ذاكرة الأشجار
١
قدَّر أن نهاية الصداقة الطارئة، حين يهبط أحدهما — قبل الآخر — في المحطة التي يريدها. لكنهما نزلا في المحطة نفسها. سارا، وتكلَّما، ودَعَتْه لزيارتها.
اعتاد النزول من الأتوبيس في شارع سليم الأول، يُخلِّف وراءه سوق الخضر والبنايات المتوسطة الارتفاع، ومَحال بيع الأدوات الكهربائية والأقمشة والخردوات، ومبنى كنيسة اللاتين. يميل إلى شارع نصوح الهندي، يخترق تقاطُعه مع طومانباي، يستعيد ملاحظته عن الغبار الذي يُضيِّع حِرصه على لمعة الحذاء. تُبطئ خطواته أمام بنايةٍ حديثة البناء، أمامها بقايا حديد التسليح، وشقفات الطوب الأحمر، وخلطة الأسمنت والرمال والزلط.
إلى اليسار، بالقرب من نهاية الشارع، تُطالعه الحديقة الصغيرة، تُحيط بالفيلا البيضاء ذات الطابق الواحد، تشابكَت، وغطَّت معظم الواجهة، أشجار الجوافة والجهنمية والفل والياسَمين والبانسيانا بزهورها الحمراء، يجلس الأب في الشرفة الحجرية المُستطيلة، يعلو صوتُه بالأغنيات التي لا يعرف لُغتها. يصعد الدرجات الرخامية إلى الشرفة، يكتفي الأب بابتسامةِ مجاملة، ثم يُعاود الغناء، أو يتَّجِه إلى الباب المُتصل بالحديقة. يضغط على الجرس، يتوقَّع — كما حدث في المرَّات السابقة — أن تفتح شقيقتُها الباب. تُفسح له الطريق وهي تُنادي: سيلفي.
لم يُقدِّر أن لقاء المُصادفة سيكون انفراجة الباب لكلِّ ما حدث. زاحم المندفِعين في أتوبيس ١٥٣ من ميدان التحرير.
اندفع نحو كرسي ناحية اليمين. طالَعَتْه استغاثتها الصامتة تحت النافذة، القامة المُتناسِقة، الشعر الحنطي المُسدل على الكتفَين، العينان الزرقاوان الباسمتان، الأنف الدقيق، الشفتان النديَّتان، الغمَّازتان اللتان تُضفيان عذوبةً على وجهها.
بدَت غريبةً في وقفتها داخل محطة الأتوبيس، ليست غُربة المكان، وإنما غربة الملامح والزي الذي ترتدِيه، فستان فوق الركبة، أزرق، قصير الكمَّين، وحذاء مكشوف، وبيدِها مظروف ورقي.
أومأ لها برأسه، فصعِدت لتجلس مكانه. السيدة البدينة ارتمت على الكرسي بمجرد تخلِّيه عنه، فأفسدت كلَّ شيء.
علا صوتها بنبرة توبيخ: حجز الكراسي في السينما.
اكتفَيا بتبادُل نظرات الارتباك.
خلا الأتوبيس من مُعظم ركابه قبل محطة كوبري القبة. وجدَت مكانًا، وجلس إلى جانبها. فاجأته بالشكر، وبمُؤاخذتها للسيدة البدينة. ودَّعَتْه في محطة نصوح. تجدَّد — بعد أيام — لقاء المُصادفة. ابتسما بما يَعني تعرُّف كل منهما إلى الآخر، تشبَّثت بساعدَيه، وسبقَها في اندفاعهما وسط الزحام حتى جلسا مُتجاورَين.
قدم نفسه: ماهر فرغلي … مُوظف بدار المعارف.
همست باسمها: صوفيا جوتييه.
لاحظت أنه لم يلتقِط اسمها، وإن تظاهر بأنه عرفَه.
قالت في نبرة متباطئة: صوفيا ميكيل جوتييه … لكنهم في البيت يُنادونني سيلفي.
– مصرية؟
تنبَّه — في اللحظة التالية — لسُخف السؤال.
قالت في همسها: طبعًا.
ورفَّت على شفتَيها ابتسامة: هل أبدو أجنبية؟
حدَس أنها أجنبية. لم يتصوَّر — في حدسه — البلد الذي تنتمي إليه، وإن بدت غريبة عن المكان، كأنها تنتمي إلى عالَمٍ آخر.
أزاحت خصلةً مُتهدِّلة من شعرها جانبًا، وهي ترفع رأسها: ربما لأن أبوَيَّ من أصلٍ أجنبي.
تناثرت الكلمات، فعرَف كلٌّ منهما عن الآخر ما لم يكن يعرفه، اجتذبَه غياب التكلُّف عن كلماتها وهي تتحدَّث عن أُسرتها المُقيمة في الزيتون.
اكتفت بالتلميح في حديثها عن إخوتها. لم تذكر أسماءهم، ولا إن كانوا أكبر، أو أصغر منها. قالت: إخوتي، وواصلت الكلام.
حدَّثته عن أبيها النمساوي الأصل، وعن أُمها الإيطالية. كان أبوها رئيسًا لبنك باركليز، فرع بورسعيد، قتلَه المصريون في أحداث ١٩٥٦م. الأم أميرة إيطالية سابقة، لا تعي سيلفي أنها رأتها تُغادر البيت إلا لزياراتٍ متباعدة إلى شقيقةٍ لها في بولاق. لا تدري كيف التقَيا في مصر، ولا ظروف زواجهما، لكنهما أنجبا أربعة أبناء: ولدَين وابنتَين.
قال: ترفضون تحديد النسل … مثل المصريين.
كان يستنكر في نفسه سرعة الانفعال بما يدفعه إلى إبداء رأيٍ قد لا يتدبَّره، كلمات تسبق تفكيره. يؤلِمه الاستياء الذي تتقلَّص به الملامح، وربما العبارات الرافضة.
قالت دون أن تُجاوز هدوءها: نحن مصريون.
حدَّثها عن عملِه في قسم المراجعة بدار المعارف، يشغله منذ تخرُّجه في دار العلوم: ميزة عملِي أن مكتبي يطلُّ على النيل.
وهي تئِدُ ابتسامةً رفَّت على شفتَيها: هل تجلس للفُرجة؟
– لا بأس أن أُطل — وأنا أعمل — على منظرٍ جميل.
أشارت إلى مبنًى هائلٍ على تقاطُع سليم الأول وسنان: هذه مدرستي … النوتردام دي زابوتر.
قال: هل هي قريبة من البيت؟
– مجرد أن أعبُر الشارع.
– كانت دار العلوم قريبةً من بيتي.
كلَّمها عن أعوام دراستِه في دار العلوم، عن أساتذته؛ على الجندي، ومهدي علَّام وأحمد الحوفي وعمر الدسوقي وتمَّام حسان والطاهر مكي، قلَّد كلًّا منهم في مُحاضراته؛ المفردات، طريقة الكلام، ردوده على أسئلة الطلاب.
أصاخ سمعَه لحديثها عن أيام الدراسة: الدخول إلى الكنيسة قبل الحصة الأولى، البنات المُسلمات يقضينَ فترة ما قبل اليوم الدراسي في حوش المدرسة، الصلوات تستغرِق وقتًا أطول من وقت تلقِّي الدروس، الملابس البيضاء ترتدِيها الطالبات في المُناسبات الدينية، وفي الأعياد، يترنَّمن بالقدَّاس، وبالألحان الدينية، زيارات الآباء من معهد الدومينكان، والمطران من كنيسة البازيليك، استغناء مدرب الكرة الطائرة عن عضويتها لأنها أقصر مما يجِب، ادعاؤها ضرورة العودة إلى البيت — في أوقات الدروس الصعبة — لرعاية أُمِّها المريضة.
تهمس ضاحكة: أُمِّي مريضة بالفعل منذ أشهر!
لم تشغله — في البداية — طبيعة العلاقة، ما إذا كانت الصداقة الطارئة ستثبت في علاقةٍ دائمة. اطمأنَّ إلى أن الصداقة ستشهد نهايتها حين يسبِق أحدهما الآخر في النزول إلى المحطة التي يُريدها، لكنهما تأهَّبا للنزول في المحطة نفسها.
سارا متجاورين، تكلَّما.
تعدَّدت لقاءاتُهما على باب كنيسة اللاتين، في الْتقاء ناصيتَي طومانباي ونصوح، أمام سراي البرنسيسة، المُلاصقة لمدرسة النوتردام.
يهبط من الأتوبيس، على ناصية السور الخلفي لسراي الطاهرة، يمضي بقية الطريق على قدمَيه.
استمهلته — ذات عصر — قبل أن تميل إلى نصوح الهندي، ويُواصل السير في شارع السلطان سليم: قلتَ إنك خريج دار العلوم.
أومأ برأسه مؤمِّنًا.
قالت: أحتاج إلى دروسٍ في اللغة العربية، ستزورُنا لهذه الدروس.
استطردت لارتباكه الصامت: مجرد حيلة لاستضافتِك.
٢
عانى — لرؤية الرجل الجالس في الشرفة يُغني — ارتباكًا لم يُفلح — حتى أمام سيلفي — في مُداراتِه. تأمَّل اللحن، اجتذَبَه، وإن لم يفهم الكلمات.
– أبي.
ما عدا الأرض الخلاء في ناصية تقاطُع شارع نصوح، والشارع المُتفرع منه — لم يُعنَ بأن يسأل عن اسمِه — فإن البنايات تلاصقت في الشارع الصغير.
الفيلَّا من طابقٍ واحد، تُحيط به حديقة، الدرجات الرخامية الخمس، تصعد إلى الشرفة العريضة، المُمتدَّة بطول الواجهة، من خلال الباب الحديدي الخارجي، والعمودَين بمساحة المتر، يعلو كُلًّا منهما مصباح زجاجي مكوَّر.
الشرفة تطلُّ — من الواجهة — على الشارع الصغير، ومِن الجانبَين على الحديقة المتكاثفة الأشجار، الأرضية على هيئة مُربعات الشطرنج، تتناثر فوقها كراسي من الخيزران، تتوسَّطها منضدة ذات سطح زجاجي، السُّلَّم الجانبي مُتآكل، يهبط إلى البدروم، الصالة في مواجهة باب المدخل المتداخل الحديد والزجاج، الأسقف عالية، والجدران يُغطيها الورق ذو النقوش الملوَّنة، في مساحة الجدار المواجِه بوفيه من خشب الماهوجني الأسود، فوقه ثلاثة شمعدانات متجاورة من زجاج المورانو، وتماثيل صغيرة من الزجاج الملوَّن، يتوسط الصالة أنتريه مُطعَّم بالصدف من أربعة كراسي وكنبة، تتوسَّطه طاولة من الخشب المنقوش، عُلق أعلى الجدار صليبٌ فضي، إلى جانبه صور فوتوغرافية، ولوحات تآكلت حوافها. تتقابل الحجرات الأربع المُغلقة، عدا واحدة مواربة. الطرقة — إلى اليسار — تُفضي إلى حجرة خامسة، خمَّن أنها حجرة المائدة، وإلى الحمَّام والمطبخ.
يتنبَّه لترامي سقوط الثمار من أشجار الحديقة، وارتطامها بالأرض، تُعيده إلى نفسه، وإلى حيث هو.
عَلا صوتٌ بالسؤال من داخل الحجرة الأولى إلى اليمين: أُمُّنا مريضة وتُصرِّين على البقاء خارج البيت؟!
رجَّح — من الصورة التي رسمتها في ذاكرته — أن الصوت لأنطوان، شقيقها الأكبر.
اختلج صوتها: أبحث عن عمل.
– تستطيعين الانتظار.
استدرك بنبرة متأثرة: أُمُّنا تحتاج إلى رعايتك.
وهي تضغط براحتَيها على عُنقها: أحاول إنقاذ نفسي قبل أن أختنِق!
سبقت ماهر إلى الحجرة الثانية، على اليسار. الستارة القطيفة، الغامقة الزرقة، المُسدلَة على النافذة، تُعيق دخول أشعة الشمس، وإن أتاحت من الضوء ما يعين على الرؤية.
