ليس جديدًا ولا غريبًا، أن يؤكد الباحثون في تراث الإنسانية: أن تاريخ مصر هو تاريخ
الدنيا، ولم يكن «برستد
Breasted» مغاليًا حين أكد: أن أعلى
معاني المدنيَّة كان مهده هناك،
١ ففي هذا الوادي الضيق الذي يمتد بجذورٍ تَضرب في أعماق الماضي السحيق، بزَغَت
شمسُ الحضارة ثم استوت حتى أكملت دورتها، من مهدها حتى شيخوختها عدة مرات، في وقت كان
فيه الإنسان في بقية أنحاء المعمورة، لا يزال يُصارع وحشيته البدائية فتَصرَعه، وكان
طبيعيًّا أن تَمور وتفور في هذه الحضارة — التي امتدت قَرابةَ خمسة آلاف عام — موجاتٌ
كثيرة من
الأنظمة والنظريات والعقائد، مدًّا وجزرًا، منها ما أُتلِف ومنها ما تَناقض واختلَف،
ومنها
ما علا حتى عمَّر مسيطرًا، ومنها ما تراجع وانحسر.
وعبر تيارات اليمِّ الزمني، سارت هذه الأنظمة علوًّا وهبوطًا، فتَركَت للبشرية تراثًا
فرض
نفسه على عقلها وروحها، بحيث أصبح من فساد الرأي أن يقوم باحثٌ بتأصيل لأي نوع من
النظريات أو الأنظمة — وبخاصة العقائدية منها — دون الرجوع إلى مصر القديمة.
وبحثًا عن المراحل الأولى للتاريخ المصري القديم، يبدأ الفكر جولته مع شعب الوادي
على
طريق بدئه الحضاري، ساعيًا عبر مصادره ومراجعه نحو غايته، فيجدها ترتد به ارتدادًا نحو
أغوار الزمن العميق؛ لِتُوقفه على اتفاق معظمها على: تقسيم مصر القديمة حضاريًّا إلى
عدد
من المراحل أو العصور، يمكن بعدَ استقرائها، تفصيلُها على الوجه التالي:
-
عصر فجر التاريخ،
-
عصر التأسيس،
-
عصر الدولة القديمة،
-
العصر المتوسط الأول،
-
عصر الدولة الوسطى،
-
العصر المتوسط الثاني،
-
عصر الدولة الحديثة،
-
عصر الانحلال.
(١) عصر فجر التاريخ
أو ما يُطلَق عليه أحيانًا عصرُ ما قبل بداية التاريخ المكتوب، وترجع التسمية لعدم
وجود المدونات الخَطية في الآثار التي تركَها المصري القديم لهذا العصر،
٢ كما لم تسمح الشواهد الأثرية بتكوين فكرة إيجابية عن ديانة هذا العصر
أو أهم أحداثه.
٣ والمرجع لما دار فيه من أحداث، هو تفسيرات علماء المصريات القديمة، لما
حملته الذاكرة والشفاه ليسجل في مدونات العصور التي تلَتْه.
ويوضح إريك بيت
Eric peet:
٤ أن هذه المدونات قد جاءت على شكل إشارات متفرقة في متون الأهرام، كقصص
أسطورية، تَحكي عن حكام مصر من الآلهة، من أمثال «حور
Horus» و«ست
Seth»
و«آتوم
Atum». وأن هذه المتون لم يبدأ تسجيلها إلا في
العصر التالي، مع الأسرة الرابعة من عصر الدولة القديمة على وجه التقريب.
وتفصيلًا لِمُجريات أحداث هذا العصر، يمكن لنا تقسيمه إلى أربعة عهود، هي على
الترتيب كما يلي:
(١-١) عهد الأقاليم المستقلة
وفي هذا العهد: بدأ سكان الوادي الأول يستقرون ارتباطًا بالأرض؛ زرعًا
وتفليحًا، فكان أنْ نتَج عن ذلك استقرارٌ سكاني، تَبِعه بالضرورة قيامُ المدن
المستقلة، تلك المدن التي اتخذَت كلٌّ منها إلهًا تعبده وتتقرب إليه، تهلع إليه
وقت ضيقها، وتضع تقدماتها بين يديه، شاكرةً مُجِلَّة وقتَ سَعتِها. ويبدو أن هذه الآلهة
كانت آلهة طوطمية، ارتبطت بأشكالها الحيوانية البدائية، بحيث تركت هذا الأثر
الحيواني في أجيالها التالية.
ولم يمضِ وقتٌ طويل، حتى اقتضت الظروف الجغرافية والاقتصادية، أن تتقارب هذه
المدن لتتوحد مندمِجة في أقاليمَ؛ لتؤلف كلُّ مجموعة من المدن إقليمًا متسعًا،
يتميز بحدوده التي رسمَتها الطبيعة، ولتغدوَ عاصمتُه أهم مدينة فيه، ويصبح معبودُ
هذه المدينة هو المعبودَ الرئيسي للإقليم.
وواصلت العوامل الجغرافية والاقتصادية — مع دفعٍ مكثَّف من العوامل السياسية
والاجتماعية — عملَها، في توحيد الأقاليم معًا في حكومات كبيرة قوية. ونحو إدماج
الأقاليم إنْ سِلمًا أو حربًا؛ كان لا بد أن يحدث إدماجٌ للأرباب، حتى يقف من
بينها إلهٌ واحد لمجموعة الأقاليم المتعددة، هو في الأصل إله الإقليم القوي أو
الأكبر أو الظافر في المعركة.
وانتهى الأمر في هذا العصر فيما يرى «زيته
Sethe» إلى تجمع أقاليم الدلتا في
مملكتَين؛ إحداهما شرقية تحت راية الإله «عنجتي»، والأخرى غربية تحت زعامة الإله
«حور» إله الغربيين الذي انعقدَت له زِعامة الدلتا كلها بعد توحيدها، بينما كان
الصعيد قد خطا نحوَ الوَحْدة خطواتٍ جبارة، انتهت بتوحيد أقاليمه تحت زِعامة ربه
الأكبر «ست».
٥
(١-٢) عهد الوحدة الأولى
ويُحدِّث التاريخ بأنه على الحدود بين مملكتَيِ الشمال والجنوب قد قامت نزاعات،
تطورَت إلى حروب شاملة، تصورَها المصريون آنذاك حربًا بين الإلهين العظيمين «حور»
إله الشمال، و«ست» إله الجنوب، مسجلة في التاريخ انتصار الإله «حور» على غريمه
الصعيدي «ست»، وتقوم بين الإقليمين وَحدةٌ لا يُكتَب لها البقاء طويلًا، ولا يلبث
الصعيد أن ينفصل عن وحدته مع الشمال، كما لو كان مقدرًا لهذه الوحدة القسرية،
المفروضة بالقوة العسكرية، أن تفشل في الاستمرار.
