الفصل الثالث
تطور عقيدة الخلود المصرية وسيادتها العالمية
أنا لا أدري، عندما أسمع أن إلهًا أو إنسانًا، يريد أن يقصف عمري، أو يريد أن
يَغلِيَني بالقَطِران، حتى إذا نَضِج جلدي بدَّلَني جلدًا غيره؛ ليَزيد في عذابي، لا
أدري
كيف يمكنِّي أن أحبه؟!
أسعد علي
استطاع الثالوث الأوزيري القدسي إذَنْ أن يتحوَّل من مجرد عقيدة ثورية إلى عقيدة ذات
سيادة، فرضَت نفسها على كل الطبَقات، واستقطبَت الجميع على حد سواء، وأصبح امتزاجُ الملك
الحاكم بأوزير ضرورة مُلِحة في بعض الأحيان، كما يتَّضح في الحِقْبة التي تلَت عصر الثورة
الأولى، وما تلاها مِن ثورات وانتفاضات شعبية متلاحِقة، ارتفَع فيها إلى عرش المُلك كثيرٌ
من المنكورين بشكل متسارِع، فكان أنْ حاول كلٌّ منهم إثباتَ شرعية حكمه أمام شعبه.
وفي ذلك يقول عبد العزيز صالح: «وعادة ما ازداد تمسُّح هؤلاء بالدِّين وكرامات آمون،
كلما
أحسَّ أحدُهم بشبهة يمكن أن تمسَّ شرعية ولايته للعرش، وحينئذ يُسارِع إلى تأكيد تدخل
آمون رب
الدولة بنفسه في اختياره، أو يُسارع بتأكيد بنوته المباشرة له؛ نتيجةً لتقمصه روح أبيه
حين أنجبَه، وعبرَت عن هذه الادعاءات أربعُ روايات للفراعنة: حتشبسوت، وتحوتمس الثالث،
وتحوتمس الرابع، وأمنحوتب الثالث.»
١
ويُضيف كلٌّ من دريتون وفاندييه قولَهما: «بل يَظهر أن فكرة تدخل الإله تدخلًا مباشرًا
في
إنسال الملك الجالس على العرش، كانت شائعةً في عهد الأسرة الثامنةَ عشرة، وتُعتبَر تلك
الفكرة امتيازًا عاديًّا للملك؛ إذ تمثل النقوشُ في معبد الدير البحري عن حتشبسوت، ومعبد
الأقصر عن أمنحوتب الثالث، مراحلَ الاقتران الإلهي، أي اجتماع آمون مع الملكة الوالدة،
بعد أن يتخذ مظهرَ الملك الوالد.»
٢
وبذلك — حسبما يذهب تفسيرُنا — يبرز الملك ابنًا لآمون رع؛ ليصبح هو أوزير، ابن رع
العادل، بعد أن عاد لِيُنقِذ العباد، ويعضد تفسيرَنا ما جاء من مرسوم الملك المؤلَّه
أمنحوتب
الأول؛ فقد «كانوا يصورونه بصحبة والدته نفرتاري التي كانت تُمثَّل بإيزيس؛ نظرًا لكونها
أمَّ حورس الملك»
٣ ومن الغريب أن سيادة التثليث الأوزيري، لم تنتهِ أبدًا مع ما انتهى من
الآلهة المصرية، في نهاية الدولة الحديثة واحتلالِ مصر من الآشوريين، ثم الفُرس، فالإغريق
والرومان، فالتاريخ يؤكد هذا معلِنًا أن إلهًا واحدًا قد «خرَج مِن المحنة القومية أكبرَ
شأنًا مما كان؛ لأن مصيره لم يرتبِط بأي نظام سياسي، ولأن أسطورته، وهي عزيزة لدى الشعب،
تحمل في ذاتها تفسيرًا لكل النزلات، وتسمح بكل الآمال؛ هو أوزير.»
٤
ولما كان أوزير مع الآلهة المصرية الأخرى، قد سبق وانتشروا في بقاع الإمبراطورية
المصرية — بحوض المتوسط الشرقي — قبل سقوطها، فقد زالت الآلهة المصرية في مُجمَلها من
هذه
البلاد، بعد انهيار الإمبراطورية المصرية، لكن «إيزيس والطفل حورس، قد عاشا في مخيلة
الشعوب هناك زمنًا أطول من أي إله آخر.»
