الفصل الثاني
الردة والاحتواء
إن الفقهاء قادرون على تبرير أشنع الجرائم الأخلاقية.
بوركارت
في ظل العقيدة الشمسية، ظل الملكُ هو صاحبَ الحق الأوحد في الخلود، طَوال عهود عصر
الدولة القديمة؛ باعتباره حاصلًا على الطبيعة الإلهية الخالدة، بالوراثة عبر نسله
الطويل، الذي يَعود به مباشرة إلى الإله رع، الذي اصطفى «روج جدت» من بين العالمين زوجةً
له؛ ليُنجِب منها ملوك الأسرة الخامسة. ويتأتَّى خلودُ الملك بصعود روحه أو باه إلى السماء
فورَ موته؛ لِتُخلَّد هناك اندماجًا مع إله الشمس «يركب مركبه»، بينما يُخلَّد الجسد
على الأرض
بفضل عمليات التحنيط البارعة.
ولم يستمرَّ هذا الفَهم للخلود طويلًا؛ فقد بدأ النجم الأوزيري بالصعود والتعالي،
بتعالي
الأصوات الثورية، حتى بلغ شأنَه العظيم إبَّان الأتون الثوري الكبير، الذي أنهى الدولة
القديمة بإسقاط أسرتها السادسة.
وكان للصعود الأوزيري، وللَّهيب الثوري، آثارٌ بعيدة المدى في عقيدة الخلود الملكية؛
فقد
بدأ رع يتراجع أمام الزحف الأوزيري، حتى باتت محاربة العقيدة الأوزيرية معركةً خاسرة،
فبدأت متون الأهرام خُطتها الاحتوائيةَ السالفة، بإدراج أوزير وأتباعه في المجمع القدسي.
وباستمرار التعالي الأوزيري، استمر التراجع الملكي، حتى أصبح دمجُ العقيدتين غيرَ
كافٍ،
فبدأ أوزير ابتلاعَ رع شيئًا فشيئًا، عندما انتشر الاعتقادُ بعودة أوزير من السماء،
لتخليص البلاد من البلاء، في هيئة ملكٍ عادل، فأخذَت المتون تؤكِّد لشعبها عن كل ملك
يرحل،
أنه لم يكن سوى الإله أوزير بذاته، كان متجسدًا على الأرض، وأنه قد جاء من السماء لِيُخلِّص
الناس ويَحكم بينهم بالمحبة والسلام، وعليه فقد كان الملكُ الراحل — حقًّا وصدقًا — هو
المخلِّصَ أوزير بذاته، ومثالًا لذلك قول المتون في خِطابها للملك الراحل
«يونس Unis».
أيها الملك يونس،
إنك لم ترحل ميتًا،
لكنك رحلتَ حيًّا؛
لأنك «تجلس على عرش أوزير»،
وصولجانك في يدك
…
أه يا آتوم!
إن الذي هنا «هو ابنك أوزيريس»،
الذي منحتَه الحياة،
«ثم الخلود»؛
هو الخالد،
كذلك الملك يونس خالد،
هو لا يموت،
كذلك الملك يونس لا يموت،
هو أبدي،
ويبدو أنه مما دعم هذا المعنى للملَكية، أن الأسطورة الأوزيرية سبَق
وأكدَت أن أوزير أنجب حور، وأن حور كان ملكًا على مصر من بعد أبيه الشهيد، ونتيجةً
للخلط بين حور بن أوزير، وبين حور الأكبر؛ فقد انبثقت الفكرة القائلة بأن الملوك يعودون
بالبنوَّة إلى رع عبر ولده أوزير عن طريق السُّلالة الحورية، وعليه لم تَعُد أسماء ملوك
أواخر الدولة القديمة تُنسَب إلى رع كما كان يَحدث مع أسلافهم أضراب «خف رع» و«منكاو
رع»، وإنما أصبح الملك «يتحول إلى أوزير»
٢ ويُصبِح هو أوزير بذاته، وكان أبرزَ هؤلاء الملوك الأوزيريِّين، ذلك الذي
قضَت الثورة على عهده، الملكُ «أوزير بيبي»!
٣
ولعل القول بأن الملك هو أوزير، كان مِن أوضح ما دخل من تعديلاتٍ على العقيدة الملكية
نتيجة الثورة، وأبرز مؤشر على مدى التنازل الذي قدمَته الملكية لشعبها، «فأصبح الملك
هو
أوزير، الذي سبَق ونال من الشتائم الملكية ومن التسفيهِ والتحقير ما لم يزَل مسجَّلًا
داخل
متون الأهرام إلى يومنا هذا، جنبًا إلى جنب مع التعديلات التي جعَلَت من الملك الميت
ذات
عين أوزير». هذا رغم أن استقراء المقاصد الملكية ومنطقها من وراء هذا التعديل، إنما يوحي
بأن فلسفةَ أون جعلَته تعديلًا مَلكيًّا بالدرجة الأولى؛ ليؤديَ لنتائج تَلزَم بالضرورة
عن
مقدِّمات، تخدم كلَّها الأغراض الملكية، يُمكنَّا أن نتصورها كالتالي.
إذا كان أوزير إلهًا يَنتسِب ببنوَّته إلى رع
فالملك إله أيضًا؛ لانتسابه بالبنوة إلى رع
وإذا كان أوزير قد قام من الموت خالدًا
وأنه خُلِّد لامتلاكه الطبيعة الإلهية الوراثية الخالدة
فإن أبناء رع من الملوك خالِدون لنفس السبب
وهذا لا يَعني شيئًا للشعب، بقدر مَغزاه للملكية
•••
وتكون النتيجة المنطقية
إذا كان أوزير إلهًا
لأنه ابن إله يملك طبيعة الآلهة الخالدة،
وإذا كان الملك إلهًا
لأنه ابن إله، يملك طبيعة الآلهة الخالدة
إذنْ
لا شك أن الملك هو ذات نفس أوزير.
وتكون النتيجة الملكية المقصودة، أن يتحوَّل الإجلال والتقديس الشعبيُّ لأوزير إلى
الملك؛
ما دام الملك هو أوزير بذاته.
ونطرح هنا رؤية جديدة في كون هذه الفكرة قد تطورَت تطورًا كبيرًا؛ نتيجةً لاختلاطها
بعقيدة التثليث التي سادَت العقلية المصرية منذ أقدم عصورها، وهي وإن كانت رؤيةً جديدة،
فإن لها ما يُبرِّرها في حدود المنطق، ففيما قبل عهد الأسرات، ساد الاعتقادُ بأن الإلهة
حت
حور أو هاتور زوجةٌ للإله حور الأكبر، وفي نفس الوقت كانت أمًّا له،
٤ فشكلَت مع حور ثالوثًا كان فيه هو الأب وهو الابن إلهًا واحدًا، وفي تثليث
آخر «مثل حوريس ثالوثًا يتكون من الملك السماوي والملك الأرضي والصقر»،
٥ وهذه المرة أيضًا كان حور أبًا وابنًا وصقرًا في آنٍ واحد، فشكلَت الأقانيمُ
الثلاثة فكرةَ إله واحد هو ذاته الآلهة الثلاثة.