(١-٣) عهد الوحدة الثانية
ولم تهدأ الأحوال تمامًا، فعاد طموح الشمال ليدفع بالجيوش مرة أخرى نحو
الجنوب؛ في محاولةٍ ثانية لفرض سلطانه وسيطرته، لكن الراية هذه المرة كانت
معقودةً لإله جديد، بدَت سيادته واضحة في ذلك العهد، هو الإله آتوم إله مدينة
«أون
Iwnu»،
٦ وهو نفسُه الإله الذي أصبح اسمه «آتوم رع
Atum-Ra».
٧ ويبدو أن هذا الإله قد سجل لعباده نصرًا جديدًا على الإله الصعيدي
«ست» غريم سلفه «حور». ومرةً ثانية يُحدِّث التاريخ بأن الوحدة المفروضة بالقَسْر
والإلزام لا تَدوم، فينفصل الصعيد مرة ثانية.
(١-٤) عهد الوحدة الثالثة
وبدا واضحًا أن تمرد الصعيد الانفصالي هذه المرة، لم يَقتصر على مجرد
الانفصال، بعد أن تمرس جنودُه بفنون الحرب والقتال، بل تعدى ذلك إلى دَحْر الشمال،
ثم غزو أراضيه بقيادة ملكه «نعرمر مينا
Narmr Mena»
الذي استطاع أن يسيطر تمامًا على الشمال بعد أن كسر شوكته الحربية للمرة الأولى
والأخيرة؛ ليتنفَّس التاريخُ عن إعلان الوحدة الثالثة.
٨
لكن الملحوظة الهامة هنا هي أن «قادة العسكر الصعيدي لم يَحملوا هذه المرة
راية إلههم القديم «ست»، وإنما راية إله الشمال، غريمهم القديم «حور»»، ولعلَّ
تفسيرَ هذا الأمر الغريبِ يعود — في ظننا — إلى أن سيادة «حور» على المملكة
المتحدة في عهد التوحيد الأول، جعلَته يستقر في القلوب؛ ليُزيح من وجدان
الجَنوبيين إلههم القديم «ست»، ويحل محله. وبمرور السنين، نسي الجنوبيون أن
«حور» إله غريب وارد، وغابت صفته كإله مغتصِب غازٍ، ولم يبقَ له في القلوب سوى
صفته القدسية، ويبدو أن ما يَصدق على الغزاة من البشر، غالبًا ما لا يصدق على
الغزاة من الآلهة، وهو أمر اعتيادي تكرر عبر العصور التاريخية، وفي دول وحضارات
أخرى متعددة. ثم ألا يؤمن المصريون اليوم بإله جاء مع غزو بادية العرب المسلمة
لمصر؟!
وقد نَذهب في تفسير استقرار الأمور وهدوء الأحوال واستمرار الوحدة، إلى أن ذلك
ربما يرجع أولَ ما يرجع إلى حكمة حتَّمَتها سياسة الجنوب بعد خِبرته أيامَ تَجارِب
الوحدة السابقة؛ فالتاريخ العقائدي يقول: إن «حور» قد توحد مع «آتوم رع»،
٩ فيحتمل أن الجنوبيين قد قدَّروا أن خير وسيلة للسيطرة ليست القهرَ
بسلاح العسكر، بقدر ما هي التوسل إلى استغلال العواطف الدينية، لتحقيق وحدة
طوعية، فلم يجعلوا من إلههم «حور» الإلهَ الرسميَّ والوحيد، وإنما أدمجوه مع إله
الشمس «آتوم رع»، بحيث يبدو كما لو لم يكن هناك غالب ولا مغلوب.
ويغلب على الظن أن هذه الحكمة قد آتَت ثِمارها؛ فلم يرَ الشماليون في سيطرة
الجنوب غضاضة، لا سيما وأن إلههم الأكبر «آتوم» هو من يحكم الملك باسمه، وإذا
كان قد توحد مع الإله الجنوبي «حور» فليس أحبَّ إليهم من هذا؛ فهم لم ينسَوْا بعدُ
أن «حور» كان إلههَم القديم، ولم يزل له في القلوب المكانُ المكين!
وهكذا أصبحت الوحدة التي قادتها حكمة الصعيد، هي الوحدةَ الأخيرة، وتحولت إلى
أساس وقاعدة راسخة لقيام الحضارة المصرية، تلك الحضارة التي رآها الباحثون أعظمَ
الحضارات القديمة على الإطلاق.
(٣) عصر الدولة القديمة
ويشار إليه أيضًا بالعصور المنفيَّة؛ نسبةً إلى استقرار فراعنته في مدينة منف، ويبدأ
تاريخيًّا بقيام الأسرة الثالثة التي أسسها زوسر حوالي عام ٢٨٧٠ق.م، وينتهي بسقوط
الأسرة السادسة حوالي عام ٢٨٨٠ق.م، وبذلك تكون قد استمرت مسيطرة على الجهاز
الحكومي في مصر، ما يقرب من خَمسِمائة عام، وقد امتازت بما شُيِّد فيها من الأهرام
العتيدة التي بلغَت زُهاءَ الثمانين هرمًا، حتى سُمِّي عصرها بعصر بُناة الأهرام. كما
امتازت بأن وحدة البلاد ظلَّت متماسكة دون ضعف حتى بداية الأسرة السادسة، وكانت ذروة
حضارتها في منتصف الأسرة الرابعة، وبالتحديد في عصر «خوفو» وخلفائه.
أما أهم أُسَرها لهذا البحث، فهو بوجه خاص الأسرة الخامسة والأسرة السادسة، وترجع
أهمية الأسرة الخامسة إلى كونها كانت من صنع رجال الدين (الأونيين)، فاصطَبغَت لذلك
بصِبْغة دينية مَذهبية واضحة، حيث ازداد نفوذ كهَنة «أون» أصحاب الإله «رع» خلال الأسرة
الرابعة، وانتهى الأمر باستيلائهم على الحكم، وتأسيس الأسرة الخامسة، وقد ظهر ذلك في
بَرْديةٍ يرجع تاريخ مخطوطتها إلى أواخر الدولة الوسطى، وإن كان الأثريون يرجعون تاريخ
تحريرها إلى عهود أقدم. وتَروي البردية نوعًا من الأسطورة، يُحكَى في شكل رواية، أن
ساحرًا عرض على الملك «خوفو» بعض سحره، ثم قص عليه من نبوءاته، أن «روج جدت» زوجة
كاهن «رع» الأكبر، ستلد ثلاثة ملوك، يعودون ببُنوَّتهم إلى الإله «رع» مباشرة، وأنهم
سيحكمون البلاد.