٥
ولعل في هذا الوقت بالذات، تَكمُن الحَلْقة المفقودة حول تأثُّر الفلسفة اليونانية
بالفلسفات الفرعونية، وبخاصة فلسفة أفلاطون الروحية الأخروية المثالية، وهو يُعَد أولَ
من
قال في بلاد اليونان، ولأول مرة في تاريخها، بعالَمٍ آخرَ خالدٍ، بل وأقام عليه كل فلسفته
في الوجود وفي المعرفة وفي الأخلاق.
٦
ويوضح إرمان السرَّ في استمرار الثالوث الأوزيري، في خيال الشعوب المجاورة بقوله:
«لما
جعلَت حملة الإسكندر عام ٣٣٢ق.م من الإغريق سادةَ البلاد … الغالبية العظمى من الشعب
قد
ظلُّوا أوفياءَ لقومتيهم، أوفياء قبل كل شيء لعقيدتهم الموروثة عن الأجداد، ومع أن هذه
العقيدة قد تأثرت على مر القرون بالروح الإغريقية، فإنها بقيت في الحقيقة على كل ما
كانت عليه قبلًا، وبدلًا من أن تتقلص وتتقهقر، أخذَت تَبرز إلى الأمام، فقد وجَدت الآلهة
المصرية لها عُبادًا كذلك، من بين السكان الإغريق، مع فارقٍ واحد، وهو أن الإغريق قد
تحاشَوْا بقدر الإمكان استعمالَ أسمائها البربرية. وبلدٌ كمصر في ذلك العهد، تحظى الديانة
فيه بمركز السيادة، لا يمكن أن تُحكَم على الدوام إلا إذا كانت القوة الزمنية، على وِفاق
مع الزعماء الروحيين للشعب؛ ولهذا جعَل الملوك الإغريقُ والأباطرة الرومانُ السلطةَ
الدينية تحت حمايتهم؛ على أن تُؤيِّد من ناحيتها السلطةَ الزمنية.»
٧
وهكذا؛ وبعد أن كانت العقيدة الأوزيرية، عقيدةً ثورية جماهيرية، بدأت تتحول إلى عقيدة
سُلطوية، بعد أن أجاد الكهان وسائلَ التحالف المقدَّس بين الملك الغاصب وبين ديانة الشعب،
وكان أبرز مَن مهَّد لهذا المبدأ من الملوك الغزاة، ذلك السياسي الماكر الداهية، تلميذ
الفيلسوف أرسطو، «الإسكندر الأكبر»، الذي ما إن وضَع قدَمه على أرض مصر وعرَف هُويَّتَها
الدينية
والجماهيرية؛ حتى «نهج نهجًا يختلف تمامًا عن نهج الفُرس، فقدَّم ولاءه للآلهة الوطنية،
ومن منف اتخذ الإسكندرُ طريقه في الفرع الغربيِّ للنيل قاصدًا كانوب؛ حيث شيَّد فوق شريطٍ
من
الأرض الرملية، يقع بين بحيرة مريوط والبحر، مدينةً إغريقية تحمل اسمَه، هي مدينة
الإسكندرية، ومنها مضى إلى واحة سيوة؛ «لِيَستلهِم وحيَ الإله المصري آمون»، الذي كان
الإغريقُ
يشبِّهونه بإلههم زيوس.»
٨
ولم يكن عجبًا مِن السياسي المحنَّك أن يَعقِد مع الكهانة اتفاقًا، وبموجِبه أعلنوا
للجميع
أن نسبة الإسكندر لفيليب الثاني غيرُ صحيحة؛ لأن الإسكندر في الحقيقة هو ابن الله
الوحيد، والسر الحقيقي يَكمُن في أن أمه «أوليمباس قد خالطَت الإله آمون»،
٩ ومنه أنجبت الإسكندر طفلًا إلهيًّا؛ لذلك فقد تعرَّف على وجهه القدسي فورًا
«كاهن آمون، «وحيَّاه كابنٍ للإله»»،
١٠ وحينها أعلَن الإسكندر للشعب المصري إيمانَه بالعالم الخالد؛ ولأنه ابن الله
الحقيقي؛ فقد «أبدى رغبته بأن يُدفَن في واحة سيوة، وفي معبد أبيه آمون بالذات.»