وبعد ظهور الأسطورة الأوزيرية وانتشارِها جاء حور فيها باعتباره «الإله الابن في
ثالوث أوزير، وإست (إيزي)، لكنه في إدفو كان في نفس الوقت الإله الأب والإله الابن في
صورتَين مختلِفتَين في التشكيلة؛ حوريس، حت حور، حوريس جامع الأرضين»،
٦ وهذه التشكيلة الأخيرة لتوحيد حور الإله مع حور الملك، هي تشكيلة ملكية
واضحة؛ لأن حور المقصود هنا هو حور الأكبر إله التوحيد القديم. «وفي الألف الأخيرة ق.م
بدأَت الفكرة بالربط بين أوزيريس وحوريس؛ الأمر الذي كان واضحًا في الفكرة بأن الملك
إنما كان حورس وأوزيريس معًا.»
٧
ومن هذا كلِّه مضافًا إليه تأكيدُ نجيب ميخائيل بأن العقلية المصرية قد آمنَت بأن
«حور
يُعتبر أوزير الذي «أُعيدَت ولادته»»!
٨ يُمكنَّا القول بأن هذا الخلط بين إله السماء وبين إله الأرض، أو بين أقنوم
الأب وأقنوم الابن، أو بين الإله خالص الألوهية وبين الإله الأرضي الجامع للناسوت مع
اللاهوت، قد جاء نتيجةَ محاولة القول بأن الملك الفرعون هو نفسه الإله، حالًّا على الأرض
بعد ميلاده من جديد، جاء من السماء إلى الأرض لِيُعيد إليها السلام، فانسحَب هذا الاعتقادُ
على أوزير ورع؛ باعتبار أوزير ابنًا لرع، وعلى حور وأوزير؛ باعتبار حور ابنًا لأوزير،
وعلى الملك ورع؛ باعتبار الملك ابنًا لرع، وبالتالي فهو نفسه أوزير، وعلى الملك وحور؛
باعتبار الملك هو حور، وحور هو ابن أوزير، فيصبح الملك ابنًا لأوزير، وبالتالي فهو أوزير،
أو ابن أوزير، أو بتعبيرٍ أصرح هو «الله وابن الله في آنٍ واحد».
وفي تقديرنا أن حكام الأقاليم كان لهم دور كبير فيما دخل من تطور على عقيدة الخلود،
عندما اشتدَّت شوكتُهم وقَوِيَت، وهبط مركز الملك، مما أدى بهم إلى الحصول على كثير من
امتيازات الملك الدنيوية والأخروية؛ حتى إنهم استخدَموا متون الأهرام في توابيتهم تحت
اسم «متون التوابيت»؛ ليحصلوا عن طريقها على الحياة الخالدة، بحيث أدى ذلك في النهاية
إلى أن أصبحَت الآخرة حقًّا مشروعًا لكل مَن يملك من المال والجاه ما يُؤهِّله لشراء
تابوت
مكتوب، أو تسخير رجال الدين للحُصول على الطبيعة الإلهية؛ عن طريق أورادٍ تُتلَى على
جثته؛
ليتحول إلى با عند موته،
٩ وكانت أهم ظاهرة فيها تلقيب الميت بلقب أوزير؛ أملًا في أن ينعم في عالمه
الآخر بما نَعِم به ربه أوزير؛ رجاءَ أن يخلد فيه مثل خلوده.
١٠
ومما ساعد على دفع العجلة التطوُّرية لعقيدة الخلود الفرعونية، أحداثُ الثورة الحقيقية،
وانتشار الأفكار الإلحادية، التي شكَّكت في جدوى المقابر الضخمة، والعَتاد المادي، والتحنيط
المتقَن، خاصة وأن هذه المقابر لم تُجْدِها عظَمتُها نفعًا، حين تعرضَت في عصر الثورة
الجماهيرية للسلب والنهب والتدمير، في وقت لم يستطِع فيه السلطان الملكي أو سلطان
النبلاء، المنهارين تحت الضربات الثورية، منْعَ ما يحدث من تدميرٍ لامحدود لكل المقدسات،
رغم محاولات تَحاشي ذلك بالاعتراف للشعب بالخلود، مما جعل ذلك، في رأينا، هو السببَ
المجهول في ظهور فكرة جديدةٍ كلَّ الجِدَّة في أفق الديانة المصرية وعقيدتها في الخلود؛
هي
فكرة «حساب» أفراد الشعب الثائرين بعد موتهم علي ما يأتونه من خطيئة في حق الآلهة وحق
الموتى، فما دام حسابُ الثوار دُنيويًّا قد أصبح مسألة عسيرة فلْيُؤجَّل إلى ما بعد في
عالم
الخلود.
وتَستند رؤيتنا في توقيت ظهور فكرة الحساب إلى ترجيح محمد شكري
١١ أن يكون سبب تعرض المقدسات للتعدي والنهب، هو السر وراء فكرة ظهور «الخطيئة»،
وما تستدعيه من حساب وجزاء، وقد وضَحَت الفكرة بجلاءٍ عندما بدأ حكام الأقاليم من أمراء
الأسرة السادسة المنهارة أمام المد الثوري، يُحذِّرون كل مَن يعتدى على ممتلَكاتهم ومقدساتهم
وقبورهم بأنه «سيُحاكَم على أفعاله أمام المعبود الكبير»،
١٢ ومثالُ ذلك ما جاء مُسجَّلًا على قبر آنتي نبيل دشاشة:
أما من جِهة كل الناس الذين سيعملون السوء
ضد هذا (يريد القبر/المؤلف)، فإنهم سيحاسَبون
على ذلك أمام الإله العظيم، «رب الحساب».
١٣
ولما كانت فكرة الحساب ملَكيةَ النشأة والفكر، لتحقيق أغراض الطبقة العليا من القوم،
فقد كان طبيعيًّا أن يكون هذا المعبود الكبير ربُّ الحساب هو رع إلهَ الملكية المنهارة،
وهو بالطبع مَن سيكون «رب المحاسبة في الآخرة»،
١٤ وهكذا لم تَترك الحكمة الملكية عالمَ الخلود مِنحة للجماهير دونما أي مقابل،
بل وضعَت للخلود شروطًا صارمة، ولم تَعُد مجرد الشهادة لأوزير بأنه إلهٌ كافيةً، كما
لم يَعُد
كافيًا الإيمانُ بخلوده وانتصارِه على الموت حتى يُخلَّد المؤمن مثله، وإنما كان على
المؤمن
أن يَستعد للحساب بأن يتصف بنفس صفاته؛ العدل، والمحبة، وسلامة الخلُق، والسلام، وأهم
من ذلك
كلِّه «طاعة الملك» الذي هو أوزير بذاته.
