مستعمرة الروبوت!
كان رأي «أحمد»، في أن جماعة «سايبرسبيس» سيفكرون ألف مرة قبل التعرُّض لهم، رأيًا صائبًا. فمعنى عودته مرة أخرى إلى «سويسرا» بعد قبضه على أحد أعوانهم وعلى مافيا تجارة السلاح، يعني أنه تم تأمينه للغاية، وأن هناك شرَكًا ينصبه هو ومَنْ معه للإيقاع بمَنْ تبقَّى من الجماعة.
وكان هذا التفسير كافيًا لإقناع الشياطين بصواب فكرته … ولكنه لم يضَعْ في الحسبان أن «سايبرسبيس» سيفكرون بنفس الطريقة، ولم يكتشف ذلك … إلا عندما استيقظوا صباح اليوم التالي، فشعروا أنهم ليسوا في نفس المكان الذي كانوا فيه قبل نومهم.
نعم … إنها نفس الفيلَّا … نفس الغُرَف … نفس الأسِرَّة، ولكنها ليست نفس الحديقة. إن فيها شيئًا غير مريح … غير طبيعي، ولقد اكتشف «أحمد» ما هو أغرب، وهو أن الفيلَّا أصبحت تحت الأرض فمصدر الهواء واحد، وموزَّع بطريقة آلية على المكان. والدليل على ذلك وجود دوامات هوائية في أماكن متفرقة، وكذلك الضوء أيضًا … مصدره واحد وموزَّع بطريقة العواكس والأوساط الحاملة، ويتضح ذلك من البُؤَر الضوئية المنتشرة في المكان، ورأى «عثمان» أنهم في سجن دخلوه بأقدامهم، وبطريقة ذكية للغاية لقد حضروا للإيقاع بالجماعة، فوقعوا في براثنهم مجتمعين.
فهد: ألم تكن هذه الفيلَّا فوق الأرض؟!
إلهام: يبدو أنه بُرج متحرِّك … ولكن هل هو سجن حقًّا؟
أحمد: أعتقد أنها مستعمرة … وأن هناك شيئًا يدور أكبر من عمليات الابتزاز والنصب.
فهد: تقصد أنهم يُقدمون على مثل هذه العمليات للإنفاق على هذه المستعمرة؟! لمعت عينا «عثمان» وهو يقول: نعم إنها فكرة صائبة … وتفسير لما كان يدور برأسي من أسئلة عن مصير الأموال التي يحصلون عليها.
إلهام: إذا استطعنا التحرُّك بحرية في هذه المستعمرة، فسأريح رأسي مما يدور بها من تساؤلات.
عثمان: أعتقد أننا سنرى أشياء كثيرة عجيبة.
أحمد: علينا ألَّا نسبق الأحداث.
عندما همَّ الشياطين بالخروج من الفيلَّا لم يجدوا منفذًا واحدًا مفتوحًا، فكل النوافذ الزجاجية مغلقة ولا سبيل إلى فتحها، وكذلك الباب الرئيسي والخلفي، ومن الواضح أن التحكم في فتحها وغلقها، يتم من غرفة خاصة داخل الفيلَّا … ولمعت عينا «إلهام» في هذه اللحظة وقالت: هذه المنافذ يتم التحكم فيها من مكانٍ بعيد!
أحمد: معك حق … وهذه الفيلَّا مِلْك للمجموعة.
فهد: معنى ذلك أن مستر «كول» هذا الذي ابتاع لك الفيلَّا … عميل للجماعة … أو لمافيا تجارة السلاح؟
عثمان: هذا ممكن، ومن الممكن أيضًا أن يكونوا متتبِّعين لمكالماتنا … وعرفوا برغبة «أحمد» في شراء الفيلَّا، فأوقعوها في طريق مستر «كول».
أحمد: معقول جدًّا، ولكن هذا ليس وقتَ تفسيرٍ.
إلهام: لا أتفق معك يا «أحمد»، فتفسير ما حدث سيحدد لنا مع مَنْ نعمل، وكيف نتعامل معه.
زاغت عينا «أحمد» للحظات، ثم تحرَّك صَوْب إحدى النوافذ الزجاجية، وفحصها بعناية، وقد سمعه «عثمان» يغمغم قائلًا: إنه مستوى مبهر حقًّا من التقدُّم العلمي والتكنولوجي، وعندما سأله عما اكتشفه أشار له محذرًا، فالمكان مُلغَّم بأجهزة التنصت، ومدَّ إصبعه يلمس الزجاج، فتغير لونه إلى الأحمر المشوب بالزرقة، وبدأت تظهر تفاصيل وجه مبتسم، إلى أن اكتملت الصورة ووضحت، ثم اختفت مرة أخرى كما ظهرت بدلًا منها، صورة لقِمَّة جبل تعلوه الثلوج؛ فعلَّق «أحمد» قائلًا: إنها جبال القمة البيضاء.