١١
وهكذا انسحب على الإسكندر ما سبقَ وانسحب على ملوك مصر الغابرين، فأصبح هو ابنَ آمون
رع، وابنُ آمون رع ليس سوى «أوزير العادل»؛ لذلك فالإسكندر في حقيقته لم يكن سوى أوزير
العادل، وأمه أوليمباس لم تكن في حقيقتها سوى البَتول الطاهرة إيزي العذراء، «ومن ثَم
فهو
في ذاته إله.»
١٢ مكرِّرًا بذلك قصة أوزير، العائدِ من السماء ليحكم بالعدل والمحبة والسلام؛
ليتمكن عرشه بلا قلقلة.
١٣ ولكن لتتمكَّن عقيدة مصر الأوزيرية من الخروج من حدودها الإقليمية، لتسود على
بلاد الفاتح الغازي؛ فقد تكررَت القصة الأوزيرية، مع خليفة الإسكندر بطليموس الأول، الذي
أصبح بدَوره أحدَ أضلاع المثلَّث القدسي؛ وذلك عندما «غدا ملكًا على مصر، وفرعونًا، وإلهًا
في نظر رعاياه»
١٤
وهكذا جاء الأمر مع سلسلة البطالمة، فقد اجتمَع الكهنة في الإسكندرية عام ٢٣٨ق.م،
وفي
كانوب بالذات؛ للنظر فيما قدَّمه بطليموس الثالث وزوجته من إحسان للمعابد وكهنتها،
فاكتشفوا أن الزوجَين كانا زوجَين من الآلهة؛ لأنهما «أحسَنا للمعابد في البلاد، وزادا
كثيرًا في إجلال الآلهة.»
١٥
كذلك كان الأمر مع بطليموس الرابع، بعد أن أعلَن الكهانُ بيانهم في نوفمبر ٢١٧ق.م،
يَصفونه بأنه كان حقًّا وصدقًا ««حورس»، الممتلِئ شبابًا، القوي الذي نصبَه أبوه ملكًا،
الذي امتلأ قلبُه بقُوى الآلهة، حامي الناس، المتفوِّق على أعدائه، الذي أسعد مصر وملأ
معابدها نورًا، «شبيه الشمس، سليل الملِكَين الخيِّرَين؛ الذي حبَتْه الشمسُ بالنصر»،
صورة آمون
الحسِّية، الملك بطليموس الخالد، «حبيب إيزيس».»
١٦
ومع بداية عهد هؤلاء البطالمة، كانت بداية المجد الأوزيري الحقيقي، فمعَهم غزا
المعمورة المعروفة آنذاك، وساد عليها مع عالَمِه الخالد، ويمكن استنتاجُ ذلك من عرض ﻫ.
آيدرس. بل التالي:
«وعلى عهد بطليموس الأول، ظهرَت عبادةٌ جديدة، هي عبادة سرابيس، التي قيل: إن الملك
ابتدَعها لتكون رابطةً بين رعاياه الإغريق ورعاياه المصريين. والأبحاثُ المستفيضة التي
قام
بها فيلكن حول هذا الموضوع، لم تدَعْ مجالًا للشك في أن الإله الجديد، هو المعبود المصري
أوزير أبيس في صورة هلينية … ولدينا ما يدل على أن هذا الإله قد عُبِد في المنطقة
المجاورة لمنف، وأن الإغريق أنفسَهم اشتركوا في هذه العبادة قبل ظهور سرابيس، ويبدو أن
كل ما قام به بطليموس، كان رفْعَ هذا الإله المحلي إلى إله مركزي، وتصويرَه طبقًا للعقائد
الإغريقية … في صورة رجل مثاليِّ الجمال، في عُنْفُوان قوته، على غِرار الإله زيوس الإغريقي.»