ويوضح هؤلاء الأثريون: أن هذه القصة قد أشاعها كهنة رع الأونيون، بعد استيلائهم
على العرش وتأسيسهم الأسرة الخامسة؛ لتدعيم سلطانهم على البلاد، بادعاء نسبهم
السلالي للإله «رع» الأعظم آنذاك! ويكشف ذلك النقابَ عن اعتبار حكام مصر منذ ذلك
الحين أبناءً ﻟ «رع»، وحتى نهاية التاريخ القديم، بعد أن كانوا يُعتبَرون أبناء الإله
«حور».
١١
ويبدو أن انتزاع كهنة رع للعرش، قد سبَّب نوعًا من الصراع فيما بينهم وبين كهنة
الإله «بتاح»
١٢ إله منف، وانتهت المسألة مؤقتًا إلى وراثة السُّدة الملكية لكهَنة «رع»،
بينما احتفظ أتباع «بتاح» بوراثة مركز الوزارة ورياسة القضاء.
١٣
وقد بدا سوء الطالَع مُلازمًا لهذه الأسرة، منذ أن ظهرَت عليها أمارات الضعف، بينما
أخذ الأمراء من حُكَّام الأقاليم يحتكرون مناصبهم لأُسَرهم بشكل وراثي، مع عجز الملوك
عن
كَبْح زمامهم، كما كان يفعل فراعنة الأسرة الرابعة، كما بدأ يظهر لونٌ من ألوان
المجاعة، يدل على خلل اقتصادي واجتماعي خطير، بدأ يستشري في الدولة.
١٤
إلا أن مآثر هذه الأسرة، أنه في منتصفها تقريبًا — فيما يرى البعض — بدأ تسجيل متون
الأهرام، التي تحمل أسرار المصريين العِلمية، وقدراتهم العَملية، ونظراتهم الفلسفية
والعقائدية، كما أنَّ لعقيدتها الدينية، وظروفها السياسية، وحالتها الاجتماعية، آثارًا
كبيرة وخطيرة في عقيدة الخلود، كما سيأتي بيانُه في حينه.
أما أهمية الأسرة السادسة، فتعود إلى أنها كانت مليئة بالانقلابات والتطوُّرات
العقدية والفلسفية، تلك التطورات التي سبقَت أو لحِقَت أحداثًا سياسية خطيرة، وأنواعًا
مختلفة من الصراع؛ أهمها الصراع السياسي، ثم الاجتماعي، فالديني. نُفصِّلها على الوجه
التالي:
(٣-١) الصراع السياسي
وقد بدأ في عُرف المؤرِّخين بمنتصف الأسرة الخامسة تقريبًا، بين الملوك وبين
حكام الأقاليم، ويرى «جاردنر
A. H. gardiner»: أنه
كان نتيجةً لتضخُّم ثروة النبلاء إلى الحد الكافي لأنْ يُصبِحوا منافسين للملك، سواءٌ
في القوة أو في النفوذ، فأمسَوْا مُلاكًا للأرض الإقليمية التي بدءوا حكامًا عليها،
١٥ بعد أن كان للملك وحده — وليس لأي فرد أيًّا كان شأنه — حقُّ التصرف فيها.
١٦ وقد أدى تضخُّم ثروة النبلاء إلى ضعف المركزية الملَكية، بحيث اعتبره
«إريك بيت
Eric peet» كما اعتبره
«جاردنر
Gardener»، «الداءَ الذي أدى في
النهاية إلى سقوط الدولة القديمة، وانهيارها في منتهى أسرتها السادسة.»
١٧
ويرى المؤرخون احتمالَ أن يكون سببُ ارتفاع شأن النبلاء إلى هذا الحد، راجعًا
في بدايته إلى عطفٍ من الملوك على النبلاء، فمنحوهم بعض القيم الاعتبارية
والإمكانات المادية، وسمحوا لهم بتوارث مناصبهم في حكم الأقاليم، أو أنهم
اضطُرُّوا إلى ذلك اضطرارًا، بحيث انعكس ذلك على مكانتهم السياسية، وأدى إلى
احتفاظ كل حاكم بإقليمه كمملكة خاصة به، بل وكوَّن كلٌّ منهم جيشًا محليًّا يتناسب
مع إمكانات إقليمه، حتى وصل الأمر إلى حدِّ أنهم منعوا موارد أقاليمهم عن العاصمة الملكية.
١٨
وتُصوِّر إحدى القصص المسجلة في الأسرة الخامسة، مدى ما وصلت إليه حال الملك،
مقابل ارتفاع شأن نبلائه، فتقول: إن النبيل «رع ور» كان في ملابسه الرسمية،
وتصادف أنه كان بجوار مولاه الملك «نفر اير كا رع» أو «أوسر خعو كا كاي»،
فأصابت عصا الملك ساقَ النبيل عفوًا، فذُعِر الملك، واعتذر بشدة عما بدر منه. وطلب
أن يُسجَّل اعتذارُه رسميًّا على حجر يوضع في قبر «رع ور» بجبَّانة الجيزة؛ لتقرأه
الأجيال المقبلة!
ومثل هذه القصص كثير، وهي تكشف — فيما يتصل بعلاقة الملك بأتباعه — عن مظاهر
جديدة لم تكن معهودة من قبل؛ فقد بدأ الملوك يهبطون من علياء ألوهيتهم، وأخذوا
يحرصون على اكتساب رضا وعطف رعاياهم النبلاء.
وكانت النتيجة الطبيعية لذلك ضعفَ الحكومة المركزية، وانحسارَ نفوذها تمامًا
مع نهاية حكم الملك «بيوبي/بيومي الثاني»، الذي حكم أطول مدة حكمها ملك في
التاريخ؛ فقد بلغَت مدةُ حكمه زُهاءَ الأربعة والتسعين عامًا، فشاخ شيخوخة طويلة،
اعتبرها الأثريون ذات أثر حاسم في ضعف الحكومة المركزية، حتى لم يتجاوز نفوذ
خلفائه العاصمة وما جاورها مباشرة، «وإن كان نجيب ميخائيل يذهب إلى أن هذا الضعف
قد سرى إلى ملكية الدولة القديمة منذ الأسرة الخامسة،
١٩ وهو تأكيد له في الظن ما يبرره كما سيأتي بيانه.»
