الفصل الأول
فلسفة الوجود المصرية
إن الدين في الواقع، عند الأغلبية من الناس، يعني خلود الروح ليس إلا، وإن
الله هو موجِد هذا الخلود.
وليم جيمس
سعيًا وراء البحث، عن أصول الديانة الفِرعونية وأسُسِها وفلسفتها؛ نجد «عباس العقاد»
يؤكد في دراسته لمفهوم الألوهية — في هذه الديانة — أنه في هذه العهود السحيقة، «وصل
المصريُّون إلى التوحيد»،
١ وهو برأيه هذا ليس فريدًا، فيبدو أنه بذلك إنما يَسير على درب بعض ذَوي
التخصص، في الدراسات المصرية القديمة؛ لأن «برستد» قد سبَقه وأشار إلى نفس المعنى، حيث
بيَّن «وقوع بعض الناس في الخطأ، فنسَبوا إلى المصريين، أنهم عبَدوا الحيوانات، ولكن
الحقيقة أن ذلك لم يكن في أصل ديانتهم»،
٢ وذهب معه «رودلف أنتس»؛ إذ أكد أنه قد «عُرِفت فكرة وجود الإله الأزلي
الكوني، منذ أول بدءِ التاريخ المصري»،
٣ وقد دعَّم هذا الرأيَ وعلا به أكثر «أحمد بدوي» بتأكيده: أن المصريين قد «عرَفوا أنَّ
الله واحدٌ لا شريك له»، بل إنهم «قد نزَّهوا الخالق عن طبيعة الأشياء»،
٤ وعاضَده في ذلك عبد الحميد زايد بقوله: «إن المصريَّ القديم، منذ الدولة
القديمة أو أبعدَ من ذلك، أراد أن يجعل فكرة الميلاد من إلهٍ واحد، ليس له كفوًا أحد.»
٥
ولكن؛
إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى هذه الآراء؟ وكيف يمكن أن تتفق مع ما تَعْلمه
الجمهرةُ عن تعدد الآلهة المصرية، المطبوعة بأشكالها الحيوانية؟ وعلى أي أساس أو أسس،
بَنى هؤلاء آراءهم؟
وهنا بدا واجبًا أن نحتكم إلى قوانين التطور، فنبدأ مع المناشئ الأولى للدِّيانة
المصرية
القديمة، وليس هناك مِن شك في أن الديانةَ كانت لها في مِصرَ القديمةِ أهميةٌ كبرى، فلا
يزعم
زاعمٌ أنه توجد قوة أثَّرت في حياة الإنسان القديم، مثل قوة الدين. ولقد اعتقد المصريون
أن بلادهم قد حكمَتْها الآلهة في عصورها الأولى، وعليه فإن ملوكها ليسوا إلا وارِثين
لعروشهم وواجباتهم عن هذه الآلهة، وبالتالي فهم أبناء آلهةٍ أو آلهةٌ؛ ولذلك كانت
الحكومات ذاتَ طابع ديني قوي، حتى عُرف عن المصريين — فيما روى هيرودوت — أنهم كانوا
أكثر
الأمم تدينًا.
٦
وكما سلف، فقد كانت المعبوداتُ في مصر هي آلهةَ المدن، التي تميَّزَت بأسمائها وأشكالها
وأعيادها، وكان إلهُ المدينة يُعتبر عند سُكَّانها أعظمَ مِن كل آلهة المدن الأخرى، ونتيجةً
للأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي أدت إلى توحد المدن في أقاليم، فقد ساد
معبودُ كل إقليم على آلهةِ بقية المدن التابعة، فأصبح معبودًا رسميًّا للإقليم كلِّه،
فكان
بعض آلهة هذه المدن يغلب على أمره فيفقد أهميته، بينما كان بعضها الآخر يحاول سدَنتُه
التقريبَ بينه وبين إله العاصمة؛ لينال له من حظه نصيبًا.
وبضمِّ الأقاليم وتكوين الحكومات الكبيرة، زاد إدماج الآلهة، حتى انتهى الأمر في
عصر
فجر التاريخ إلى عبادة إلهَيْن عظيمين — إلى جوار عدد غير قليل من الآلهة الأقلِّ شأنًا
— وهما:
- الإله حور: إله إقليم الشمال (الدلتا) وقد سبَق وعرَفناه في ثنايا عرضِنا التاريخي،
ونضيف هنا أنه كان في الأصل «إله بحدت — دمنهور»٧ وهو إلهٌ لا يمكن الجدالُ حول أصله الطوطمي الواضح في رسومه
القديمة؛ لأنه «منذ عصور ما قبل التاريخ حتى آخرِ عصور التاريخ المصري
القديم، نجد الصقر أهم رمز لحور …»٨ وقد صوَّرَته الرسومُ في صورتين: صورة الصقر كاملة، وصورة
إنسان برأس صقر، يمكننا أن نستنتج منهما اجتهاديًّا أنه قد صُوِّر في أول
عهده في هيئة الصقر أو العُقاب كاملةً، ثم — وبعد عدة مراحل تطورية — أخَذ
هيئة جسد الإنسان، وإن ظلَّ رأسُه رأس الصقر، ويُظَن أن أتباعَه هم أولُ مَن
ربَط الملَكيةَ بالآلهة، فاعتَبروا الملك ولدًا له، يَحكم باسمه على الأرض،
ثم توارَث المصريون عنهم هذه العقيدةَ فيما تلا ذلك من عصور.٩
- الإله ست: إله الإقليم الجنوبي، وهو أيضًا من أصل طوطمي، يتضح في رسومه
البدائية الأكثرِ عَتاقة من غيرها؛ حتى إن المؤرخين قد حاروا في تفسير
شكله الحيواني، ما بين «الكلب السلوقي أو حيوان الأوكابي Okapi أو الخنزير البرِّي أو حِمار
مرسوم رسمًا تخطيطيًّا …»١٠ وكان في الأصل إلهًا لإقليم نبت «أومبو Ombos».١١
وعندما اشتعلَت المعارك الحدودية بين كِلا الإقليمَين؛ الشمال والجنوب، تصور المصريون
أنها كانت معاركَ حقيقية بين الإلهين حور وست، وصاغوا حول ذلك كثيرًا من الأساطير، ولم
يلبَث ست طويلًا، حتى غاب من على مسرح الأحداث، بعد غزوِ الشمال للجنوب، وسيادة حور إله
الشمال في عهد التوحيد. ولكن في عهد التوحيد الثاني، ظهَر لإقليم الشمال إلهٌ جديد، هو
آتوم إله مدينة أون. وفي عهد التوحيد الثالث، عُقِد بين الإلهين: آتوم الشمال الذي اندمج
مع رع الشمس، وبين حور الذي أصبح إلهًا للجنوب؛ نوعٌ من الوَحْدة الاندماجية، بحِكمة
صعيديَّة
سياسية محنَّكة، فأصبح حور هو نفسُه آتوم، وآتوم هو بذات عينه حور.