١٧
ومن هنا يمكن القول: إن سيرابيس
Serapis في حقيقته لم يكن
سوى وليدٍ هجين؛ نتيجةً لتلاقح الفكرَين؛ الكهنوتي اليوناني، والكهنوتي المصري، حول الآلهة
الثلاثة «أوزير، أبيس، زيوس»، ويبدو أن ذلك قد تم على يد الكاهن مانيتون، استنادًا إلى
ما رواه أدولف إرمان حول حقيقة سيرابيس؛ فهو يؤكد أن سيرابيس قد أصبح «الإله الذي كان
على الإغريق والمصريِّين على حد سواء أن يُقدِّسوه، ومنذ ذلك الوقت أصبح سيرابيس الإله
الرئيسي في مملكة البطالمة، وأصبحَت الأيمانُ الرسمية تُعقَد على النحو التالي: باسم
سيرابيس وإيزيس، والآلهة الأخرى، وكان مما يُرضي الملكَ أن تُشيَّد المعابد لسيرابيس
في خارج
مصر نفسها، ولنا أن نُقدِّر أن هذا التأويل الجريء من مانيتون، لم يجد أيةَ معارضة عند
زملائه الكهنة؛ فقد كانت رغبة الملك كفيلةً بإقناعهم، بأن سيرابيس لم يكن سِوى أوزيريس
أبيس، ومنذ ذلك الوقت كان سيرابيس هو التسميةَ الإغريقية لأوزيريس، وأصبح سيرابيس مذ
ذاك
إله الموتى وزوج إيزيس، وحل تمامًا محلَّ أوزيريس، وكان أعظمُ معابدِ هذا الإله الجديد،
يوجد في عاصمة البلاد بطبيعة الحال، أي في الإسكندرية»
١٨ تحت اسم السيرابيوم
Serapium.
وكان «سيرابيوم الإسكندرية على طراز إغريقي، وفي عهد تراجان، أُوفِدَت بعثة إلى روما،
فاصطحبَت معها تمثال سيرابيس صانع المعجزات، وقد قام إلى جانب سيرابيوم الإغريق هذا
سيرابيوم آخر، في صحراء منف، ومن هذا المكان خرَجَت عبادة أوزيريس أبيس؛ ولهذا ظل كعبةَ
الحُجاج من عباده.»
١٩
وبذلك أخرج الأباطرةُ الإغريق عبادةَ أوزير الشهيد والبتول إيزي، والعالم الآخر الخالد،
من مصر إلى كل بقاع الإمبراطورية، تحت اسم «عبادة سيرابيس، والتي كان الغرضُ منها توحيدَ
عقائد رعاياهم من إغريق ومصريين،
٢٠ ويدل ظهورُ سيرابيس على بداية عقيدة جديدة، يمكن تسميتُها بالعقيدة المصرية
الإغريقية، وكانت دينًا خليطًا، لم يكن لِينشَأ إلا حينما تعيش جماعةٌ من شعبَين معًا،
على
اتصال قوي.»
٢١
وهكذا كان ظهورُ العقيدة الأوزيرية وعالمها الخالد، بفعل ظروف سياسية وأحداث اجتماعية،
وكان خروجُها من مصر، بدفعٍ من نوع جديد من هذه الظروف والأحداث، وكما خرج أوزير من مصر
باسم سيرابيس، خرجَت معه زوجته «إيزيس بإخلاصها لزوجها، وحُبِّها لابنها»،
٢٢ بعد أن «غدَت أمَّ الأشياء وسيدةَ جميع العناصر، والبدايةَ الأولى للأزمنة؛
الإلهة العليا، مَلِكة الموتى، ورئيسة أهل السماء، المظهر الموحَّد للآلهة والإلهات،
وهي على
تعدُّد أشكالها واحدة، وشخص بذاته، واسمها الحق الملكة إيزيس، وهكذا نرى أن إيزيس ابتلعَت
جميع الآلهة التي كانت تُعبَد في أوروبا؛ فمن روما وإيطاليا، ومن البحر الأسود إلى البحر
الأحمر، كانت السيادةُ في كل مكان للإلهة ذاتِ الأسماء العديدة — فسِتُّون بلدًا وقطرًا
وشعبًا، كانوا يَعبدونها على أنها الفُضلى الجميلة الطاهرة المقدسة المتصوِّفة حبيبة
الآلهة»
٢٣ زوجة سيرابيس، وأحد أضلاع المثلث المقدس، والذي يمثل ضلعه الثالث حور،
الطفل الإلهي المعجزة، ذلك الذي أصبح في النطق اليوناني حور بقراط أو هربوكراتيس «وكان
يُمثَّل بهيئة طفل سمين يمَصُّ إصبعه»،
٢٤ وأحيانًا كان يُمثَّل «على هيئة المُحارب الراجل، أو الفارس يَقذف رمحه نحو
عدوِّه، الذي يبدو أحيانًا في هيئة التمساح من تحته، وذلك على نحوِ ما يبدو القديس جورج
في
الفن المسيحي»،
٢٥ ولا زال يُقدَّس حتى اليوم عند مسيحيِّي مصر، وتُقام له الأعياد السنوية في قرية
فرعونيةٍ قديمة صغيرة تُدعَى ميت دمسيس، تحت اسم الماري جرجس.