في الوسط منضدة صغيرة، عليها مجلات ومنفضة سجاير، وإلي الجانب مكتب صغير من خشب الأبنوس، وفي الزاوية دولاب بضلفةٍ من الزجاج، تكدَّست فيه كتب مجلدة.
بدت السيدة الراقدة على السرير — أدرك أنها أمها — مريضة، فلا تقوى على الحركة، العينان ساجيتان، والعروق خضراء تبين من وراء البشرة الأقرب إلى الصفرة، وهالة الشعر الفضي أضفت على وجهها سكينة. أدرك أنها كانت — في شبابها — ذات جمال رائق.
لم يستطع أن يُخمن عمرها، وإن بدت مُتعبة للغاية.
مالت سيلفي عليها، مسَّدت شعرها الأبيض المهوَّش، همست: هذا ماهر.
قالت — بلغةٍ لعلَّها الإيطالية — كلامًا كثيرًا، قدَّمتْهُ به لأُمِّها. فطن إلى أن الأم لا تعي كلماتها، ولا تعِي شيئًا.
تُبين الانفراجات بين الأشجار المُتشابكة عن أجزاء من البيت المُقابل. خلَت واجهتُه إلَّا من الطوب الأحمر، وإن وشَتْ بحداثة البناء، وخلَتْ مما اتسمت به فيلَّا جوتييه، والفيلات والبيوت القديمة، المُجاورة، من مَيلٍ إلى الارتفاع والنقوش والمُقرنصات. امتلأت نوافذ الطوابق الثلاثة العلوية بخزين الطعام وبقايا الأثاث، وتدلَّت قطع الغسيل من المناشر المُمتدة أمامها. نوافذ الطابق الأول مغلقة، وإن ترامى اختلاط نداءات وشتائم وأغنيات وصراخ أطفال.
عرف أن الأب خرج إلى المعاش بعد أن بدَّلت قوانين التأميم اسم البنك إلى بنك الإسكندرية. قدم من النمسا عقب الحرب العالمية الأولى، الْتحق — بالشهادة المتوسطة — موظفًا في بنك باركليز، تزوَّج ابنة رئيسِه الإيطالي، ترقَّى في وظائف البنك حتى حصل على حقِّ التوقيع، ظلَّ في فرع الموسكي منذ بداية تعيينه، حتى أُحيل إلى المعاش.
– لو أنَّ بنك باركليز لم يُؤمَّم، ربما ظل أبي في عمله.
– وسِن المعاش؟
فكَّرَت قليلًا: خبرتُه تعطيه الحق في تجاوزها.
هل نسِيَت — أو تناسَت — كلامها عن موته بأيدي المِصريين في معارك ١٩٥٦م؟ ما حكاية قتل المصريين للرجل في أثناء عملِه مديرًا لفرع بنك باركليز ببور سعيد؟ ولماذا نسجَت هذه الحكاية التي تبدو — من فتاة في سِنِّها — حقيقيةً وصادقة؟ لماذا اخترعت ما لا يُوجَد سبب لاختراعه؟ هل كانت تتصوَّر ابتعاده عن حياة أُسرتها، فأرادت استمالته بالحكاية الغريبة؟
كان يستطيع أن يسألها، أو يسأل نفسه: كيف يعمل الأب في بور سعيد، ويُقيم في القاهرة؟
خشِيَ أنَّ مجرد التلميح يكون طريقَ النهاية التي لا يرجوها. بدت سيلفي تكوينًا في صورة المُستقبل، ربما تقوَّضت الصورة تمامًا لو أنه جذب خيط السين والجيم، ربما قالت ما روَتْه لاختبار مشاعِره، أو لعلَّها أرادت — في البداية — أن تُبعِده عنها، ربما أي شيء سيتعرَّف عليه بتوالي الأيام.
وهو يُمسِّد شعرَه بأصابعه: أظنُّ أن تأميم الصُّحف أفادني.
شجَّعته — بإيماءة — على تكمِلة كلامِه.
قال: ضُمَّت دار المعارف إلى الأهرام، وسَّط أبي رؤساءَه في إدارة توزيع الأهرام، عُيِّنتُ بدار المعارف فور حصولي على ليسانس دار العلوم.
تكررت زياراتُه للفيلَّا حتى اعتادوا رؤيته، لا يعرف إن سألوا سيلفي عنه، أم أن هذا هو أسلوب حياتهم؟
كلَّمتْهُ عن مشوارها اليومي إلى وسط البلد. تبحث عن عملٍ بالثانوية العامة، لم تجِد في نفسِها ميلًا لدخول الجامعة، اقتصر بحثُها على الفنادق وشركات الطيران والسياحة. لو لم أجد سوى العمل في الحكومة، فسأظلُّ في البيت، ما أتقاضاه من أبي يوفِّر لي الحياة التي أُريدها، وإن كنتُ لا أتصوَّر أني سأظلُّ مع أنطوان في بيتٍ واحد (غالَبَ الحرجَ في أن يسألها، إنْ كانت قد صدَقَتْ في ما قالَتْهُ هذه المرة)!
وسَمَتِ العفوية كلماتها وهي تحكي مغامرتها الأولى في تدخين سيجارة. أطالت الوقوف داخل دورة مياه المدرسة، وتأكَّدت من زوال رائحة الدُّخان — تخشي أنطوان — في النعناع الذي مضغت أقراصًا منه.
لاحظ اهتمامها بما يَرويه عن المَواردي. تسأل ويُجيب، تستوضح، تُظهر التأثر والحزن والألم والإشفاق، تبتسِم، وتضحك، يعلو صوتُها بالتعليقات، المواردي لا يعرف الهدوء، اختلاط الصيحات والنداءات والضحكات، وضربات قطع الدومينو على طاولات المَقهى، أول الشارع — نصوح — يختلف، هو هادئ دائمًا.
روى لها عن صحوِه على أذان الفجر في جامع السيدة زينب، عبارات أُخته زينب المُحتجَّة حول من يملأ القلَّة الموضوعة على نافذة المنور، حِرص أبيه على أن يكشِف أغطية الأواني، يتذوَّق ما فيها من طعام، صرخة أُمِّه للمساحيق التي غطَّت بها شقيقتُه الصغرى هناء وجهها، ضحكة هناء لتهديد الأم: إذا فعلتِ ذلك ثانية فسأضربك! كلمات أبيه عن تحسُّن صحَّته بعد أن اختار الذهاب — سيرًا على القدمَين — إلى عملِه بإدارة التوزيع في «الأهرام»، بدلًا من ركوب المُواصلات، مشوار لا بأس به من المُنيرة إلى شارع مظلوم.
تحولت الابتسامة إلى ضحكة — لم يقوَ على إسكاتها — حين استعاد ما قالته أمُّه: لن نستطيع استضافة فتاتك، هي خواجاية من الزيتون، ونحن أولاد عرب من المواردي!
استيقظ ذات صباح، وجدَها ترنو إليه من سقف الحجرة.
عرف أنه أحبَّها!
هل تُحبه؟
•••
يجيش في نفسه الشوق لرؤيتها؛ وهو في مكتبِه المُطل على النيل، وهو يُراجع بروفات الكتُب، وهو يركب الأتوبيس في تنقُّله بين دار المعارف وبيوت المؤلِّفين، وهو يجلس إلى أُسرته في حجرة القعاد.
مثلت في حياته ما لا تُمثله زميلات دار المعارف، ولا بنات الجيران، ولا البنات القريبات، ولا حتى أُخته زينب التي يعدُّها صديقةً حقيقية.
لم تعُد صورتها تُفارق عينَيه، ولا يُفكر في غير الأوقات التي يقضيها إلى جانبها، في البيت، أو في الشارع، أو في «أسترا» على ناصية ميدان التحرير وشارع محمود بسيوني، هو أنسب الأماكن للجلوس بعيدًا عن الأعين، وإن حرَصا على الابتعاد عن حركة الطريق، يغيبان عن بعضهما يومَين، أو ثلاثة، فلا يشعُر أنهما افترَقا لحظة.
اجتذبتْه بما يصعُب عليه تحديده، آفاق لا حدود لها، ربطتْه بقيودٍ خفية، لا يراها، لا بدَّ أن هذا هو ما تشعُر به.
هو يُحبها، ويعرف أنها تُحبه.
روت عن مشاهداتها المُتباعدة لعروض الأوبرا الأجنبية، تنزل من الأتوبيس في ميدان العتبة، تخترق زحام شارع الموسكي، إلى مبنى بنك باركليز، بالقُرب من بداية الشارع، تنتظِر أباها حتى موعد انصرافه، ساعةً أو أقل، يصحبها في الطريق نفسه، يعبُران الميدان: قسم شرطة الموسكي، ومبنى المطافئ، والبريد المركزي، إلى ميدان الأوبرا. تعرف أن تمثال إبراهيم باشا — فوق جواده — قُبالة باب الأوبرا، شاهدت عروضًا إيطالية وفرنسية، ردَّدت مع أبيها — في طريق العودة — ألحانًا ممَّا استمَعا إليه.
حدثته عن سيمفونيات سترافنسكي وبيتهوفن وموزار وباخ وواجنر. استعاد الأسماء، أو تظاهر بأنه يعرفها.
قال: أُحبُّ الغناء من أبيك، لكنَّني لا أُحب عروض الأوبرا، لا أفهم الكلمات، وأجد في الألحان مجرد زعيق!
ورفع راحتَيه كالمعتذر: أُفضِّل أن أكون صادقًا في ما أتذوَّقه، ولا أنساقُ إلى ما لا أفهمه!
اتجهت بنظرِها إلى الأرض تُداري ابتسامة: ليس الأمر صعبًا إلى هذا الحد!
وعدَّت بأصابعها: مجرد أربع حركات موسيقية، لو أنك أعطيتَها اهتمامك، فستجد فيها ما يستحقُّ السماع.
وضغطَت على الكلمات: لو أنك تنبَّهت، ربما تُبدِّل رأيك.
– الموسيقى الشرقية هي التي تجتذِبني، تُطربني، لا تُعادلها عندي موسيقى أخرى.
تمنَّى لو أن فمَه ظل مغلقًا، يؤلِمه أنه — إذا تحدث — قال كلامًا سخيفًا، وبلا معنى. لم يكن يُحسن التعبير عما في نفسه، أو يُخفيه.
روت حلمًا ثبت في ذهنها: وقفت — متحيرة — أمام طريقَين، تُظلِّلهما أشجار مُشابِهة لأشجار حديقة الفيلَّا.
عادت من أحد الطريقين، بعد أن تساقطت — بمجرد الخطو — أمطارٌ طينية، اصطبغ بالسواد جسدُها، وما عليها من ثياب، وضعت قدمَها — بالخطوة الأولى — في الطريق الثانية، تشجَّعت — بالأوراق الخضراء المُتساقطة — على مواصلة السير.
رأت — في نهاية الطريق — شخصًا يُشبِهه. تأملتْه، هو نفسه من كان يقف تحت شجرةٍ هائلة، تماثل أشجار الحديقة.
مدَّت ذراعيها، تُحاول التأكُّد ممَّا رأته.
صحت على لكزة دومينيك المُترفقة في كتفَيها: من تُكلمين؟
شيءٌ ما في نبرة صوتها دفعَه — بينه وبين نفسه — إلى استعادة ما قالَتْه: هل رأتْ حلمًا، أو أنها تُومئ بما تصوَّرت أنه لا يشغَله؟
•••
ناوشَه السؤال، وإن خنقَه في داخلِه: هل عرفت شبَّانًا قبلَه؟
فطن إلى أنه ليس أول من عرفته، وشَتْ تصرفاتها بما حاولت إخفاءه، بدت الآفاق — بمجرد التلميح — غير واضحة، وقد تُطالِعه بما يُبعدها عنه.
يضايقه الكثير من تصرفاتها، وما ترويه، لكن شيئًا غامضًا يربط بينه وبينها، ليس الحُب وحدَه، لكنه شعور بالأُلفة والطمأنينة.
كان يمنِّي نفسه — قبل أن يلتقي سيلفي — بعلاقة حُب. لم يرسم للفتاة ملامح في ذهنه، ولا تصوَّر كيف تبدأ العلاقة، ولا كيف تنتهي.