(٣-٢) الصراع الاجتماعي
وقد اشتعل أُواره — فيما يذهب المؤرخون — بين السادة الإقطاعيين من حكام
الأقاليم النبلاء وبين جماهير الشعب، وقد اختلفَت الآراء في تفسير معناه، وتوقيت
بدايته الصحيح، فهناك من يأخذ برأي المؤرخ المصري
«مانيتون
Manethon»، مثل «جاردنر»، ويرى أنه اتخذ
شكل فوضى، مصحوبةٍ بسفكٍ للدماء جاءت نتيجةً لسقوط الملكية في الدولة القديمة. وهو
يَعني بالدولة القديمة الأُسر من الثانية حتى السادسة، دون اعتبار الأسرتَيْن
السابعة والثامنة داخلتَيْن فيها؛ أي إن الصراع لم يبدأ في رأيه في الأسرة
السادسة، وإنما بعد سقوطها، وأنه استمر في رأيه بصورة متقطعة أو مستمرة حتى
نهاية الأسرة الحادية عشرة، فيكون قد بدأ حوالي عام ٢٠٥٠ق.م، وانتهى عام
١٩٩٠ق.م، مستمرًّا حوالي ستين عامًا، تقريبًا،
٢٠ ويؤيد هذا التوقيتَ «سليم حسن»،
٢١ و«نجيب ميخائيل»،
٢٢ اللَّذَين جعَلا الأسرة السادسة بمَنْجاة من هذا الصراع؛
على اعتبار أنه لم يبدأ إلا بعد سقوطها، بل إن «نجيب ميخائيل» يدفع بهذا الصراع
زمنيًّا مدةً أطول، فيقول: إنه «امتد إلى قرنَيْن من الزمان أو ثلاثة.»
٢٣
ويَستند هؤلاء في توقيتهم إلى إصابة التاريخ المصري بانقطاع مفاجئ بعد الأسرة
السادسة، مما يَعني حدوثَ أمر جَلل، أدى إلى مرور التاريخ المصري بمنطقة الظل طوال
الفترة التي استغرقها هذا الصراع.
هذا بينما يذهب آخرون إلى أن أحداث «هذا الصِّراع الاجتماعي بين طبقتَيِ الأُجراء
والنبلاء، قد بدأت فعلًا خلال حُكم الملك «بيوبي الثاني»؛ أي: قبل سقوط الأسرة
السادسة فعلًا»، ومن هؤلاء «عبد الحميد زايد» الذي أشار إلى أن نهاية الأسرة
السادسة قد شَهِدَت بدايةَ هذا الصراع فعلًا.
٢٤ ويعضد هذا الرأي «عبد العزيز صالح» الذي يشير إلى أن الحكيم «أبي أور/أبيور» — الذي
صوَّر هذا الصراع في أشعاره — قد ذهب به الحد إلى مقابلة
الملك وتحديه، مفترضًا أن هذا الملك كان «بيوبي الثاني».
٢٥ ويسلك نفس الدَّرْب «إتيين دريتون وجاك فاندييه» اللذان أكدا أن هذا
الملك «قد أتعس شيخوختَه ثورةٌ اجتماعية ليست في الواقع إلا النهايةَ المنطقية
للتطور، الذي بدأ في عهد الأسرة الخامسة»
٢٦ بمعنى أن هذا الصراع لم يكن وليد ظروف حكم هذا الملك بالذات، وإنما
كان نتيجةً لتراكمات ترسبَت بعد تفاعلها في الأسرة الخامسة.
أما الاختلاف حول تفسير معنى هذا الصراع وطبيعته، فقد اتخذ أحد اتجاهين:
اتجاه يرى أنه كان فترة من الفوضى والغموض والظلام، وانفِلات لعُرى الأمن؛ بسبب
سقوط الحكومة، وعدم قدرتها على ضبط أمن البلاد، واتجاه يراه ثورة طبقية حقيقية
قام بها الشعب ضد مضطهِديه.
ومن أصحاب الاتجاه الأول «عبد الحميد زايد»، الذي لم يرَه ثورة؛
٢٧ استنادًا لنظريته في شيوع الديمقراطية في أواخر الدولة القديمة،
وأن حكام العصر المتوسط لم يُنكِروا على الناس حرية الكلام.
٢٨
كذلك تذهب «إليزابيث رايفشتال» — مستندة إلى «فرانكفورت» — إلى أن هذا الصراع
«لم يحدث أبدًا نتيجةً لانتفاضة شعبية»
٢٩ كما يذهب في نفس الاتجاه — مع بعض الاعتدال — كلٌّ من أندريه إيمار،
وجانين إبوايه.
٣٠
بينما يُمثِّل أصحابَ الاتجاه الثاني بعضُ المؤرخين؛ أمثال «نجيب ميخائيل» الذي وصف
هذا الصراع بأنه كان «ثورة تأكل ما تَلْقاه»،
٣١ و«جاردنر» الذي لخَّص هذا الاتجاهَ في تحديده لمضمون هذه الفوضى في
قوله: «وهناك ما يدعو إلى احتمال أن الفوضى التي ظلَّت حتى الأسرةِ الحاديةَ
عشرة، أنها صورة لثورة حقيقية»،
٣٢ و«إتيين دريتون وجاك فاندييه» اللذان لم يجدا غضاضة في تفسير أحداث
هذا الصراع على أنها نوع من أنواع «العمل الثوري.»
٣٣
(٣-٣) الصراع الديني
واتخَذ فيه أتباع ديانة «رع» موقفَ الدفاع، في صراعٍ عقائدي عنيف اشتعَل على
جبهتَين؛ جبهة الإله «بتاح» إله مدينة «منف»، وجبهة العقيدة الشعبية وإلهها
«أوزير Osir»، أو كما نطقه اليونان
«أوزيريس Osiris».
ومن المعروف تاريخيًّا: أن عبادة الإله «رع» تعد من أقدم العبادات التي ظهرَت
في مصر، فتعود أول إشارة تاريخية لها إلى عهد التوحيد الثاني — كما سلفَتِ
الإشارة — وكما يؤكد ذلك كثير من الباحثين،
٣٤ حتى استطاع مع تأسيس الأسرة الخامسة أن يصبح الإله الرسميَّ للدولة،
إلا أنه كان هناك إله قديم آخر، ساد في عهد سابق لسيادة «رع» على الدولة
القديمة، هو الإله «بتاح» المنفي، الذي بدأ نجمه في السطوع مرة أخرى، حتى كاد
أن ينزع «رع» من عرشه ليصبح هو إلهًا رسميًّا للأسرة السادسة، بعد أن عاد
للإيمان به الملك «تيتي
Titi» أول ملوكها وتحرك «رع»
للدفاع عن مكانته، فحدث الصراع المباشر بينه وبين «بتاح»، ذلك الصدام الذي
استمر حتى أضعَف كِلا الإلهَين تمامًا، مما أعطى الضوء الأخضر للإله الشعبي
«أوزير» ليتطاول، فيفتح على سيده رع جبهة جديدة في الصراع.