ويؤيد وجهةَ نظرنا في كون فكرة الحساب كانت مَلَكية الأصل، ما يمكن استنتاجه من بعض
المتون الملَكية؛ فهناك ما يوحي بأن تطبيق الفكرة في بدايتها قد اقتصر على حساب الجماهير
فقط، ولم يتناول شخص الملك، فالنص المذكور آنفًا عن الملك يونس يتابع قائلًا:
هو أبدي،
كذلك الملك يونس أبدي
هو «لا يُحاسَب»،
كذلك الملك يونس «لا يُحاسَب»!
١٥
ولكنا نجد بنفس النص، وإثْرَ ذلك مباشرة:
ولكنه «يُحاسَب»!
كذلك الملك يونس «يُحاسَب»!
١٦
ولا يكون هناك أيُّ معنًى لهذا التناقض فيما نرى، سِوى أن تكون فكرة الحساب بعد انتشارها،
قد أضحَت في عُرف الجماهير حسابًا للجميع دون استثناء، فأُضيفَت الفقرة الأخيرة للمتون،
كغيرها من الإضافات التي نتجَت عن أحداث الثورة؛ لتسجل خطوة تطورية أخرى لعقيدة الخلود
الفرعونية، ويدل على ذلك ما جاء في المتون: أنه كان «على الملك المتوفَّى أن يُثبِت أنه
ابنُ الإله ووريثه»،
١٧ أي كان عليه أن يُثبِت أحقيَّته في الطبيعة الإلهية قبل أن يَسمح له بدخول
الملكوت الخالد، وكى يُثبِت ذلك فعليه أن يُثبِت أولًا — كأي فرد عادي — أنه كان طاهرًا
بلا
خطيئة. أما كيف كان السبيل إلى ذلك؟
الإجابة تأتي من المتون واضحة تقول: بما أن «إله الشمس هو رب العدالة، وطعامه هو
الحق، إذن فالملِك مسئول أمام رع أن يكون عادلًا في كل أعماله»،
١٨ وهذه هي الطهارة المطلوبة، ومِن بعدها أصبحت أفكار «العدالة والحق والصدق
أقوى مِن سُلطان الملك نفسه»،
١٩ فسجَّلت المتون على قبور الملوك ما يُمثِّله النموذج القائل:
لا توجد سيئة اقترفها الملك بيبي.
٢٠
وهذه الكلمة ذات وزن في نظرك يا رع!
٢١
ومن جهة أخرى، فيبدو أن الحكماء الشعبيين قد وجدوا في فكرة الحساب، فرصة أخرى تدعم
منطقيَّة الخلود للجميع؛
فإذا كان الحصول على الطبيعة الإلهية
مرهونًا بمراعاة العدالة والحق والصدق؛
إذَنْ يمكن لأي شخص يراعي العدالة
والحق والصدق،
أن يحصل على الطبيعة الإلهية الخالدة.
ويؤيد رؤيتَنا لهذه الخطوة التطورية، ما جاء في النصوص الأدبية والجنائزية التالية
بحيث لم يَعُد يخلو أثرٌ فرعوني من الإشارة إلى الحساب، وأن الخلود حقٌّ للجميع، فيقول
الفلاح الفصيح لابن رنسي:
إن العدالة تبقى للأبد
وعندما يُدفَن الإنسان ويُوضَع تحت التراب
فإن اسمه «لا يزول» من على الأرض؛
لأنه «سيُذكَر بصلاحه»،
أقم العدل
نفذ العقاب فيمن يستحق العقاب،
بينما يقول الملك المزعوم أخيتوي، لولده المزعوم مري كا رع:
إن فضيلة الرجل المستقيم
أحبُّ مِن ثور الرجل الظالم؛
إنك تعلم أن محكمة القُضاة،
الذين يحاسِبون المذنب،
لا يرحمون الشقيَّ يوم مُقاضاته،
ولا ساعة تنفيذ «القانون»؛
٢٦
لأن يومًا واحدًا
قد يبقى أثره إلى الأبد،
ورُبَّ ساعة واحدة تنفع للمستقبل.
٢٧
وقد تلقَّف النبلاءُ — بوجه خاص — هذه الفكرة، كما سلَف؛ ليحققوا هدفين؛ الأولُ الحصول
على
الخلود بتأكيدهم على قبورهم مراعاتَهم للعدالة، والثاني أن يُثبِتوا للجماهير الثائرة
أنهم
سندٌ لها، بل إن بعض هذه المدوَّنات كاد أن يكون توسلًا واسترحامًا للجماهير؛ طلبًا لرضاها،
كما لو كان الخلود قد أصبح مرهونًا بمدى رضا هذه الطبقة الثائرة، انظر مثلًا ذلك النبيل
القائل:
إني لم آخذ قطُّ ما يخص إنسانًا آخَر،
«ولم أظلم» أحدًا ممن يتمتَّعون بأملاكهم.
٢٨
أو ذلك المتزلف قائلًا:
لقد أعطيتُ خبزًا للجائعين،
وألبستُ كلَّ من كان عاريًا.
٢٩
أو ما سجله أميني حاكم إقليم الوعل بمصر الوسطى، على قبره يناشد الثوار، مؤكدًا أنه
قد توخى العدالة المطلَقة في إقليمه، وأنه تنزَّه عما يأتيه أصحابُ السلطان بقوله المسترحِم:
لم أُسِئ إلى ابنة مُواطن قط؟
ولم أزجر أرملة،
ولم أقسُ على مُزارع،
ولم أُبعِد راعيًا،
ولم أحجُر على عمال ريس الأنفار،
في مقابل الضرائب المستحَقَّة عليه،
ولم أميز عظيمًا على فقير،
وتجاوزتُ عن متأخرات المزارعين.
٣٠
وبذلك أصبح معيار الفضيلة ومِقياسه حقًّا وصدقًا وعدالة، لكن مع الجماهير، وأصبحَت
معاملة الدَّهماء هي المقياس والقسطاس السليم للحصول على الخلود من عدمه، ولعل هذا بالذات
أخطرُ الأطوار التي دخلَتها عقيدة الخلود الفرعونية إبَّان تطورها، وأصبح الجميع يقفون
على
قدَم المساواة أمام المحكمة الإلهية؛ ليُثبِت كلٌّ منهم مدى أحقيته في الخلود، ولم يبقَ
فلسفيًّا سوى مشكلة: كيف سيتم هذا الحساب؟ وهنا يَظهر أن الفقهاء قد عادوا إلى الأسطورة
الأوزيرية يستَوحونها إجابة، وكانت الإجابة السهلة — فيما نرى — كما يوحي منطق الأحداث
والمدوَّنات: كما حُوكِم أوزير من بعد موته أمام المحكمة الإلهية، ألم يَقُم أوزير من
بين
الموتى؟ أوَلم تُحيِ الآلهةُ عظامه وهي رميم؟ إذًا فلن تَعْي الآلهة بإعادة رميم الموتى
حيًّا مرة أخرى، ولأول مرة يؤدِّي هذا المنطقُ في تاريخ البشرية إلى ظهور الاعتقاد في
البعث الجسدي لكل البشر، عظيمهم ووضيعهم، مِن بعد الموت للحساب، وهنا سجَّلَت المتونُ
خطابها
للميت قائلة:
إن الإلهة نوت سوف «تعطيك رأسك، وتجمع
لك أعضاءك، وتضع لك قلبك في جسدك.»