٣
أهمل السؤال: كيف دخل عيَّاد حياتهم؟
وجدَه يجلس — فترة بعد الظهر — إلى دومينيك، يُكلم سيلفي وجان، تتَّسِم عباراته بالأُلفة، وما قد يبدو جرأة، أنطوان — وحدَه — بدا أنه لا يُطيقه.
في حوالي الثلاثين، قمحيُّ البشرة، أوضح ما يُميزه شعر أكرت، وعينان بُنيتان، لامعتان، وأنف مُتضخم، وشفتان مُمتلئتان، أمْيَلُ إلى الهدوء، لا يُبين عن حقيقة مشاعره، ولا يبدو عليه التأثر، ولا الانفعال بما يُوجِّهه إليه أنطوان من أسئلةٍ وملاحظات، ولا ما يتشابك أمامَه — أحيانًا — من مناقشات بين أنطوان وجان. عدا أحاديثه الهامسة مع دومينيك، فإنه يظلُّ صامتًا، لا يتكلَّم إلَّا ليُلقي سؤالًا، أو لِيُجيب عن سؤال.
العربية لغة الأسرة مع ماهر وعياد، وإن لجئوا — فيما بينهم — إلى لُغتَين، عرف ماهر من سيلفي أنهما الفرنسية والإيطالية.
لم يكن عيَّاد يُغير كرسيه في زاوية الشرفة التي تقِف على أعمدةٍ حجرية، تطلُّ واجهتها على الشارع، ومن الجانبَين على الحديقة. معظم وقت الزيارة تُبادله دومينيك مناقشات هامسة، كأنهما يتكلمان عن أسرار لا يريدان لأحدٍ أن يعرفها، تومِئ دومينيك لعيَّاد مُستأذنة، تتنقَّل داخل الفيلا، ما بين الصالة، والحجرات الخمس، والمطبخ، والحمام. لتجديد هواء حجرة الأم، تحرِص — في أوقاتٍ متقاربة – على فتح النافذة، بينما تظل الستارة مُسدلة، تُنهي ما تنشغل به، تعود إلى الأحاديث الهامسة.
ربما اختار ماهر الجلوس في طرف الشرفة، يتشاغل بالتطلُّع إلى حركة الطريق الهادئة — ساكنة تمامًا في معظم الأوقات — من خلال الفروع والأغصان والأوراق.
كان عيَّاد يتَّجِه بأسئلةٍ متباعدة إلى المسيو ميكيل. طلب نصيحة أنطوان في نقودٍ يريد إيداعها البنك، واجهه بعينَين تطلبان النصيحة، بداية مُناقشة قد تُخرِج أنطوان عن صمته.
قال أنطوان وهو يُشير إلى الحجرة اليمنى: جان.
عرف عيَّاد أنه يريد أن ينقل له شعورًا بعدم رغبتِه في الكلام.
قد يُفاجئه أنطوان بملاحظة، يهملها، أو يحاول — في كلمات قليلة — توضيح موقفه.
لم تنشأ بينه وبين ماهر علاقة من أي نوع، لا صداقة ولا عداوة. كان يعبُر ماهر بنظراته. إذا التقت النظرات، اكتفى بإيماءة، وإن تحدَّثا — في أوقاتٍ قليلة، مُتباعدة — عن ظروف عملِه في دار المعارف، ومخاوف عياد من قوانين التأميم — عرف أنه يُشرف على مصنع صغير للنسيج بالوايلي، وأن تردُّده على البيت بدأ لمراجعاتٍ حسابية أجراها له المسيو ميكيل — وأحوال الجو، ومباريات الكرة.
ضايق أنطوان أن دومينيك لم تبتعِد عن عيَّاد حين أظهر مُعارضته لزواجهما. أظهر ضِيقه — ذات عصر — وهو يخترِق الردهة إلى داخل البيت، لم ينظر ناحية دومينيك وعيَّاد في جلستهما داخل السور المُطل على الحديقة.
أشار لها من حجرة الصالون.
واجهتْه بعينَين زرقاوَين، واسعتَين، قلِقتَين، ووجهٍ صبغته الحمرة، وشفتَين مُرتعشتَين، وعروقٍ نافرة في عنقٍ شَبيهٍ بعُنق الغزال.
عدَّلَت — بعفوية — الإيشارب الحرير الذي أحاطت به رأسها، والفستان الشيت المُزيَّن بزهورٍ ملوَّنة، والشبشب المَنزليَّ الذي أخطأت فيه مَوضِع قدَمَيها.
قال في صوت تعمَّد أن يكون مرتفعًا: هل تَجدِين أن هذا الرجل يُناسِبك؟
– ما يعيبه؟
– هل هو مِن بيئتنا؟
– لا أجد فيه إصبعًا ناقصًا، ولا أجد فيه إصبعًا زائدًا.
وهو يُحرك قبضتَه أمام وجهها: أمرتُك ألَّا تُصادقي شابًّا من غير دِيننا!
– هو صديق أبي وصديقي … وخطيبي أيضًا.
وزفرت في ضيق: وهو مسيحي، اختلافه في المذهب.
وشَت لهجتُه بالحسم: نحن كاثوليك.
وزاد ارتفاع صوته كأنه يصرخ: هل ضاقت بك الدنيا؟!
ثم من بين أسنانه: أنا لستُ روفيانو (عرف ماهر من سيلفي أن الكلمة تعني القوَّاد)!
ارتجفت شفتاها، همَّت أن تقول شيئًا يُعبر عن الرفض، أو الغضب.
غالَبَت حشرجة: كُفَّ عن هذا الكلام!
شعرت أنه ليس لدَيها ما تُضيفه، فظلَّت صامتة.
ظلت دومينيك تستقبل عيَّاد، يجلسان في الشرفة الدائرية، الواسعة، المُطلة على الشارع، أو في الصالة، يتحدَّثان، ويتهامَسان، حتى يتقدَّم الليل، فينصرف.
تعرِف دومينيك أن الجرأة لا تنقُصه، باح لها بخشيته أن يفقِدَها، يمنعه أنطوان من دخول البيت فلا يلتقِيان، لن تُتاح له فرصة اللقاء في الكنيسة، أو سوق الخضر، أو الطريق. هذا هو عالَمُها، يصعب أن تجد فيه لحظاتٍ تُنصِت إليه، ترد على أسئلته، تأخذ منه وتعطي.
لم يكن يأخُذ مع سيلفي أو يعطي، مجرد كلمات مُجاملة، يتَّجه كلٌّ منهما بكلامه إلى دومينيك. مرة وحيدة، أبدي ملاحظة حول الحرية التي تنطلِق فيها سيلفي دون أُفق، ردَّد كلمات من صلاة الشكر: «من أجل هذا نسأل، ونطلُب من صلاحك، يا مُحب البشر، امنحنا أن نكمل هذا اليوم المقدس، وكل أيام حياتنا، بكل سلام، مع خوفك، كلُّ حسد، وكل تجربة، وكل فِعل الشيطان، ومؤامرة الناس الأشرار، وقيام الأعداء الخفِيِّين والظاهرين».
ومضَ الغضب في بريقِ عينَيها، ورفعت كتفَيها، ومضت إلى الداخل.
•••
قال أنطوان لأُمِّه في لحظات إفاقة: نحن نحرص على زيارة الكنيسة، ونُهمل إقامة الشيطان في بيتنا.
أضاف للحيرة في عيني الأم: أري التصرُّفات، لكن الشيطان يَختفي حيث لا نراه! اكتفت السيدة كاترين بنظرةٍ ساهمة. بعد أن أوقفت دومينيك عن الدراسة، صار زواج الابنة — وحده — شاغِلَها، تملَّكها القلق لتأخُّر زواج دومينيك، خشِيَت أن يُقعدها المرض، لا يتقدَّم لخطبتها أحد، تظلُّ العمر عانسًا.
٤
تدخل الكنيسة في طريقها إلى شارع نصوح، تصرُّ السيدة كاترين أن يتردَّدوا على الأب يُوحنا، في عودتهم إلى الفيلا، تعبُر الحديقة الصغيرة ذات السور الحديدي، وأشجار البانسيانا العالية، إلى صحن الكنيسة، والأبواب الخشبية الثلاثة، باب كبير يتوسَّط بابَين صغيرَين، تصعد إليها ثلاث درجات رخامية.
الخادم مشغول في نفض الغبار عن الأيقونات والصلبان المُعلقة على الجدران.
تُشعل شمعة، وترسُم الصليب على صدره، وتؤدِّي — بتمتمات — بعض الصلوات والأدعية، تجثو على سجادة الركوع، تستغرِق ملامحها في الترتيل.
قال الأب لدومينيك: لك صوت جميل.
وواجهها بنظرة متسائلة: لماذا تتكاسَلين عن الترنُّم في الكنيسة؟
أقعدتها أمُّها في البيت، أعدَّتها لبيت الزوجية، علَّمتها الجلوس على ماكينة الخياطة، وتطريز الستائر، والغسيل، والكي، والطبخ، وصُنع الحلوى، تشغل نهارها، ووقتًا من الليل، في العمل، تكنس، وتمسح، وتغسل، وترتب، وتُنفِّض.
تُواظِب على القدَّاس اليومي، تحرِص أن تجلس في الصفوف الأولى، تُتابع القدَّاس بخشوع، تُكثر من الجلوس أمام كشك الاعتراف، ربما حضرت صلوات المساء.
قبل أن يتردَّد عياد على البيت وتطمئنَّ إليه، كانت تُحرِّم على نفسها مجرد النظر إلى أي شاب، ولو بجانب عينِها، ولو باللمحة.
لم تكن تُسامح نفسها إذا تحرَّكت مشاعرها لرؤية شاب، تلتقِيه في الطريق، أو في سوق الخضر، يطلُّ من نافذة، أو يقِف داخل دكان، تظلُّ الملامح في بالِها، تعرف أنها أخطأت بما يَستدعي الاعتراف، ترسُم علامة الصليب، وتُسرع خطواتها إلى الكنيسة، تزور الأب يوحنا في حُجرته، أو تضغط على جرس الاعتراف، لتروي.
تكوَّن — في داخلها — إحساسٌ بأنها تمتلِك من الحصانة ضدَّ الإثم ما يُعينها على مواجهة أية مُغريات.
أقسي أيامها حين يُداهمها صُداع، أو وجع في جنبِها، يُداخلها معه حُزن لا تدري مصدره، تُطيل النظر إلى السماء، كمن تُناجي الظلمة والقمر والنجوم والسُّحب، تضيق بالأسئلة والمُلاحظات، تلزَم حجرتها، لا تُفارقها إلا لدورة المياه، يدفع من يتصادف وجوده الباب الموارب حين يعلو صراخُها، ألِفوا سيطرة نوبات التشنُّج عليها، تُعاوِدها على فتراتٍ متباعدة، تتطوَّح ذراعاها وقدماها، وتتَّسِع عيناها، وتتصلَّب، ويسيل الزبد الأبيض من جانبي فمِها. تظلُّ في تشنُّجها وهي بين ذراعَي أنطوان أو جان، لا يتركها إلا بعد أن تهدأ.
لم تعُد الأدوية تُعيدها إلى حالتها.
رفض أنطوان نصيحة الشيخ جميل غازي إمام جامع العزيز بالله بأن يُقام لها زار. لم يفهم المعنى في البداية، ثم رفضه تمامًا.
– هذه طقوس إسلامية!
– ما يُهمنا أن تخرج الجان من جسدها.
– الجان؟!
ثم وهو ينفض رأسه: لا أومن بهذه الخرافات!
اعتادت التردُّد على الكنيسة، والصلاة فيها، صباح كلِّ أحد. تظلُّ إلى ما بعد انصراف الجميع، يَستقبلها الأب بابتسامةٍ مُرحبة، يسألها عن الأسرة، يعرف أفرادها بالاسم.
عرفت من الأب سِر القربان المُقدَّس، وسِر الزيت المقدس، وسر التعميد، وسر المناولة … أسرارٌ كثيرة حدَّثها عنها الرجل.
لا تكتفي بالأحد يومًا واحدًا تزور فيه الكنيسة. ربما تردَّدت عليها مرة أو مرتَين في اليوم الواحد، تشعُر بالضيق، أو بالوحشة. ترتدي ما تصل إليه يدُها، وتمضي إلى الكنيسة. تنتظِر فراغ الأب مما يشغله، يَهبُها إنصاته، ثم يُشير عليها بما ينبغي أن تفعله.