ولم تَدُم هذه المعمعة العقائدية طويلًا؛ فقد توارى «بتاح» المنفي مهزومًا أمام
«رع» الأوني، ولكن بعد أن خرج «رع» من الصراع منهوكًا ضعيفًا، ذلك الضعف الذي
كان عاملًا حاسمًا في انتهاء الصراع لصالح الإله «أوزير»، فاستطاع أن يحقق
انتصاره الكامل مع نهاية الأسرة الحاكمة السادسة.
وبذلك تضافَرَت أحداث الصراع الداخلي الثلاثة؛ لتُعجِّل بنهاية الأسرة السادسة،
التي عجَّل بها أكثرُ اﻟ «عامو حر يوشع»، أو بَدوُ الرمال، الذين بدءوا يتوافدون من
فلسطين على الشمال الشرقي للبلاد، ليثيروا فيه الاضطراب والفزع،
٣٥ وكانت النتيجة الحتمية أن تسقط الأسرة السادسة؛ لتجر معها الدولة
القديمة بكل أمجادها.
(٤) العصر المتوسط الأول٣٦
وقد أعقب نهايةَ الأسرة السادسة مباشرة، ويشير «بترى
Petrie» إلى أن مصر تعرضت في بدايته لغزوات متفرقة من بدو
الشرق، حتى وصلوا إلى مصر الوسطى،
٣٧ بينما يشير «نجيب ميخائيل» إلى غزوة أخرى جاءتها من الجنوب النوبي،
٣٨ في نفس الوقت الذي يشير فيه آخرون إلى غزو غربي أتاها من الصحراء الليبية،
٣٩ فأضحت مصرُ كالأسد الجريح الذي تحول إلى فريسة منهوكة، يتناوب نهشَها
جياعُ الصحارى وضواريها.
ويرى الباحثون أن الصراع الاجتماعي المشار إليه آنفًا، قد تصاعد حتى وصل ذروته في
هذا العصر، مما حدا ببعضهم إلى وصفه بأنه كان «ثورة طبقية بمعنى الكلمة،
وانفجارًا لمراجل الغضب الشعبي تحت الظلم الاجتماعي والامتيازات الطبقية، التي جثَمَت
على الصدور قرونًا طويلة قبل الثورة»،
٤٠ ولكنهم يشيرون في ذات الوقت إلى أن هذه الثورةَ لم تستطع التحولَ إلى
نظام جديد، بل اقتصرَت على هدم النظام القديم فحسب،
٤١ مما أدى بها — بتعبير «نجيب ميخائيل» — إلى «أكل نفسها بعد أن قضَت
على كل شيء، ولم يبقَ أمامها ما تأكله.»
٤٢
واستمر حال البلاد على مِنواله هذا زُهاءَ خمسين عامًا أخرى، حكَمَت خلالها البلادَ
—
حكمًا صوريًّا — أُسرَتان من بقايا سلالات الدولة القديمة الغابرة؛ هما الأسرتان
السابعة والثامنة، حتى تمكن نبلاء «نن نسوت Nen Neswet»
من تجميع شتات الأقاليم المحيطة بهم، وضمها لإقليمهم، ثم اتجهوا شمالًا نحو العاصمة
ليقضوا تمامًا على بقايا التفريخات الملكية القديمة، ويضموا إليهم الدلتا، بل
واستطاع «أخيتوي» أحد قوادهم، أن يُحقِّق قدرًا من الاستقرار والأمن، وأن يُخفف من
الفوضى والجرائم، وأن ينصب نفسه ملكًا في «نن-نسوت» مسجِّلًا في التاريخ قيامَ الأسرة
التاسعة الحاكمة.
وقد اهتمت هذه الأسر ببث الروح الحربية في البلاد، واعتنَت بمُجنَّديها من الشبان،
إلا أنه بات جليًّا أن فتوحات «أخيتوي» قد توقفت عند «أسيوط» حيث كان حكام واست
٤٣ قد استطاعوا بدورهم أن يجمعوا حولهم شعب الجنوب، وأن يكوِّنوا لأنفسهم
جيشًا قويًّا، لم يستطع في البداية منازعة «نن-نسوت» سلطانها القوي؛ إلا أنه لم
يمضِ وقت طويل حتى أعاد التاريخ سيرته، وعلى الحدود عادت الحروب بين الشمال
والجنوب؛ لتذكرنا بحروب الزمان الغابر بين الإلهين «ست» و«حور»، وكما حدث في سالف
الأزمان أعادت الأيامُ حكايتها عن انتصار الشمال على الجنوب في جولاته الأولى،
فانتصر «أخيتوي» الثالث — أو ربما الرابع — على «منتوحتب الأول
Monthohotep I» زعيم الجنوب الواستي، وأغرى ذلك النصرُ الشمالَ
نحو نصر ثانٍ، فتوغَّلوا في الجنوب حتى استولَوْا على المدينة المقدسة
«أبيدوس
ABYDOS»
٤٤ حوالي عام ٢٠٦٥ق.م، بعد أن ألحَقوا بها الكثير من الضرر والأذى، الذي
ربما كان سببًا مباشرًا في تذمُّر الشعب؛ لأن أبيدوس لم تكن مَدينة عادية، إنما كانت
مقرَّ إله الشعب أوزير.
وقد شجع هذا النصرُ «نن-نسوت» لتوسيع نشاطها الحربي، فاتجه جنودها نحو الدلتا،
ونجحوا في تطهيرها من اﻟ «عامو حر يوشع» إلى حد بعيد، فأبعدوا الغالبية، وكسروا
شوكة البقية.
ولم يَطُل الأمر بالعهد الننسوتي، فأخذت الأسرة العاشرة تفقد استقرارها من عهد
ملكها «أخيتوي الخامس»،
٤٥ بعد أن بات ظاهرًا أنه قد خسر جولته أمام صلابة «واست» الصعيدية؛
لينتهيَ الأمر كما انتهى في غابر الأزمان لصالح الجنوب، فتسجل الأيام انتصار
«منتوحتب نب جبه رع» أو «منوحتب الأول»،
٤٦ بعد أن دحر الشمال حوالَيْ عام ٢١٣٤ق.م، مُنهِيًا بذلك العصرَ المتوسط
الأول بتوحيد الشمال مع الجنوب، بعد أن استمر نحو قرن ونصف من الزمان، ومقيمًا
الأسرةَ الحادية عشرة أُولى أسرات الدولة الوسطى.
(٥) عصر الدولة الوسطى
ويبدأ تاريخيًّا بقيام الأسرة الحادية عشرة التي أسسها «منتوحتب» عام ٢١٣٤ق.م
على وجه التقريب، لينتهيَ عام ١٥٨٠ق.م بنهاية الأسرة الثانية عشرة، تلك الأسرة التي
أسسها «أمنمحات الأول» عام ١٩٩١ق.م؛ وبذلك تكون قد استمرت في الحكم حوالي مائتين
وخمسين عامًا.
