الفصل الأول
الجماهير تغزو عالم الخلود
إن الانفعال الحق، هو الذي يتَّجه إلى كل ما هو جديد، لا إلى مجرَّد الخلاص من كل
ما هو بالٍ عتيق؛ فهو يؤدِّي إلى استيقاظ قُوًى غير متوقعة في الأفراد، بل هو يؤدي
إلى تغير نظرة الناس إلى الآلهة ذاتها.
بوركارت
انتهت الفصول السابقة إلى اكتشاف ثورة عارمة شَمِلت البلاد، بدأَت نظريًّا إبَّان
بِناء
الأهرامات الكبرى، في عهد الأسرة الرابعة، ثم ظهرَت نذُرها العمَلية عندما بدأ تمرد
النبلاء في الأسرة الخامسة، واستقلالهم بأقاليمهم عن العاصمة الملكية، حتى تفجَّرَت
شعبيًّا تفجرًا شاملًا، في عهد بيوبي/بيومي الثاني، آخر ملوك الأسرة السادسة.
وفي غَمرة هذه الأحداث، ظهر — مصاحبًا لها — في الأسرة الرابعة، إلهٌ جديد هو الإله
أوزير، الذي أخذ يَقوى ويشتد منذ أواسط الأسرة الخامسة، إلى الحد الذي دخَل به إلى
الأهرام؛ ليسجل مع أتباعه في متونها، إلى جوار سيد الآلهة رع الأوني وينتهي إلى السيادة
الدينية على كل أرجاء مصر، في عصر الدولة الوُسطى.
وهنا بالضبط نرى أعظم أسرار الثورة، وأكبرَ الآثار التي تركَتْها أحداث السياسة والصراع
الاجتماعي على الديانة المصرية؛ لأن المعنى يصبح: إن الثورة النظرية في الأسرة الرابعة،
لم تكن سوى عقيدة أوزير ذاتها، ظهرَت كنوع من الاحتجاج أو التمرُّد السلبي، في عصر عَمل
فيه
كل الأفراد في أعمال السُّخرة؛ لبناء مقر خلود الملك، وكان منطقيًّا أن تتمرد الجماهير،
وأن تنتشر بين جموعها الأفكارُ الثورية.
ولما كانت الدولة القديمة لا تزال في عنفوان جبروتها ومجدها؛ فقد اتخذت هذه الثورة
مظهرًا سلبيًّا في اعتناق عقيدة تخالف العقيدة الحكومية، وكان طبيعيًّا أن يَصنع خيال
الحكماء الشعبيين في وقت المحنة والمظلمة، إلهًا يشاركهم محنتهم ومظلتهم، فيموت غِيلةً
وعسفًا، وتنطبع الأسطورة الأوزيرية بطابع جديد كلَّ الجدة على الفكر المصري، فتحول كل
همها نحو الفقراء ومشاكل العَوَز والحاجة، وآمال الدهماء وطموحاتهم، بل أضْفَت على الطبقة
الفقيرة كلَّ القيم الخلقية النبيلة، بينما سلَبَتها من الطبَقة الغنية الممتازة، وفي
ثنايا
أسفار الأسطورة الطويلة أحداثٌ تزايدَت وتراكمَت بمرور الزمان، وباختلاف الأحداث، لكنها
بشكل عام تُظهر هذا الاتجاه بشكل يتضح تدريجيًّا وبإصرار، فمثلًا عندما سقط الطفل الإلهي
حور صريعَ السُّم، هُرِعت به أمه إيزي تبحث عن ملجأ ومأوًى ومُداوٍ، فأوصَدَت المرأة
الغنية
أبوابَ قصرها في وجه الأم ووليدِها المحتضر، مصوِّرة ذلك بكل الخسَّة الممكنة، ولم يعد
أمام
الأم الإلهية إلا أن «استَصرَخَت أهل المناقع القريبين منها، فواساها فُقراؤهم، وهُرِعوا
إليها بقلوبهم، وترَكوا بيوتهم.»
١
وتلقَّت الطفلَ امرأةٌ فقيرة، وفتحَت له وللأم أبوابَ حظيرتها، وخفَّفَت عن الأم محنتها،
وسهرَت
على الطفل حتى عُوفِي — مع تصوير موقف كل الفقراء بصورة خُلقية سامية رفيعة — وبينما
تَقوم
العقارب بلَدْغ ابن الغنيَّة البخيلة حتى الموت، تتخذ الإلهة إيزي قرارها واضحَ المعاني
ﻓ
«تكافئ الفقيرة المِضْيافة، وتُلقي درسًا على الثرية البخيلة، فأمرت هذه الأخيرةَ أن
تتنازل عن ثروتها لصالح الفقيرة التي وسعَتها في حظيرتها، ثم عقَّبَت على مصير البخيلة
بقولها للسامعين:
انظروا.
لقد ابتلعَت لُعابها،
لُدِغ طفلها،
وخَسِرت مالها؛
لأنها «لم تفتح لي بابها».»