١٢ وكانت هذه هي أولَ آثار السياسة — التي وصلَتْنا — على الديانة المصرية القديمة،
ذلك التأثيرُ الذي بدا واضحًا في قول المصرولوجي «رودلف أنتس»: إن «الديانة المصريةَ
نِتاجُ توحيد الأرضين، وخَلْق مملكة مصر العليا والسفلى ٣٠٠٠ق.م»
١٣ و«إن الملكية بعد أن كانت مرتبطةً بهوروس (حور) وحده، ارتبطَت حينذاك بالشمس
أيضًا، وأُضيفَ لقبُ ابن رع، إلى لائحة ألقاب الفرعون الرسمية»
١٤ ومن المعلوم أن آتوم هو أول إلهٍ يَظهر في صورة بشرية؛ فلم يُعثَر له أبدًا
على صورة طوطمية، بل ويُغالي إرمان فيقول: إنه لم يُعثَر له على أيةِ صورة من أي شكل،
حتى
في معبده الأكبر، في مدينته المقدسة أون،
١٥ مما يعني أنه كان إلهًا حديثًا بالنسبة للسابقَيْن ست وحور؛ تبعًا لتطور
العقل البشري الارتقائي — فيما نرى — وآتوم هو نفسُه الذي حمل اسم إله الشمس فيما بعدُ،
فكانت النتيجةُ أن تكوَّن ثالوثٌ قدسي من الآلهة، هو «آتوم-رع-حور»، الذي هو في نفس الآنِ
إلهٌ واحد، الأمر الذي يدعونا إلى الظن بأن هذا الثالوث هو السلفَ الأول لعقائد التثليث
التي ظهرَت فيما بعد، سواءٌ في مصر، أو في ديانات حوض المتوسِّط التالية لها زمانيًّا
وحضاريًّا، «ويؤخذ من أبحاث الدكتور
بلاكمان
Blackman أن مناسك إله الشمس في عين الشمس، هي النموذج الذي وُضِعَت على
غِراره المناسكُ في جميع المعابد المصرية.»
١٦
وبذلك توارَت آلهة المدن المحلية القديمة، وانزوَت في معابدها الصغيرة، بعد أن أصبحَت
غيرَ كافية لتفسير الكون والوجود، على صورةٍ يَقبلها الجميعُ في الدولة المتحدة الكبرى،
وإن
ظلَّت باستمرارٍ متحفزةً لاقتناص أية فرصةِ ضعف تبدو على أيٍّ من الآلهة الكبرى.
لذا لم يكن غريبًا أن يَبتدع المفكِّرون من رجال الدين فلسفةً ميتافيزيقيَّة، تبحث
عن
تفسيرٍ للوجود وأصله، وجعَلوا عناصرها من الآلهة التي سادت، بعد أن اعتبَروها آلهة كونية،
ولا عجَب في هذا؛ فقد عُلِّقَت قلوب المصريين وأخْيِلتُهم بطبيعة بلادهم، فبدَءوا يرَون
في الشمس
والقمر، والأرض والسماء، والهواء والماء، آلهةً يَرهبون جانبها، ويُقدِّسونها حيثما تكون.
فترَكوا لنا عدة تصورات للتركيب الكوني، كان أشْيَعَها تصوُّرُ السماء على هيئة امرأة
مُنحنِيَة
على الأرض، أو بقرةٍ ذات جلد تتغشَّاه النجوم، أسمَوْها الإلهة «حت حور».
١٧ وكانت «حت حور» بطلةً لأسطورة قديمة تقول: إن الإله «رع» قد أطلقَها على
البشر، بعد أن غضب على أفعالهم، ففتكَت بهم فتكًا ذريعًا، لكنه عاد فنَدِم على ما فعل،
وأوقف المذبحة.
١٨
وكان لِكَهنة أون السبقُ في عملية التفسير الكوني، بعد أن عقَدوا الصِّلةَ بين إلههم
آتوم،
وبين الشمس رع، فأضفَوْا عليه صفةً كونية ليصبح «آتوم رع»، إلا أن ما يجب ملاحظتُه أن
الدين
الأوني «قد مرَّ بتطورات فكرية كثيرة، ولم يُسجِّله المصريون كتابة إلا بعد تأليفه بقرون
طويلة»
١٩ ومع أن منف التي كان يُعبَد فيها إله آخر هو بتاح، قد سبقت أون إلى التفوق
السياسي، فأصبحت عاصمةَ البلاد إبَّان حُكم الأُسَر الأولى في الدولة القديمة، فإن أون
تُعَد
عند الباحثين المدينةَ المقدَّسةَ الأولى، ذاتَ الشهرة الفكرية التي لا تُضارَع،
٢٠ «وما من شك أن أصحاب رع كانوا يُبشِّرون بدينهم منذ مطلع التاريخ المصري»،
٢١ حتى استطاعوا في الأسرة الخامسة «أن يَصِلوا العرش، وأصبح مذهبُهم دينًا
رسميًّا للدولة، فُرِض على الشعب فرضًا»؛
٢٢ لذلك كان أثر أون في الحياة الدينية المصرية أكبرَ من أثر منف، فأصبحَت قلبَ
مصر الروحيَّ، وساد إلهُها، واجتذب آلهة منف إلى بوتقته ومداره،
٢٣ «وظل رع يُعتبَر إلهًا يحكم ويَسود كإلهٍ للدولة في مُختلِف العصور، إلا إذا
استَثْنَينا فتراتٍ قصيرة.»
ويَنسُب عبد العزيز صالح
٢٤ لمدينة أون المقدسة — نسبًا صحيحًا في ظننا — فلاسفةً مُبرَّزين في مجال الفكر
الميتافيزيقي، كانوا هم أقدمَ مذهب فلسفي ديني، لتفسير الوجود ونشأته، حتى أصبحَت أقوى
المدن الفكرية في العالم القديم، في عصر الدولة القديمة، وكَعْبةً لطالبي العلم من جميع
أنحاء العالم، وبالذات فلاسفة اليونان،
٢٥ خاصة بعد أن استطاع كهنتها الاستيلاء على العرش، وتأسيس الأسرة الخامسة،
بزعامة أوسركاف؛ ليُصبِحوا أصحابَ الفضل الأول في كل ما عرَفه العالم الحديث عن مصر
الفرعونية، بعد أن طوَّروا أساليب الكتابة، وسجلوا معارفهم وعلومهم وفلسفاتهم داخل
الأهرامات العتيدة.
ولعل أهمَّ ما يمكن اعتباره لهؤلاء المفكرين نظريتُهم في الوجود
تفسيرًا ونشأة؛ تلك النظرية التي يمكن صياغتُها — بعد قليلٍ من الترتيب والتنظيم — في
التلخيص التالي:
في البدء
كان نون Noun
موجودًا وحيدًا في الوجود
وكان نون محيطًا أزليًّا مظلمًا
ومن نون برز الإله
إله الشمس رع آتوم
بقدرته هو وحده دون مُعين
لأنه كان «هو كل شيء في الوجود»
٢٧
ثم.
اختار الكامل مدينة أون، دون سواها؛
ليجعل منها مركزًا للخليقة كلها
وعلى تلٍّ فيها
بدأ إيجادَ العالم من نفسه وذاته.
٢٨
فنطق بأسماء أعضاء جسمه
وكان الأوائل منهم الإلهان:
شو Chou إله الهواء.
وتفنوت إله الندى والرطوبة.
وكي تتم عملية التكوين الكوني؛
فقد التقى شو بتفنوت بمشيئة رع آتوم،
وأثمر اللقاءُ عن إنجاب إله رابع هو:
جب gheb إله الأرض.
وهنا حانت الفرصة أمام شو،
ليقوم بعمل عظيم،
ففتق الأرض إلى قِسمَين عظيمَين،
وسوى قسمها الأعلى سماء،
هي الإلهة نوت Nout.
ومن ثم؛
تزاوج كلٌّ من نوت وجب،
لِيُنجبا من الأبناء أربعة:
اثنان من الذكور هما:
أوزير أو أوزيرس.
وسيت،
واثنتان من الإناث وهما:
الإلهة إيزي أو إيزيس Isis
والإلهة نبت حت أو نفتيس
رعيلًا أول يجمع بين الألوهية والبشرية،
كانت مهمتهم الكبرى التي قدَّرها لهم أبوهم آتوم
هي تعمير الأرض بالبشرية.
٣١
والوسيلة
أن يتزوج أوزير من أخته إيزي
ويتزوج ست من أخته نبت حت
لينجبوا كلَّ الخلق
الذين «هم أشباه له
هذا خُلاصة ما أوردَتْه المصادر، عن محاولات أصحاب الكامل آتوم رع، لتفسير النشأة
الكونية والكائنية.