أودعت الأب كل أسرارها، لم تعُد تُخفي شيئًا، حتى العلاقة بين إخوتها بعد رحيل الأبوَين، روتها له، وطلبت نصيحته. أظهرت تخوُّفها من سعي أنطوان لبيع الفيلَّا قبل أن يُهاجر إلى أمريكا، ساعدها عياد في منعه من تحقيق غرضِه.
تلقَّت ماء التعميد على يدِ الأب يوحنا.
عندما طلب الأب أن تُسمَّى — عند التعميد — كريستينا، رفضت الأم، وأصرَّت على تسمية دومينيك.
ألِفَت قُدَّاس الأحد: المَجامِر والتراتيل والصنوج والترانيم والبخور ذو الرائحة المُميزة والدكك الخشبية والصلاة وتناوُل الخبز السماوي ولذعة النبيذ وطبق العطاء.
كان الأب يُوحنا على ثقةٍ من أن الخالق يساعد العباد على أمور حياتهم، وما يطرأ من مشكلات، وكان يرفض النذور والقرابين، يرى أن أفعال المرء هي طريقه إلى الجنة، أو النار.
يعرف بيوت الأُسَر الكاثوليكية في الزيتون، ويعرف أحوالهم، والمشكلات التي يُواجِهونها. لا تقتصر معرفته على ما يفضُّ به المُتردِّدون على الكنيسة عن أنفسهم، وراء الستارة المُسدلة، هو يزور البيوت، ويُكلِّم من يلتقي بهم في الطريق، ويلحظ الغائبين، ويدعو الجميع، فيَزورونَهُ في الكنيسة. يُسأل، ويُجيب، ويناقش، ويبذل النصيحة. إذا تأخَّر أحد المتردِّدين على الكنيسة عن قداس الأحد، قرع الأبُ باب بيتِهِ في يومٍ تالٍ يسأل عن السبب. يعيب على الكاثوليك من أبناء الزيتون أنهم يُهمِلون تعميد أبنائهم، ولا يُعنَون بالتردُّد على الكنيسة — دومينيك استثناء جميل — وأداء طقوس الدِّين، أو يتردَّدون على الكنيسة لمجرد أداء الواجب، ربما ترك الكنيسة إلى بيتٍ ينتظره فيه من يعوزُه القربان المُقدس، أو سماع الاعتراف، أو تلقِّي المسحة الأخيرة.
يقبل الهدايا للكنيسة، ويرفض الهدايا لنفسه: لا أُحب أن أقف في موضع الحرَج!
•••
ظل الأب صامتًا، يحمل في يده المرشة المضمَّخة بالماء المقدس، يحرص أن يلزم الجميع الصمت أوقات القداس، حتى السعلة، أو العطسة، يتَّجه ناحيتَها بنظرة غاضبة، يغيظه الكلام داخل الكنيسة، وعدم الإنصات إلى عِظاته، أو إلى طقوس الصلاة.
الصولجان المُذهَّب يُحيط برأس الأب، يستعيد إكليل الشوك على رأس تمثالِ المسيح في مدخل الكنيسة، وإن خلا من إيحاء وجود الدم.
استقر الحضور على الدكك الخشبية. الشمامسة الصغار يُرتلون الترانيم، ويهزُّون مَجامر البخور، أصداء الترانيم تتردَّد في الأسقُف العالية المُتداخِلة والجدران، كورال الكنيسة يشدو قدَّاسًا بموسيقى باخ وموزارت وبوتشيني.
خفض الحضور الرءوس، وشبكوا الأيدي على الصدور.
هذا هو العالم الذي تُحبه: المذبح، وتضوُّع البخور، وصليل الأجراس الصغيرة، أردِية الكهنة الفضفاضة يختلِط فيها الأبيض بالبُني، وتُحيط بها — في المناسبات — الخيوط المُذهبة، والعصا العاجية ذات القبضة المُذهبة، والشموع المضاءة، وعزف الأورغن، وتراتيل الجوقة، وأصوات المُصلين المتناغِمة، والعيون المُسبلة، وعلامة الصليب، والتمتمات، والألحان السماوية، وترتيل الآباء والشمامسة، والقربان المُقدس، والزيت المُقدس، والمعمودية، والمناولة المباركة، وصلاة السبحة، وصلوات الغروب، والتاسوعات، وطقوس التبخير، والرنو إلى المغفرة.
مالت إلى حجرة الأب في يسار الواجهة. اعتادت الرائحة العتيقة، لا تدري مصدرها، ولا تستطيع تحديدها.
الصليب يعلو الجدار، وتمثال العذراء تحمِل المسيح، وعلى الأرفُف تماثيل صغيرة لقدِّيسين وشموع ومباخر، تُقبل يدَه، وتُنصت إلى دعواته ونصائحه: عندما نتقبل صوت الله، فإن الله يجتذبنا نحو المسيح … تناوُل القربان المُقدَّس والصوم والإخلاص في التوبة يُوصلنا إلى اكتشاف يسوع المسيح … علينا أن نكون شاهدِين للمسيح، نُعطيه كل شيء … حتى حياتنا … علينا أن نتأسَّف عن قبائح تصرُّفاتنا وكلماتنا ونُدينها … عندما نتقبَّل صوت الله فإن الله يجتذِبنا نحو المسيح، الأب والابن والروح القدس، الخالق الأزلي، الأبدي، المالئ كلَّ مكان، العالِم بالأسرار قبل كونها … كيف نخشي التوبة وقد أنقذنا الله من سلطان الظُّلمة، ونقلَنا إلى ملكوت ابن مَحبته؟ … احتمِي بالمسيح، وتشبَّثي بنعمتِه، وقوة دمِه الغفورة.
قالت دومينيك للأب يوحنا: ارتكبتُ خطيئة.
قال الأب: افتحي باب قلبِك لأن المسيح واقف على الباب يطرُق.
واحتضنها بنظرةٍ مُشفقة: أن نعترف بخطيئتا، فهذه بداية صحيحة.
واتجه إليها بنظرة متأمِّلة: هل هي خطيئة جسدية؟
وهي تُغالِب شعورًا بالأسي: ربما.
– كيف؟
تعمَّدت أن يعلو صوتُها لتقضي على التردُّد في داخلها: تركت يدي للشابِّ الذي أعرِفه … ظلَّ يضغط عليها، ثم تركَها.
أردفَت وهي تُعاني الانفعال: شعرتُ أني مُوافِقة.
– لعلَّه كان خائفًا.
ثم في نبرة مهونة: هل هو خطيبك؟
– ينوي خِطبتي.
وتهدَّج صوتها بالانفعال: قال إنه يُحبني.
– ما فعله ليس حبًّا.
وظلَّ على نبرتِه المهونة: إحساسُنا بالذنب والخطيئة يُقربنا من هاوية العقاب إلى حياة النعمة.
همست لتُخفي التوتر في صوتها: أرجو ألا تبوح لأُمِّي بما رويتُه لك.
رفع حاجبيه: هل رويتِ لي شيئًا؟
وهي تُشير إلى الكشك الخشبي في مدخل الكنيسة: ما رويتُه لك الآن.
اعتادت التردُّد على القس في الكنيسة، يجلس في الكشك الخشبي ذي الستارة من القماش السميك، يُنصت إلى اعترافها، إلى ما تَرويه عما تري أنه خطايا ينبغي أن تستغفِر عنها، تثِق أنه يعرف أنها تعرف صوته.
هز رأسه دلالة الفهم: أنت لم تقولي … وأنا لم أستمع.
أشاح بهيئةِ من لا يَعنيه الأمر: للكنيسة قوانين … وهي تحظُر على الكاهن أن ينقل ما استمع إليه من أصدقائه.
وفاضت ملامحه بالإشفاق: الكنيسة ليست للخاطئين ولا للمؤمنين، إنها لكلِّ رعاياها.
٥
مال من شارع نصوح الهندي إلى شارع السلطان سليم.
كانت الكنيسة تُلقي ظلَّها على الشارع، يمتدُّ إلى الناحية المقابلة، حتى بداية الطريق إلى محطة الزيتون.
تجاوز باب الكنيسة الحديدي المفتوح، وواصل السير في السلطان سليم. ألِف قدَّاس الأحد: المجامِر والتراتيل والصنوج والأرغن والترانيم والشموع وتضوُّع البخور ذي الرائحة المُميزة والماء المُصلَّى عليه وصلصلة الجرس والأيقونات وتراتيل الشمامِسة والدكك الخشبية والصلاة وتناول النبيذ وقضم الخبز السماوي.
الأب يرتدي لِباسَه الكهنوتي، وثمَّة صليب خشبي يهزُّه في يدِه، يعِظ، وينصح، ويتحدث عن المسيح والعذراء مريم، وعن فعل الخير والخطيئة والحياة الآخرة والثواب والعقاب والجنة والنار، يتأمَّل الوجوه من حوله، يعرف مُعظمها، وتغيب عنه معرفة القليلين.
كان يجد في قُداس الأحد مناسبة للالتقاء بالأصدقاء، بالذات من يقطنون بعيدًا عن الزيتون، يُطيلون الوقفة — بعد انتهاء القداس — في الساحة الصغيرة أمام الكنيسة، وعلى الرصيف. تلتقي الخيوط في أسئلةٍ وأجوبة ومناقشات، يتناقَصون حتى يعود الهدوء إلى الكنيسة، وما حولَها.
كرِه عظاتِ الأب ونصائحه وتحذيراته، أحاديثه عن الله والتوبة والجنة وعذاب الآخرة، مُشكلة الأب أنه يُقدِّم على مائدة كلماته طعامًا وحيدًا، لا يُبدله. مهما بدا الطعام لذيذًا، ومُستساغًا، فإن توالي تقديمِه قد يُصيب النفس بالصدود: لا تفعل … لا تفعل … لا تفعل. الناس — خارج الكنيسة — يتصرفون بعكس ذلك، لن تَبني الأخلاق الطيبة حياته.
تأمَّلت دومينيك جسدَه النحيل، ووجهه الأبيض المسحوب، المليء بالنمَش، وحاجبَيه الملتصقَين في منتصف الجبهة، وعينَيه البُنيتَين، السريعتَي الحركة، وابتسامته الدائمة كأنها جزء من ملامحه، وحِرصه أن يرتدي ثيابًا زاهية الألوان: جان … هل تؤمِن بالله؟
واجه نظرتَها المتوجِّسة بابتسامةٍ متوددة: هل تَشُكِّين؟
ضربت الأرض بقدمَيها: لا ترد على سؤالي بسؤال، هل أنت مُؤمن بالله؟
– طبعًا، وإن كان لي مُلاحظاتي حول تصرفات القس.
ووشَی صوته بعصبيةٍ واضحة: إنه يفرض الوصاية على حياتنا.
رمقَه أنطوان بنظرةٍ مرتابة.
قال: أنا أومن بالله، ولستُ في حاجةٍ إلى أحدٍ لتأكيد هذا الإيمان.
وعبَر الصمت الذي حل فجأة: في رأيي أنَّ الكنيسة مجرد وسيلة لجباية الأموال!
حين رسَم علامة الصليب على وجهه وصدرِه، قال لنظرة أنطوان المُتسائلة: أنا أدعو أَبانا الذي في السموات.
ورحلت نظراته إلى بعيد: ثُم أتُبِع دعائي بدعاءٍ آخر … أن يظلَّ فيها.
دارى أنطوان قلقَه بابتسامةٍ فاترة: مَن هو؟ ومن هي؟
وهو يُطوِّح قبضته: إلَه السموات … أدعوه أن يظلَّ فيها.
قال أنطوان: أنت قليل الأدب.
اعتادت الفيلَّا خلافاتهما. تعلو الأصوات، تتكوَّر قبضات الأيدي، تتقلَّص الملامح، لكن الهدوء ما يلبث أن يُحيط باللحظة المُتوترة، فيُودِعها الصمت.
قال جان: أنا أقول رأيي.
ورسم على شفتَيه ابتسامةُ باردة: للمسيح عالَمه … ونحن لنا عالَمنا.
