الفلسفي من ناحية، ومشاهدة التمثيل والتفرُّج عليه من ناحيةٍ أخرى، وهي إشارة تفيدنا في البحث عن اشتقاق الكلمات والنظر في معانيها الأصلية التي كانت تدل عليها في السياق الاجتماعي والحضاري وحياة الناس العملية والحسية.
(ب٥٢–٥٧) الفقرة الأولى مأخوذة من كتاب ليامبليخوس (غير شذرات نصوصه التي تحمل نفس عنوان كتابنا الحالي)، وهو كتابه عن العلم الرياضي بالإجمال، ٧٩ (طبعة ن، فستا، تويبنر ١٨٩١) ولهذا يستبعد بعض العلماء (مثل ديرنج وشنيفايس) أن تكون مقتطفة من كتابه الحالي «الحث على الفلسفة» وإن كانا مع ذلك يدمجانها في النص لقربها من لغة أرسطو ومن الفقرة السابقة عليها مباشرة. والملاحَظ أن أرسطو يعتمد على حجته عن سهولة التفلسف لتأييد دعوته إليه وحث القارئ عليه، بل إن الكلمات التي يختم بها الفقرة (٥٦) لتشهد على إيمانه القوي بإمكان التوصل إلى الحقيقة ذاتها كما تُعبر عن ذلك أيضًا بعض كتبه التعليمية (قارن أجزاء الحيوان ١-١، ٦٤٢أ ١٨ والطبيعة ١–٥، ١٨٨ ب٢٩). والغريب حقًّا أنه يُثني على الفلسفة ويؤكد سهولتها بكلمات وحُجج ليست سهلة على الإطلاق! (كما ترى مثلًا في الفقرتين ٥٥، ١٠٣) ويلجأ في هذه الحجج كما أشرنا مرارًا إلى أسلوب المبالغة الخطابية الذي كثيرًا ما تتصادم فيه الأدلة وتتعارض وتتناقض.
(ب٥٨–٧٧) يتردد في هذه الفقرات أكثر من تعبير عن أداء الفعل وعن الواجب وما ينبغي عمله، وكلها أفكار أفلاطونية نجدها في محاورتَي جورجياس (٥٠٣ﻫ) والجمهورية (٣٤٦ﻫ) حيث يتحدث أفلاطون عن أصحاب الحرف والصنائع الذين يضعون عملهم نُصب أعينهم، وتقوم نفس الفكرة بدور كبير في فلسفة أرسطو، ويكفي أن يطبقها على الطبيعة في عبارته المشهورة التي سبق ذكرها أكثر من مرة: إن الطبيعة لا تصنع شيئًا عبثًا، والموضوع هنا هو العمل الذي يقوم به العقل، ويبدو من بداية النص المفاجئة أنه كان مسبوقًا بجزء مفقود، والمهم أن الفقرات (٥٩–٦١) تنتهي إلى أن العقل هو الجزء المتحكم في النفس، وأنه هو وحده — أو في المقام الأول — ذاتنا الحقيقية، هذا الانسجام بين الانفعال والعقل وبين العاطفة والمنطق، ركن أساسي في الأخلاق الأرسطية. بل إنه (على حد تعبير الأستاذ دير لماير في تعليقه على كتاب الأخلاق الكبرى، دار مشتات وبرلين ١٩٥٨، ص٤١٢–٤١٩) هو التحول الكوبرنيقي أو الثورة الكوبرنيقية في فلسفة الأخلاق (نسبة إلى كوبرنيقوس الذي قال بمركزية الشمس؛ وبذلك بدأ التحول التاريخي في النظرة الكونية والحضارية الذي نقل الإنسان من العصر الوسيط إلى عصر النهضة والعصر الحديث)، وسواءٌ أكانت فكرة هذا التجانس ذات أصل أفلاطوني (كما يرى ديرلماير) أم فكرة أرسطية خالصة، فإنها علامة هامة على النزعة الإنسانية في الأخلاق.