٣٣ وإيضاحًا لهذه النظرية الأونية، يُمكن صياغتُها بعد تخليصها من أسماء آلهتها
الغريبة، مع قراءة المقاصد العقلانية التي قصَدها أصحابها من خلال ما ضمَّنوه سطورَها
من
معانٍ، في التلخيص التالي:
في البدء،
لم يكن في الوجود سوى موجود واحد
هو الماء
ولم يكن ماءً عاديًّا
بل محيطًا عظيمًا أزليًّا
قديمًا
بلا بداية، وبلا حدوث في الزمان،
وأزليته إنما تَعني أنه كان أولَ الموجودات،
وعليه فهو أصل الوجود والحياة
وهو المادة الأولى التي تكوَّنَت منها أشياء العالم المادِّي المحسوس
ومن هذا الماء
خرَج الإله إلى الوجود بذاته
بقدرته هو وحده
فلا يوجد موجِدٌ له سواه
ولما كان الإله في الأصل مع الماء بشكلٍ ما في الأزل
فمن البدهي أن يكون هو أيضًا، أزليًّا أزلية هذا الماء
ولما لم يكن هناك موجود ظاهر القوة كالشمس
إذَنْ
لا ريب أن الشمس هي عينُ هذا الإله
وبذا أصبح أصل العالم الأول
عنصرَيْن أساسيَّين:
عنصر أول، هو الماء
وعنصر ثانٍ خرج منه، هو النار
٣٤
ولكن
كيف أمكن أن تخرج النار من الماء؟
إن هذا إنما يَعني:
أن الأضداد قد ائتلفَت في كينونة الوجود الأولى
ائتلافًا لا تستطيعه إلا قدرةٌ،
قدرة قادرة على جَمع الأضداد؛
لأنها تضم في ذاتها هذه الأضداد:
الماء، والنار
وبالتالي
فقد حمل الوجود المتشكِّل منها
والصادرُ عنها هذه الصفة.
فجاء جامعًا: الليل مع النهار، والخير مع الشر،
والسلام مع الدمار.
ومن هذه الذات الإلهية،
جاء فيضًا وصدورًا
عنصران جديدان، هما:
الهواء والندى، وكِلاهما لازمٌ لحياة الكون والكائنات؛
فهو تدبيرٌ لغاية،
غايتها توفير سُبل الحياة،
وإمكانات الاستمرار للموجودات
وبإرادة هذه الذات الأولى،
التقى الهواء بالبخار؛
لِيَتكاثَفا.
وليكوِّنا معًا عنصرًا رابعًا من عناصر الوجود
هو: التراب
وليكتَمِل الوجود بصورة سَوية؛
فقد تسلل الهواءُ بين طبقات التراب،
فأحاله طبقتَين منفصلتَين
حُمِل إحداهما إلى الأعالي
فتكوَّن العماد الخامس من أعمدة الوجود المنظور
وهو: السماء
وهنا تنتهي قصة التكوين الكوني في النظرية الأونية، لتبدأ — وفي إطارها — قصةُ التكوين
الكائنية الحية، ممثلةً بعدد آخرَ من الآلهة، ليسوا بالآلهة الكونية، إنما هم آلهةٌ بشرية،
لتفسير الوجود الكائني، تَصوَّرَهم مفكِّرو أون على شكل أربعةٍ من الآلهة البشرية؛ هم:
أوزير وإيزي وست
ونبت حت، نشئوا نتيجةً طبيعية خالصة للتفاعل بين عناصر الكون؛ السماء بأمطارها ورياحها،
وحرارتها، ومختلِف ظواهرها، بالأرض وخِصْبها، وترابها ومياهها، وإمكانيات الحياة فيها،
وأصبحَت
مهمةُ هؤلاء البشر إنجابَ الذُّرية البشرية، لتعمير الأرض بالإنسانية.
وحتى تكتمل فلسفة أون؛ لم يَفُتها وضعُ تفسير لوجود الكائنات الأخرى غيرِ الإنسانية،
فجعلَت أوزير أحدَ الإخوة الأربعة رمزًا للنيل، ولما كان المصريون يرَوْن في النيل سرَّ
الحياة لكل الموجودات، نباتًا أو حيوانًا أو إنسانًا، فقد أصبح أوزير تفسيرًا سهلًا
لوجود هذه الموجودات.
وبذلك ألَّفَت هذه المجموعة الإلهية الكونية والكائنية الحية، تسعةً من العناصر،
أطلق
عليها كُهَّان العصر «تاسوع أون»،
٣٥ نسبةً لمدينتهم المقدسة، أو ما نضع له اسمًا اصطلاحيًّا يسهل الدلالة عليه
حين وُروده هو: المجمع القدسي، ذلك المجمع الذي زعم الكهَّان، أن أعضاءه كانوا حكامًا
لمصر
في أزمِنَتِها الأولى، وأن رع كان زعيمَه الأول، باعتباره كان الأبَ لكل أعضائه، وأن
أوزير
كان أهمَّ هؤلاء الأعضاء، فقد اختص بأشهرِ وأقوى أسطورة مصرية، كان لها في الديانة تأثيرات
كبرى وخطيرة، أخطرها أنه أصبح إلهَ الحساب في العالم الآخر كما سنرى، ولا يوجد مصدرٌ
أو
مرجع تناوَل أيَّ جانب من جوانب حضارة مصر القديمة، إلا ولأوزير فيه مكانٌ ومكانة؛ فقد
ظلت
أسطورتُه تسيطر على الأفهام، طَوال العصور الفرعونية، «حتى عبَرَت البحر، فوصلَت إلى
بلاد اليونان»؛
٣٦ لتصبح محل إيمان «في أوروبا بما يزيد على ألفَيْ عام.»
٣٧
لذلك يَحسُن الوقوف لعرضها بإيجاز؛ لنتابع بعدها دراسةَ الفلسفة المصرية في الوجود.
مع
ملاحظة أن هذه الأسطورة لم تتكوَّنْ أبدًا دَفعة واحدة، إنما «استمر كل جيل يُضيف إليها
من
خياله ما يُوائِم تصوراتِ عصره، وما يَزيد من تأثيرها في أذهان مُحبِّيها …»
٣٨ لذلك «فإن الفكرة التي تكوَّنَت عن أوزيريس في مصر، قد تباينَت وِفاقًا
للزمان، ووفاقًا للمكان أحيانًا.»
٣٩
ويؤكِّد الأثريون أنها «لم تكن في أي مكان موضوعَ عرضٍ مستفيض في نقوش المعابد
والمقابر، لكنها كانت مَقصِدَ تلميحاتٍ عديدة فيها، يمكن منها استخلاصُ الأسطورة بأجمعها،
ويمكن عمل مؤلَّفةٍ من هذه التلميحات؛ بفضل العرض المتَّصِل الذي ترَكه بلوتارخوس «بلوتارك»،
وهذه الإشارات يَحتويها على الأخصِّ كتابُ الأهرام …»
٤٠
وعلى سُنة هؤلاء المصرولوجيِّين سنَسير؛ لِنَصطفِيَ أهمَّ الأحداث المتناثرة لوقائع
الأسطورة
بين المصادر والمراجع المختلفة، ثم نعيد تركيبها في مجمَلٍ يُلخِّصها كالتالي:
إن «أوزير الابنَ البكر لإلهِ الأرض جب، وإلهة السماء نوت»
٤١ — وهو رمزُ الخير في الأسطورة — عندما «تزوج إيزيس وأصبحا زوجًا مقدَّسًا
يحكمون مصر، لم تَكُ مصرُ دولةً متحضرة، وكان الأهالي صيَّادِين رُحل، لا يعرفون شيئًا
عن
القراءة والكتابة، وليس لهم حكوماتٌ مستقرة. علَّمَهم أوزيريس فنونَ الزراعة، والكتابة،
وساعدهم لِيَحيَوْا حياة منظَّمة متحضِّرة، وشاركَته زوجتُه إيزيس في أعماله.»