ثم ظهرت فتحة كبيرة في جانب الجبل تؤدي إلى ممرٍّ مظلم يضيئه كشَّاف متحرك يحمله شخص، لا يظهر منه سوى يده الممسكة بالكشَّاف، وفي نهاية الممر يظهر مكان متَّسع … وكلما تحرك الضوء فيه ازداد اتساعه، حتى إنهم لم يحددوا نهايته. وهنا قالت «إلهام»: إنهم يعرضون علينا تاريخ هذا المكان.
فهد: وكأنهم واثقون أننا لن نفلت من أيديهم … ولن نخرج من هذا المكان أبدًا. وهنا … علا صوت تردد في جنبات الغرفة … لم يعرفوا مصدره، يقول لهم ردًّا على ما قاله «فهد»: وهل ترون أن هناك فرصةً للخروج من هنا؟
التفت «أحمد» يمينًا ويسارًا يبحث عن مصدر الصوت، وهو يقول: الفرص كثيرة، ولكن ليس هذا وقتَها.
اختفت صورة ماضي المستعمرة، وظهر بدلًا منها ذلك الوجه مرة أخرى، وقد كان منتفخ الأوداج، جاحظ العينين وقال بنفاذ صبر: أرى أنكم تؤمنون بالمستحيل!
أحمد: لا … بل نحن لا نؤمن به.
الرجل: إذن، كيف تتصورون أن لكم مخرجًا من هنا؟! وعلى أي حال نحن لن نؤذيكم، بل نحن نريدكم معنا هنا.
كان «فهد» في تلك الأثناء قد لمَس بكلتا يديه زجاج إحدى النوافذ الأخرى، وهنا ظهرت معلومات كثيرة على الزجاج … وكأنه فجأة تحوَّل إلى شاشة جهاز كمبيوتر. يظهر عليها درجة حرارته ومستوى انفعاله، ومعلومات ونصائح وإرشادات عليه تتبعها في تجوُّله بالمستعمرة، وبعدها … انفتح الباب الزجاجي الوحيد بالغرفة، وعكس ما تصوَّر رجال المستعمرة، لم يتردد الشياطين في الخروج، بل خرجوا وتجولوا بحرية بين مجموعة ضخمة من الغرف الزجاجية المتراصَّة في صفوف متجاورة، وبداخلها حضَّانات لأجنة حيوانات، وأنابيب اختبار ضخمة تحوي كائنات دودية كبيرة الحجم، وغيرها الكثير … ولكن العجيب في الأمر … أنهم لم يشاهدوا إنسانًا واحدًا بين هذه الجدران، بل كل ما كان يتحرك ويعمل خلف هذه الأجهزة، هو الروبوت. والمثير في الأمر شعورهم أن أعضاء هذه الجماعة يقرءُون أفكارهم، فكلما همَّ أحد بالتعليق على ما يرى، سمع صوتًا لا يُعرف مصدره يفسر له ما يراه، أو يجيب عن السؤال الذي يدور في ذهنه. وتحير الشياطين … فكيف سيتفاهمون؟ إنهم يشعرون بهم تحت جلودهم، واضطروا أن يلجئوا للُغةٍ لها أبجديتها الخاصة بهم هم فقط. ولم تمضِ ثوانٍ من الحديث بها، إلا وسمعوا صوتًا غاضبًا يحاول الشوشرة عليهم، ويتوعدهم قائلًا: لقد أبقينا على حياتكم بإرادتنا … فلا تدفعونا إلى إنهائها بسوء تصرفكم.
فنظر «أحمد» إلى أعلى سائلًا صاحب الصوت: وماذا فعلنا؟
الرجل: إنكم تتحدثون بلغة غير معروفة؟ وغير موجودة في قواميس اللغات. وهذا يعني أنها لغة حركية … تنوون بها الاتفاق على فعل شيء ضدنا.
أحمد: ولماذا ضدكم؟
الرجل: لأنك لو كنت تتحدث حديثًا عاديًّا، لتحدثت بلغتك العربية، أو أي لغة أخرى معروفة، ولكنك تعرف أن أجهزة الكمبيوتر تعرف كل اللغات.
تبادل الشياطين نظرات الدهشة، فرغم أنهم في مكان مفتوح، إلا أن كل كلمة منهم مسموعة، وكل حركة منهم مرصودة، ولم يتبقَّ لهم غير لغة العيون التي لم تستغرق منهم سوى ثوانٍ محدودة وكانوا قد اتفقوا، فأخرجوا أدق أجهزة الإشارة والشوشرة الإلكترونية، وتفرقوا فجأة في أماكن عدة. وفي توقيت واحد، كانت كل أجهزتهم تعمل، وثارت ثائرة العاملين بالمستعمرة، وعلا بين جنباتها طنين يُصم الآذان، وتوترت حركة أجهزة الروبوت. مما أعطى فرصة للشياطين أن يجتمعوا خلف إحدى الغرف الزجاجية، وكانت عبارة عن أنبوب ضخم مظلم في ارتفاع مبنًى من ستة طوابق.