٢
ولعل هذا التحديَ السافر، والمناداة بمبدأ توزيع المِلكيات الكبيرة لصالح الجماهير
الفقيرة — إن صحَّ التعبير — يقال هنا لأول مرة في تاريخ الإنسانية، مصحوبًا بالتهديد
والوعيد، لكل مَن لا يؤمن بآلهة الشعب وبأوامر هذه الآلهة، التي ظلَّت تُصدِّر طوال سرد
الأسطورة، لصالح الجماهير المطحونة فقرًا وقهرًا، وتأجيجًا للنفوس الموتورة؛ صورَ خيال
الحِكمة الشعبية الظلم والاستبداد بصورة بشعة؛ لينتهي أسوأ نهاية، فينتصر أوزير المظلوم
في ختام الجولة، ليُعبِّر ذلك عن أنه مهما قامت دولة الظلم وطال عهدها فلسوف تنهار وتزول؛
لأن الآلهة قدَّرَت أن ينتصر الحق على الظلم، ويقهر المقهورُ قاهرَه.
وتأصيلًا للإله الجديد؛ فقد عادوا به إلى الماضي السحيق، وأكدوا أنَّ ولده حور ليس
سِوى
حور الأكبر؛ إله التوحيد القديم، وأن أمه إيزي ليست سوى تلك المرسومة نقشًا على جدران
المعابد القديمة، ذات القرون الحاوية لقُرص الشمس حت حور، وأن أوزير هو الملك العادل
الصالح الذي حكَم بالمحبة بين الناس ثمانيةً وعشرين عامًا من المساواة والرخاء والسلام،
واطمأنَّت القلوب إلى عقيدتها، فهفَت النفوس إلى الإله الشهيد وإلى عدله، فكان أن بدأ
«الانتظار لملكٍ منقِذ، لشخص يحل فيه رع الحقيقي.»
٣
وحيث إن حلول رع الحقيقي، كان في الثالوث الأوزيري المقدس، أو في أوزير بوجهٍ خاص،
فقد
بدأت تَسري بين الجماهير عقيدةٌ جديدة، ملخصها «فكرة عن أوزير ومجيئه؛ ليصلح كل شيء»،
٤ وبالتالي سجل المنطق من خلال الأحداث التاريخية، «ولأول مرة، ظهورَ عقيدة
المخلِّص المصرية».
وإذا كان أوزير قد صعد إلى السماء إلهًا من بعد موته، فلا ريب أنه كان من الأصل
إلهًا.
ولكن؛
لماذا يأتي إلهٌ إلى الأرض، ويترك نفسه ليُقتل ظلمًا وعدوانًا؟
لا ريب أن هناك دافعًا قويًّا، ومعنًى كبيرًا، وراء مجيء الإله، هو بالمنطق وحده «خلاص
البشر، وفداء لهم»، وحملًا لخطيئاتهم عنهم، فلا ريب أنه كان «الفاديَ الأعظم»، وعليه
لا يمكن
القول بظهور عقيدة المخلِّص دون ربطها بعقيدة «الفداء»، وإذا كان أوزير قد جاء مِن قبل
ليُقيم
دولة العدل والمحبة والمساواة، فلا ريب أنه سيعود «ليصلح كل شيء» فهو قد غادر فعلًا؛
لكن ليعود، وعليه لا بد أن يقوم المنطق مستمِدًّا من الفكر مداده، سادًّا ثُغَرات لم
تملأها
الوثائق، بوضع عقيدة «الرجعة من السماء»، إلى جوار عقيدتَيِ المخلِّص والفداء، كثالوث
مترابط
لا تُوجَد واحدة منها — منطقيًّا — مستقلةً عن الأخريات.
وسرى الإيمان بالعقائد الثلاث إلى القلوب النازفة، كالبلسم المُداوي؛ فامتلكها، ولكن
لا ليُهدِّئها؛ بل ليُشعِلَها، فكما أن حور ابن الله لم يرضَ بالظلم وثار وحارب الظلَمة،
حتى
أعاد الحقَّ إلى نِصابه، فقد وضع بذلك سُنة يجب احتذاؤها، فالآلهة لا تأتي الأمورَ عبثًا،
إنما لحِكْمة كُبرى تُتبَع، وهنا عين الحكمة، فلكي يعود الحق لا بد من ثورة وحرب. هكذا
قررَت
الآلهة، وهذا ما يجب أن يكون. ولما انتهَت العقول إلى هذه القناعة، دخلت العقيدةُ
الأوزيرية صراعًا علنيًّا مع العقيدة الملكية، في نهاية الأسرة الرابعة تقريبًا.