وشوَّح بظهر يدِه: ليأخُذ الله شموعنا وصلواتنا، وليترك لنا حياتنا نعيشها.
ثُم وهو ينهي المناقشة: هل أُذكِّرك بقول المسيح: مَملكتي ليست من هذا العالَم!
اعتاد التردُّد على الكنيسة، يحضر القداس، يتلقى القربان المُقدس، يؤدي الصلوات، يرسُم علامة الصليب، يُشارك في حفلات عقد القران، ربما شارك في أداء الترانيم، أو قرْع الجرس، أو جال بالمبخرة في زوايا الكنيسة، يُسيطر عليه شعور بأنه يفتعِل ما يؤدِّيه، لا يُمارس شيئًا حقيقيًّا، هو يُردِّد أقوالًا، ويُقلد حركاتٍ لا يفهمها، أو لا يثِق بجدواها، وإن انسجمت مَشاعرُه مع ألحان الأرغن.
عابَ على معظم المُتردِّدين على الكنيسة أن عبادتهم تقتصر على الترنُّم بالألفاظ: أذهب إلى الكنيسة، أُصلي، وأُردِّد الأدعية والأناشيد، دون أن أعرف لماذا أفعل ذلك؟!
وقلب شفتَه السُّفلى: الله يعرف ما أُريده، فهو لا يحتاج إلى صلواتي وأدعِيتي!
قال لأبيه وهو صغير: هل نحن أقباط؟
– لا … نحن كاثوليك.
– ما الفارق؟
– الأقباط مِسيحيون مِثلنا … لكننا نختلِف في المذهب.
– ماذا يعني المذهب؟
– طريقة تديُّنهم تختلف عن طريقة تديُّننا.
كان يُشارك في أداء القداس دون اعتقاد، ولا إيمان حقيقي. لم تكن الصلوات تعني له شيئًا، أي شيء، هي مجرد كلمات مكررة، وأدعية، تردِّدها الألسنة — بآلية — وراء الأب يوحنا، يُسلم نفسه إلى الشرود، يبدو عليه الضيق والتملمُل، يُكثر من التلفُّت وتأمُّل سقف الكنيسة، وزواياها، والنوافذ الزجاجية المُلوَّنة، الضوء الشفيف يفترِش مساحاتٍ أمام المذبح، وثمَّة تمثال ليسوع شِبه العاري، مصلوبًا، على رأسه إكليل الشوك، وفي جنبِه الطعنة الدامية، المُرتلون يؤدُّون الصلوات، ويتلُون المزامير والأدعية.
يستعيد — وهو يصلي — عباراتٍ كان يُرددها وراء الأب في الكنيسة، أو استمع إلى أمِّه وهي تقولُها تحت صورة العذراء.
يري أن الكنيسة تبسط ظلَّها على البيت.
جعلت أمُّه من البيت فرعًا لكنيسة اللاتين، تحولت إلى قسٍّ يرعى، وينصح، ويُوجِّه، ويُحذر من العقاب، تحاول أن تؤدي الدور نفسه الذي يؤديه قسُّ الكنيسة.
لا يعبأ بالتحذيرات التي تُوجهها له الأم في سلوكياته داخل الكنيسة. يُبدي الملاحظات، ويتحدَّث، ويعلو صوته، ربما تسللت نظراته إلى فتاةٍ بين المصلِّين.
هو يتردَّد على الكنيسة، يعترف، يحضر الصلوات. لكنَّ الصِّدق يغيب عن مشاعره، تصرُّفاته لا تصدُر عنه، يُصلي دون أن يُعطي الكلمات انتباهه، مجرد كلمات يُرددها دون أن يعي معانيها.
يميل — بالعادة — إلى حُجرة الأب في يسار الواجهة. الصليب يعلو الجدار، وتمثال العذراء تحمل المسيح. يُقبِّل يده، ويستمِع إلى كلماته المُتكررة عن مهمة الكنيسة، واللاهوت، وحثِّه له على حضور اجتماعات الصلاة وحفلات القُداس.
قالت السيدة كاترين: إذا كنتَ تُنكر الله، فاحتفظ بعدم إيمانك في نفسك!
يؤمِن بالمسيحية، بالآب والابن والروح القدس، لكنه لا يؤمِن بالكنيسة، تعاليم الكنيسة التي لا تنتهي تجعل قَبولها صعبًا، حتى مَن يرضخون، يدفعهم إلى القبول تديُّن يُهمل الوصايا والتنبيهات والمحاذير.
ماذا يريد الله منَّا؟ هل نعبُده؟ وما حاجته إلى عبادتنا؟ أليس هو الذي خلق الكون، ويتصرَّف بالحياة والموت؟ وإذا كنَّا — كما يقول الأب يوحنا — أبناء الله، فهل يؤذِي الأب أبناءه الخاطئين؟ وما الخير؟ وما الشر؟ ولماذا لا تقضي إرادة الله بمحو الشر؟ ألقى نظرةً على الكرسي الذي يجلس وراءه الأب لسماع اعترافات المُتردِّدين على الكنيسة. استعاد أُمنيةً قديمة أن يجلس موضع الأب، يُنصت إلى عشرات الحكايات التي تُلهِب خياله.
قال الأب يوحنا: ذُكر في الكتاب المقدس: من لطمك على خدِّك الأيمن، فحوِّل له الأيسر.
قال جان: هذا ما يقوله الإنجيل.
أردف من بين أسنانه: أمَّا أنا … من يخدشني أُسيِّح دمَه!
٦
أدركت — حين مالت على أمِّها لتقبلها — أنها لم تتعرَّف إليها. ومضت عيناها ببريقٍ خاطف، ثم أسبلت جفنَيها، وظلَّت صامتة.
قالت: أنا سيلفي.
قال أنطوان: اترُكيها الآن … لا تعي شيئًا.
همست دومينيك: باسم الصليب حولك … باسم الصليب.
تُضايقها عبارات المواساة التي يتحدَّث بها الطبيب عن أمِّها. لا كلام عن أمَل الشفاء، والعودة إلى مألوف حياتها، مألوف حياتهم، تجلس في الصالة، أو في حُجرتها، تُلاحق دومينيك بمَطالبها. لم تعُد تجد في الأمر ما يؤلِمها، أو يُثير ضِيقها، تدعو أن تترك السرير، تقف على قدمَيها، تجلس، تمشي، تتكلَّم، تتمنَّى حتى الأوامر التي طالَما ضاقت بها.
فطن الطبيب إلى أن الأم تعيش لحظاتها الأخيرة، وأن الحشرجة تُصدِر أنفاسًا واهنة تُغالِب الصمت، رفع عينَين تشِيان باليأس.
عرفوا أنَّ الأمَّ تحتضِر.
لم يُحدِّد الطبيب المرَض، وإن همس وهو يُغلق حقيبة أدوات الكشف: الحالة مُتقدمة!
ومال على أذن أنطوان: ادعوا لها ألا تتعذَّب أكثر ممَّا عانت.
أضمر أنطوان مُصارحة الطبيب له، بأن ما تُعانيه الأم هو مرَض الموت: الأدوية لتخفيف الألَم، لكنها لن تمنع النهاية.
أدرك أنها لن تترُك سريرها حتى يمنحها الأب يوحنا مسحة الموت.
كان يُعد لها الفطور، يُرتِّب الوسادة الطبية تحت ظهرها، يُحيطها بوسائد من القطن، وعجلات من المطاط، كي لا تُصاب بقُرَح الفراش، يساعدها في الجلوس على القصرية، يضع الملاءات المُتسخة في الغسالة، يتحمَّل غضبها وشراستها، تُظهر التأثُّر لأقل سبب، تطلُب رفع الوسادة، تشكو الحَر، ترفض الماء البارد والساخن. تصرُخ من تآكُل ظهرها بالهرش، يُثيرها الصمت والأصوات العالية.
نال منها الضعف، تجد صعوبة في الانتقال من السرير إلى الكرسي المُقابل، تمضي دقائق تسند ظهرها على الكرسي، تُريحُه من عناء النوم ساعاتٍ مُتصلة.
تتحدَّث عن شخصيات تلتقِي بها، وأصوات تُخاطبها. فاجأتهم بالإيطالية، خاطبت بها أشخاصًا تراهُم وحدَها، ذكرت أسماءً لا يعرفون أصحابها، يعرفون المفردات، يَصلونها بحيث تؤدِّي المعنى الذي تقصده، أو تقترِب منه، ما أقلقهم أنها لم تعُد تتحدَّث بالإيطالية منذ سنين بعيدة، أصرَّت أن تكون اللغة بما يتكلَّمون به خارج البيت.
صارت عيناها حفرتَين أحاطت بهما هالتا سواد. لم تعُد قادرة على الابتلاع، تعلَّمَ من الممرضة كيف يُغذيها بالمحلول، عبر الأنبوب المطاطي.
إذا طال الصمت والسكون، مال أنطوان بأذنه، يتسمَّع صوت أنفاسها، يرفع رأسه — في اطمئنان — ويتنهَّد.
فتحت عينَيها: طالعتها الوجوه المتسائلة، والمُشفقة، والحزينة.
همست بوصيتِها أن تُدفَن في ثوب الزفاف.
تحشرج صوتُ دومينيك باللهفة: أعطِها حُقنة كورامين.
كوَّر الطبيب سماعتَه في يده: أملُنا في رحمة الله!
بدا على أنطوان اقتناع أنها ستجد في الموت خلاصًا وراحة، وأنها تفرح به، وإن لمح في نظرتها الثابتة الشاحبة، ما يَشي بالخوف أو الفزع.
رشم الأب الصليب على رأسِها ووجهِها وجسدِها، كرَّر كلمات لم يفهمها، ثم كرَّر الرشم بالصليب.
لاحظ ماهر أن زيارات الأب للبيت تَلقى حفاوة، عدا جان، فإن أفراد الأسرة يُوقِّرونه، ويُرحبون به، ويهمسون له بما يُعانون.
تحدَّثت سيلفي عن الأوقات التي كانت أمُّها فيها صاحبة الأمر والنهي. قبل أن يُقعدها المرض، لم تكن تأذن لأفراد الأسرة أن يُخالفوا رأيها، ولا أن يُبدوا اعتراضًا، أبوكم يكتفي بالغناء، ومُهمتي أن أقود السفينة.
تصحب أبناءها إلى الكنيسة، أو تسبقهم، أو تلحق بهم، لا أحد — إلَّا للمرض — يتخلَّف عن قُداس الأحد. إذا استغرق الأب في شرودِه، وعلا صوتُه بالأغنيات، أدَّت الصلوات قبل تناوُل الطعام.
قُرب المسافة بين الكنيسة والبيت، يدفعها للتردُّد على الكنيسة مرة، أو مرتَين، في اليوم الواحد. تزور الأب في مكتبه، تُكلمه في أحوالها الشخصية، تطلب رأيه في ظروف الأسرة، تجد في كلماته النصيحة والعزاء، وما يُعينها على التصرف. تدعوه — في زياراته للبيت — كي يرشَّ الماء المقدس في الأركان والزوايا، وعلى الأثاث.
تُبدي حرصها على ما في الفيلَّا، الجدران والحديقة والأثاث والتُّحف الصغيرة، هي كل ما تبقَّى من البيت القديم، لن تستطيع الأسرة استعادة ما يتحطَّم، أو يتشوَّه، أو يضيع.
منذ فاجأتها الأزمة القلبية، أسلمت نفسها لرعاية أبنائها، وعلاج الأطباء. تُوافق على تأكيداتهم بأنَّ الأزمة عابرة، تستجيب للملاحظات والأوامر، تتعاطى الدواء، تؤمِّن — ولو بهزَّة الرأس — على الدعوات، لكن الهاجس في داخلها أنها تعيش أيامَها الأخيرة.
تنبَّه ماهر — في لحظات إفاقة الأم — إلى أن سيلفي تُقلدها في طريقة كلامها، والمُفردات التي تستخدِمها، والضحكة التي لا تعلو عن الهمس.
وهو يرنو إليها بنظرة ودٍّ: أخذتِ من أُمِّك الكثير.
حكَّت جبهتها بظفرها: يُقال إني أقرب في الشبَه إلى أبي.
أَدركَ أنها لم تعرِف ما يقصده.