وطلب «أحمد» من الشياطين إيقاف عمل الأجهزة لدقائق، وبعدها اختفى الطنين، وتوقفت حركة كل الأجهزة في المستعمرة، مما أثار دهشة الشياطين. فهل أجهزة الإثارة قد أصابت دوائر التحكم في أجهزتهم بخلَل ما أو بعطلٍ؟
أم أن مولدات الطاقة قد توقفت عن العمل؟
قال «عثمان»: مستحيل! فمستعمرة مثل هذه من المؤكد أنهم سيوفِّرون لها أكثر من مصدر للطاقة، وما حدث بعد ذلك لم يُعطِ فرصة لأحد للتعليق على كلام «عثمان»؛ فقد انفتحت الغرف الزجاجية، وخرجت أجهزة الروبوت تسير في اتجاهات متفرِّقة، ماسحة لجنبات المستعمرة … والشياطين يتابعونها في ذهول. ولم تمضِ غير ثوانٍ … إلا وقد عثروا عليهم، فتحركوا في اتجاههم، وشعر «أحمد» بخطورة المأزق الواقعِين فيه، فأجهزة الروبوت هذه خطيرة، وإمكانياتها الحركية كبيرة، هذا بالإضافة إلى أسلحة الليزر التي تزود بها. يُضاف إلى ذلك كثرة عددها، ولم يكن هناك مفر من تشغيل أجهزة الشوشرة، والتي جعلتهم يتحركون حركة عشوائية، وبدأت ترتفع أصوات اصطدامهم بجدران الغرف الزجاجية، إلا أنها كانت من زجاج مصفَّح … فلم تتحطم، وكان هذا أمل «أحمد»؛ لأنه يريد من ناحيةٍ تكبيدَهم خسائر فادحة، فيضطرهم للظهور مجتمعين، وينتهي منهم.
ومن ناحية أخرى، كان يريد الاطلاع على ما يقومون به من أبحاثٍ وتجاربَ، ولم يعُدْ في حوزته غير أجهزة الإنارة … وهي أجهزة تولِّد موجات كهرومغناطيسية قصيرة جدًّا، ذات ترددات عالية، تُكسب دوائر أجهزة الروبوت طاقةً زائدة. وقد دفعها ذلك لتوجيه مدافع الليزر المزوَّدة بها، إلى أبواب المعامل فتحطمها. وبالطبع … أصاب الكثير من هذه الأشعة، كثيرًا من أنابيب الاختبار. والحضانات الزجاجية فأحدثت بها ثقوبًا. وبسبب حركتها العشوائية اصطدمت ببعضها؛ فتحطَّمت وتناثرت منها أجزاء تسبَّبت في عرقلة الأجهزة الأخرى.
كانت هذه أعظم فرصة للشياطين لكي يدخلوا إلى المعامل الزجاجية، ويطَّلعوا بحذرٍ على ما بها.
وكان الكثير من هذه الأجهزة ملحقًا بها ميني كمبيوتر. وبمهارة فائقة، استطاع «أحمد» تشغيل بعض هذه الأجهزة، والدخول إلى برامجها … والاطلاع على ما بها، وكانت معظم هذه التجارب في مجال الهندسة الوراثية … وعلى شاشة أحد الأجهزة الذي استطاعت «إلهام» تشغيله … رأت ست صور مكررة لشاب في العشرين من عمره. وأسفل هذه الصور … جدول يحوي حسابات خلوية وجينية. وبعد قراءة متعمقة، استطاعت «إلهام» أن تتوصَّل إلى طبيعة هذه الأبحاث والهدف منها، في الوقت الذي كان فيه بقية الشياطين قد توصَّلوا لنفس النتيجة … إنها أبحاث في مجال الاستنساخ وهي تكنولوجيا جديدة في مجال الهندسة الوراثية، قام بها العلماء بدمج نواة خلية مأخوذة من نعجة أطلقوا عليها اسم «دُولِّي» … ببويضة منها أيضًا … وأدَّى ذلك لأن تحمل وتلد نعجة أخرى لها نفس صفاتها، أي نسخة أخرى منها … لذا أطلقوا على العملية اسم «الاستنساخ»، ولكنَّ تساؤلًا ألمَّ بهم سويًّا فجأة، وشعر «عثمان» أن ما يفكر فيه يدور في رءوسهم جميعًا.
فأشار على الأنبوب الضخم المظلم قائلًا، والكل ينظر له: وماذا في هذا الأنبوب؟