وفي كل بلاد حوض المتوسط — تقريبًا — أُقيمَت الأعياد للثالوث المقدَّس، «وكان مِن
بين
الأعياد الكبيرة لإيزيس، عيدان تمتَّعا بشهرة خاصة، وكان أحدهما عيد نوفمبر (القيامة)
الذي يظل ثلاثة أيام، يُمثَّل فيها موتُ أوزيريس، والبحث عن جثته، ثم العثور عليها.»
٢٦ «كذلك في رودس ولبوس وثيرا وأزمير، وفي أماكنَ أخرى في جزيرة ديلوس المقدسة،
كان سيرابيس وإيزيس يُعبَدان على رأس غيرهما من الآلهة.»
٢٧ كما سادت هذه العبادةُ المصرية على كل آلهة «أفريقيا الشمالية، وفي
إسبانيا، وفي بلاد الدانوب وفي فرنسا، وحتى في إنجلترا نفسِها نقوش تُكرِّم إيزيس
وسيرابيس، وكان لإيزيس ربوعُها كذلك في مناطق جبال الألب وفي ألمانيا.»
٢٨
وقد حاول الباحثون وضع بعض التفاسير لهذا الانتصار العالميِّ الذي حقَّقَته عقيدة
أوزير
وعالمها الخالد، يمكن بعد استقرائها إيضاحُ أبرزها فيما يلي:
(١) الأسباب السياسية
-
كان ﻟ «تأييد الملوك البطالمة وتشجيعهم، مساهمةٌ كبيرة في هذا الانتشار للعقائد
المصرية، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كان سيرابيس وإيزيس هما الإلهان الرسميان في دولتهم فعلًا.»
٢٩
-
«وقد ساهم حكمُ هادريان كثيرًا في هذا التطور؛ فقد زار مصر ومعه الإمبراطورة
ورجال البلاط، وكان مِن المتحمِّسين لهذه البلاد وآلهتها.»
٣٠
-
ساعد الحكامُ المحليُّون بدَورهم على هذا الانتشار الواسع؛ فقد «كان لمن يريد توكيدَ
ولائه لملوك مصر الأقوياء، أن يُقيم كذلك في بلده معبدًا لآلهتهم؛ وبذلك وجَدَت هذه
الآلهةُ، لأسباب سياسية، طريقَها إلى قبرص، وصقلِّيَة وأنطاكيا وأثينا.»
٣١
-
أن الحضارة الهلينية، دخلَت تجرِبة قاسية هي ما يُسمِّيه التاريخ بعصر الآلام (خاصة في
فلسطين)، الذي كان نتيجةً حتمية للنظام الطبَقي الكَريه؛ مما أدى إلى قيام الطبقة
الفقيرة بثورة مسلَّحة، كانت ظروفُها، وعوامل قيامها، كثيرةَ الشبَه بظروف قيام الثورة
المصرية في أواخر عصر الدولة القديمة، من حيث سيادةُ ملك إله، والفوارق الطبقية
الهائلة، والظلم الاجتماعي، مما خلَق مناخًا مناسبًا للإله أوزير؛ ليلعب دوره الثوريَّ
القديم مرة أخرى خارج حدود بلاده، مؤكدًا وَحْدة القوى العاملة في العالم تحت رايته
العقائدية، فكان أن «اتخذَت الثورةُ المسلحة التي قامت بها الطبقة العمالية خلال عصر
الآلام ضد السيادة الهلينية — فيما اتخذَت — صورةً دينية»
٣٢ أو ما يمكن تسميته بمقولات العصر صورةً أيديولوجية.
(٢) الأسباب الدينية
-
«أدَّى انهيار العقيدة في آلهة الأولمب القدامى، إلى سقوط أهل روما والأقاليم فريسةً
سهلة لما تعلَّقَت به أنظارهم من عقيدة المشرق، وانتشرَت عبادة إيزيس في أرجاء الإمبراطورية.»
٣٣
-
أن أهل اليونان وإيطاليا «كانوا جميعًا يُقاسون نقصًا روحيًّا؛ فقد غدَت الديانة
القديمة بالنسبة لهم جميعًا ميتة، ولم تستطع الفلسفة، التي كان يُحاوِل أن يجد فيها
المثقَّفون عونًا لهم، أن تكون لهم بديلًا كاملًا.»