جاء إلى الفيلَّا في آخر أيام الأسرة. الأم تموت، والأب ذاهل عما حوله، والأبناء يُكثرون من الأسئلة، ويختلفون.
٧
دخل الأب يوحنا بردائه الكهنوتي، وابتسامته المحايدة. كانت سيلفي قد أخبرت ماهر أن الأب سيأتي — في لحظةٍ ما — لتقديم المسحة الأخيرة.
نترَتْ دومينيك من كتفِه ورقة شجر يابسة تقاذفها الهواء.
حاول أنطوان أن يُضفي على الحجرة طقس الموت، أسدل ستائر النافذة العريضة المُطلة على الحديقة، جلَّل زواياها بجدائل مِن القماش الأسود، ووضع على البوفيه — لصق الحائط — ستَّ شموع في شمعدانات فضية، ووضع في مواجهة السرير إكليلَ زهور.
حرص على أن يُعِدَّها بنفسه، ألبسها أحدَث فساتينها، وجرى بالبودرة على وجنتَيها، وعلى فمِها بأحمر الشفاه. حتى الحذاء الذي دسَّ فيه قدمَيها لم تكن قد ارتدَتْه سوى مرةٍ واحدة، وضمَّخ جسدَها بعطر الورد الذي كانت تُفضله، نزع خاتم الزواج من إصبعها، أعطاه للمسيو ميكيل.
وضع أنطوان على سقَّاطة باب الفيلَّا شريطًا أسود، استَبدَل بمفرش المائدة ذي الزهور الملوَّنة مفرشًا من البلاستيك، أدار إلى الجدار صورة الأم.
رنا ماهر إليها بنظرةٍ مُتأمِّلة، في سكونها الهادئ داخل التابوت، من الخشب الماهوجني، مُبطن بالساتان الأزرق، المقبض من المعدن المذهَّب.
لم تُفلح المساحيق في إزالة شحوب الوجه، وأحاطت الزهور بالرأس، وتَغطَّى الجسد المُسجَّى بالمخمل.
تأمَّل الحانوتي ومُعاونه وسائق السيارة، نظراتهم حيادية، ساكنة، يؤدُّون عملًا.
سارت العربة ذات الأشرطة السوداء على حوافها، والملائكة الصغيرة، المُجنَّحة، المَطليَّة بلون الذهب، على جانبَيها.
أبطأ السائق لتتواءَم العربة مع خطوات المُشيِّعين، مضت الجنازة في شارع نصوح الهندي إلى الكنيسة، بالقُرب من تقاطُع الشارع مع شارع السلطان سليم. سار — وراء النعش — الإخوة الأربعة وعيَّاد وماهر، ورجال من الجيران.
بدت سيلفي مُتغيرة بفستانها الأسود ذي الكمَّين الطويلَين، ونظارتها الشمسية، هي أقرب إلى النحافة، وكوَّمَت شعرها أعلى رأسِها، وخلا ساعدُها من ساعة اليد.
لم يتصوَّر — بعد أن أخلى حملَ النعش لأنطوان — أنه حمل النعش الذي كانت السيدة كاترين راقدةً فيه، غمره شعور صعب عليه فهمُه.
ترامی قرع جرس الكنيسة، ببطء، وعلى تباعُد، خُيل إليه أن صوت الجرس يختلف — هذه المرة — عن المرات الكثيرة، السابقة، التي ترامى فيها صوته إلى الفيلَّا، ما يُشبه الأسى يسري في الدقات المُتباطئة، تُخلف نهاياتها أنينًا خافتًا، ممطوطًا، كأنه البكاء.
هل هو ما تسمعُه أُذناه بالفعل؟
جلس في الصف الأول المُواجِه للمذبح.
الشمعات الحمراء الثلاث فوق التابوت المُغلق، وأريج البخور يضوع المكان.
مثَّل الحضور ثلاثة صفوفٍ قصيرة في الوسط. ظلَّت بقية دكك الصالة خالية، وفي المواجهة صفٌّ بمساحة المكان من شمامِسة صغار، أولاد وبنات، يقرءون من الكتاب المُقدس، وتعلو أصواتهم — بإشاراتٍ من الأب ذي الجسد المُمتلئ، والبشرة البيضاء المُشربة بحمرة — بالصلوات والتراتيل، يُعمِّق من تأثيرها عزف الأورغن، وأضواء الشموع، وتضوُّع البخور.
أنصت إلى كلمات الأب التي تتحدَّث عن انفصال الراحلة عن غُربة هذه الحياة إلى فردوس النعيم، لتبلُغ المساكن السعيدة، وتنسى أحزانها وشقاءها، ودعوة الأب أن يُبلِّغ الله الراحلة مساكن القدِّيسين، ويغفر لها جميع خطاياها في الملكوت السرمدي … وترديده قول بولس الرسول: إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا.
أنهي الأب كلماته بالقول: آمين.
ردَّد ماهر الكلمة مع الحضور.
قلَّد الحضورَ في ما فعلوه، حرك شفتَيه مترنمًا بالأنغام التي ردُّدوا كلماتها، وضع علامة الصليب على صدره، ركع مِثلهم، حتى فردوا قاماتهم، ففرد قامته.
منذ سنواتٍ بعيدة، زار الكنيسة — مع أُمِّه — لحفل زفاف. اجتذبه الجوُّ الكنسي: الملابس الكهنوتية، أنغام الأورج، الصلوات المُنغمة، رائحة البخور، التماثيل والأيقونات والتيجان والزجاج الملوَّن، ثمَّة سحر تسلَّل إلى نفسه، مشاعر غامضة لم يستطع تحديدها.
عندما علَتِ الأصوات بالتراتيل، حاول مُجاراتها. حرك شفتَيه دون أن يتأكد من أنه ينطق الكلمات نفسها.
قال لأُمِّه: أحببتُ صلوات الكنيسة للطقوس التي تُقدَّم فيها!
وتهدَّج صوته بصِدق مشاعره: وأنا أستمع إلى الأورغن … تمنيتُ أن أكون مسيحيًّا.
رمقته أمُّه بنظرة غاضبة: تهذر؟
كانت تعيب عليه طبيعتَه الانفعالية، ما يخطُر في باله يقوله، أو يفعله. ربما وجَّه أقسى الملاحظات في سهولةٍ وجرأة، لا يتدبَّر وقعَها في نفوس الآخرين، تُشفق عليه من أنه يُعرِّض نفسه لمشكلات، يُواجه مآزق صعبة.
قال يُحاول استرضاءها: مجرد ومضة تلاشت … نسيتُ نفسي في عزف الأورغن والتراتيل.
قال القس بلهجة مُهوِّنة: قدرُنا أن نموت، وطبيعي أن يسبق الآباء أبناءَهم في الرحيل.
تأمَّل المعنى. قال: أطال الله أعماركم!
أدي القس — خمَّن أنه يُقيم في المقابر — بعض الصلوات.
عمق من الصمت الذي لفَّ الجميع، صوت احتكاك التابوت بحواف القبر الطينية والحجرية، وهو يهبط ليستقر في القاع.
بعد أن بلغ النعش قاع التراب، رش عليه الأب الماء المُقدس وهو يُردد الأدعية. ألقت دومينيك باقة الورد التي أمسكت بها فوق النعش، ثم بدأ التُّرَبي في إهالة التراب بالجاروف.
همست الأفواه بالصلوات، وتحركت الأيدي بعلامة الصليب.
شعر بالارتباك، وأنه يجِب أن يُبدي تأثره بطريقةٍ ما، رسم الحزن على ملامحه، وجرى على عينَيه بظهر يده.
تبيَّن أنهما مُندَّاتان بالدَّمع.
استداروا عائدِين.
وهو يُغادر المكان، تطلَّع ماهر إلى ما كانت الجنازة قد اجتذبته عن رؤيته: مستطيل الرخام حفر في أعلاه بحروفٍ إيطالية اسم كاترين فرنسيس، مدى المقابر إلى البنايات البعيدة، الشواهد الرخامية، الصلبان، صور العذراء، ووليدها، الملائكة بأجنحتها المُحلقة، أشجار الجازورينا، مساحات النجيل الأخضر، أحواض الزهور والصبَّار على جانبَي الممرَّات المرصوفة بالبلاط، ما لم يكن يعرِفه، ولا رآه من قبل.
٨
عرف — من ارتجاف رموشه وشفتَيه، وتقلُّص ملامحه — أنه يريد أن يقول شيئًا، نطقت عيناه بما يُحاول مُداراته.
كانت العصافير في أشجار الحديقة قد زادت من صياحها، يَشي أن الليل اقترب.
قال جان: صحيح أن أُمَّنا تبرَّعت بجزءٍ من أموالها للكنيسة؟
قال أنطوان: هل كانت أُمُّنا تملك شيئًا لتتبرع بجزء منه؟
– أعرف أنها تملك سنداتٍ في البنك.
اكتفى — دلالة المُوافقة — بإيماءةٍ خفيفة من رأسه: أنفق منها أبي على عِلاجها.
– تعني أن أبي حصل على رصيد السندات.
وهو يُومئ ناحية حجرة الأبوَين: اسألْهُ إن كنتَ لا تُصدق.
– هل الرجل هنا؟! … إنه حيٌّ كالميت.
– لا تُخطئ في أبينا.
– أنا لا أُخطئ في أحد … إنما أتَّهِمُك أنت.
– حتى الفيلَّا سأشتريها من أبي بعقدٍ مُسجَّل.
بحلق في دهشة: كأنه لا يُوجَد في حياتك شيءٌ لم تعمل حسابه.
وعلا صوتُه فبدا كالصراخ: سيكون عقدًا باطلًا.
دون أن يجاوز هدوءه: من حقِّك أن تُثبِت العكس.
– سافل!
هزَّ سبابته في وجهه: لا تنسَ أني أخوك الأكبر!
كان المسيو ميكيل يُنادي على الأم. يُدركون أنه نسِيَ وفاتها، نسي أنها ماتت، يتصوَّر أنها داخل إحدى الغرف.
لوجهه ملامح مُسترخية، وعينان زرقاوان ساجيتان، وخدَّان مُتهدلان مُشربان بحمرة، ونمَش يمتدُّ إلى العنق والكتفَين، ينزع — بين فترةٍ وأخرى – شعرةً من شاربه، يتأمَّلها بعفوية، ثم ينتُرها بإصبعَيه. بدا من اتِّساع بيجامته، أن جسدَه كان مُمتلئًا.
بدا سريع التأثر، والتشويح بيدِه دلالة الاستياء، أو الغضب.
فسَّرت دومينيك شرود نظراته بتذكُّره لمواقف من حياة أمِّها داخل البيت، صداها، الغُرف والجدران وقطع الأثاث واستعادة اللحظات.
قلَّت أُغنياته، وخفَت صوته، ربما قطع اللحن، وعاد إلى الصمت والشرود. يشكُّ ماهر أنه يلحظ وجوده.
في لحظاتِ تنبُّه وعيِه، يتحدَّث إلى ماهر، يستعيد ماضي الزيتون، عندما كانت ضاحية تقتصِر بناياتها على الفيلات، والبيوت التي لا تعلو عن طابقَين.
سأل ماهر: هل رأيتَ سراي البرنسيسة؟
حرَّك رأسه بالنفي.
قالت سيلفي: تحوَّلت إلى مدرسة للبريد.
قال المسيو ميكيل: كان أهلُها من الطبقة العُليا … سوبر ستارز … خصَّصت البرنسيسة لخيلِهم سبيلًا في سور قصرها.
عرف أن المسيو ميكيل — منذ خرج إلى المعاش — لم يعُد يترك البيت إلَّا لتسلُّم المعاش الشهري، يصحبُه أنطوان في تاكسي إلى الموسكي، ينتظِر تقاضيه مبلغ المعاش، ويُعيده إلى البيت، لا حياة اجتماعية على أي نحو، معظم وقته يُمضيه في الشرفة، يَعبُر من حوله بنظراته، كأنه لا يري أحدًا، أو أنه مشدود إلى ما لا يراه أحد، يرتفع صوته بالأغنيات الأوبرالية. قد يتَّجِه — بخطواتٍ متباطئة — إلى المطبخ، يشرَب، أو يأكُل مما يجِده في الثلاجة.