ويُلخِّص سليم حسن ما حدث خلال تلك الفترة المرتبكة من تاريخ العقيدة المصرية بقوله:
إنه
«عندما حدث الصَّدْع العظيم عند نهاية الدولة القديمة، وجدنا المذهب الأوزيري الذي كان
بلا شك «مذهبَ عامة الشعب»، أخذ ينمو وينتشر، ويزداد قوةً على قوة، ونفوذًا على نفوذ،
مما
وسَّع هذا الصدع، وسمَح لأفكار الشعب الدينية ومعتقَداتهم، أن تندفع إلى الخارج، وتأخذ
في
الظهور في صورة حمم ملتهبة؛ على أن الشعب لم يَكتفِ في أي مكان من البلاد، بحرية «التعبير
عن معتقداته وصلَواته الخاصة»، بل طالب بحق التمتع بالجنة السماوية التي وعد بها الملوك،
فأُجِيب مطلبُه بعد حرب شعواء، قُلِبَت خلالها كلُّ الأنظمة الاجتماعية رأسًا على عقب.»
٥
وبغض النظر عن توقيت سليم حسن للثورة وأسبابها، ودون استباق للأحداث، يمكن القول:
إن
المرحلة التطورية التالية لمعتقَد الخلود، قد جاءت مصاحِبةً لحدَثَين خطيرَين:
وإن هذه المرحلة، قد بدأَت بدخول أوزير وتوابعه إلى المجمع القدسي، عندما لجأ كُهَّان
الملكية في أون إلى مُداراة الخطر الناشئ، برفع الإله الشعبي لمرتبة الآلهة الكونية،
وإدخاله مع توابعه إلى المجمع القدسي؛ ليسجل إلي جوار رع الأوني في متون الأهرام،
ليتحوَّل المجمع القدسي من خمس آلهة كونية إلى «تسع آلهة، تجمع اللاهوت مع الناسوت أو
الألوهية مع البشرية»، ولعل في ذلك ما يُفسِّر لنا دهشةَ وتشكُّك إرمان وفرانكفورت وأنتس،
السالف الإشارة إليها، وهو ما لخَّصه محمد أنور شكري بقوله: إن الأسطورة الأوزيرية قد
انتشرت «انتشارًا واسعًا، وقد اضطُرَّ كهنة عين شمس في بداية الأمر إلى مقاومتها، لكنهم
اضطُرُّوا آخِرَ الأمر إلى «التوفيق بينها وبين عقائدهم»، وضمِّ أوزير ومَن تبعه من الآلهة
إلى
آلهتهم؛ وبذلك تألف التاسوع العظيم.»
٦
ورغم أن كهنة الملكية لم يضَعوا أوزير وتوابعه في مرتبة مساوية للآلهة الكونية (رع
وتوابعه)، وإنما ضمُّوهم تحت سيادتهم كأبناء لرع؛ ضمانًا لسيادته، ورغم أنهم استطاعوا
بذلك
أن يبعدوا من الأذهان فكرة المنافسة بين أوزير ورع، على اعتبار أن أوزير ما كان ليخرق
أقدس التقاليد المصرية في إجلال الآباء، وإلا ما استحق التقديس كإله، رغم هذا؛ فإن دخول
أوزير وتوابعه المجمع القدسي الأوني، يشير إلى هزيمة سياسية وعقائدية ودينية صريحة،
مُنِيَت بها الملَكية أمام شعبها، واعتراف واضح بهذه الهزيمة.
وكان لا بد من بعض التعديلات في الديانة الملكية، بعد دخول أوزير المجمعَ القدسي؛
كي
يظل رع صاحبَ القداسة الأولى، وتظل أون صاحبةَ السيادة والسلطان، وكانت هذه التعديلات
بدايةً لسلسلة من التنازلات والهزائم لديانة الملكية، وللملكية ذاتها، بدأَت في الأسرة
الرابعة بدخول أوزير المجمع، ثم تلاها انتشارٌ واسع للعقيدة الجديدة بين أفراد الشعب؛
ليجيء ثاني تنازل خطير، باعتراف الديانة الملكية بعالم للموتى يذهب إليه أفراد الشعب،
ليعيشوا تحت الأرض في مملكة يحكمها أوزير،
٧ إلا أنه لم يكن عالم خلود، بقدر ما كان عالم أطياف غير محددة الماهية، حتى
ذهب الباحثون إلى القول: إننا «لا نعلم شيئًا في عهد الإمبراطورية القديمة، عن المصير
المحدد للفقراء بعد موتهم، ولكن نرجح أنه كان ضعيفًا جدًّا.»
٨
ويبدو أن ذلك كان ناتجًا عن أن العقلية المصرية، ما كانت — حتى هذا الوقت — لتتطاول
إلى
حد تصور المساواة مع الملك، أو حتى مجرد التفكير في أن الخلود جائز للعامة كما هو جائز
للملوك؛ فلا شك أن ألوهة الملك كانت ولا تزال حصنًا منيعًا أمام مجرد التفكير في هذا
الأمر، في وقت سادَت فيه قاعدة تقول: إن الخلود من حق الآلهة فقط بحكم طبيعتها، وهي
طبيعة غير موجودة في البشر، بحيث كانت هذه الطبيعة الإلهية قلعةً مدرَّعة للملوك، تُلغي
أيَّ
تفكير في المساواة؛ لأنه لو خُلِّد الجميع لتساوى الجميع.