وتقول المصادر: إن حكام الأسرة الحاديةَ عشرة قد أخذوا بسياسة مرسومة، استفادوا
فيها من أحداث الماضي، فحددوا سلطات نبلاء الأقاليم، وركزوا سلطان الحكم في عاصمتهم «واست»،
٤٧ إلا أنهم على ما يبدو لم يتمكَّنوا تمامًا من تحقيق هذه المركزية التي
أرادوها فيما يرى «إريك بيت»،
٤٨ لكنهم استطاعوا تطهير البلاد من بقايا أعدائها، خاصة بعد الحملة التي
جرَّدَها «منتوحتب نب تاوي رع» أو «منتوحتب الرابع» آخر ملوك الأسرة الحاديةَ عشرة؛
لطرد بقايا الغزاة، «وعقد لواء جنودها العشرة آلاف لوزير حربيته «أمنمحات»»؛ لردع
المتسللين إلى البلاد والقضاء عليهم.
ويشير أكثرُ من مؤرخ وباحث، إلى احتمال كون هذا الوزير أمنمحات هذا هو نفسه
«أمنمحات سحتب أب رع» المعروف باسم «أمنمحات الأول»، مؤسس الأسرة الثانية عشرة، بعد
أن استغل رياستَه للجند؛ للإطاحة بحكم مليكة، والقضاء على شأفة أسرته، والاستيلاء على
عرشه. ويعلن «برستد» رأيه في ذلك صراحة فيقول: إن أمنمحات «قد اغتصَب المُلك قهرًا»،
٤٩ ويذهب معه باحثون آخرون، يؤكدون أن أمنمحات هذا كان وزيرًا قويًّا في
عهد منتوحتب الرابع، آخرِ ملوك الأسرة الحادية عشرة، واستطاع أثناء وزارته أن يركز
بين يديه سلطاتٍ كبيرة، ويشرف على شئون الدولة إشرافًا فعليًّا، ولم يلبث أن انتهز
وفاة منتوحتب الرابع، وأعلن نفسه فِرعونًا على البلاد، تحت اسم «أمنمحات الأول»،
٥٠ كذلك نجد «نجيب ميخائيل»
٥١ من المؤيدين لهذا الاتجاه بقوة.
ومما يدعم هذا الرأي، تلك النبوءة التي شاعت إبان حكم «أمنمحات الأول»، والمسماة
«نبوءة الكاهن نفرتي.» تقول النبوءة:
سيأتي ملك من الجنوب يدعى أميني،
ابن امرأة من تو-سي،
طفل خن نخن،
سوف يتسلم التاج الأبيض،
ويلبس التاج الأحمر،
والناس في زمنه سيكونون سعداء.
إن ابن أحدهم
سيخلد اسمُه إلى أبد الآبدين.
٥٢
وقد كانت هذه النبوءة مَدْعاةً لأنْ يرى «أنصارُ ظهور المخلِّص الاجتماعي، أن حُلمهم
قد
تحقق فيما يختص بظهور الملك العادل»
٥٣ بعد عصر الإقطاع الطويل المظلم.
ويرى المؤرخون أن هذه النبوءة مِن صُنع أتباع «أمنمحات»؛ لِيُظهِروا فرعونهم الجديد
أمام أفراد شعبه، في هيئة المخلِّص الموعود، والمنقِذ المنتظر. وكي يوهموهم بأن
العناية الإلهية قد تخيَّرَته من الأزل؛ قاموا بإرجاع الوثيقة إلى عهد
«سنفرو
senefru» في أوائل الدولة القديمة؛ لتكون
تبشيرًا بالزعيم المنقِذ قبل مولده بقرون طويلة.
٥٤ وإن هذا الأسلوب ما كان لِيُتبَع من قبلُ مع الفراعنة السالفين إلا
نادرًا، ولأسبابٍ؛ أهمها: أن يكون الملك الجديد من غير سلالةٍ ملكية أصيلة، مما يجعل
الاقتناعَ به عند البعض أمرًا مشكوكًا فيه، وخاصة بين كهَنة الآلهة الذين يعتبرون
الملك دائمًا من نسلٍ إلهي، ولا يرَون في حكم الأشخاص العاديين سِوى علاماتٍ ونُذرًا
لنهاية الدنيا، وزندقةً وكفرًا.
ويوضح «جاردنر» هذا المعنى بقوله: «إن النسب غير الملكي لأمنمحات وضَح بما فيه
الكفاية؛ لأن عبارة — ابن أحدهم — كانت طريقة معتادة للإشارة إلى رجل طيب أصيل، لكنه
غير نبيل المولد.»
٥٥
(٦) العصر المتوسط الثاني٥٦
يقول التاريخ: إن هذا العصر بدأ باضطرابات داخلية شديدة، وتميز بقِصَر فترات حكمِ
مُلوكه، التي تراوحت ما بين سنة وثلاث سنوات، وقَصُرت أحيانًا حتى بلغَت يومين أو ثلاثة!
٥٧ حتى إنه مرت على البلاد ستُّ سنوات كاملة، دون ملكٍ يمكن أن يَرضى عنه الجميع.
٥٨
وانتقلت مقاليد الحكم إلى ملوك وثبوا على العرش واحدًا تلو الآخر، لم تلعب
الوراثة أو صِلاتُ القرابة بينهم دورًا واضحًا، ولم يستطيعوا — إلا قليلًا — إعادة
الاستقرار إلى البلاد، فاستمرت في انهيارها، وفسدت الإدارة، واضطرب الأمن،
٥٩ حتى استطاع أحدهم وهو عند «نجيب ميخائيل»: «مغتصب للعرش، من عامة الشعب»،
٦٠ أو هو بتحفظ عند «عبد العزيز صالح»: «رجل من خاصة الشعب»،
٦١ يدعى «نفر حوتب
Nefer Hotep» أو «حغ-سخم-رع»، استطاع أن يصل إلى إمساك زمام البلاد، والسيطرة على الاضطرابات، واستعادة
وحدتها، وإخضاع أعالي النوبة، حتى بلغ نفوذه أعلى الشلال الثالث.