٣٤
-
كما أدَّت الظروف الحضارية والاجتماعية وطبيعةُ النظم الحاكمة في هذا العصر إلى عصر
الآلام، «ولم يكن ثمَّة مفرٌّ من أن تُسفِر تجرِبةُ عصر الآلام التي مرت بها الحضارة،
والمهلة المؤقتة التي نالَتها، ثم الانهيار الذي أصابها في النهاية، عن ردِّ فعل قوي،
من شأنه القيامُ برحلة روحية طويلة، انطوَت على مشاقَّ ومتاعب، انتهَت بظهور السياسة
على
نحوٍ يُثير الدهشةَ والعجب»،
٣٥ عندما وجَد العالم المعذَّب عقيدةَ الخلاص والخلود الأوزيرية أو
السيرابيسية.
-
إن الاستبداد العسكريَّ والطبقي، والحكم الطبقي، في ظل الإمبراطوريات، قد أدى إلى
«تشوُّق شديد إلى دين جديد، يُخلِّص الناس من أدران الخطيئة، ويَعِدهم بحياة راضية
يُعوِّضون فيها شقاء الدنيا، وسرعان ما انتشرَت عبادة سيرابيس، الذي شُبِّه بالإله المصري
أوزيريس ومعه إيزيس زوجة هذا الإله الأخير، وابنها حور أو هربوكراتيس. انتشرت هذه
العبادة في أرجاء حوض البحر الأبيض المتوسط، حتى وصلَت آخرَ الأمر إلى بريطانيا
النائية في عهد الرومان»،
٣٦ فلا شك أنها كانت «تُقدِّم لأتباعها عزاءً أخيرًا في كافة المصائب، وكانت
تَمنحهم الإيمان بحياة أخرى أفضل، يَقضونها في مملكة أوزيريس.»
٣٧
-
إن أهم العقائد التي قُدِّر لها أن تسود فترة من الوقت، وهي عقيدة الإله مثرا أو
مثراس، قد «قضَت بوجه قاطع بإبعاد النساء عن حظيرتها، غير أن ثمةَ آلهةً أخرى هي
التي أوفَت بما كانت تدعو إليه الحاجة، هي الإلهة إيزيس، غير أنه ما إن انتشرَت
عقيدتها وذاعت، حتى زعم المؤمنون بها أنها ليست مجردَ إلهة وطنية، بل هي الينبوع
والأصل الذي نشأَت عنه الحركة والحياة بمختلِف صورهما، وإن الآلهة والإلهات التي
تتعبَّد لها سائرُ الأمم، إن هي في الواقع إلا إيزيس بذاتها»،
٣٨ وإن كانوا لا يعلمون. وكان طبيعيًّا ومنطقيًّا أن يتربَّع بجوارها في
الأفئدة بقيةُ أعضاء أسرتها، وعلى رأسهم أوزير أو سيرابيس، وإلى جانب ذلك أنها «لم
تَنهض بالعدل وحدَه، بل بالرحمة أيضًا، وإلى جانب ذلك كانت هذه الآلهة قد عانت تجرِبة
الألم والحزن، فهي لا تُقدِّم يد العون فحسب، بل تُقدِّمها مشفوعةً بالرحمة والشفقة،
ولقد
لقِيَت عقيدتُها رَواجًا عالميًّا، وأثار كهَنتُها، بثيابهم البيضاء، وأدواتهم المصرية
الغريبة، الفضولَ والرهبة.»
٣٩
(٣) الأسباب الفكرية والفلسفية
-
يمكن لنا، بِناءً على ما أورَدْنا في الباب الثاني، إيجازُ هذه الأسباب في سيادة الفكر
الفلسفي في الأوساط الثقافية، وكان للفلسفة الرِّواقية، بوجه خاص، أثرُها الكبير
والبعيد، بعد أن اعتُبِرت الكلمة
Logos هي سرَّ الوجود، كما اعتبرَتْها مدرسةُ منف
الفرعونية من قبلُ سرًّا للخلق والكينونة، وكان نداءُ الرِّواقية بفلسفتها الحلولية
و«بالوَحْدة العالمية والإخاء العالمي»، ذا أثرٍ كبير في أوساط المثقَّفين من مختلِف
البلدان الخاضعة لوحدة الإمبراطورية، وخاصة تأكيدها أن الإنسان هو قبَسٌ من الإله،
ومظهرُ الإخاء إنما ينحصر في «سيادة المحبة» بين الناس؛ محبةً في الله.