أما كيف بدأَت مطالبةُ الشعب بحق الخلود؟ ومتى تحقق له ذلك المطلب؟ فهذا ما تجيب
عليه
أحداث الثورة الشعبية في منتصف الأسرة الخامسة تقريبًا؛ فقد بدا جليًّا أن الهدوء الذي
تلا دخول أوزير إلى المجمع القدسي، لم يكن سوى هُدنة مؤقتة، ثوى خلالها الجمرُ الثوري
تحت
رماد من الهدوء الظاهري، بينما كانت العقيدة الأوزيرية تَسْري باللهيب بين الجماهير،
التي
وجدَت بُغيتَها في حكام الأقاليم من نُبلاء وأشراف الأسرة الخامسة، فقام هؤلاء — كما
سلف
٩ — بتجميع هذه الجماهير في أقاليمهم بوجه الاستبداد الملكي، بحيث استطاعوا أن
يَستقلُّوا بأقاليمهم عن العاصمة، ويُناوئوها السلطان، بل وأن يقتحموا عالم أون الخالد
عَنوةً واقتدارًا، دون أي مبررات منطقية، أو تفسيرات عقائدية، اللهم إلا منطق القوة
واليد الباطشة وحدهما. فاستطاع أوزير بذلك أن يتحول من الجانب السلبي إلى الجانب
الإيجابي، ومن النظرية إلى التحقيق الواقعي للثورة، وكانت أهم نتائج هذه الأحداث
المتلاحقة تباعًا هي:
وكما سلف، فقد وضح أن اقتران المدِّ الثوري الأوزيري بالنبلاء، جعل هذا المدَّ محدودًا؛
فالنبلاء كقوةٍ محافظة، لم يكن في مصلحتها القضاءُ كُليةً على سيادة رع لحساب أوزير،
وإلا
أعطَت الجماهير سلاحًا ذا حدَّيْن؛ حدٍّ باتجاه الملكية، وحدٍّ باتجاه النبلاء أنفسهم.
وبذلك
كان تمرد النبلاء وتكوينُهم إقطاعاتٍ قويةً في وجه الملكية — اعتمادًا على القوى الشعبية
وعقيدتها الأوزيرية — مجردَ مرحلة انتقالية من الحكم المطلَق إلى الثورة الشعبية الشاملة،
بل إن تمرد النبلاء واستطاعتَهم تحقيقَ ذلك واقعيًّا، جاء كسرًا لمعنًى قدسي وشرخًا كان
لا
يمكن تصور إمكانُ حدوثه — في العقلية الجماهيرية — فيما قبل، وكان الشرخ الأكبر هو دخولَ
هؤلاء النبلاء العالم الخالد، فنسَفوا بذلك نظرية الخلود الإلهية من أساسها أمام أنظار
الجماهير، ولم يَعُد الخلود كامنًا في الطبيعة الإلهية وحدها، وإلا ما خُلِّد النبلاء
قط.
ورأَت الجماهير كل الآمال في السيادة والعدالة والمساواة تتبخر أمامها، عندما استتبَّ
الأمر لحكام الأقاليم، فأخذوا يستغلون قوَّتهم في الضغط على الجماهير، والإثراء على
حسابها بعَسْف وإرهاب، تجاوز كل ما حاق بالناس من قبل، وبدأت الثورة الشاملة فعلًا تتحول
لتصبح تدميرًا لا محدودًا، حتى قطعَت الجماهيرُ الجائعةُ الطرقَ على الأثرياء، واقتحمت
العصاباتُ المسلحة أقدسَ الأماكن الأونية، حتى الأهرام لم تمنَعْها قدسيتُها من الثوار،
١٢ ولم يصبح العالم الخالد شيئًا مخيفًا، فاقتحَموا على الموت سكونه، وسلَبوا
الراقدين في سُبات الأبدية ثرواتٍ أصبح الأحياءُ الجياعُ أولى بها من أمواتٍ ماتوا تُخمةً
وشِبعًا.
وقد شجع ذلك على ظهور اتجاه ثوري جديد ذي ميول متطرِّفة، أخذ جانبَ التشكك، ثم التحرر،
فالإلحاد التام بكل المقدسات. أخذ مظهرَه فيما سلف من تهجُّم وتهكم على الآلهة،
١٣ أو ما جاء على لسان الفلاح الفصيح، عندما صاح فيه النبيلُ النهَّاب قائلًا: «لا تكن
كثيرَ الضوضاء هكذا يا فلاح، ألا ترى أنك في منزل إله السكون»، فرد عليه بعنف
يَحمل معنى هذا الاتجاه، صارخًا: «أتضربني وتسرق متاعي، ثم تريد أن تحرم فمي من مجرد
الصياح؟! إذًا؛ «يا إله السكون، هل لك أن تُعيد لي ممتلكاتي؟ إذا فعلت فسوف لا أصيح حتى
لا أزعجك».»