٣١
وحينها سوف تبدأ للبا مهمة جديدة، فستعود وتتلبَّس بالجسد مرة أخرى،
٣٢ ففي يوم البعث العظيم «يجب أن تتَّحد الروح مع الجسد من جديد، وأن تجد باب
القبر مفتوحًا.»
٣٣
وإنَّ تَصوُّر اتحاد الروح مع الجسد، إنما يَعني تصور عودة البا من السماء إلى الميت
في
قبره على الأرض؛ لذلك تَتابعُ النصوص موحيةً بالخطوات التطورية المتلاحقة؛ لتؤكد للميت
أن
الآلهة سوف تقف «من حولك وتناديك: قم، قف، فتصحو»!
٣٤
وهنا؛ فإن الميت «يصحو ثانية، في بعث مجسد»،
٣٥ بل ويصحو شابًّا قويًّا حتى لو كان قد مات شيبًا، فالمتون تؤكد أنه سوف «يبعث في شباب
عصري على نحو ما كان من قبل»،
٣٦ وأنه سوف «تتجدد قواه عائدًا إلى الشباب.»
٣٧
إلا أن أهم ما يجدر الوقوف عنده خلال هذه المرحلة التطورية لعقيدة الخلود الفرعونية،
إيضاح تأثير سياسي واجتماعي آخرَ خطيرٍ إلى حد بعيد، أدى في النهاية إلى القضاء على
العقيدة الأونية على المستوى الملكي، وإحلال العقيدة الأوزيرية الشعبية محلَّها على
المستوى الرسمي.
ويوضح كلٌّ من إتيين دريتون وجاك فاندييه المقصود هنا بقولهما: و«عندما تلقَّت العقيدة
الشعبية فكرةَ المحاكمة في الآخرة، نسبَتْها إلى الإله المعتبَر لديها دون سواه؛ إله
الأموات العظيم أوزير، وعند ذلك تطورَت فكرة محاكمة أوزير، التي تنتظر كلَّ إنسان بعد
وفاته لِتُحاكمه على تصرفاته وفقًا لقواعد الأخلاق»، وهكذا «انعقدَت الصلة بين محاكَمة
الميت على أعماله ومحاكمة أوزيريس»،
٣٨ وترتَّب على ذلك «أن أصبح الميت يُنعَت بأنه الصادق الصوت، أو المبرَّأ، على نحو
ما قضَت محكمة رع لأوزيريس، وكان يَعني بذلك أن الميت قد حُوكِم وبُرِّئ، على نحو ما
حُوكِم
أوزيريس، على أن أوزيريس قد غدَا سيد مملكة الموتى، وأصبح يُشرِف على حساب الميت؛ ليقضي
بدخول جنته»،
٣٩ وأضحَت «المحكمة تتألف من تاسوع الآلهة العظمى، ويرأسها أوزير»؟
٤٠ و«صار من المتبَع عادةً منذ بداية الدولة الوسطى، أن يُضافَ إلى اسم كل متوفًّى
نعتُ المبرَّأ»،
٤١ أو «ماع خرو.»
٤٢
وهنا يقول برستد: إن «… رفع أوزير إلى منصب قاض، فليس إلا صبغًا لوظائفه
بالصبغة الشمسية؛ على أساس القضاء الشمسي السائد في متون الأهرام؛ إذ نجد في تلك المتون
أن «أوزير قد صعد بالفعل فوق عرش رع السماوي، ثم نراه الآن يستولي على كرسيِّ القضاء
الخاص
برع»، وبتلك الكيفية صارَ إله الشمس، والمتصرِّف الخلقي العظيم، الذي يُحاكَم أمامه الجميع
بمقتضى العدالة.»
٤٣
وهكذا بات واضحًا أن الإرادة الشعبية قد انتصرَت تمامًا على المستوى العقائدي، بجلوس
أوزير على عرش رع، ويُضيف كلٌّ من دريتون وفاندييه قولهما: «إن حدثًا سياسيًّا آخر؛ هو
انشقاق طيبة، قد جاء يَقضي بانتصار أوزير انتصارًا كاملًا»؛
٤٤ فقد دخلت مدينة أبيدوس الأوزيرية المقدسة، تحت سيطرة حكومة طيبة
الواستية، مما جعَلها تَضْمن الولاء الشعبي لها، فقضت — كما سلف — على حكومة نن سوت،
ثم
استطاع أمنمحات الأول وزيرُ دفاعها أن يصعد على عرش مصر، مُعضَّدًا بحكماء الثورة ورجالها،
ليؤسس الأسرة الثانية عشرة؛ لتدخل مصرُ بعد ذلك مرحلة جديدة تمامًا، «حيث أصبح كرسيُّ
الحكم
قائمًا بإرادة الشعب»، وأصبح استمرار الحكم أو نهايته، مرهونًا برِضى هذه الإرادة أو
سخطها، وقد دللَت على ذلك الأحداثُ التي تلَت صعود أمنمحات العرش، فقد صعد معه إلهُه
المغمور آمون، والذي كان نسخة جديدة من رع، حتى إنه تسمَّى «آمون رع»، ولما رأى الثوار
في
ذلك رِدَّة عن المبادئ العقائدية للثورة، فقد قامت المحاولة الانقلابية لاغتيال أمنمحات،
بعد أن حاول رجالُه إجهاض الثورة على المستوى الفكري أو العقائدي الفلسفي، فزعم «أهل
المعرفة من رجال طيبة أن آمون هو الروح لأوزيريس، وقالوا: إن جسد آمون يوجَد في الدنيا
السُّفلى»،
٤٥ ويصبح المعنى أنه لن يكون هناك حياةٌ لأوزير بدون آمون، والقضاء على آمون
قضاءٌ على أوزير، وعليه فلا حياة أخرى لكل المؤمنين به إذا قُضِي على آمون.
وتقريبًا بين إله الملكية وشعبه، فقد أخذت الأدعية المسجَّلة تقول:
يا آمون،
أصْغِ لمن يقف وحيدًا في المحكمة،
«فقيرًا
وخَصْمه غني»،
فتَضْطهده المحكمة،
ولكن آمون يَستحيل بنفسه إلى وزير أول؛
ليجعَل الفقير فائزًا؟!
فيتَّضِح أن الفقير على حق!
وينتصر الفقير على الغني.