٦٢
وعلى عادة الحكام من غير ذَوي الدم الملَكيِّ الموروث؛ تعمَّد «نفر حوتب» أن يُظهِر
تقواه
الدينية، وعِلمه وحِكْمته، أمامَ أفراد شعبه؛ ليؤكد أنه لا يقلُّ عن ورثة البيوت المالكة
القديمة محافَظةً على الدين والتراث، فسجل باسمه نصًّا طريفًا، تحدَّث فيه عن رحلته
الشاقة إلى مدينتَيْ أون وأبيدوس المقدَّستَين؛ «في سبيل تمجيد الإله الشعبي أوزير»،
٦٣ إلا أنه بموت «نفر حوتب»، عادت الإضرابات من جديد، ولحقه عددٌ من الملوك الشَّعبيِّين،
٦٤ وبدَتْ على البلاد علاماتُ الانهيار، عندما ظهر الخطر الأكبر على الحدود
الشمالية الشرقية، ممثَّلًا في تلك القبائل البدوية التي استطاعت أن تدخل مصر وتحتلَّها
قرابةَ قرنٍ ونصف من الزمان، تحت اسم «شيوخ البدو» أو «البدو الرُّعاة» أو «الهِكْسوس».
٦٥
واضْطُرَّ المصريون لدفع الجزية للملك الهكسوسي، طَوال فترة الاحتلال القاسي، مع
بعض
محاولاتٍ ثورية متكرِّرة هنا وهناك، أجهضَها الهكسوس أولًا بأول، عدا تلك التي قامَت
في
الجنوب؛ ليقوم على رأسها «قادةُ ملوك مصر بالاختيار الحر»،
٦٦ فاستطاعوا أن يُحافظوا على استقلالهم، بعيدًا عن مُتناوَل الغُزاة، ثم بدأوا
بشنِّ غارات متقطعة مستمرة على الهكسوس
٦٧ — كرًّا وفرًّا — حتى إذا ما تمكَّنوا من بُنيانهم جيدًا، انطلقَت عزَماتُهم
تحريرًا، وانتظم حول الملك المختار «كامس» كلُّ نُبلاء الصعيد!
٦٨ «وصدَق ظنُّه في سَواد شعبه، فهُرِع إليه أهلُ الشرق والغرب كما قال، وأمَدُّوا
جيشه أينما حلَّ أو ارتحل بالْمَئونة والزاد …»
٦٩
واستطاع جيشُ الصعيد الشعبيُّ أن يُحرِّر البلاد بأسْرها تمامًا في عهد «أحمُس بن
سقنزع»
ثالثِ ملوك التحرير، الذي انطلَق بجيشه لِيَقضيَ على فُلول الغُزاة نهائيًّا، وليؤسس
بذلك
الأسرةَ الثامنةَ عشْرة المصرية، أولَ أُسر الدولة الحديثة، وأعظمَ إمبراطوريات هذا
الزمان، بعد أن واصَلَت الجيوشُ تقدمها؛ لِتَطويَ سوريا في ثنايا طيِّها للأرض مطارِدةً
للهكسوس.
٧٠
(٧) عصْرَا الدولة الحديثة، والانحلال
وعصرُ الدولة الحديثة هو عصر الإمبراطورية المصرية،
٧١ التي عُمِّرَت ما يَزيد على ستة قرون متواصلة، حافظَت خلالها على استقلال
البلاد الكامل دون شائبة، واستطاعت خلال أربعة قرون منها أن تكون السيدة المطْلَقة
لدول الشرق القديم، وأعظمَها طرًّا بلا منازع.
وقد بدأ تأسيسُ هذه «الإمبراطورية» بعد أن حقَّق «أحمس بن أبانا» انتصاراتٍ رائعةً
في
مطاردته للهكسوس، فتتبَّعهم حتى «زاهي»،
٧٢ مما أدى فيما تَلا ذلك من أحداث، إلى استيلاء العسكرتاريا المصرية على
العرش، وكان أبرزَ هؤلاء الملوك العسكريِّين «أمنحوتب الثاني»، الذي عرَفه التاريخ
بالقسوة والعنف الشديد مع أعداء البلاد، وباللِّين والحب التسامح مع بَني جِلدته المصريين،
٧٣ و«تحوتمس الثالث» الذي استولى على الحكم عام ١٤٦٨ق.م؛ ليخرج بعد أشهُر
قليلة من عامه هذا على رأس جيوشه، فيحتلَّ «قادش» كبرى مدن شرقيِّ المتوسط آنذاك،
ويواصل تقدُّمه حتى يُتوِّج انتصاراتِه بعبور الفرات.
٧٤
فمثلًا يقول «أكيزي Akizzi» أمير «قطنا Katna»: — حِمْص حاليًّا — في رسالته: «سيدي، أنا خادمك
هنا، أتبع سنة سيدي ولا أَحيد عنه أبدًا. لقد صارت هذه الأراضي مِلكَك منذ آبائي الذين
خدموك؛ فمدينة قطنا مدينتك، وأنا عبدك. سيدي، حالَما يصل إليَّ جنودُك وعَجلاتُك الحربية،
سرعان ما يُقدَّم لها الغِذاء والشراب، والبهائم والأغنام، والعسل والزيت؛ هكذا نقابل
جنود جلالتك وعجلاتك، أيها الملك.» أو ما يقوله أميرٌ آخر: «سيدي ومليكي، ومعبودي
وشمسي، أنا خادمك أبي مالك Abimilki، أتشرف بأن أسجد بين
يدَيْ سيدي سبع مرات، وسبع مرات أُخَر؛ فأنا «الأديم تحت خُفَّيْ سيدي الملك»، سيدي،
أنت
الشمس الساطعة على الأرض كلها كلَّ يوم …»
وجاء في خطاب آخر: ««أنا الأرض التي تَطَؤها قدَماك»، والمقعد الذي تجلس عليه، والمسند
الذي تضع عليه قدمَيك.» وغلا بعضُهم في إخلاصه، فكتب إلى جلالته يقول: «أنا كلبك»،
بينما كان بعضهم يُسبِغ على نفسه شرفًا عظيمًا، بتلقيب نفسه «سائس جلالة الملك.»
على أن السياسة الداخلية لحُكام الأسرة الثامنةَ عشْرة لم تستمرَّ على مِنهاجها الجديد،
فعادت حُمَّى الوراثة الملكية إلى الظهور من جديد؛ لتتمسَّك هذه الملَكياتُ الجديدة بما
استمسكَت به سوالِفُها من مركزية واسعة، وحق الحكم الإلهي والوراثة المقدسة بالتناسُل
عن الآلهة.
٧٥
وحتى يتمكَّن هؤلاء الملوكُ شعبيُّو الأصل من تدعيم ملَكياتهم؛ لتصبح وراثةً مقدسة،
ونظرًا لأنهم في حالات كثيرة لم يَكونوا سُلالاتٍ ملَكيةَ الدم، وإنما قيادات شعبية،
أو
عسكرية انقلابية؛ فقد لجَئوا إلى المنطق الأكثرِ فعاليةً مع الجماهير — أقصد الدِّين
—
فسارع كلٌّ منهم إلى تأكيد بُنوته المباشِرة للإله، بترويج رجال الدين لوحيٍ يؤكِّد تجسُّدَ
الإله كروحٍ في جسد الملك الأب، أو مُناسَلة الإله مباشرةً لأمه؛ لتُنجِب ذاتَه القدسية
وكان أشهرُ قصص أبناء الآلهة المباشِرين، قصص «… حتشبسوت، وتحوتمس الثالث، وتحوتمس
الرابع، وأمنحوتب الثالث».