٤٢
ويروى بلوتارك: أن أخاه ست — ويرمز للشر — حقد عليه وحسَده على حب شعبه له، فقرَّر
قتله،
وأخذ سرًّا مَقاس جسم أوزير، وصنع طِبقًا له صُندوقًا جميلًا فاخر الزينة والزخرف، وأحضره
إلى مأدبة أقامها لتنفيذ خُطته الشريرة، وعندما أُعجِب الجميع بجمال الصندوق، وعَد ست
مازحًا أن يُعطيه هدية لمن يَملؤُه بجسمه، فأخذ الجميع يحاولون، لكن الصندوق لم يَتَّفق
حجمُه
مع أيٍّ منهم، حتى دخَله أوزير، فأسرع ست وعصابتُه بإغلاقه عليه بالمسامير والرصاص المصهور،
وحمَلوه إلى النيل وألقَوْه فيه، فمات أوزير، بينما نادى ست بنفسه حاكمًا على مصر. ولكن
برستد يؤكد أنه «لا تُوجَد لدينا أيةُ وثيقة في المصادر المصرية القديمة، عن قصة الصندوق
التي رَواها بلوتارخ …»
٤٣ وبالرجوع إلى متون الأهرام نجدها تقول: «وصرعه أخوه ست على الأرض في نديت»،
٤٤ وفي رواية أخرى تقول: إنه «قد طرحه أخوه ست على جنبه على الشاطئ الأقصى
لأرض جحستي.»
٤٥
المهم في الأمر؛ أن ست قد اغتال أخاه أيًّا كان هذا الاغتيال، فحَزِنَت عليه حبيبته
إيزي، وسارت تضرب في الأرض بحثًا عنه، بصحبة «عنوب أو أنوبيس»
٤٦ الابن غير الشرعيِّ لأوزير، من أخته الثانية نبتحت/نفتيس، حتى عثرَت عليه بعد
أن ألقى البحرُ به على شاطئ مدينة بيبلوس الساحليةِ الكَنْعانية، وعادت به إلى مصرَ نائحةً
باكية، وأخفَتْه ريثما تُعِد العُدَّة لدفنه، فعثَر عليه ست مرة أخرى، فجُنَّ جنونه،
ومزَّقه إربًا،
ونثَر أجزاء جسده في أرض مصر؛ كأنْ رمى بفقرياته في أبي صير بالدلتا، وبرأسه في أبيدوس،
وبعضوه التناسلي في النيل حيث ابتلعَتْه سمكة «القنومة
Oxythnque»،
٤٧ وعادت الحبيبة المخلِصة مرة أخرى؛ لتجمع اللحمَ والعظم الممزَّق، وجلسَت تبكي
على جسده «الطاهر»، وتستعطف الآلهة، فحزنَت الآلهة عليه ورقَّت لحال «العذراء» إيزي،
فقامت أمُّه
نوت بإحياء رميم عظامه، «فقام من بين الأموات»، وساعتَها حملت منه حبيبته بوحيدِهما حور،
وقامت الآلهةُ برفع الناهض من بين الموتى إلى السماء، جسدًا حيًّا، ليصبح إلهًا لمملكة
الغرب — مملكة الموتى — تعويضًا له عما لحِقه من أذًى.
ولما كبر حور، قرر الثأر لأبيه واستردادَ عرشه، ولكن ست تنكَّر في هيئة خنزيرٍ أسود،
وهاجم حور فجرَحه واقتلع منه إحدى عينَيْه،
٤٨ ولكن حور عاد فانتصَر على عمِّه، واستردَّ عينه وقدَّمها لأبيه تضحيةً وعِرفانًا
بالوالدية، ونظرًا لأنَّ ست كان قد طعَن في شرف العذراء وشكَّك في شرعية بُنوَّة حور
لأوزير،
أمام المحكمة الإلهية التي انعقدَت لوضع حدٍّ لهذه الحرب الدموية، وتكوَّنَت من آلهة
أون
الكونية الخمسة، تحت زِعامة رع؛ لِتَقضيَ بين المتخاصمين؛ فقد دفعَت إيزي ادِّعاءَ ست
وتشكيكَه
في عذريتها بقولها لهيئة المحكمة الإلهية: «أنا إيسه، ربةُ الشهرة والقداسة، وإن مَن
هو في
أحشائي، هو غَرسُ أوزير حقًّا»
٤٩ وأيَّدها الكامل آتوم رع بإعلانه: ««أنها حملَت وهي فتاة»، وهو غرس أوزير فعلًا»،
٥٠ وبعد مُداوَلات عدة أعلنَت الآلهة قرارها قائلة: «اعهَدوا بمنصب أوزيريس لابنه
حوريس، ولا ترتكبوا ظلمًا كبيرًا، وإلا فإني سأغضب، وستسقط السماء على الأرض.»
٥١
وبموجب حكم المحكمة الإلهية، أصبح أوزير يُعرَف بأنه «رب أصحاب اليمين»،
٥٢ بينما أصبحَت العذراء الطاهرة إيزي تُعرَف باسم «الأم المقدسة»،
٥٣ بعد أن تأكَّد أن حملها بولدها كان مِن «روح أبيه»
٥٤ الإله، بطريقة إعجازية؛ ليكون ذلك ثالوثًا مقدسًا، يُشكِّل أضلاعُه «أبًا وابنًا
وروحًا قدسًا»؛ ومِن ثَم خضع ست لقضاء الآلهة الأونية، بل واعترَف بحور حاكمًا على
البلاد، ووضَع على رأسه التاج المقدس، واعتلى عرشَ مصر مِن نسبٍ شريف، يعود بشرفه لبنوَّته
للإله الشهير أوزير، وعليه فقد أصبحَت سلالة نسله من ملوك مصر، سلالةً من الآلهة المقدسة.
٥٥
ومع بداية العصر المتوسِّط الأول — عصر الثورة الأولى — أصبحَت مأساة أوزير وآلامُه
تُمثَّل كلَّ
عام على مَسارح العبادة في مدينته المقدسة عبيدو أو أبيدوس حيث دُفِن رأسه. تُمثِّل استشهاده
وموته وقيامته من بين الموتى، في «عيدٍ للقيامة مجيد»، وأصبحَت عبيدو لعبيده، مكانًا
طهورًا
مقدَّسًا، وقِبلةً يَحُج إليها الناس؛ تبركًا بالشهيد، حتى أسماها لسان حال العصر: «اباتون
(عبادون/المؤلف) أي الحرم.»
٥٦
وأصبح الجميع يتمنى أن يُدفَن عند موته إلى جوار قبر «الحبيب الشهيد»،
٥٧ حيث أُقيمَت تماثيلُ السيدة العذراء إيزي، وهي تَحمل ولدَها لِتُعطيه ثديَها،
٥٨ وبلغَت قُدسية أبيدوس حدًّا حُرِّم معه تحريمًا باتًّا على أي إنسان «أن يقرع
الطبول، أو يُغني على صوت الجنك أو الناي، وليس لأحدٍ أن يطَأه في أي وقت.»
٥٩ ولأنها الحرم؛ فقد حُرِّم بها «صيد الطيور والأسماك»،
٦٠ ويوم الاحتفال بعيد القيامة المجيد، كان «لا يجوز لأحد أن يجاهر فيه بصوته.»