٤٦
وهكذا أخذَت محاولات تلبيس آمون بأوزير، بتأكيد أن آمون هو راعي الفقراء قبل الأغنياء؛
فهو «الذي يُعطي الخبز؛ لمن لا خبز عنده»،
٤٧ وهو «وزير الفقراء.»
٤٨ إلا أن كل المدونات التالية، قد جاءت قاضيةً تمامًا بانتصار أوزير، وأوضحَت
بجلاء، أن آمون ظلَّ إلى حد بعيد إلهَ دولة ودنيا فقط، بينما ظل أوزير حتى النهاية، هو
إلهَ
العالم الآخر، وإلهَ الحساب للجميع بلا استثناء. وتدل على ذلك كلُّ مدوَّنات ومصوَّرات
العصور
الفرعونية التالية، التي سُجِّلَت كجنازيات ملكية وشعبية على حد سواء، والتي تُصوِّر
أوزير دون
غيره، كقاضٍ أعلى لمحكمة الحساب الأخروية؛ بمعنى أن الشعب قد فضَّل أن يكون إلهُ الحساب
إلهًا مواليًا له، وتمكَّنَت الإرادة الشعبية من أن تَفرض نفسها، وأن تجعله إله الحساب
للجميع ودائمًا، محافظة بذلك على عقيدتها الثورية حتى نهاية العصور الفرعونية.
أما متى سيكون موعد البعث والحساب؟ فنَظن أن العداء الذي استحكَم بين الفكر الثوريِّ
وبين
الفكر التقليدي المحافظ، قد حَدا بكلٍّ منهما إلى تحذير الآخر بهذا اليوم الموعود، فبينما
يُحذِّر الفلاح الفصيح سادتَه بقوله: «احذروا؛ لأن يوم الآخرة يقترب»
٤٩ نجد الملك أخيتوي يؤكِّد نفس المعنى بقوله: «لا تثِقْ في طول السنين؛ فإنهم — أي
الآلهة — يَعتبرون الحياة مجرد ساعة واحدة، والإنسان سيُبعَث من بعد موته، وهناك ستُوضَع
أعماله بجواره أكوامًا، وسيَكون هناك الخلود الأبدي، لن يشكوَ منه سِوى مَن كان متهورًا!
لكن مَن يصل هناك بلا خطيئة، سيُصبِح إلهًا، يخطو بحرية كآلهة الأبدية.»
٥٠
وعلى ذلك فليتأكَّد كلُّ إنسان أيًّا كان «أن الزمن الذي يَقضيه على الأرض، إنما
هو طيفُ
خيال فحَسْب، وعندئذ يُقال لمن يصل إلى الغرب: مرحبًا.»
٥١
ويبدو أن القوم قد اكتفَوْا بتحذير بعضهم البعض، بهذه التلميحات التي تؤكِّد قُرب
يوم
الحساب؛ لأن تحديد موعده بدقة أمر صعب، فهو أمر يخص الآلهة وحدَها، وهو سرٌّ من أسرارها؛
ولأن الزمن الإنساني يَختلف عن الزمن الإلهي، فحياة البشر على الأرض بطولها ليست في عُرف
الآلهة سوى ساعةٍ واحدة، وأن معرفة ما يُقابل هذه الساعة من ساعات البشر يُشكِّل معادلة
صعبة، وغير ممكِنة بالطبع.
وقد أشارت متون الأهرام إلى ما سيَحدث في هذا اليوم من كوارثَ فلَكية تصيب العالم
بدمار
شامل، فقالت: إن «السحب تُظلِم، والنجوم تُمطِر الأرض، والأقواس تترنَّح»،
٥٢ وبعدها «يُفتَح باب السماء»! ومن هذا الباب السماويِّ سيَدخل كلُّ البشر إلى قاعة
الحساب الإلهية، التي أفاضت النصوصُ في وصفها، كما أوضحتها بالرسوم الملونة، ولعل أهمَّ
هذه الرسوم صورةٌ ضخمة، تتضح من وصف إرمان القائل «في الصورة نرى بهوًا كبيرًا، سقفه
بلهب النيران، وعلامة الحق، وفيه «مقصورة يَجلس فيها أوزيريس» على عرشه، ومن أمامه رمز
أنوبيس وابنه حورس، وآكِل الموتى وهو حيوان خرافي — تمساح من أمام، وأسد من وسطه، وفرس
نهر
من الخلف — وفي أعلى الصورة؛ أي في مؤخرة البهو، يجلس اثنان وأربعون قاضيًا، ومن أسفل،
أي الجزء الأمامي، «الميزان العظيم يوزَن فيه قلب الميت»، وتَستقبِل آلهةُ الحق الميتَ
وهو
يدخل البَهْو، ومن ثَم يأخذ حورس وأنوبيس قلبه، ويتحقَّقان بالميزان إن كان أخفَّ من
علامة
الحق، ويسجِّل تحوت كاتب الآلهة النتيجةَ على لوحة، ثم يخبر بها أوزيريس.»
٥٣ ويعلق برستد قائلًا: «ومن الظاهر طبعًا، أن أولئك الاثنَين والأربعين قاضيًا،
ليسوا إلا أسماءً مخترَعة، وهم يُمثِّلون الأقسام الإدارية التي تتألف منها البلادُ المصرية،
ولا شك أن الكهنة ألَّفوا تلك المحكمة من اثنَين وأربعين قاضيًا؛ قصْدَ الإشراف على أخلاق
المتوفَّى، من أي ناحية من أنحاء البلاد، حيث يجد المتوفَّى نفسه يواجه قاضيًا على الأقل،
من بين أولئك القضاة، قد جاء من البلدة التي كانت موطنًا له، فيكون ذلك القاضي على علمٍ
بسيرة ذلك المتوفَّى المحَلِّية، وبذلك لم يكن في إمكانه أن يُخاتِلَه أو يغُشَّه.»
٥٤
وفي البند الخامس والعشرين بعد المائة، من كتاب الموتى الشعبي، يُسجَّل للميت ما
يجب
قوله عند الوصول إلى قاعة العدل؛ كنوعٍ من إبراز حسنات الميت وإيضاح صلاحه وتَقْواه،
وإنكاره لأي خطايا يُحتمَل أن يكون قد ارتكبها في حياته الدنيا، وتُسمَّى بالاعتراف الإنكاري
أو السلبي، ولكنها في الحقيقة لا تَحوي أيَّ اعتراف، بل هي في مُجمَلِها تنصُّل من كل
الأوزار
المحتمَلة، وتؤكِّد هذا المعنى إليزابيث رايفشتال بقولها: «إن الاعتراف السلبي بحد ذاته،
تعويذة أو ضرب سحري، أكثر منه اعتراف صادر عن شخص نادم.»