١٤
وقد اقترَن هذا الإلحادُ المتحدي للغيبيات، برفض الاعتقاد بخلود العنصر الإلهي،
وبالعالم الخالد ككل — ما دام عالِمًا ملَكيًّا خالصًا — وضح في قطعة أدبية رائعة تسمَّى
أغنية العازف على الهارب، استطاع صاحبُها المجهول، أن يُلقِيَها قنبلةً بكل الجرأة الثورية
المطلوبة — في حفلٍ ملكي مهيب، أمام المقابر الهرَمية الهائلة؛ يقول ذلك الثائر المتحدِّي
في
مقطع منها:
تأمل مساكنهم هنالك؛
فإن جدرانها قد تهدمت،
«ولم يأتِ أحد من هنالك»
ليحدثنا كيف حالهم
ليخبرنا عن حظوظهم؛
حتى تطمئن قلوبنا،
إلى أن نرحل نحن أيضًا
إلى المكان الذي رحلوا إليه،
«ولم يعد إنسانٌ ثانيةً»
ممن رحلوا إلى هنالك
… … …
في الأرض التي تحب الصمت
… … …
… فلا يوجد إنسان يعود ثانية.
١٥
وكالمعتاد؛ لم يُقدَّر لهذا الاتجاه المتطرفِ الاستمرارُ وسط تمسك الجماهير بعقيدتها
الجديدة، التي غلَبَت على السواد الأعظم، بحيث يمكن وصفُ هذا الاتجاه الغالب بمصطلحات
اليوم بالراديكالية.
واستنادًا للأوزيرية؛ ما كان الأمل ليخبوَ في النفوس التي تؤمن بأن شريك المظلمة
أوزير، قد قام من بين الموتى؛ ليحمل المعنى المضمر، بأن الحال لن يستمرَّ على حاله، وما
دام الأمر كذلك، فلن يخبوَ الأمل في الخلاص من رِبْقة الاضطهاد، كما قام أوزير، وعندها
سيسود السلام والإخاء والمحبة في الأرض.
ولكن
من أجل مَن سيعود أوزير؟
لا ريب؛ من أجل شركاء المظلَمة؛ مَن آمنوا به، من آمنوا بأنه انتصَر على الشر، مَن
آمنوا
بأنه انتصر على من ظلَموه، والأهم من هذا كلِّه مَن آمنوا بأنه انتصر على الموت، وكُوفِئ
على
صلاحه بالخلود!
وهنا يقف الفكر مليًّا لِيتساءل مع نجيب ميخائيل: كيف كان القوم يفكرون؟ إذا «لم
يعُد
الملكُ أفضلَ من الرعية، فلِم لا يُصبح أفرادُ الرعية مثلُ أوزير كذلك؟ ولم لا يصبحون
جميعهم
كذلك؟ ولماذا لا يكافَئون إذا أحسَنوا العمل كما كُوفِئ أوزير؟ وبماذا يَزيد عنهم الملك
حتى
ينال النُّعمى في الحياتَيْن؟ هكذا سيطر التفكير في أوزير في هذه الفترة على النقوش،
وودَّ كلٌّ
أن يصبح مثله إذا انتهى أجله.»
١٦
ولما كانت الأسطورة تقول: إنه قد «أُجرِيَت على جثته لأول مرة المراسمُ التي تُؤمِن
بالبعث والحياة الأبدية»،
١٧ أفلا يمكن إذا أُجرِيَت تلك المراسم على غيره من الأموات أن تُؤمِّن لهم نفس
الامتيازات؟ وإذا كان الملك قد ادَّعى أنه ابن الإله رع، أفلا يكون من الإيمان بالإله
أوزير بديلًا للبنوَّة؟ أو هو البنوة ذاتها؟
وهكذا؛ وعلى ما يبدو، أخذَت التساؤلات بالعقلية المصرية تلفُّ حول فكرة الخلود، وكيف
يمكن أن يناله الجميع، حتى انتهت إلى أن الإيمان به هو بُنوة له، وأن أوزير قد كتَب
الخلود بخلوده لكل مَن آمن به، ولكل من آمن بأنه «قد قام من بين الأموات؛ لذلك فبمجيء
أوزير قد أبطل الموت»، وعندما ترسخَت هذه القناعة في النفوس، وجدنا المقابر تنتشر بطول
البلاد وعرضها، للجميع بلا استثناء، وكما كان للملوك متونُ أهرام، فقد أصبح للشعب متونُ
توابيتَ وكتابُ موتى، سجَّلَت كل تصورات الشعب لآماله في عالم الخلود.