لم يغِب عن فهمِه — أيام معرفته الأولى بالأسرة — أن أمور البيت كانت في يدِ الأم، هي التي تفصل، وتقرر، وتسيطر، وتفرض روحًا استبدادية.
لم يكن المسيو ميكيل ضعيف الشخصية أمام آراء السيدة كاترين وتصرُّفاتها. كان أمْيَلَ إلى التسامُح، وإلي ملاحظة الحياة أكثر من أن يُعنى بالمشاركة فيها، جزيرته الخاصة يُحيطها، ويملؤها بالأغنيات الأوبرالية، يُراجع واجبات سيلفي المدرسية، يُناقشها في أجوبتها، ويعيب عليها رداءة خطِّها بالفرنسية. يجلس إلى مائدة الطعام في المواعيد التي تُحدِّدها الأم، لا يُشارك في المناقشات، يكتفي بإيماءة، أو بكلماتٍ مقتضبة، في الردِّ على الأسئلة. أُحيل إلى المعاش، فهو يعيش رحلةَ ما قبل النهاية، مرحلة انتظار ما يغيب بحياته.
أصرَّ على رفض اعتزام الأم وضع سلكٍ شائك حول سور الفيلَّا: هل قفز الجيران على بيتِنا من قبل؟ لماذا يقفزون الآن؟
قال ماهر لسيلفي: أنطوان وجان هُما سليم الأول وطومانباي في التاريخ … شنق الأول الثاني، لأنه رفض التنازل!
ثم وهو يظهر الحيرة: أخشى أن ذلك ما سيحدُث بين الأخوَين.
تأمَّلته عيناها بارتياب: ماذا تقول؟ … أنطوان يقتُل جان؟!
رسم ابتسامةً مُهوِّنة: لا أقصد هذا المعنى، أقصد أنه ربما أخذ منه كلَّ شيء.
لم يشعر تجاه أنطوان — منذ زيارته الأولى إلى البيت — بمشاعر طيبة.
تسرَّب إلى صوتها نبرة حزن: أنطوان أخذ كلَّ شيءٍ بالفعل … الفيلَّا ومجوهرات أُمي وودائع أبي في البنك … كلَّ شيء!
– هل تكتفون بالفرجة؟
قالت في حزنها: أُمي ماتت … وأبي في دُنياه يُغنِّي.
وجد في تصرُّفات أنطوان ما يُفسِّر إصرار سيلفي على التمرُّد، ما يردُّ على إلحاح السؤال: لماذا ترفض؟!
تعدَّدت زياراته إلى البيت.
يهبط من الأتوبيس على ناصية شارع السلطان سليم الأول. يميل من جانب سراي الطاهرة إلى الشارع، يُخلِّف وراءه المسلَّة الفرعونية وسط الحديقة الواسعة، يسير في الشارع إلى تقاطُعه مع شارع نصوح الهندي، يرفع رأسَه — بعفوية — إلى بُرج الكنيسة الذي يمتدُّ ظلُّه، وظل الأشجار الكثيفة داخل الحديقة، على الطريق، ويتقلَّص، بارتفاع أوقاتِ النهار. يميل في شارع نصوح الهندي، حتى الفيلَّا — في نهاية الشارع — مُحاطة بالسور الحديدي والأغصان والأشجار العالية.
يخوض — مع المسيو ميكيل — حواراتٍ لا تنتهي عن معنى الحياة والموت: إذا كان قدرُنا أن نموت، فلا بدَّ أن نموت … الموت يَعني أننا لم نعُد أحياء، هذا كل ما في الأمر … إذا جاء الموت، فإن كلمة «كان» تجعَل كل الأسماء والأحداث ذِكرى، تُصبح ماضيًا … نحن نعيش تحت الضوء أعوامًا محدودة، ونعيش في الظلام إلى الأبد.
يُهمل نظرةً يُثبتها الأب في عينَيه، يظلُّ يُتابعه بها.
اختفى عمرُه الحقيقي خلفَ ملامحه الهادئة، وعينَيه الصافيتَين، وغزارة شعر رأسه، وذقنِه التي يحرص — كل صباح — على حِلاقتها. قالت سيلفي إنه في المعاش منذ سنتَين، وكان قد جاوز الخامسة والسبعين.
لم يسأله المسيو ميكيل: من أنت؟ ولا لماذا أنت هنا؟ وما صِلتك بسيلفي؟
يتحدَّث إليه كأنهما مُتجاوران في القطار، أو في المقهى، العلاقة العابرة التي لا صِلة لها بما قبل، ولا بعد، تستغرق اللحظات في ذاتها، وتنتهي.
لاحظ في نفسه ميلًا للحديث عن لقاءاته بكبار المؤلِّفين، راتِبِه المُرتفع، ظروفِه الأُسرية الطيبة، أرجع إلحاحه على الحكي إلى شخصية أنطوان المُتعالية، لا يشغله أن الفجوة تتَّسِع بينه وبين الباقِين.
حين سأل أنطوان سيلفي عن تعرُّفها إلى ماهر: أين بدأ؟ وكيف؟ ظلَّت ساهمة.
قال أنطوان في لهجةٍ ساخرة: قد أكون رأيته يبيع الكتُب القديمة على رصيف جامع العزيز بالله!
واجهته سيلفي بملامح غاضبة: ماهر يحمل شهادة جامعية لم يحصُل عليها أحد في بيتنا!
اطمأنَّ إلى إحساسه بأن أهل الفيلَّا — حتى عياد — لن يكونوا أصدقاءه، لن يجلس إليهم، ولا يُناقِشهم في أمرٍ ما، بدَوا مُنشغلِين عنه بما لا يتبيَّنه، حتى علاقاتهم الشخصية تحوطُها الظلال بغلَبة العُزلة والصمت، كلٌّ منهم مشغول عن الباقين.
قال المسيو ميكيل لدومينيك، وهي تتهيَّأ للذهاب إلى الكنيسة: الله يُريد منَّا أن نتذكَّره كل الأيام، وليس يوم الأحد وحدَه!
قال ماهر: تتكلَّم عن الحياة الآخرة، ولا تتحدَّث عن الدين؟
قال المسيو ميكيل: ينبغي أن يكون تديُّني عن إرادتي الحرة!
وشاعت في صوته نبرة تسليم: أنا لا أُحب الدِّين ولا أكرَهُه … إنه حالة علينا أن نتقبَّلَها كما هي. ثم رفع رأسه كأنه توصَّل إلى قرار: أُحبُّ الله، وأومن به، دون طقوسٍ لا معنى لها.
وعلا صوته — في اللحظة التالية — بغنائه الأوبرالي، لا تشغَله النظرات المُلتفتة، أو المُتسائلة، أو الرافضة.
أدرك أنطوان أنَّ الأب لم يعُد من هذا العالَم، يحيا في عالَمٍ خاص صنعَه لنفسه.
لمَّا اشتد المرض على السيدة كاترين، تداخلت أوقات صحوِها بأوقات الغيبوبة، الألَم والأنين والهذيان والهمسات المُتحشرجة.
تكلم المسيو ميكيل بلغةٍ غير مفهومة، حدس أنطوان أنها الألمانية، هي لُغة الأب التي طالما خاطبَه بها في طفولته، بقِي منها حروف وكلمات وأصداء. رفع الأب يدَيه في هيئة المُستغيث، تمتم باللغة نفسها، تكررت دعواته المستغيثة، هي مؤمنة بك، وأنا أيضًا، أوقاتنا في الكنيسة أطول من أوقاتنا في البيت، لماذا لا تُنقذها؟
زاد المرض من قسوته حتى الموت. تبدَّلت تصرفاته وتعبيراته، مال إلى العزلة، لا يأذن لأحدٍ باختراقها، لم يعُد يردِّد الدعوات، ولا يُعنی باستقبال الأب يوحنا، ولا يدخل في حوارات مع ماهر فرغلي، وإن ظلَّ على ترديدِه للأغنيات الأوبرالية.
يقضي في الشرفة معظم النهار، ومساحة من الليل، يعلو صوته بالغناء، يتأمَّل — بنظرةٍ غير مُحدقة — تكاثُف الأشجار أمامَه، وحركة المرور القليلة في الشارع الصغير المُوصِّل بين نصوح الهندي وسنان، وما بداخل النوافذ المفتوحة في البيت المواجِه.
دفع المسيو ميكيل أنطوان وجان للحصول على دبلوم التجارة الثانوية، ثُم ألحقهما بالبنك، أهمل احتجاج الأمِّ وصراخها، إذا كانت الوظيفة هي الهدف، فقد حصلا على وظيفةٍ يفوق راتبُها ما يحصل عليه أصحاب المؤهِّلات العُليا، أهملت الأم حُزنها على اكتفاء الأب بقصر تعليم الولدَين على المرحلة الثانوية، تمنَّت أن يُواصِلا تعليمهما الجامعي.
أضاف إلى حُزنها قعود دومينيك في البيت، بعد حصولها على الابتدائية، خافت السيدة كاترين من تأثيرات المرَض، ماذا لو أن الغيبوبة أصابتها في المدرسة، أو في الطريق؟
وضعت أملَها في سيلفي، حرصت أن تستكمِل دراستها في «نوتردام دي زابوتر»، وتلتحق بالجامعة، اسم الكلية لا يُهم، المُهم أن تحصل سيلفي على الشهادة العُليا، اكتفت بالقول: لن تترك سيلفي التعليم حتى النهاية. لم تُحدِّد طبيعة النهاية، ما إذا كانت ستكتفي بشهادة الثانوية العامة، أم تدخُل الجامعة؟
أظهرت الانزعاج لمَّا أخبرتها الراهبة في «النوتردام» عن الأجوبة التي كتبتْها سيلفي على فخذِها في امتحان اللغة العربية: هل هذا ما تعلمتِه من جارِنا المُزور؟ هل تُريدين دخول السجن مثله؟
حدثته سيلفي عن جار الطابق الأرضي في البيت المُقابل، أخ غير شقيق لمُطربة ومُمثلة معروفتَين — لم تذكُر الاسم — خطاط، يُجيد تقليد اللوحات الأصلية، وإن دخل السجن مرة.
همس ماهر بالسؤال الذي شغلَه: لمَّا دعوتِني إلى زيارتكم، هل كنتِ تعرفين أني سألتقي بأبيك؟
– طبعًا.
– ماذا عن قتلِه بأيدي المصريين؟!
شوَّحت بيدها: انسَ!
عرف أن الكثير مما روتْهُ له سيلفي — قبل أن تدعوه لزيارة البيت — لم يكن حقيقيًّا، وأنها — دون أن يُدرك السبب — كذبت عليه.
هل أرادت أن تُحسِن تقديم أُسرتها؟ هل خشِيَت من فقده؟ هل كذبت لأن هذه هي شخصيتها؟ ليست دميمة فتُحاول التعويض بالاختلاق، واختراع ما ليس صحيحًا.
لماذا تكذِب إذن؟!
٩
نزلا من الأتوبيس في محطة الإسعاف، عبرا الطريق في اتجاه مبنى الشهر العقاري.
اخترقا زحام العرضحالجية والنداءات والشتائم والشهود وباعة الاستمارات والطوابع وكتب القانون.
صعدا الدرجات الرخامية في المبنى ذي الطوابق الثلاثة، يعلوه — متآكل الأطراف — العلَم المصري ذي الألوان الثلاثة، في دائرة تحته نقْش للعلم المصري القديم ذي الهلال، الأعمدة العالية، والبواكي في واجهة الطابق الأول، تفصل بينها وبين البناية طرقة طويلة بامتداد الواجهة، أرضيَّتها من البلاط الرمادي المُربع، تطل عليها نوافذ من الحديد والضُّلَف الخشبية.
تبعته إلى الصالة الواسعة، في المواجهة، اصطفت في داخلها مكاتب، انشغل الموظفون وراءها بأوراق ودوسيهات ومناقشات مع المُتردِّدين على المكاتب.
مال على الموظف الجالس وراء المكتب، إلى يسار المدخل: نُريد أن نتزوَّج.
لم يكن قد أعدَّ نفسه لعلاقة زواج، الصداقة علاقتهما المُعلنة، حتى نظرات أنطوان المتوجِّسة أهملتها، وصمتت عن التوضيح.