٦١
هذه بإيجاز أهمُّ أساطير المدرسة الأونية التي تُعَد من أقدم فلسفات الوجود ونشأته،
لكنها
على أيِّ حال لم تكن الفلسفةَ الوحيدة في هذا الزمان؛ فقد كانت هناك مدرسةُ الإله بتاح،
إبَّان حكم الأسرة الأولى في الدولة القديمة، والتي بلَغَت شأوًا عظيمًا، قبل أن يَسقط
إلهها
في صِراعه مع رع في نهاية الأسرة الرابعة، ولبتاح فكرٌ وفلسفة لها ثقلها وأهميتها، وأثرها
الذي لا يمكن أن يتَغاضاه البحثُ النزيه، وكان صاحبَ دور لا يمكن إنكاره في تطوير الفلسفة
المصرية في الوجود، والارتفاع بها وترقيتها، تطويرًا كان له مَداه البعيد ومَدُّه، وأثرُه
العميق، لا في فلسفة المصريين فحَسْب، بل وفي فلسفات الأمم الأخرى المجاورة.
و«بتاح» هو في النطق السامي «فتاح»، اسم يَحمل في رأي الثقات معنى «الفتح»
٦٢ أو هو بتعبير أكثرَ دقة وتحديدًا إنما يَعني «الصانع أو الفتاح أو الخلاق.»
٦٣
وكان دخول الفتاح إلى مجال التفلسُف، يعود بالتأكيد إلى رغبة أتباعه، في كفالة زِعامة
الفكر والدين لِمَدينتهم منف؛ تدعيمًا لزعامتها السياسية، «فأدلَوْا بسهمهم في تفسير
وتعديل المذهب القديم، الذي نادَت به عين شمس المجاورةُ لمدينتهم، ثم خرَجوا على الناس
بمذهب جديد، يَصطبِغ بالمعنوية أكثرَ مما يصطبغ بالمادية، رَدُّوا فيه خلق الوجود وما
احتواه، إلى
قدرة عاقلة مدبِّرة آمرة، وتمثَّلوا هذه القدرةَ في معبودهم بتاح نفسه، وأكدوا أنه أوجد
نفسَه
بنفسه، وأنه أبدع الكونَ ومعبوداتِه، وناسَه وحيوانَه وديدانه، عن قصدٍ منه ورغبة.»
٦٤
«بفكرةٍ فكَّر فيها القلب،
٦٥ ونطَق بها اللسان.»
٦٦
أي إن سبيله كان هو سبيلَ «الفكر ثم الكلمة»، أو بتعبير عبد العزيز صالح:
ﺑ «فكرة
تَدبَّرها قلبُه
أو عقلُه،
وأصدَرَها لسانُه،
فكان من أمر الخلق ما كان.»
٦٧
وذلك على اعتبار «أن كل الأشياء كانت في عِلم الخالق بتاح، قبل أن يخلقها»،
٦٨ وبعد أن خلق الدنيا ومخلوقاتها، على عرشه «استراح …»
٦٩ فأصبح هو فتاح العليم مقدر الأقدار.
وبهذه النظرية التي طرحَتها تصوراتُ المدرسة المنفية، في نصوصٍ أغلبها — في رأي المؤرخين
—
«مصطلَحات فلسفية»،
٧٠ استطاع بتاح أن يكون ذا أثرٍ قوي، أثْرى الفكرَ المصريَّ وفلسفتَه في الوجود، من
حيث تأكيدُه على سبق الفكر للوجود، أو بأن «الماهيَّة سبقَت الوجود»، فظل قائمًا إلى
جوار
النظرية الأونية في الوِجْدان والعقول، رغم أن الأيام قد مالت عنه مبكرًا إلى رع، بعد
أن
تدخَّلَت أحداث السياسة، لتضع أقدارُها أتباعَ رع على سُدَّة الحكم، في الأسرة الخامسة
وما
تلاها، وولَّت أيامُ بتاح، ولم يَعُد للظهور سِوى مرةٍ واحدة، أيام الأسرة التاسعة عشرة؛
لِيُومض
ومضة الرحيل الأخيرة.
وظل رع قويًّا حتى قيام الدولة الوسطى، وحتى ظهور إلهٍ جديد هو آمون، إلا أن رع كان
قد
بلَغ من القوة حدًّا، لم يَستطع معه آمون سوى الاندماج فيه؛ ليصبح آمون إله الدولة الرسمي
حتى نهاية العصور الفرعونية، ولكن تحت اسم آمون رع، ويقول جريفث: إن آمون كان مجرد «إله
محلي، مغمور الشأن، خامل الذِّكر، في طيبة في عهد الدولة القديمة، ثم علا شأنُه وكبرت
مكانته، مع قيام الأسرة الثانية عشرة، فإذا به يُصبح مِن فَوره آمون رع، ويُصبح له معبدٌ
عظيم، فلما كان عهد الإمبراطورية، دان القوم لآمون رع رب الحاضرة الملكية، واعتبروه
نَصير الجيوش الفرعونية، وواهِبَها الظفر والغلَبة، حتى غطى على سائر الأرباب في مصر»
٧١ ويضيف د. محمد أنور شكري أنه قد «أسبَغ عليه كهَنتُه ما كان يتصل بالإله رع
من عقائدَ وتصوُّرات»،
٧٢ وأصبح ما «كان يُحكى عن إله الشمس من أساطير، يُنسب كذلك إلى آمون، فهو قد
قام بمُحاكمة حوريس وست في الصالة، بوصفه رئيسَ التاسوع الأكبر»
٧٣ أو المجمع القُدسي، فيما يقول «إرمان» وبهذا المعنى ظل رع صاحبَ السيادة
الرسمية حتى النهاية، لكن باسم «آمون رع».
وتوضح إليزابيث رايفشتال معنى الاسم آمون بأنه «الواحد الخفي»،
٧٤ الذي لا تُدركه الأبصار، فجاء اسمه فتحًا فلسفيًّا جديدًا، يُضاف لفتوحات
الفلسفة المصرية في الوجود؛ فقد تنزَّه به عن الكثرة وعن التحديد بالشكل والمكان والزمان
والإحاطة، فأصبح إلهًا مجردًا لا تُدرِكه الحواس، رغم ما حلَّ بفلسفته مِن تَردٍّ في
عصور مصر
المتأخرة، فبدءوا بتصويره في أشكال آدمية وحيوانية.
«وثمَّة ترنيمةٌ بديعة تَستوقف النظر، في التسبيح بمجد آمون رع … على أنه هو في جوهره
الشمس، وحورس الأكبر، وخنومو Khnumu بادئ الخلق، وبتاح إله منف الصانع المتقن، منها:
أيها الموجد الذي لا موجد له
أيها الواحد الأحد
…
…
أنت الأم البارة
بالآلهة والبشر
الصانع الدَّءوب الخالد …
والراعي ذو القوة والبأس
يرعى رعيته.
وقبل ذلك بقرنٍ من الزمان، ورَد على لسان أحد الشعراء، يسبح بحمد آمون:
سبحانك يا بارئ البرايا كافة
أنت واحد سبحانك
لكن أيديك كثيرة
يا من لا تأخذه سِنَة
طوال الليل، والناس رقود
البار برعيته؛
وعلى لوحة تذكارية، كتب «نب رع» رسام آمون؛ لأجل «نخت آمون» الذي رقد مريضًا، مشرفًا
على الموت بسبب خطيئته:
بالرغم من أن العبد اعتاد ارتكاب الخطيئة،
فإن الرب
من شأنه الرحمة؛
لأن رب طيبة، لا يصرف كل يومه غاضبًا،
فإذا غضب؛
فإن ذلك الغضب لا يدوم طويلًا،
بل يلتفت إلينا
في شفَقة
إن آمون
ومع مجمع أون القدسي، برئاسة رع، ثم آمون رع، ومع الإله أوزير أحد وأهم أعضاء هذا
المجمع، ومع بتاح الخالق بالكلمة، لا يَفوتنا هنا أن نقف وقفة قصيرة، مع إله آخر ظهر
إبان صولة آمون رع وسلطانه، هو الإله آتون؛ لما يوليه الباحثون من اهتمام بالغ.