٤٠
-
إن الرواقية قد قادَت اتجاه الحركة الروحية؛ نتيجة لعصر الآلام الهليني، و«كان
رائده وروحه الدافعة، الفيلسوف الرواقي بوسيدونيوس من
أباميا
Poseidonius of Apamea قرابة ١٣٥–٥١ق.م، وكانت دعوة
بوسيدونيوس نبذ تلك الخلافات الفكرية التي استمتع بها فلاسفةُ العصر السابق، كما
نادى، فيما يبدو، بالعودة إلى الإيمان، والاتكال أيضًا على إله مستشرِق.»
٤١
-
إن الفلسفة الرِّواقية لم تَبلُغ غايةَ اتجاهها الفلسفي إلا على الأرض المصرية،
وبالتحديد في مدينة الإسكندرية، التي أضحَت مركزًا للإشعاع الفكري والفلسفي، بل وعلى
يد الفيلسوف المصري الصعيديِّ النشأة، والذي عاش في كنف الإله الشرقي المطلوب،
الفيلسوف إفلوطين
plationus، وقد «استوعَب إفلوطين المذاهبَ الخاصة بمختلِف المدارس
الفلسفية الهلينية التاريخية المعروفة، ونسَجها في وحدة واحدة، بيد أن مهمة الفيلسوف
الأولى، لم تكن تقوم في نظره على إنشاء الأعمال الفكرية، بل التطلُّع والتأمُّل، أما
غاية التأمل وذِروته، فهي التجرِبة الصوفية، المتمثِّلة في وحدة النفس البشرية مع الله»،
٤٢ وقد استتبع انتشارَ هذه الفلسفة في حوض المتوسط، خلقُ أرضية ملائمة
تمامًا، تَنْساب عليها العقائدُ المصرية في أوساط المثقفين، بلا مُعارضة تستحق الذِّكْر.
-
وقد استغل كُهَّان الإمبراطورية انتشارَ هذه الفلسفات في الأوساط الثقافية،
استغلالًا دينيًّا سياسيًّا، فمزَجوا بين الثالوث السرابيسي المقدَّس وبين فلسفة
الكلمة الرواقية، مؤكِّدين أن الكلمة هي حور بن سيرابيس، استنادًا لتماثيله التي
تُصوِّره «واضعًا سَبَّابته على فيه؛ علامةً على أنه الكلمة.»
٤٣ وبالتالي أصبحَت الكلمةُ هي الله، وهي ابن الله، وهي مِن الله روح قدس
يُوحِّد الأقانيم الثلاثة في إله واحد، حتى إن الكلمة تحولَت إلى ضلع من أضلاع المثلث
المقدس؛ لتصبح معبودًا تنتشر عبادته في آفاق حوض المتوسط مع الأب والابن، بعد أن
صارت هي «العقل الخلاق السرمدي، الذي عرَف فيه المفكرون الهلينيون منذ جيل
أنكساجوراس
Anexagoras الحقيقةَ المطلقة، الكامنةَ وراء
مظاهر الكون، وعبَدوها كذلك»،
٤٤ وكانت النتيجة أن «أخذَت الديانة المصرية تنتشر كذلك بين الطبقات العليا
من الشعب.»
٤٥
ونتيجةً لهذه الأسباب مجتمِعة، لم يَعُد «في الإمبراطورية الرومانية واسعةِ الأرجاء،
مقاطَعةٌ واحدة، لم تَعُد تُعبَد فيها الآلهة المصرية، حتى استطاع ترتوليان أن يقول:
إن
«الأرض بأسرها» تَعقِد الأيمان اليوم باسم سيرابيس.»
٤٦
وإذا كان أوزير قد ساد أرجاءَ المعمورة وكافة أنواع العبادات، وابتلع الآلهة الأخرى؛
فلا شك لدينا أنه قد استقطَب كلَّ الأساطير والروايات الدينية التي كانت تُنسَب إلى
«السحَرة الذين يُجفِّفون البحيرات بكلمة يَنطقون بها، أو يجعلون الأطراف المقطوعة تقفز
إلى أماكنها، أو يُحيون الموتى.»
٤٧ فأصبح هو الإلهَ صاحب المعجزات الكبرى خاصة العلاجية منها، وقد ترَك
العبادُ كثيرًا مما جمَعوه حول ما «كان يُنسَب إلى سيرابيس من قصص الشفاء.»