وفي هذه المتون الشعبية، وفي بعض القطع الأدبية، بل وفي متون الأهرام نفسها التي عُدِّلت
لِتُماشيَ الأوضاع الجديدة، نجد كل النصوص تؤكد أن أوزير أبا حور المناضل، هو أب لكل
المناضِلين الذين آمَنوا به؛ فهو حقًّا وصدقًا «أبانا الذي في السموات»، وأخذَت النصوص
تخاطبه بالأب، بينما تخاطب الميت بأنه هو أوزير ذاتُه، فتقول إيزي للميت الصاعد من الأرض
إلى السماء:
سعيد من يرى «الآب»
وتقول نفتيس:
طوبى لمن ينظر إلى «الآب»
إلى أبيه،
إلى «أوزيريس»
حينما يصعد إلى «السماء»
بين النجوم،
ولما كانت البا أو الروح أو الطبيعة الإلهية في العقيدة القديمة هي سرَّ الخلود،
وكانت
مِلكية خاصة للملك، تحدَّرَت إليه عبر سلالته الإلهية، فقد أصبحَت — إلى حد ما — مشكلةً
محيِّرة
للعقل المصري في ظل الوضع الجديد؛ لذلك «الْتجَأ القومُ إلى كل أنواع الحيل والاحتفالات
الدينية؛ ليصبح المتوفَّى با عند موته»،
١٩ فلا شك أنه إذا آمن الإنسان بأوزير فسيَنال البا أو الطبيعةَ الإلهية
٢٠ وعند الموت، فإن أوزير سوف «يجعل جسده يضيء، كأجساد أهل السماء»،
٢١ فيصبح نورانيًّا كالآلهة. بينما خُصِّص الفصل الثاني من «كتاب الموتى»
الجماهيري، لتأكيد الطبيعة الإلهية للميت المؤمن، فيقول الميت عن نفسه:
إني آتوم،
وأنا الذي كنت وحيدًا.
وإني رع
عند أول ظهوره.
وإني الإله العظيم خالق نفسه،
والذي سوى أسماءه،
وحتى يستطيعَ الميت أن ينال البا؛ فقد كان واجبًا عليه أن يتطهر أولًا، و«يتعمد»
بالماء؛ ليؤكد بعد ذلك في متنه الجنازي:
إن خطيئتي قد أُقصِيَت عني،
ومُحِي إثمي
ولقد طَهُرت نفسي
في تَينِك البُحيرتَين العظيمتَين
وكان نتيجةَ هذه التطورات السريعة، أنْ تَلاحق القوم يتسابقون من كل حدَب وصُقْع
في الأرجاء
المصرية، لزيارة رب البيت أوزير، والطواف حول بيته في أبيدوس؛ لتصبح زيارة قبر الحبيب
الشهيد بمرور الأيام حجًّا وفريضة إجبارية، على كل مَن استطاع إليه سبيلًا، ومن ثَم
أصبحَت السُّنة المستحبة هي الدفنَ في أبيدوس، بجوار البيت العتيق. وفي أبيدوس وحيث البيتُ
المعمور، ووسط الحشود المتجمعةِ تطوف بالبيت سبعًا خاشعات، ظهرَت لأول مرة في التاريخ
البشَري «مسرحيةُ الآلام»، أو أسرار أوزير، وهناك أيضًا تطورَت فكرة العماد، فكان المؤمن
يتلقَّى العماد من الكهان، «بصب الماء على جسده،
٢٤ وبرش الماء على الأجساد تكثر البركات، ويتذكر المؤمن دماء الشهيد، ويتناول
قِطَعًا من القربان الممزق، تُذكِّره بالجسد الطاهر الذي مزَّقه الشرير ست، ورغم أن هذه
كلها
كانت طقوسًا حياتية، إلا أنها أيضًا كانت زادًا أخرويًّا، وهذا جانِبُها الأهم، فعندما
يذهب الميت إلى عالم الخلود مُعمَّدًا، فسوف «يُدعى للقيام بعملية تطهير بالماء يُصَب
فوق
البدن، أو بالاستحمام في البُحَيرة المقدَّسة، الواقعة في الحقول المباركة»
٢٥ وبعدها سوف «يغتسل مع رع في بحيرة ياور، ثم يجفف حورس جسده».
٢٦
وقبل الاحتفال العظيم، كان الكُهَّان يُرتِّلون أناشيدهم، حَليقي الرءوس، بثياب بيض،
أمام
لوحة قدسية للإلهة إيزي وهي تُرضِع طفلها اليتيم حور ابن الإله أوزير، وتحيط برأس كل
منهما هالةٌ مستديرة؛ رمزًا لأصل حور الشمسي في العقيدة الملكية القديمة؛ لتبدأ بعد ذلك
الاحتفالاتُ في أواخر شهر ديسمبر، أي في الوقت الذي يتفق ومولِدَ الشمس!