وآتون هو إله الفرعون «إخناتون»، وقد كان قصيرَ العمر والأجل، ظهر لينطفئ سريعًا،
بل
لقد عده أهل مصر، فترة زندقة ومُروق لموقفه الرافض للأسطورة الأوزيرية والعالم الخالد،
وقد بدأ ظهورُه مع هجرة الفرعون إخناتون، من مدينة أجداده واست؛ ليُشيِّد لإلهه عاصمةً
جديدة
هي «أخيتاتون» ورغم ما أُثيرَ من ضجة حول هذا الإله، فإنه بمِنظار البحث الرزين المتأنِّي،
لم يُضِف شيئًا جديدًا إلى فلسفة رع أو آمون رع، سِوى كونه كان في نظر عابِديه الإلهَ
الواحد دون أتباع في مجامِعَ قدسية، منزَّهًا عن الشريك والضِّد، منفردًا بوحدانية مطلقة،
٧٨ مع صَبغِه بالصِّبغة العالمية، التي نتجَت تلقائيًّا كنتيجة للأحداث السياسية،
فما كانت مصرُ في عهد الدولة القديمة، لترى في الكون كونًا سواها، أما في عصر الدولة
الحديثة التي ظهَر فيها إخناتون بإلهه آتون، فقد كانت مصر في حال غير الحال؛ فهي مصر،
الإمبراطورية التي استطاعَت يداها أن تمتد؛ لتجذب إلى مُلكها أركانَ المعمورة المعروفة
آنذاك، وكان طبيعيًّا في ظل وضع سياسي كهذا أن يَجعَل إخناتون إلهَه إلهًا عالميًّا
واحدًا، أحقَّ بالعبادة من سائر الآلهة الأخرى، الدائرة في فلَكِ الإمبراطورية.
وعلى أية حال فإن إخناتون لم يَجنِ من توحيده المطلق، وتصوفه الذي اشتَهر بسببه، سِوى
الخراب والدمار له ولدولته ولأمته، التي أخذت في الانهيار، لتضيع منها إمبراطورتيها،
ويبدأ أتباعها في الانفصال عنها، بل والتطاول على حدودها.
ومن الجدير بالذِّكر أن كلَّ الآلهة التي تابعَت «رع» سيد المجمع القدسي، قد أخذَت
عنه
أيضًا فكرة التثليث والتتسيع عدا آتون؛ فقد «انتشرت فكرة التثليث بين المعبودات على
توالي الزمن، وأصبح لكل مكان بالقطر تثليثٌ ثانوي مقدس، رُكِّب منه بعد ذلك تتسيعٌ على
الطريقة المعروفة آنفًا»،
٧٩ فأصبح للإله بتاح زوجة تُسمَّى سخمت، وابن يُدعَى نفرتم،
٨٠ ولآمون زوجة تُدعى موت، وابن يُدعى خنسو،
٨١ بينما شكل خنوم «صانع البشر من صلصال كالفخار» عدةَ ثواليث؛ أهمها «في إسنا
ثالوث مع ست. ونت
Neith، وفي الفنتين مع إلهتَيِ الشلال
عنقت
Anoukis وست.»
٨٢
وهكذا بات واضحًا أنَّ فكرة التوحيد المطلَق، لم تكن سِوى حالة عارِضة واستثنائية
في تاريخ
مصر القديمة وديانتها أيام آتون وفي ديانته هو بالذات، ولعل ذلك هو السبب الذي حدا ببعض
الباحثين إلى القول بوُصول المصريين إلى التوحيد، أو لعل السبب كان السِّيادةَ الأولى
التي
حَظِي بها رع في الدولة القديمة، والتي أدت بالآلهة الأخرى إلى حمل اسمه، والاتصاف
بصفاته، فاعتبروا رع هو هذا الإلهَ الواحد.
ويتَّضِح هذا المعنى في حديث العقاد الآنفِ الذِّكر، فهو يُردِف قائلًا: «وبقِيَت
أسماءُ الإله
الواحدِ متعددة، على حسب التعدد في مظاهر التجلي المتعددة لذلك الإله»،
٨٣ ثم يعدد أسماءَ كثير من الآلهة التي اندمجَت في رع، لكنه لا يعتبرها آلهة
متعددةً اندمجَت في إله واحد، إنما هي — على حد زعمه — مِن «مظاهر التجلي المتعددة لذلك
الإله»، وهو رأيٌ فيه مفارقة واضحة مع واقع الحقيقة التاريخية، فأصبحت المسألة عنده تُشبِه
ما عليه عقائدُ الناس اليوم، حيث تُؤمن كلُّ طائفة بإله خاص، تَزعم أنه إلهُ جميع الطوائف
الأخرى بحُسْبانه الإلهَ العالمي.
ولذلك يمكن الميل إلى آراء أكثرَ تطابُقًا مع واقع الأمور ومنطقِها، كرأيِ كل من
إيمار
وإبوايه، حيث يقولان: إنه قد «حدَث ولا سيما لأسباب سياسية، أنْ قاربوا التوحيد، وإن
لم
يتوصَّلوا إليه بالفعل أحيانًا، وقد حصَل ذلك في حالة حصوله، مكرًا وخداعًا، بإخضاع الآلهة
الآخرين لإلهٍ مَحلي، جُعِل لهذه الغاية أعلى منهم شأنًا وسلطانًا، فمِن الجليِّ أن تعدُّد
الآلهة كان أمرًا أساسيًّا، ولم تَرضَ عنه غالبيةُ المؤمنين بديلًا.»
٨٤
لذلك ينبه كل من إتيين دريتون وجاك فاندييه، على «أنه يَجدُر ألا نَعتقد بأن عبادة
الأسرة الخامسة للشمس كانت شاملةً مانعة … ففي معابد رع ذاتِها ما يَشهد بعبادة حر …
وحت
حر … إذ إنه لا التوحيد
Mono theisme، ولا رئاسة إله
على آخرين
Henotheisme، قد استطاعا البقاءَ في مصر قط، كدين للدولة»
٨٥ أي إن عبادة ثالوث رع (رع وحور وحت حور) لا يمكن اعتبارها توحيدًا بالمرة.
وإن كان هذا لا يَعني التقليلَ من شأن ما ترَكه فكر مصر الديني، فهناك على الأقل أقدمُ
فلسفتَين في تفسير الوجود، في المدرستَين الأونية والمنفية، واللَّتَين جادَت بهما قرائحُ
أتباع الإلهَيْن رع وفتاح، وما كانا لِيَصلا إلى عصرنا، أو أن ينالا هذا الشأن الكبير
في
مصر القديمة، لولا المقدَّراتُ السياسية، التي حتمَت سيادةَ كلٍّ من مدينَتَي منف وأون
خلال
عهدَين متعاقبَين، من عهود السيادة في الدولة القديمة، بحيث استطاعَتا أن تتمتَّعا بشهرة
واسعة، طغَت تمامًا على قصص وتفسيرات كثيرة، لم يُكتَب لها البقاء والصمود أمام مدرستَين
مدعومتَين بالقوة السياسية.
إن النظرة المقارنة، لنظريَّتَي مدرستَيْ أون ومنف، مع عقائد وفلسفات الأمم التي جاورَت
مصر
في ذاك العهد وتماسَّت معها ثقافيًّا، وما تلاه من عصور؛ لَتُوضِّح مدى التشابه الشديد
بين
فلسفات المصريين، وبين فلسفات الشعوب المجاورة في حَوض المتوسط، وعقائدها في الوجودَين:
الكوني والكائني، شبهًا يَبلغ الحدَّ الكافيَ لإلقاء بُذور التكهُّن في العقل، باحتمالٍ
يَذهب
إلى اعتبار الفلسفة المصرية الأصلَ الأول والأصيل لعقائد هذه الأمم وفلسفاتها.