٤٨
وبهذه السيادة العالمية، طَوى سيرابيس كل العبادات الأخرى، فاندمجَت فيه، وامتلك
هو
كل ما كان يُنسَب إليها من أساطير، فأصبح هو صاحبَ «العَشاء الرباني المصنوع على هيئة
الصليب.»
٤٩ بدلًا من الإله ميثرا أو ميثهرا، وأصبح هو، بدلًا من الإله ديونزيوس أو
ديونيسيس، صاحبَ القلب المقدس، وابنَ الإله الأوحد، الذي قتَله البشر، فحمَلوا إثم خطيئة
عالمية لا يغفرها إلا الخلاص؛ بالإيمان به وبالتعميد، وبتعاطي جرعات من النبيذ تُمثِّل
روح ابن العذراء، فتَسري فيه الروح الخالدة،
٥٠ أو الطبيعةُ الإلهية، وأصبح هو، بدلًا منه، الإلهَ الوحيد الذي يُمكِنه تحويلُ
الماء إلى نبيذ، وإطعامُ جمع غفير في القفر، بتحويل قليل الطعام إلى كثير، وإشفاء
المرضى من كل نوع.
٥١
ونتيجةً لهذا الدمج أو الابتلاع، لم تَعُد لائحةُ مجلس الشيوخ الروماني بتأليه
الإمبراطور أغسطس — بعد موته — كصورة تجسُّدية للإله على الأرض، ولم يَعُد تلقيب المجلس
له، ولا حتى تلقيب المفكِّر سنكا له بلقب المخلِّص؛
٥٢ لم يعد كل هذا ذا أيِّ معنًى، بعد أن أصبح سيرابيس هو الصورةَ التجسُّدية
للإله، وهو المخلِّص الوحيد. كما لم يَعُد قسَمُ نوميروأتيكس «بأنه رأى رأْيَ العين المخلِّص
أغسطس يرتفع بعد موته جسدًا حيًّا إلى السماء»،
٥٣ لم يَعُد قسَمُه مشكوكًا فيه؛ فما كان لإنسان أن يشك في واحد مثل نوميرو، إنما
كان الشك الذي تحول يقينًا، في هُوية ذلك الذي ارتفع، والذي اكتَشفَت عقلية العصر أنه
إنما كان سيرابيس وليس أغسطس، وأن كل ما في الأمر كان خدعة بصرية، وبصر نوميرو قد
أوهنَتْه الأيام.
كما لم يَعُد إيمان العصر الهليني الروماني، بأنه سيَرى نيرون المتوفَّى، عائدًا
هابِطًا إلى روما من السماء، قبل أن يزول هذا الجيل،
٥٤ لم يَعُد هذا الإيمانُ مُلغًى، بل إيمانًا حقيقيًّا صادقًا، لكن لن يكون
الهابط هو نيرون؛ لأن الذي ارتفَع كان سيرابيس، والمنطق يؤدي إلى الإيمان بأنه سيكون
هو «الهابط العائد في هذا الجيل»؛ ليحكم الناس بالمحبة والسلام، «مثل الإله
حداد
Hadad إله الزوابع في دوليكي، آتيًا على سحاب
السماء بقوة ومجد كثير»؛
٥٥ لأنه لا شك ليس حدادًا، وأنه لا شك ليس البوذيستا في «الله الابن،
منقذًا ضحَّى بنفسه، وراعيًا أمينًا للقطيع البشرى الضال»،
٥٦ وعليه لم يعد هناك مكان للإله الشهيد تموز، الذي وُلِد من عذراء وقام مِن
بين الموتى، مع مكانة سيرابيس المتسامية علوًّا — خاصة بعد أن أصبح سيرابيس هو ابن
الإله الذي نزَف دمه في جذوع شجرة الصَّنوبر المقدسة، وليس الإله أتيس ابن العذراء نانا.
٥٧
وهكذا تحولَت مصر إلى كعبةٍ للمؤمنين وللمفكِّرين، على حدٍّ سواء، من كل أرجاء الحواضر
المعروفة آنَها، وأصبح ثالوثها المقدس، رغم الاحتلال الأجنبي، سيدًا على العالم؛ حتى
بعد ظهور المسيحية بخمسة قرون كاملة.
٥٨ أما أهم أفكار هذا الثالوث المصري التأسيسية فلم تزَل لها السيادة في
العقيدة المسيحية حتى اليوم.