وكلام أرسطو عن جزء النفس الذي يحقق فضيلته الخاصة به أو عمله الخاص به (ب٦٠ وكذلك ٦٥، ٧٠) يقوم على الفلسفة التي صاغها أفلاطون في الجمهورية (٣٥٢أ-٣٥٣ﻫ)، أما كلامه اللاحق (ب٦١، ٦٢) عن الارتباط بين فضيلة هذا الجزء العاقل من النفس وبين الشرف والقيمة فهو يُعبر عن تفكير أرسطو ووجهة نظره الخاصة التي تؤكد أن الرقيَّ على سلم الغايات ملازم للتصاعد في سلم القيم، وهو أمر لا ينفصل عن فلسفته الغائية بوجهٍ عام، وبقية الكلام الذي يؤكد أن الجزء المذكور هو ذاتنا الحقيقية يأخذ تعبير «الجزء الصغير» من جمهورية أفلاطون (٤٤٢ﺟ)، ولكنه يترجم بعد ذلك عن أفكار أرسطية أصيلة تجد ما يشبهها في كتاب الميتافيزيقا، مقالة الإيتا (٣–١٠٤٢ ب٢)، ومقالة الزيتا (١٠، ١٠٣٦أ ١٧). وهذا الجزء نفسه — وهو الجزء العارف الذي يُعد وحده أو مع أجزاء النفس الأخرى أكثر قيمة من بقية النفس مجتمعة — يُذكِّرنا أيضًا بمحاورة السياسي لأفلاطون (٢٥٨–٢٦٠)، ومع أنه لم يَرِد في سائر كتابات أرسطو بهذه الصيغة، فهو مرادف عنده للعقل (نوس)، ولما كان النظر عند أرسطو لا ينفصل كما قلنا عن العمل، فإننا نجده يذكر «المعرفة المنتجة» (في الفقرة ٦٩)، وقد كان تقسيمه للمعرفة إلى معرفة نظرية وأخرى عملية مثارًا لسوء الفهم الطويل، وربما أوحى أرسطو نفسه بذلك في بعض الأحيان عند حديثه عن المعرفة النظرية حديثًا يُفهم منه أنها رؤية سلبية، مع أن الحياة الفلسفية في رأيه وبكلماته نفسها «فعل مستمر» (قارن الأخلاق النيقوماخية ١٠–١٢٠٤٧ ب٢٥–٣٢) وليست نوعًا من التهدئة أو الراحة من متاعب الحياة؛ فلقد كان أرسطو نفسه رجل عمل، ومن الطبيعي أن يكون العمل شعاره في الحياة، وكلامه عن الحياة النظرية لا يُراد به الحياة الموهوبة للتأمل الخالص (كما تصور ييجر وجوتييه في كتاب الأول عن أرسطو وكتاب الثاني عن الأخلاق النيقوماخية — لوفان ١٩٥٨-١٩٥٩) وإنما يُراد به حياة الدرس والبحث العلمي التي لا تنفصل عن حياة الفعل والعمل، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان هنالك معنًى لربطه بعد ذلك بين الحياة الفلسفية التي تتسم بالحكمة والتبصر وبين الفضيلة والسعادة، ولما استطعنا أن نجد في أنفسنا هذا التعاطف الشديد مع الفقرة الختامية من الكتاب.
ويحتمل أن يكون يامبليخوس قد تدخل بالتغيير أو الحذف في الفقرات السبع الأخيرة (من ب٧٠ إلى ب٧٧) التي تعرض حجة متسقة متماسكة، ويُلاحظ التقارب الشديد بين الفكرة الواردة في العبارة التي تبدأ مع الفقرة (٧١) وبين الفكرة التي جاءت في جمهورية أفلاطون (٧–١، ١٣٢٣ب ١٣–١٦). ويُقارن «ييجر» في كتابه عن أرسطو (ص٦٩) بين الفقرة (٧٢) وبين نص في مقالة الألفا من كتاب الميتافيزيقا (ألفا ١–٩٨٠أ ٢١–٢٨) ويقول: إن العبارة المشهورة التي يبدأ بها هذا الكتاب الأخير «إن البشر جميعًا يسعون بطبيعتهم إلى المعرفة» تُعد صورة مكررة من العبارة «الكلاسيكية» الواردة في هذه الفقرة من «البروتريبتيقوس»، وإذا كانت هذه الملاحظة تُوحي بأن مقالة الألفا قد كُتبت قبل كتابنا هذا فإن الأستاذ «ديرنج» يُرجَّح أن يكون الاثنان قد دونا في نفس الوقت.