٢٧ ويستمر الاحتفال من الأيام ثلاثةً متواصلة، تُمثَّل فيها المأساة يوم مات أوزير
غدرًا، ويوم البحث عن جثته، واليوم الثالث يوم عُثِر على جثمانه الطاهر، وصحا في بعث
مجسَّد؛
٢٨ لِيَطلع على صفحة التاريخ أكبرُ الأعياد المصرية الدينية، عيد القيامة المجيد»؛
تذكرةً بقيام «الفادي» الأعظم من بين الأموات، وصعوده إلى السماء بعد موته بأيام ثلاثة،
ليجلس عن يمين عرش أبيه السماوي رع. وهكذا، وكما عاد أوزير للحياة خالدًا، فقد كتب
بخلوده الخلودَ الأبدي لكل من يؤمن به، في عالمه الذي أخَذ في الانتقال التدريجي من تحت
الأرض إلى السماء، حيث أصبح أوزير في العصور التالية، هو سيدَ العالم السماوي الخالد
بلا
منازع.
ولما استقر الإيمان بذلك في القلوب، انتشر القوم ينشرون مقابرهم في كل الأصقاع، بينما
أخذَت «متون توابيتهم» و«كتاب الموتى» صيغًا كمتون الأهرام السالفة، وآمن الجميع بخلود
الجميع، وتدعيمًا لمبدأ المساواة هذا بين العظيم والوضيع، انتشر بين الناس خطابٌ غريب
جديد في نوعه، نسبوه إلى الإله رع، حتى يكون اعترافًا كاملًا بحقوقهم، من قِبَل إله
الملكية، يقول فيه:
لقد خلقتُ أربعة أشياء عظيمة
داخل بوابة الأفق؛
خلقت الرياح الأربع
التي يستطيع أن يستنشقها كل إنسان كزميله،
الذي يعيش زمانه،
هذا هو العمل الأول …
وخلقت الفيضان العظيم.
«وللفقير فيه حق، مماثل لحق الرجل الغني»
وهذا هو العمل الثاني.
وخلقت كل رجل مثل زميله،
ولم آمر بأنهم يعملون في السوء،
ولكن قلوبهم هي التي أفسدَت ما قلت،
وهذا هو العمل الثالث.
وجعلت قلوبهم تفكر دائمًا في الغرب …
(أي في العالم الآخر بعد الموت)
والجدير بالذِّكر في ثنايا هذا العرض، الإشارة إلى أن المراحل التطورية التالية لعقيدة
الخلود الشعبية، قد تداخلَت مع عقيدة الخلود الملكية بقيام الدولة الوسطى، حين حَظِيَت
عقيدة أوزير باعتراف كامل من الملكية، إلا أن التطور عند هذا الحد، قد أخذ منحًى آخر
اصطبَغ بالمصلحة الملكية مع المصلحة الشعبية في نفس الوقت، ومحاولات كهان الملكية للحد
من سيطرة الأفكار الشعبية الثورية، على مفهوم وماهية عالم الخلود.
وكان نتيجةَ دخول عقيدة الخلود مرحلتها التطورية الجديدة، من خلال مصالحِ ومفاهيم
طبقتَين متباعِدتَين تمامًا، هو فيما نرى السبب الجوهري الذي أدى إلى التضارب الذي رآه
الباحثون في عالم الخلود، والذي لم يكن في حقيقته تضاربًا، بقدر ما كان تداخُلًا لِعالَمَي
الخلود الملكي والشعبي، لِيُركِّبا معًا هجينًا غريبًا، خلط بين الخلود الملكي الروحاني
بالاتحاد مع الشمس أو الإله رع بركوب مركبه السماوي، وبين الخلود المادي الذي طمح إليه
الشعب، وقد أدى هذا بدوره إلى اختلاط التصورات حول مكان الخلود، مما يجعل التساؤل: أين
مكان الخلود الشعبي؟ مسألةً عديمة الجدوى ومَضيعة للوقت والجهد، تُذكِّرنا باستحالة برستد،
بعد أن تداخل العالمان؛ السُّفلي الشعبي، والعُلْوي الروحاني الملكي، فجاءت المسجَّلات
مازجة
بينهما مزجًا كاملًا، وكل ما يمكن قوله هنا يدخل تحت التساؤل عن التصورات الشعبية
لعالم الجماهير الخالد؛ لقد كان العالم السفلي تحت الأرض بالنسبة لجماهير الشعب، هو عالم
الخلود البدائي، وعند الثورة انتقل إلى السماء مختلطًا بنعيم الملوك السماوي، مصبوغًا
بكل الآمال التي رجَاها الدهماء في عالمهم الخالد.
ففي بداية المرحلة التطورية للخلود الشعبي، كانوا يعتقدون أن الميت «يذهب إلى حقول
أياور، حيث ينمو الشعير والقمح إلى ارتفاع سبعة أذرع، وأنه يحرث الأرض ويحصد المحصولات،
فإذا أدركه التعب في المساء، جلس تحت شجرة الجميز،
٣٠ ولعب الشطرنج أصحابه ورفاقه.»