٥٥
ويشرح برستد ذلك بقوله: إن سلطان محكمة الآخرة «ما لبث أن مُسِخ مبكرًا، بالعوامل
السحرية التي جاءت في كتاب الموتى، الذي «ألَّفَه كهَنة المعابد للكسب منه»؛ إذ زعَموا
فيه أن
يكون وسيلة تُساعِد الميت على التخلُّص من العقوبة، بمخادعة وتضليل ذلك القاضي الرهيب»،
٥٦ «وكانت مَناظر المحاكمة في الآخرة، ومتن إعلان البراءة، تُنسَخ بكثرة على صفحات
البردي؛ يَقوم بنَسخِها الكتَبةُ، ثم تُباع لكل الناس، ولا يُكتَب اسم المتوفَّى، بل
يُترَك مكانه
خاليًا؛ ليملأَه المشتري بعد حصوله على تلك الوثيقة، وعلى ذلك كان في إمكان كلِّ إنسان
مهما كانت أخلاقه في الحياة الدنيا، أن يَستوليَ مِن الكتَبةِ على شهادة تقول بأن فلانًا
— الذي
ترك اسمه خاليًا — كان رجلًا فاضلًا.»
٥٧
ومثالًا من هذا الاعتراف السلبي أو الإنكاري، يقول الميت في البند المذكور من كتاب
الموتى، موجِّهًا كلامه إلى أوزير:
السلام عليك يا إلهي العظيم،
يا رب العدالتَين،
لقد أتيتُ إليك يا سيدي،
لقد حضرتُ لأشاهد جمال وجهك،
أنا أعرفك وأعرف اسمك،
وأعرف أسماء الاثنَين والأربعين قاضيًا.
انظر،
لقد أتيتُ لك وكلي عدالة،
لقد نبذت الغش؛ لأجلك أنت،
أنا لم أرتكب شرًّا ضد الناس،
أنا لم أسئ معاملة الحيوانات،
أنا لم أرتكب ذنبًا في مقر الحق،
أنا لم أعرف الخطيئة،
أنا لم أكفر بالآلهة،
أنا لم أوذِ رجلًا فقيرًا
ولم أفعل ما تكرهه الآلهة،
أنا لم أتسبَّب في مرض أحد،
أنا لم أتسبب في بكاء أحد،
أنا لم أُحرِّض على القتل،
أنا لم أتسبَّب في معاناة أحد،
أنا لم أبخَل بقرابين المعبد،
أنا لم أُتلِف خبز الآلهة،
أنا لم أدنس نفسي،
أنا لم أزوِّر في كيل الحبوب،
أنا لم أُطفِّف الموازين …
أنا طاهر (أربع مرات)!
أنا لم أرتَكِب شرًّا،
أنا لم أسرق،
أنا لم أكن حقودًا،
أنا لم أقتل بشرًا،
أنا لم أكذب،
أنا لم أُثِر الفتن،
أنا لم أعتدِ،
أنا لم أزْنِ،
أنا لم أكن واشيًا،
«أنا لم أترك فمي بلا زِمام
أنا لم أُسبِّب ذعرًا
أنا لم أكن محبًّا للشغْب»
أنا لم أتبع هوى قلبي،
أنا لم أكن مخادعًا
«أنا لم أكن مندفعًا،
أنا لم أكن سفيهًا ضد الملك» …
٥٨
وبالمنطق الذي تُمْليه الأحداث، ويُوحي به النصُّ؛ يمكن الزعم بأنه رغم وضع الملكية
لمبدأ
الحساب، كترهيبٍ وترغيب للقُوى الشعبية، فقد ظلَّ إيمان الجماهير بأوزير وقيامتِه من
الموتى،
شفيعًا كفيلًا بضَمان الخلود، والخروج من الحساب بالبراءة، وقد استطاع الكُهَّان أن يَستغلوا
هذا الفَهم ويَدعَموه، كطريقةٍ «للكسب المقدَّس»، فباعوا للجماهير هذه الاعترافاتِ الإنكاريةَ
أو
صكوك الغفران — إن جاز التعبير — لينال بها الميتُ ما يريده من سعادة في عالَمِه الآخر،
فمُسِخت عملية الحساب، ولما يمضِ على ظهورها بعدُ وقتٌ قصير.
وفي ظل الملكية الجديدة، أخذَت فكرة الحساب في النموِّ والتطور، وحتى لا يُصبِح مجردُ
الإيمان بأوزير، وسيلةً سهلة لدخول الجميع إلى عالمه الخالد؛ فقد بدأت المتون تتحدث عمن
لا يَخرج بريئًا من الحساب، ورغم التضارب في مصير المذنِبين، فقد وضَح أنها كانت كلها
مصائرَ مما لا يبهج أو يسر، فمن «لم تثبت براءته، فإنه لا يَدخل مملكة أوزيريس، ويظل
في
قبره يُضْنيه الجوعُ والعطش، أو يَلتهِمه ملتهِمُ الموتى»
٥٩ أو قد يُمزِّقه قُضاة المحكمة بسيوفهم،
٦٠ أو قد ينتهي أمرُ الروح المذنِبة، بالإلقاء «في العذاب، وفي النهاية تُباد»،
٦١ وقد يقول أوزير للمذنب: «اذهب عني أيها الشرير إلى الجحيم؛ لتلاقيَ أشدَّ
أنواع العذاب! أيها القضاة، اقتلوه بسيوفكم، وتغذَّوُا الآن من لحمه، وأنتنَّ أيتها الأرواح
الشريرة، اضرِبْنه بالحديد، واحرِقْنه بالنار، وأنت يا عمعم الوحش المفترس، قطِّعْه إربًا،
وتغذَّ من أحشائه، فليَفْنِ جسمك أيها الخاطئ، ولتُعدَم نفسك، وليُشطَب اسمك من سِفْر
الحياة،
وقد جعلتُك غنيمة للأفاعي، وفريسةً للوحوش الضارية! وأنتم يا زبانية جهنم، اسحَبوه على
وجهه إلى الجحيم، واقطعوا رأسه على خشبة العار، ومَزِّقوا جسده كل ممزَّق، وألقوه في
أتون النار.»
٦٢
وهكذا جاءت المحاولات الترهيبية للخاطئين، ولم يَعُد كافيًا أن يؤمن الإنسان بأوزير
لينال سعادة الدار الآخرة، فأوزير بذاته سوف يطرده من حضرته، ويَحكم عليه بصنوف وأشكالٍ
متعدِّدة من العذاب، إذا كان خاطئًا.
ويبدو أن فكرة تعذيب الخاطئين، قد جاءت «في زمن متأخِّر على وجه التحقيق»، كما يرى
إرمان
٦٣ في ظل الملكيات المتتالية، بعد أن كان عقابُ المذنب حِرمانَه فقط من الخلود،
ويدعم رؤيتَنا في كون فكرة العذاب فكرةً ملكية بدورها، أن العذاب قد نُسِب في النهاية
إلى
إله الملكية آمون، الذي تكفَّل بأحد جوانب الحياة الخالدة، وهو تعذيب المذنِبين في حساب
الموازين؛ ترهيبًا وتخويفًا لمن يُفكِّر في العصيان الثوري بحيث يكون التأديبُ، دنيويًّا
وأخرويًّا، تأديبًا ملكيًّا.