وترد في الفقرة (٧٤) عبارة تتكرر بعد ذلك بقليل: «إن الحياة تُحدد ﺑ «القدرة» على الإحساس.» ويمكن التوسع بالنظر إلى كتاب أجزاء الحيوان (٣-٤، ٦٦٦أ ٣٥). ولعل تعريفه للإحساس في الفقرة التالية (٧٥) بأنه القدرة على معرفة شيء عن طريق الجسم لعله كان تعريفًا شائعًا في الأكاديمية (قارن الفقرة (ب٢٤) من هذا الكتاب، وكذلك الجمهورية ٥٣٢أ). أما أن الناس جميعًا يسعون في طلب المعرفة ويفضلونها على كل شيء آخر (ب٧٧) فهي عبارة أساسية يدور حولها أرسطو في كتابنا هذا، ولعله قد استوحاها من محاورة أفلاطون «أويثيديموس» (٢٧٨ﺟ–٢٨٢ﺣ)، لا سيما أن الحجة هنا وهناك متطابقة (كما أثبت الأستاذ ديالماير في تعليقه على الأخلاق الكبرى ١–٣، ١٨٨٣أ ٣–١٤ ص١٩٢).
- (أ)
الحياة المُفتقِرة للقدرة على التفكير حياة لا قيمة لها.
- (ب)
القدرة على التفكير والتفلسف لا يُقاس بها شيء آخر، وكل ما عداها لا يساوي شيئًا إذا قورن بها.
- (جـ)
النوم شيء ممتع ومحبَّب إلى النفس، ولكن من المستحيل تفضيله على اليقظة، أي على الفكر الإيجابي الفعال.
- (د)
إننا نحب كل ما هو واضح ومضيء؛ ولهذا نحب التفكير والمعرفة.
- (هـ)
وأخيرًا فإن القدرة على التفكير والتفلسف شرط ضروري لقيام الحياة السعيدة الكاملة.
تَرِد في الفقرة (١٠١) عبارات تدل على رأي أرسطو القاطع في تكذيب الأحلام واعتبار الرؤى والتخيلات التي تطوف بنا في النوم نوعًا من الخداع الذي لا نصيب له من الحقيقة. وإذا كان أفلاطون في مناقشته المشهورة لموضوع الأحلام (الجمهورية ٥٧١-٥٧٢) قد ذهب إلى أن «الرجل الحكيم» يمكن أن يقترب من الحقيقة في أحلامه بحيث لا تبتعد رؤاه وتخيلاته عن الواقع المألوف أدنى بعدٍ، فإن أرسطو ينفي في كتابنا هذا وفي مواضع أخرى من كتبه أن يكون للأحلام أي نصيب من الحقيقة والصدق، وإن كانت تُعبر عن نوع من الإدراك أو الإحساس الذي ليس من السهل احتقاره ولا الاقتناع به (كما يقول في مقالته عن النوم ٤٦٢ ب١٢ انظر كذلك الميتافيزيقا، مقالة الدلتا ٢٩، وكذلك الفقرة التي نحن بصددها من هذا الكتاب).
أما كلامه في الفقرة التالية عن الهروب من الغامض والمجهول والسعي إلى الواضح والمعروف فلعله أن يكون متأثرًا برأي أفلاطون في أن مثال الخير — وهو أسمى المُثل وأرفعها قدرًا — يفيض النور والوجود والمعرفة على الأشياء الموجودة في عالم الحس (الجمهورية ٥٠٩أ). وإذا كان الفكر الفلسفي اليوناني يوجد بوجهٍ عام بين النظر العقلي والنظر بالعين، بحيث يمكن القول أن التأمل عنده مقترن بالمشاهدة والرؤية الجمالية (خصوصًا عند أفلاطون!) فليس غريبًا أن تتردَّد عند أرسطو وعند غيره من مفكري اليونان صور العقل والنور والبصر (انظر مثلًا الخطابة ٣–١٠، ١٤١١ ب١٢، والطوبيقا ١–١٧، ١٠٨أ ١١، والأخلاق النيقوماخية ١–٤، ١٠٩٦ ب٢٩).