٧٦ كما بدا أن سيادة كبار الموظَّفين ورؤساء الكهَنة والوزراء، قد بدأت
تَستعيد ما فَقدَته من سيطرةٍ بعد اضطرابات العصرَين المتوسِّطَين الأول والثاني، كما
بدأ
نظام الإقطاع يعود مرة أخرى في شكل مِنَح للعسكر المخلِصين للتاج، والذين كثيرًا ما
ساهموا في وصول قُوَّادهم للعرش،
٧٧ وانتهى الأمر لما كان عليه في الدولة القديمة؛ مما أدى مرة أخرى إلى سوء
العلاقة بين الشعب وأجهزته الحكومية.
وتُصوِّر هذه الحالةَ نصوصٌ كثيرة؛ منها كمثالٍ النصُّ التالي:
ألا تذكرون حالة الفلاح الذي واجهَ مسألة تسجيل ضريبة الغلة؟ بعد أن كانت
الأفعى قد ذهبَت بنصف الحبوب، والْتهمَت فرس الماء الباقي؟! إن الفئران وفيرةٌ في
الحقول! والجراد يهجم، والأبقار تَلتهِم، وعصافير الدروي تحمل النكبات، والذي
يتبقَّى على البيدر يقع في أيدي اللصوص، والثورُ، مات وهو يدرس ويحرث … والآن
يحط الكاتب على ضفة النهر لِيُسجِّل ضريبة الغلة، ومعه حراس يحملون الهرَاوات،
ورجال الشرطة نوبيون، يحملون قُضبان النخيل ويقولون له: سَلِّم لنا الحبوب، على
الرغم أنه ليس هناك أية حبوب! ويُضرَب الفلاح ويُوثَق، ثم يُرمَى في بئر، ورأسه
إلى أسفل، في حين أن زوجته وأولاده تكون قد قُيِّدَت بالأغلال أمام عينيه،
وأولاده مُكبَّلون بالأصفاد، ويتخلى عنه جيرانه، ويَلوذون بالفرار …
٧٨
ويبدو أن الحالة أصبحَت تشبه الوضع الذي أدى للصِّراع الاجتماعي في نهاية الدولة
القديمة؛ مما أدى لظهور الخَلْخلة والاضطرابات في أواخر عهد «أمنحوتب الثالث»، وزاد مِن
تَردِّي الأحوال ولَدُه «أمنحوتب الرابع»
٧٩ المعروف باسم إخناتون، الذي تفرَّغ لدعوته الدينية الجديدة، تاركًا أوضاعَ
البلاد داخليًّا وخارجيًّا تسير من سيِّئ إلى أسوأ، حتى حَكَم البلادَ مَلِكان من خارج
الأسرة الثامنةَ عشْرة، بعد أن عزَّ وجودُ وريث شرعي قويِّ الشَّكيمة، وهما يُمثِّلان
مرحلة
انتقالية بينها وبين الأسرة التالية لها، وهما «آي» و«حور محب»، وكان هذا الأخيرُ
بالذات ملكًا شعبيًّا، عسكريَّ التربية، استطاع أن يُمسِك بزمام الأمور، وأن يضع
قوانينه المشهورة، التي «أكَّد في مقدِّمتها أنه ابتَغى أن يمحوَ بها أعمال النهب
والعنف، وأنه أملى تشريعاتِه بنفسه على أهل بلاطه، وأنه اختار قُضاتَه الإداريين من
الجنود لتطبيقها، ممن يُحسِنون القول ويَمتازون بالخلُق الطيب، ويُدرِكون خفايا الأمور،
ويتبيَّن من مراسيمه هذه: أن الضريبة أصبحَت نهبًا مَشاعًا لعدد كبير من الموظفين
والعسكريِّين كانوا يُغالطون دافِعي الضرائب، ويَجْبونها سنويًّا لصالحهم، وأن جماعات
الجنود كانوا يعتَدون على سفن الغِلال، وأن أصحاب المراكب غالبًا كانوا يُحرَمون من
أجورهم إذا أدَّوْا خدماتٍ للدولة، ففرَض على المعتدين والمرتَشِين عقوباتٍ رادعةً تتمثل
في
الجَلْد بالسِّياط وجَدْع الأنف والنفيِ …، ثم وضع أوامرَ تَقْضي بالمسارعةِ بمعاقبة
المخالفين، والعمل على استرداد المسروقات، «وإعفاء صاحب الماشية من الضرائب المستحَقَّة
عليه إذا سُرِقت ماشيتُه أو نَفَقت. وكان حازمًا مع رجال جيشه على الرغم من أنه كان
منهم»، فعمل على المساواة بينهم وبين غيرهم في الردع والعقاب.»
٨٠
«بل ورفض حور محب فكرة التوريث الملكي»، فعَهِد بالحكم من بعده إلى قائده ووزيره
«با
رع مسو» الذي كان الرجلَ الثانيَ في حكومته، ذلك الذي عرَفه التاريخ باسم «رمسيس
الأول»، وبأنه الذي عاد بالحكم مرة أخرى إلى نظام التوريث؛ لِيَحكم مِن بعده ولَدُه
«سيتي» مؤسِّس الأسرة التاسعة عشرة.
٨١
وقد حافظَت هذه الأسرةُ على قوة البلاد الخارجية، خاصة في عهد «مرنبتاح- ١٢٢٤ق.م»
الذي أعاد عهدَ الفتوحات، فذكرَت نصوصه: «أنه أخضَع القبائلَ الإسرائيلية وبلاد كاشي
والحدود الليبية».
٨٢
ورغم أن التاريخ يَعتبر رمسيس الثالث آخر الملوك العظام، فإن الحالة داخل البلاد
كانت مُتردِّية، فأضرَب العُمال في عهده مرتَين، عندما تحوَّل الدينُ لاستغلال الفقراء،
٨٣ حتى سقطَت الدولة الحديثة، وسقطَت معها مصر في نهاية عهد الرعامسة، وبدأ
عصر الانحلال، وتعرضَت البلاد للغزوات المتتالية التي بدأها الفُرس حوالي عام ٥٢٥ق.م؛
لِيَتلُوَهم الإسكندريون الإغريق حوالي عام ٣٣٢ق.م؛ لتنتهي بالخضوع لغزو بدو الجزيرة
العربية؛ لِيُسدِل التاريخُ أستاره على أعظم قصص الحضارة الإنسانية، في عالم البشر
قاطبة.