والنصوص تؤكِّد أنه في يوم الحساب، سوف «توزَن الأعمال، فمن خفَّت موازينه أُلقِيَت
روحه في
الجحيم، وكان غِذاؤه وشرابُه القاذورات، وتسلَّطَت على روحه الثعابينُ والعقارب، فتلدغه
وتُعنِّفه حيث ذهب، وهكذا يستمر في العذاب الأليم، إلى أن يلحقه الفناء.»
٦٤ وإن المذنب «سينزلق إلى مكان الإعدام «لآمون رع»، سيد الكرنك، إنه لن
يدَعَهم يشبعون في وظائفهم، وسيُلقى في لهيب الملك يوم مقته، وسينفث تاجُه النار على
رءوسهم، وسيُغرقهم في البحر حيث تَختفي أجسادهم»،
٦٥ بينما تُسجِّل الأدعية لآمون ابتهالها: «أنت آمون رع، الذي يعدل الأرض
بإصبعه، والذي كَلِمتُه أمام القلب، «فيجعل النار مأوًى لمن يرتكب الخطيئة».»
٦٦
بينما وُضِعت أمام الجميع عقباتٌ وصِعاب، لا يمكن لغير المؤمن الصالح اجتيازُها،
وأهمها
«الصِّراط»؛ ذلك الطريق الضيق الرهيب، الذي كان على كل ميت أن يَعبره فوق بحر من النار،
ومَن
كان صالحًا عبَره بسلام ووصل إلى برِّ الخلود بأمان، ومَن كان مذنِبًا هوى في الجحيم،
وقد
جاء ذلك في «إحدى خرائط العالم الثاني، وإن مَن يدخل مملكة الموتى، ممن يكونون في
المكان المقدَّس روستاو، بالقرب من الجيزة، فإنه يجد أمامه سبيلَين يؤدِّيان به إلى مملكة
الأبرار؛ أحدهما طريق الماء، والآخر طريق الأرض، وكلاهما يتعرَّجان، غير أنك لا تستطيع
أن
تعرج من أحدهما إلى الآخر؛ لأن بينهما بحرًا من النار، وهناك كذلك طرقٌ جانبية، وإن كان
لا ينبغي لك سلوكُها؛ لأنها تؤدِّي بك إلى النار، أو هي طرق بديلة ملتوية، وقبل السير
في
أحد هذَين السبيلَين، «يجب أن يمضي الميت من باب النار».»
٦٧
وبالإضافة إلى عقبة الصراط، هناك عقبة المحيط الكبير، الذي ينبغي عبوره للوصول إلى
النعيم الأوزيري؛ لأن «هذه الحقول الفِردَوسية، لا يمكن الوصول إليها، إلا باستخدام صاحب
المعبَر، ولم يكن هذا الشيخُ الطاعن في سنِّه يَقبل في قاربه إلا الرجالَ والنساء، الذين
لم
يَرتكبوا في حياتهم ذنبًا ما.»
٦٨ وقد نصَّت المتون على ذلك بتأكيدها أن «نوتي حقل ياور هذا، لا يَنقل غير الرجل
القويم، والذي وُجِد مقسطًا أمام السماء والأرض.»
٦٩
ويبدو أن هذا الترهيب قد أدى لنتائج إيجابية؛ فقد «أصبحَت المحاكمة فيما بعدُ أوائل
الدولة الحديثة — حوالي ١٦٠٠ق.م — لا تَقتصر على حصرٍ تفصيلي لكل المخالفات الخلقية،
وإنما
صارت امتحانًا خلقيًّا قاسيًا، بل معيارًا شاملًا للقيمة الخلقية لحياة كل إنسان»،
٧٠ «وإن آخر تطور خلقي عظيم في الديانة المصرية، حدث فيما بعد، نشأ على ما
يظهر «خارجَ المعابد، بعيدًا عن ديانة الحكومة» إذَّاك — ١٣٠٠–١٠٠٠ق.م — وكان ذلك التطور
يَرمي
إلى الشعور «بالخطيئة»، أي اعتراف المؤمن بحقارة نفسه، مع امتزاجِ ذلك بالثقة الشخصية
في
رحمة الله، وعدلِه وعنايته الأبوية.»
٧١
وقد ظهَر هذا التأثير فيما تُرِك من كتابات، كما في هذا المثال من «أدعية وصلوات
وتعاويذَ، من شأنها أن تُهدِّئ من غضب أوزير …
أيَا مَن يعمل على سير جناح الزمان،
يا من تسكن في كل خفايا الحياة،
يا من يُحصي كل كلمة أنطق بها،
انظر!
إنك تستحي مني، «وأنا ولَدك»،
وقلبك مُفعَم بالحزن والخجل؛
لأني ارتكبتُ في العالم من الذنوب،
ما يُفعِم القلب حزنًا!
وقد تماديتُ في شروري واعتدائي.
ألا فسالِمْني،
ألا فسالمني،
وحطِّم الحواجز القائمة بيني وبينك،
أو مُرْ بأن تُمحى كل ذنوبي،
وتسقط عن يمينك وعن شمالك،
أجل،
امح شروري،
وامح العار الذي يملأ قلبي،
حتى تكون أنت، وأنا،
من هذه اللحظة،
وإن هذه الأدعية التي يَعترف فيها الإنسان بشروره فعلًا، ولا يتنصَّل منها كانت خطوةً
رائعة، سجلَها العقل الجماهيري المصري عن قناعة بما يَقول وبما يؤمن، فعندما ظهرَت بدعة
الحساب والعذاب، في ظل السلطان الملكي، أمكنَه التغلب عليها بصكوك الغفران، ولكن بعد
مرحلة تطورية طويلة، دخلَت فيها مصر عدة مِحَن؛ محنة عصر الإقطاع الثاني، والثورة الثانية،
وغزو الهكسوس، بدأت تظهر هذه القيم الخلقية الرائعة، بعيدًا عن سلطان الحكومة، فظهرَت
كأبدعِ ما تكون بعد أن جاءت بقناعةٍ وتفهُّم، ودون جبر من سلطان، حتى أصبح المصريُّ القديم
يرى
خطاياه حاجزًا بينه وبين ربه، وهذا كان من الشقاء إلى الحد الذي دفَعه لِيُسجِّل المتن
المذكور، وبذلك أخذَت فكرةُ القرب من الإله مكانَها الكبير، بجوار فكرة النعيم السماوي،
ولم يَعُد الإنسانُ يطلب فقط البعد عن العذاب والحصول على النعيم، بل والقرب من الإله
بإرضائه ورضاه.