والتقارب بين هذا النص وبين عبارات الفقرات التي نحن بصددها أوضح من أن نشير إليه، صحيح أنه تقارب في الشكل أكثر منه في المضمون ولكنه ينطق في الحالين بأن الحياة العاطلة من التبصر والحكمة حياة باطلة لا تستحق أن تُسمى حياة، وأن القيم التي يحتفل بها الناس لا تبدو لهم كذلك إلا بسبب ضعفهم الذي يزينها في أعينهم، مع أنها لا تعدو أن تكون ظلالًا سخيفة وأشباحًا عارية من كل حقيقة. غير أن التقارب الشكلي بين الفيلسوفين لا ينفي عن أرسطو أصالته، فليس ما يقوله مجرد محاكاة لأستاذه، وصوره ليست مجرد ظلال باهتة لذلك الأثر المشهور. ويتضح هذا بوجهٍ خاص إذا تأملنا الاستنتاج الذي يخرج به أرسطو من كلامه المصبوغ بالقتامة؛ فهو في الحقيقة يبتعد عن كلام أفلاطون بقدر ما يقترب من «دفاع» سقراط. إنه ينكر إمكان التوصل إلى المعرفة الحقيقية في هذا العالم، ولا يرجح هذا الإمكان في عالم آخر بعد الموت، وإنما يؤكد أن الحياة بغير تفلسف لا تستحق أن تكون حياة. وإليك عبارات أفلاطون التي توضح الفارق الشديد بينه وبين تلميذه الناضج المستقل برأيه: «إذا كان من المستحيل إذَن التوصل إلى المعرفة الحقيقية ما بقيت النفس مرتبطة بالجسد، فليس «أمام الإنسان» إلا أحد أمرين ممكنين؛ إما أن يكون اكتساب المعرفة الحقيقية مستحيلًا على الإنسان، وإما أن يكون محتملًا بعد الحياة الحاضرة» (فايدون، ٦٦د). لا شك أن الفقرات الأخيرة توحي للوهلة الأولى بتشاؤم أرسطو، مما جعل «ييجر» (أرسطو، أسس تاريخ تطوره، برلين، ١٩٢٣، ١٩٥٥، ص١٠٠) يقول إنه كان في كتابيه (ويقصد بهما الأخلاق الأويديمية وهذا الكتاب) مُفعم النفس بالتشاؤم من هذا العالم الأرضي ومن خيرات الدنيا، وتابعه في ذلك بعض الباحثين الإيطاليين (مثل باريجاتسي وبنيونه وتلاميذه) الذين أسرفوا في تأكيد تشاؤم أرسطو في شبابه ورجولته إلى حد القول بأنه دعا في كتابيه السابقين إلى ترك الأرض التي لا يُتاح فيها للإنسان أن يحيا الحياة الحقة! والواقع أن هذا الزعم مبالغ فيه أو مغلوط من أساسه؛ فأرسطو لم يتخلَّ أبدًا عن نزعته العقلية المتفائلة، ولا تخلى أبدًا عن واقعيته التي تنفذ ببصرها الحاد إلى كل مجالات الواقع في الطبيعة والعقل والحضارة. وإذا كان عقله الأرستقراطي يطل كالنسر من عليائه ويرصد جوانب الضعف والشقاء الإنساني، فما ذلك إلا لأن عين الفيلسوف تنظر إلى الواقع — كما يُعبِّر اسبينوزا — ومن وجهة نظر أبدية أزلية فترى كل ما نتصوره خيرًا مجرد مظهر خدَّاع وشبح زائل، وتعرف أن القيم التي نهتم بها في حياتنا اليومية عديمة القيمة. وإذا كان الرجل العادي مثلنا يمر بهذه التجربة في بعض المواقف «الحدية» والأزمات الطارئة، فهل نستكثر على الفيلسوف أن تكون هذه هي تجربته الأصلية؟ وهل يمنع التعاطف مع الشقاء البشري من التفاؤل بقدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة والإيمان بقدرة الإنسان على أن يحيا الحياة الجديرة به؟ لقد كان أرسطو في صميمه إنسانًا واقعيًّا، وهذه الواقعية «اليونانية» هي التي جعلته يرصد ضعف الإنسان ويعرف أن شقاء البشر أمر واضح للعيان (السياسة ٢–٧، ١٢٠٧ ب١). وقد كان ضعف الإنسان بالقياس إلى الآلهة موضوعًا أثيرًا طرقه مفكرو اليونان وكُتابهم وشعراؤهم منذ هوميروس حتى عهده؛ ولهذا اقترن به كذلك موضوع آخر ظلوا يعبرون عنه منذ عهد الحكماء السبعة في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وهو ضرورة التزام الحد وتجنب الغطرسة والسعي إلى معرفة النفس، أي معرفة الإنسان بأنه حيوان عاقل فانٍ.
وفي النهاية ترتفع هذه النغمة الرائعة لتتوج اللحن الختامي في الفقرة الأخيرة، فنسمع أن حياة الإنسان الفانية تنطوي على جزء من الإله، وهو قول تتردد فيه عبارة اقتبسها أرسطو — كما اقتبسها غيره — من مسرحية «ميديا» للشاعر المسرحي يوريبيدز (ميديا، البيت رقم ٧٧٠).