وقد راوَد هذا الاحتمالُ عقولَ كثير من المفكرين، فمنذ وقتٍ مبكر، أكد المؤرخ
«ديوجين لارتيو
Diogenes Laertius» في القرن
الثاني الميلادي، على أن الشرقيِّين وبخاصة المصريين، هم أول مَن تفلسَف،
٨٦ وهو نفس رأي كثير من المفكرين القدامى مثل «فيلون» اليهودي، و
«كليمنت
CIement» السكندري.
٨٧
ورغم أن الحذر العِلمي يَستوجب القول: بأن الأمر لا يَزال حائرًا بين النفي والإثبات،
في
تأثير المصريِّين على الفلسفة اليونانية، فإن هذا الحذر ذاتَه يستوجب أيضًا، التأكيدَ
على
«أن الكلام عن معجِزة يونانية ليس من العلم في شيء؛ فالقول: إن اليونانيين قد أبدَعوا
فجأة، ودون سوابِقَ أو مؤثراتٍ خارجية، حضارةً عبقرية في مختلِف الميادين، هو قولٌ يتَنافى
مع
المبادئ العلمية، التي تؤكِّد اتصالَ الحضارات وتأثيرها بعض ببعض، على حين أن لفظ المعجزة،
يبدو — في ظاهره — تفسيرًا لظاهرة الانبثاق المفاجِئ للحضارة اليونانية، فإنه في واقع
الأمر
ليس تفسيرًا لأي شيء، بل إنه تعبيرٌ غير مباشر عن العجز عن التفسير.»
٨٨
ويرى ثقاتُ الباحثين في الميدان الفلسفي «أن عوامل الاتصال بين اليونانيين والشرقيين
القدماء، كانت أقوى مما كنا نتصوره، وكل كشف تاريخي جديد يؤكِّد، بشكل متزايد، أن
اليونانيِّين كانوا مَدينين بكثير للسابقين عليهم من الشرقيين، لا سيما وأن الاتصالات
بين
هاتَين المنطقتَين لم تنقطع لحظةً واحدة.»
٨٩
ويذهب فؤاد زكريا إلى أنه «لا جدال في أنَّ المكان الذي ظهرَت فيه أُولى المدارس
الفلسفية والعلمية اليونانية، هو في ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين الحضارة
اليونانية، والحضارات الشرقية السابقة، فلم تَظهر المدرسة الفكرية الأولى في أرض اليونان
ذاتها، إنما ظهرَت في مستوطنة أيونية، أي في أقرب أرض ناطقةٍ باليونانية إلى بلاد الشرق،
ذَوات الحضارات الأقدم عهدًا، وهذا أمر طبيعي؛ لأن من المحال أن تكون هذه المجموعة من
الشعوب الشرقية، قريبة من اليونان إلى هذا الحد … دون أن يحدث تفاعلٌ بين الطرفين»، إلا
أن المشكلة الكبرى في هذا الصدد، هي أن الأدلة المباشرة على الاتصال العلمي قد فُقِدت»
٩٠
ولهذه الأسباب، يمكن بمقارنةٍ سريعة لمسُ موضوع التشابه بين الفكر المصري، وبين ما
تلاه عند اليونان، لمسًا خفيفًا؛ للتدليل على الأقل على سَبْق المصريين الزمني، للوصول
إلى أهم المبادئ، التي اعتُبِر اليونانيون بسببها أولَ المتفلسفين، مع الإشارة إلى أوجه
التشابه الواضحة، بين ما وصل إليه المصريون حول تفسير ونشأة الوجود، وبين الفكر الديني
للشعوب المجاوِرة مكانيًّا، والتالية زمانيًّا.
على الصعيد الفلسفي انتهَت محاولات الفيلسوف اليوناني «طاليس» في بحثه عن المادة
الأولى التي تَكوَّن منها العالم، إلى اعتبار الماء هو هذه المادةَ، وقد اعتبره الفيلسوف
«أرسطوطاليس» أولَ من تفلسف لهذا السبب بالذات، وهذا ما وصل إليه المصريون قبله بآلاف
السنين، بتأكيدهم أنه «في البدء لم يكن في الوجود سوى نون، وكانَ نون محيطًا أزليًّا
مُظلمًا.»
وكان غريبًا ألا يُلاحظ الباحثون أن الشخص الذي اعترَفوا بأنه أول من أدخل الهندسة
إلى
اليونان، منقولة عن المصريين، أنه هو نفسُه أول من تفلسف لقوله بالماء كمبدأ أول
للأشياء، رغم أن «أرسطو يُشير إلى أن طاليس عندما يقول بالماء كمبدأٍ أولَ للأشياء، ربما
يكون متأثرًا بالأساطير القديمة القائلة بأن أصل الأشياء هو الماء، خصوصًا القائلة
بالمحيط، كما أن أرسطو يقترح أن يكون طاليس متأثرًا بالأساطير المصرية عن أصل الخليقة»،
٩١ وكان ينصح تلاميذه دائمًا ﺑ «أنه من الخير أن نَستأنس برأي الذين تقَحَّموا
البحث في الوجود وفلسَفوه قبلنا»،
٩٢ فمَن كانوا هؤلاء إذا لم يكونوا هم المصريون؟ بل ويعترف بأن المصريين قد
وصَلوا إلى البحث النظري المجرَّد، وهو مقياس التفلسف عنده.
٩٣
لذلك بدأ الباحثون يؤكدون على «أن اليونانيِّين ليسوا أولَ مَن بدأ الفلسفة والعلم
والتجريد، ولم يَعُد مقبولًا الرأيُ القائل بأصالة الفكر اليوناني، وبأن اليونان هم أول
مَن
بدأ العلم النظري والفلسفة، ويُقوِّي من عدم القَبول هذا ما قدَّمَته حضاراتُ وادي الرافِدَين
«والنيل»، من إنجازاتٍ في مجال العلم والمجالات الأخرى. ومن تحليل طبيعة الميتافيزيقا
اليونانية — وهي جوهر الفلسفة عند اليونان — يمكن القولُ: إنها لم تكن إلا صياغةً جديدة،
بألفاظ ومصطلَحات ظاهرةِ العقلانية والعِلمية، للموضوعات الميثولوجية نفسِها التي كانت
سابقةً على ظهور الميتافيزيقا اليونانية»،
٩٤ ويَذهب مع هذا الرأي كثيرٌ من المحْدَثين، أمثال «ري» و«ا.ب. ألكسندر»
و«ديورانت»، و«ميلهود»، و«سارتون»،
٩٥ بينما يُلخِّص «جاردنر» هذا الاتجاه بعبارة بليغة واضحة تقول: «إن فلاسفة
اليونان الأوائل مثل طاليس وفيثاغوراس، قد قبَعوا كتلاميذَ عند أقدام الكهنة المصريين.»
٩٦
ولا يقتصر الأمر على طاليس أو «فيثاغوراس»؛ فالمدرستان «الأفلاطونية» و«الأرسطية»،
لم
تَكونا أولَ مَن أشار إلى منطقية الوقوف عند علةٍ أُولى، في سلسلة العلل، هي علة ذاتها،
بعد
أن وضح هذا المعنى في المدرسة الأونية المصرية، باعتبارها رع سيد المجمع القدسي هو هذه
العلة، ولا علة سواه، بل ويذهب المحدثون إلى التأكيد صراحة على أن «سولون» و«أفلاطون»
بشكل خاص، قد تتلمذوا على جامعة عين شمس الأونية، ومِن طلائع طلابها، ويعتبرون الفكر
الأوني جامعة، صدَّرت العلم والمعرفة إلى كل دول العالم القريبة في هذا الزمان،
٩٧ وقد اعترف أفلاطون خاصة «بفضل الحضارة الفرعونية على العلم والفكر
اليوناني، «وأكد أن اليونانيين إنما هم أطفال بالقياس إلى تلك الحضارة القديمة العظيمة»»،
٩٨ هذا عدا كثير من الروايات التاريخية التي «تحكي عن اتصال كبار فلاسفة
اليونانيين وعلمائهم بالمصريين القدماء، وسفرهم إلى مصر، وإقامتهم فيها طويلًا لتلقي
العلم.»