٣١
ومن خلال هذه الطموحات الشعبية، تنتقل هذه الصورة فجأة إلى العالم السماوي، فتقول
النصوص: إنهم سوف «… يعيشوا مخلَّدين في حقل الفيضان السعيد، أي الحدائق السماوية، حيث
توجد
الوَفرةُ والأمن على الدوام»،
٣٢ بينما يقول قائلٌ للمتوفَّى: «إن أبواب السماء مفتوحة لجمالك، إنك تصعد وذنبُك
مغفور»،
٣٣ وبجانب القول بالسماء كمقرٍّ للخلود، فإن النصوص تَعود دائمًا بتصوُّراتها إلى
العالم السُّفلي، كما جاء في كتاب الموتى — بعد مرحلة تطورية — أن الميت سيكون له «مَقَره
أمام الإله العظيم وهو يخرج إلى حقل ياور، يَدخل ويَخرج في العالم السفلي، ويسكن حقل
ياور، ويُقيم وقتًا في حقل «الطعام»، ذلك المكان الفسيح، ذو الرياح الكثيرة، حيث هو هناك
قويٌّ مُمجَّد، «ويشرب ويحب»»،
٣٤ أو كما في القول: إن الميت سيهبط «للعالم السفلي المظلم، وإلى هذا المكان
سوف تنتقل حقولُ البهجة والسرور وغابات البردي.»
٣٥
وظاهرٌ أن الجماهير قد وضَعَت في عالمها كلَّ مُشتهَياتها التي حُرِمَت منها قبلًا،
ولم تنسَ أن
تؤكِّد في كل صورة من صور عالمها الخالد التي وصلَتْنا، على أهمية الطعام بأنواعه، مثل
قول
الميت: لَسوف آكل «سائر «أطعمة» سيد الأبَدية، وأتلقى «غذائي» من «اللحم» الذي على مائدة
الإله العظيم.»
٣٦
هكذا انتهَت المسألة بخلطٍ كامل بين عالم السماء وعالم تحت الأرض، مع تصورات مادية
حسِّية
بَحتة لعالم الخلود الجماهيري، بل وصل الأمر بهم حدًّا تصوَّروا فيه أن الوصول للعالم
الخالد، لا بد وأن يمر أولًا من الجيزة، حيث الأهراماتُ العظيمة، أولُ رموز الخلود
وأكثرها إيحاءً به، «فتُرِينا أحدُ خرائط العالم الثاني أن مَن يدخل مملكة الموتى، ممن
يكونون في المكان المقدس «روستاو» بالقرب من «الجيزة»، فإنه يجد أمامه سبيلَيْن مفتوحَيْن
يؤدِّيان به إلى مملكة الأبرار … إلخ.»
٣٧
وروستاو هذه «كانت عالَمًا سُفليًّا»،
٣٨ و«هذا الاسم كان بادئَ الأمر يُطلَق على جبَّانة منف، منذ الدولة القديمة، وكان
يُطلَق بنوع خاص على جَبَّانة «الجيزة» القريبة من منطقة الأهرام.»
٣٩
«وزاد الشعب في صورة مقرِّ الأبرار، فتصوره كأنه مجموعةٌ من الجزر «تُحيط بها المياه
المختلفة»، وتُسمَّى إحدى
هذه الجزر حقلَ «الأطعمة»، وهي بهذا تدل على أن الطعام فيها وفير، ومن ثَم يستقرُّ فيها
الآلهة والمخلَّدون، وأزكى منه شهرةً حقلُ ياور، وهو حقل الإسل الذي ظل المصريُّون حتى
عصورهم
المتأخرة، يعتبرونه مقرَّ الممجَّدين، ومما لا يَحتاج لبيان أن المصريين قد تَصوروا «هاتَين
الجنَّتَين» على شاكِلة بلادهم نفسها؛ إذ يَغمرها الفيضان، ويَزدهر فيها الزرع بما يوفر
للموتى
طعامهم، وفي الشرق من السماء، «شجرة الحياة» التي يعيشون عليها، والتي يُغذِّي ثمرُها
الأبرار
أيضًا، وإلى جانب ذلك؛ فإن إلهات السماء تُزوِّد الميت بطعام أصرح طهرًا وبراءة».
٤٠
وتقول النصوص:
إن الميت في مقرِّ الخلد
يتلقَّى نصيبه مما في شونة الإله العظيم
ويلبس من «الثياب» ما لا يفنى،
وله من «الخبز والجعَّة» ما يَبقى أبدًا،
وهو يأكل خبزه وحده
طعامه بين الآلهة،
٤١ وشرابه النبيذ.
٤٢
بل وسوف
تكون له نساء حسناوات،
يتمتع بهن،
«ويقوم بكل المهام»،
التي كان يقوم بها على الأرض.
٤٣
وهكذا تحولَت صورة عالم الخلود بعد الثورة، بخطوات تطورية ثورية سريعة، نحو عالم مادي
يحقق كلَّ الرغبات والشهوات والنوازع البشرية، وهو منطقٌ طبيعي للأمور؛ قادَت إليه ظروفُ
المجتمع وأحواله السياسية، خاصة إذا أخَذْنا بعين الاعتبار مُشتهَيات الجياع وأمانيَّهم.