وكان لهذا التطور أثرُه في فكرة المحاكمة؛ فقد جاء في بردية آني، اعترافاتٌ غاية
في
السموِّ الخلقي، فها هو يقول لربه أوزير: «إني لم أنطق كذبًا «على علم مني»، وإذا كان
ذلك
قد فرَط مني، «فإني لن أُكرِّره ثانية»، دعني أكن من أصحاب الحظوة، من أتباعك.»
٧٣
ويعلِّق برستد على هذا التطور بقوله: «قد أضفى مذهب أوزير على الأخلاق الفاضلة قوةً
عظيمة في نظر الشعب، ومع أن بابه كان مفتوحًا على مصراعيه ليدخله الناس، فإنه كان من
واجب الجميع أن يُبرهِنوا على أهليتهم لرضاء الإله أوزير من الناحية الخلقية.»
٧٤
بل وجاء في بردية آني ما يشير إلى شهادة جوارح الإنسان عليه في الحساب إنْ هو حاول
كذبًا أو تلفيقًا، ففي البرديَّة «يدخل آني وزوجته القاعةَ التي يُقرِّر فيها المصير،
مُطأطِئَ
الرأس بهيئة تدل على الخضوع، ويطالب أنوبيس في الحال بقلب آني، والإشارة الهيروغليفية
التي تدل على القلب … موضوعة في إحدى كِفَّتَي الميزان، كما نرى في الكِفة الأخرى ريشةً،
وهي
الرمز الهيروغليفي الدالُّ على الصدق أو العدالة أو الحق، ويخاطِب آني قلبه في هذه اللحظة
قائلًا: يا قلبي الخاص بكياني، لا تقف شاهدًا ضدي، ولا تُعارِض في المجلس، ولا تكونن
حربًا عليَّ أمام رب الموازين، ولا تدَعنَّ اسمي يصير مُنتِنَ الرائحة في المحكمة، ولا
تقولن
ضدي زورًا في حضرة الإله.»
٧٥
وبعد أن يَعترف آني بذنوبه طالبًا الرحمة، وبوزن القلب مع الريشة، أو الحسنات مع
السيئات، يقول أوزير: «اسمع أنت هذه الكلمة بالحق، إني قد حاسبتُ قلب أوزير آني، إن
روحه شاهدة عليه، وأخلاقه قد وُجِدت مستقيمة على حسَبِ ما أظهَره الميزان العظيم، ولم
يوجَد له
أي ذنب، فيجيب الآلهة التسعة على الفور: ما أحسنَ ذلك الذي يخرج من فيك العادل! وقد شهد
ذلك أوزير آني المبرَّأُ من الذنوب، إنه ليس له ذنب، فلم نجد أنه قد اقترف شرًّا، وبعد
أن
يَحكم له بهذا الحكم، يقود حور بن أوزيريس آني المحظوظَ ويُقدِّمه إلى أوزير، حيث يقول
له في
الوقت نفسه: إني آتٍ إليك يا وننفر أوزير، وإني أحضرتُ لك أوزير آني، إن قلبه المحق يخرج
من الميزان وليست له خطيئة، في أي إله أو إلهة، لقد حاسَبه تحوت كتابة، وقد شهدَت له
الآلهة التسعة
٧٦ شهادة عادلة جدًّا …»
٧٧
وفي هذه البردية الرائعة، نجد أيضًا فَهمًا جديدًا لمعنى السعادة الأبدية الروحانية
بجوار النعيم المادِّي المحسوس؛ فها هو إله الخلق آتوم رع يقول لآني: «سوف تحيا في راحة
في نفس هذه الأرض الصَّموت، هي أرض لا تُمارِس فيها شهوات الجنس، ولكنك سوف تُوهَب فيها
نورانيةً عِوضًا عن الماء والهواء ومتعة الجنس، وسوف توهَب فيها طُمَأنينة القلب عوضًا
عن
الطعام والشراب»،
٧٨ أو مثل ذلك ما يتَّضح في أمر الإله أوزير للميت البريء بقوله: «ليجلس عن
يميني في الفردوس السماوي»،
٧٩ وهذه غاية السعادة ومُنتهاها بالقرب من الذات الأوزيرية العليَّة. هذا مع
ملاحظة أن تلك الصورة النورانية للسعادة الخالدة، لم تُلغِ فكرة النعيم الجسدي التي
ابتدعَتْها المخيلة الشعبية، بل ظلَّت معها جنبًا إلى جنب في ظل الملكية، إلى نهاية العصور
الفرعونية.
وبمتابعة الصورة الحسية للخلود، نجد من يَخرج بريئًا في الحساب، يَذهب مِن فوره إلى
مكان
نعيم وسعادة أبدية، يُسمى دوات،
٨٠ وهناك سيَجد «شجرتَين عظيمتَين»،
٨١ إحداهما «شجرة الحياة»!
٨٢ وأهم معالم دوات قاطبة بيت الإله المعمور، أو «قصر السماء»،
٨٣ وحول البيت سيعيش المبرَّءون سعداءَ في نعيم مقيم، تتَّضح مواصفاته من خلال
خطاب النصوص للمتوفَّى المؤمن؛ قائلة:
إن روحك مقدسة
مع الممجَّدين،
والأرواح الفاضلة تتحدث معك.
لدَيْك الماء،
ولدَيك الهواء،
ولديك مما تَهوى الشيءُ الوفير،
وتُدعَى كلَّ يوم إلى مائدة شراب،
وسوف يلبس الفائزون بالنعيم.
أحسن الملابس الكتَّانية
والأرجوانية،
ويأكلون التين،
ويشربون الخمر،
ويتَضمَّخون بأحسن العطور،
٨٥
فهناك:
وتُبشِّر النصوص هؤلاء الأبرارَ وتَعِدهم بكل ما تشتهيه الغرائزُ في
دوات، فتقول للميت:
إنك تطوف حول الأقطار،
ترى الأماكن الممتعة،
وتجد الأودية مُفعَمة بالماء؛
لغسلك وإنعاشك،
ثم تقطف أزهار البطاح،
وأزهار السَّوسن والزَّنْبق،
وتأتي إليك طيورُ البرك
بالآلاف جاثمةً في طريقك،
وعندما ترمي خطافك
يسقط منها ألف برَنين صوتِه،
والعصفور الأخضر،
والسِّمان،
ويُؤتَى إليك بالجِداء والكِباش
كما سيتمكَّن المؤمن من إشباع كل شهواته الجنسية «أين شاء، وحينما يَشتهي قلبه.»
٨٨
وفي بردية آني، نجده يسأله الخالقُ آتوم رع عن مدة خلوده، متسائلًا:
آني: ولكن آتوم، ما مدى حياتي؟
آتوم: لقد قدرتُ لك ملايينَ الملايين؛
فهي حياة من ملايين،
وبعدها سوف أقضي على كل ما خلَقت،
وتعود هذه الأرض إلى نون
مياه الطوفان،
كما كانت في المرة الأولى.
٨٩
وتنتهي الدنيا، والخلق، ولا يبقى سوى وجه الرب ذي الجلال والإكرام.