٩٩
وغنيٌّ عن الإيضاح والشرح، أن تصورات أفلاطون عن العالم الآخر الخالد، أو ما أسماه
«عالَم المثل»،
١٠٠ لا تخرج عن نفس التصورات المصرية القديمة لهذا العالم، والتي سيأتي بيانها،
كذلك لم يكن كلام «هراقليطس» عن قيام جوهر التكوين على الضدِّية في التركيب؛ كلامًا
جديدًا في تاريخ الإنسانية،
١٠١ فهذا هو نفسُه ما أكدَته العقليةُ المصرية، باعتبارها العالمَ قد تكوَّن أصلًا من
أزَليَّيْن، هما الماء «نون» والنار «رع». وإذا كان الرِّواقيون قد أخذوا
«اللوجوس
logos» الهيراقليطي، واعتبروه كلمة خالقة سرَت في
الكون، كنَفحةٍ قدسية منحَتْه الوجودَ والحياة؛
١٠٢ فقد كانت المدرسة المنفية صاحبةَ هذا الاتجاه مِن قبلهم، وقد أكَّدَت بوضوحٍ أن
العالم قد جاء خلقًا من عدم، بالإبداع، عن طريق الكلمة الخالقة، التي فكَّر فيها بتاح،
ونطقَها فكان الوجود. بل ويمكن — دون تطرف أو انحياز — اعتبارُ الآلهة التسعة في المجمع
القدسي، مع إضافة حور بن أوزير، أصلًا مباشرًا لتلك الفكرة التي نادَت بها مدرسة
«أفلوطين» الأسيوطي الصعيدي،
١٠٣ صاحب مدرسة الإسكندرية المنسوبة لليونان، رغم مصريتها المكانية والفكرية إلى
حدٍّ بعيد، والتي تقول: إن هذا العالم جاء فيضًا وصدورًا من ذات الله؛ العقل الأول، على
شكل عشَرةِ عقول، يُشرِف كلٌّ منها على إدارة فلك من أفلاك السموات، بينما يُشرف آخرها
العاشر
أو الفعال على فلَكِنا الأرضي،
١٠٤ وهذا العاشر كان في فلسفة أون هو «حور» الملك الذي يَنوب عن العقل الأول في
مُلك مصر، وكانت مصر هي كل الدنيا في التصور القديم، بينما كان وجود العالم كله في هذه
الفلسفة الأونية، فيضًا وصدورًا على شكل عقول أو آلهة تسعة.
ومن هذه اللمحات الموجزة، يتأكد سبق المصريين للفلسفة اليونانية، في أهم منجزات هذه
الفلسفة.
أما على الصعيد الديني، فقد بات واضحًا أن الفكر المصري، قد امتدَّ في موجةِ مدٍّ
بعيده؛
ليغطي الفكر العقائدي لكل حوض المتوسط، ويؤثِّر فيه تأثيرًا بَقِي حتى يومنا هذا، وبخاصة
في
عقائد العبريين،
١٠٥ الذين تأثروا بهذا الفكر أيما تأثر، وفي العقيدة المسيحية من بعدهم،
١٠٦ وعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن إيراد بعض أوجُه الشبه بين ما ورد في قصة
التكوين المصرية، وبين ما ورد في بعض الديانات الأخرى التاليةِ لها في المنطقة.
بالمقارنة؛ حول ما طرحه الفكر المصري، تصورًا لنشأة الكون كله من الماء، نجد نفس
التصور لدى العقائد الأكدية والبابلية — في بلاد الرافدَين — حيث اعتبروا الماء أو الإلهة
«تيامات» كانت الخضمَّ الأول في الكون، وهو نفس المعنى الذي أكَّدَته العقائدُ العبرية،
فيقول
الكتاب المقدس: «وكانت الأرض خربةً وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرفُّ على
وجه المياه»،
١٠٧ ومما لا يحتاج إلى بيان، أن العبريين بالذات قد تأثروا بالفكر المصري، وأن
هذا الأمر وارد ورودًا قويًّا؛ نظرًا لبقائهم في مصر الفرعونية فترة ليست بالقصيرة، قبل
رحيلهم في رحلة التيه إلى فلسطين.
وإذا كان شو قد فتَق الأرض إلى قسمَين «سماء وأرض» في القصة الأونية، بعد أن كانتا
رتقًا، فإن هذا ما أوردَتْه ملحمةُ الخلق الأكدية؛ فهي تقول: إن «مردوك» قد «شقها كما
تُشَق الصدفة إلى قسمين، وثبَّت نصفًا وجعله سقفًا سماء»
١٠٨ وعن هذه الأسطورة، «أو ربما عن المِصريين مباشرة»، أخذ الكتاب المقدس العبري
قوله: «وقال الله: ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلًا بين مياه ومياه، فعمل الله
الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد، والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك، ودعا الله
الجلد سماء.»
١٠٩
ولعل قصة الصراع بين أوائل البشر على الأرض، في الديانة المصرية، بين أوزير وست،
هي
نفس القصة التي وردَت بالكتاب المقدس تحت اسم هابيل وقايين،
١١٠ آباء البشر، وكما قتل ست أخاه أوزير، قتل قايين أخاه هابيل.
هذا، وقد اعتقدت عقائد الرافدَيْن في العقيدة المصرية المنفية، حول الخلق بالكلمة،
فها
هي أسطورة التكوين الأكدية تخاطب الإله مردوك قائلة: «مر بالغرق أو الخلق، يكن ما تأمر
به، افتح فمك تتلاشى قطعة القماش، تكلم ثانية فتعود القطعة كما كانت.»
١١١ وقد أخذ العبريون نفس الفكرة، فتقول نصوصهم: إن الله عندما كان يريد خلق
شيء ما، كان يقول: ليكُنْ كذا، فيكون،
١١٢ وهي نفسُها الفكرة التي أخذها المسيحيون، فيؤكد كوك أنه «من مثل هذه
البدايات البسيطة — يقصد رأي مدرسة منف في الخلق — نشأ مذهب الكلمة
Logo الذي نجده في
الإنجيل الرابع يوحنا»، وقد كانت المسيحية بوجه خاص، أكثر الديانات تأثرًا بالعقائد
المصرية، كما يحتمل جدًّا — كما سبقت الإشارة — أن يكون بتاح هو الفتاح في النطق العبري،
خاصة أن سفر التكوين قد أكد أنه بعد خلق السموات والأرض، استراح الله من عناء عمله في
اليوم السابع، كما استراح بتاح من قبل.
أما بالنسبة للدين اليوناني، وباختصار فقد اعترف «هيرودوت» صراحة بأن «الآلهة
المصرية هي الأصلُ الذي نبعَت منه آلهة اليونان.»
١١٣
هذه بإيجاز أوجُهُ الشبَهِ الواضحةُ بين فلسفة المصريين القدماء وعقائدهم، وبين فلسفات
الشعوب المجاورة وعقائدها، وقد قصدنا بها مجرد الإشارة والتنبيه، لا البحث والتأكيد
المفصل، فهذا ما يخرج عن نطاق البحث، ونتركه لمن يستطيع دراسته بتعمق أكثر، من الباحثين
على هذا السبيل، ولم يكن الهدف عندنا سوى تقييم الفلسفة المصرية القديمة وديانتها من
حيث الأصالةُ فيها بالقياس إلى مشابِهاتها.