نبَّهه شيء ما في نظراتها، وارتباك تصرفاتها، وملاحظة النظرات المُتسللة، ومَيل صوتها إلى الهمس.
واربت الباب، فدفعَه مقتحمًا: هل تتزوجينني؟
قال الرجل: ما يمنعكما؟
– هي مسيحية … وأنا مسلم.
– تزوَّجا بعقدٍ مدني.
–لا أفهم.
– عقد لا شأن للمأذون به.
– هل هو عقد صحيح؟
هتف الرجل: أنت في إدارة حكومية.
استطرد وهو يرنو إلى سيلفي بنظرة متسائلة: كم عمرك؟
– الحادية والعشرون … وأشهر.
لحِقه صوت الرجل: يحسُن أن تحصل على موافقة الكنيسة.
•••
التقاها الأب يُوحنا في شارع سليم الأول، ابتسم لارتباكها الواضح: لماذا لا تزورين الكنيسة؟
– أتردَّد عليها أحيانًا.
وأغمضت عينَيها كالمُتنبِّهة: زُرتها قبل شهر.
قال الأب: كنتِ تتردَّدِين عليها دائمًا.
ورنا إليها بنظرة مُتودِّدة: إنها مُساوية للبيت في حياتنا.
وربَّت ظهر كفِّها بطرف إصبعه: احرصي على صلاة الأحد.
لم تعُد تتردَّد على مكتبه داخل الكنيسة، أو تجلس للاعتراف.
تصوَّرت أن أنطوان روى له ما يدفعه إلى مجاوزة الإنصات.
لو أنه أرهقَها بالأسئلة، ربما اخترعت من خيالها، وبدَّلت ما حدث. هو الأب يوحنا، وليس أباها ولا أمَّها ولا إخوتها، ولا حتى ماهر، خافَت أن يؤذِيَها بما لا تتوقَّعه.
منحتها عيناه إيماءةً مشجعة: أنتظرُك لتؤدِّي طقوس الاعتراف.
تغيرت ملامحها: لم أفعل ما يدفعني إلى الاعتراف!
قال أنطوان للأب يُوحنا: لا أحد يملك إقناعها.
رسم الأب علامة الصليب على صدره: كل ما يحدُث بمشيئة الرب!
قال الأب لسيلفي في لهجة مُحرضة: الكنيسة تُرحب بك، ولو لمجرد الزيارة! وضغط على الكلمات: لا يكون المسيحي كذلك إلا من خلال عضويته في الكنيسة.
في دهشة: أُصبح راهبة؟!
– بل تُكثرين من التردُّد عليها.
ران على صوتها انكسار: أُحاول.
وهو يهز رأسه في عدم اقتناع: إذا لم يستخدِم الإنسان عضلةً ما فلا بد أنها ستضعُف.
وواجه عينَيها: أُذكرك بالزائدة الدودية!
وتقلَّصت ملامحه بالتأثر: أخشي أنك فقدت روح الصلاة.
١٠
الوقت أصيل. الشمس علَتِ الجدران، فاكتست المرئيات بالشحوب.
الشارع الطويل المُترب، الفاصل بين مبنى الكنيسة والبيوت المُقابلة، يشغي بتلاغُط الأصوات والصيحات من الأبواب والنوافذ المفتوحة، ومن الدكاكين، ونداءات المقهي — أول الشارع — وعربات اليد، والباعة، والأطفال المشغولين باللعب، والكلاب، والقطط.
ينتهي إلى باب الكنيسة الخشبي الضخم، على ضلفَتَيه تكوينات سوداء من الحديد، في هيئة صلبان.
غالب التردُّد، قبل أن يضغط الجرس في جانب الباب، داخلَتْه رهبة من البناية ذات الأسوار العالية، حاول أن يتصوَّر ما بالداخل.
فتح له شابٌّ يرتدي جلبابًا بُنيًّا، خمَّن أنه من الرُّتَب الأقل في داخل الدير.
طالعه مبنى الكنيسة المُشيَّد بالحجارة البيضاء، في المسافة بين السور العالي، الخارجي، والممر الأسفلتي المُحيط بالمبنى.
دخل الراهب تسبقه ابتسامتُه، ويداه المُرحبتان.
– أنا أبوكم لوقا.
التفت ماهر — بتلقائية — ناحية سيلفي.
شجَّعته بإيماءةٍ من رأسها.
طمأنه عرضُها بأن تظلَّ معه، لو أصرَّ أنطوان على رفض السماح لهما بالزواج.
أدرك أن عليه — عليهما — تحدي كلِّ الظروف والتوقُّعات، حتى يتزوَّج سيلفي، تصوَّر أن خطبته لها — في توالي زياراته — أقرب إلى البديهية التي جاوزت الأسئلة والأجوبة والمناقشات.
فاجأه أنطوان — ذات مساء— برفضه له، ولفكرة الزواج [أبوها مشغول بالغناء!] رفض مجرد المناقشة، لا مناقشة!
– إذا أردتِ أن تتزوَّجي هذا المُسلم، فلا تنتظري منَّا مليمًا.
أضاف في لهجةٍ مُتحدية: كل ما ستأخُذينه حقيبة ثيابك.
وربَّت صدره بأصابع مُرتعشة: أبونا مريض … أنا الآن مكانه.
ملأ الغضب صوتها: ما دام أبي حيًّا، فلا شأن لك بي!
قال الأب لوقا: الزواج الوحيد الذي توافق عليه الكنيسة يقوم على العقيدة الكاثوليكية.
عرَف ما لم يكن يعرِفه، ولا تصوَّر أنه يشغله؛ الطوائف الكاثوليكية في مصر سبع: الأقباط، الروم، الموارنة، اللاتين، الأرمن، السريان، الكلدان، تتفق جميعها في الاعتراف بالرئاسة العُليا للبابا في روما، وحدة الاعتقاد الديني في جميع العقائد، وحدة قانون الزواج والإجراءات، وحدة نظام المحاكم الكنسية التي تبتُّ في مواد الزواج، عدم إجازة الطلاق والاستعاضة عنه بالتفريق الجسماني.
قال الأب لوقا: ثِقا من تعاطُفي، لكنني لا أعِد بمساعدة، لا أستطيع أن أفعل ما يُوفق مسعاكم.
لم تشدَّه إليه ملامح مُميزة، وإنْ ذكَرَه بالأب يوحنا، يصغُره بأعوامٍ كثيرة، لكن الرداء المُتداخِل اللونَين، والجو الكنسي، والكلمات المُتضمِّنة عبارات دينية، تستعيد صورة الراهب الذي ميَّزه في زياراته إلى بيت المسيو ميكيل، وإن لم يتبادلا الحوار، حركته دائبة بين مكتبِهِ المُطل على الباحة الداخلية للكنيسة، والمكتبة المُتعدِّدة الضلف الزجاجية. ربما فضل الجلوس على مقعدٍ منفرد بالقرب من المكتب، والكرسِيَّين المتقابلَين أمامه.
واتجه إليهما بابتسامة تطلُب تصديقهما: ذلك يعتمد على المطران.
لاحظ تبادُلهما نظرات الحيرة. قال: مقره في كنيسة البازيليك بمصر الجديدة، قد يجد حلًّا لمُشكلتكما.
عرفت أن أنطوان كان يقف في الرصيف المواجِه للكنيسة، هو أنطوان بقامته الطويلة، النحيلة، وشعره المنسحِب إلى منتصف رأسه، وصدغَيه الغائرَين، وأسنانه المفلوجة، وعينَيه الدائمتي التلفُّت.
هل يُراقبها؟
أدارت وجهها إلى الناحية المُقابلة، تهبه التصور بأنها لم تره، أو أنها تتجاهله. لم تشغلها اللحظة التالية، وما إذا كان سيختار المواجهة، أم يدفعه فَهمه إلى تناسي المشكلة؟
كان دائم الانتقاد لمظهرها، وغيابها — معظم الأوقات — عن البيت، وتحريض أبيه، فلا تحصُل إلا على مصروفٍ مُحدد.
ضاقت بأن تكون طريقها الوحيدة هي المؤدية إلى المدرسة، أو إلى حيث يُحدد أبوها وسيلة المواصلات إلى مبنى البنك، تصحبه في مشاويره وسط البلد.
تملَّكتها الرغبة في المغامرة، لا تدري إلى أين تذهب، تمضي من نصوح، تُخلف طومانباي وسليم وكنيسة اللاتين، تركب القطار من محطة الزيتون، تهبط في محطته النهائية بكوبري الليمون، تخترق تقاطُعات ميدان رمسيس، تسير في الشوارع التي لم تُشاهدها من قبل، تتعرف إلى الزحام والبنايات العالية والحدائق ودور السينما والمسارح والمطاعم والكافيتريات والمحال والبوتيكات وباعة الصحف، وما تقرأ عنه في «البروجريه».
قاموسه لا تنفد مفرداته من المحاذير والممنوعات، تملأ سمعَها، فتُسقِطها، تُهمل الالتفات إليها، تصمُّ أُذنَيها عن السماع، وتَبيُّن ما يفيدها، وما ترفضه، يُثيرها السؤال: أين تذهبين؟ أو: أين كنتِ؟
واجهته بعينَين غاضبتَين: هل أسألك؟!
– من حقي أن أعرف.
– لماذا ليس من حقي؟
– ماذا تريدين؟
وهي تدفع خصلة شعر مُتهدلة على جبهتها: ماذا تريد أنت؟
أزمعت — لتُسكِته — أن تُعيد إليه ما يُوجهه من أسئلة، تضع أمامه حائطًا مسدودًا يصعب عليه اختراقه.
لا تخشاه، ليس ثمة ما تخشاه. كان يُهددها بأبيها، لا أحد يُهدِّدها به، منذ رحل أبوها.
•••
قالت أمُّه وهي تضع أطباق الطعام على المائدة: لا نراك إلا عند مجيئك للنوم.
وعلا صوتها بالاستنكار: هل ضاقت بك الدُّنيا فلم تجد بنتًا من دينك؟!
أعادت مُلاحظتها بإقدامِه على الفعل، دون أن يتدبَّر ردَّ الفعل في التصرُّفات المُقابلة.
قال أبوه: لو أن الحُب يجمعكما بالفعل … أقنِعها بدخول الإسلام.
وعلا صوته بنيرةٍ مُشفقة: لا تُوجَد قيود تحول دون تبديل غير المُسلمين لدينهم.
ونظر إليه بمعنى أنه يقرأ مخاوفه: المسلمون وحدَهم يواجهون حُكم الردة! انتزعت أمُّه بسمة فاترة: أنت تُضيِّع عمرك على زواج، لن يحدُث!
١١
كنيسة البازيليك ذات القباب الهائلة، المُتداخلة، تتوسَّط الميدان، والأبراج المُتقابلة، ومستطيلات الدوائر المُصمتة، ونقوش الصلبان، والأفاريز المحيطة بالأسطح المتعددة، والنوافذ الزجاجية الملوَّنة.
قدَّر أنها بُنيت في الخلاء، ثم أخذت الشوارع والحدائق — من حولها — شكل الدائرة، تهب ميدان الأهرام اتساعًا، بامتدادها — من الواجهة — إلى سينما الحرية، وسينما نورماندي، والكوربة، وبالميرا، والأمفتريون، وملاهي أدهم، وشركة مصر الجديدة، وجروبي بشرفته الواسعة المُطلة على مبنى الوزارة المركزية، وشركة مصر الجديدة، وسينما بالاس، ونادي سبورتنج؛ ومن اليمين، صفٌّ من البِنايات ذات النسَق المُوحد، تشي الطوابق العالية والأعمدة المنقوشة والأقواس الحجرية والمُقرنصات والزخارف والبواكي ببدايات الحي، وتقاطُعات الطريق إلى شارعي دمشق وبيروت، وشارع السباق، والميرلاند.
فطن إلى مئذنة — على ناصية الميدان — تلاصقت الأشجار حولها، أشبَه بغابةٍ تُفضي إلى شارع بيروت، قدَّر أنها لمسجدٍ مما اعتاد وجوده بالقُرب من أية كنيسة. من اليسار طريق مترو النزهة، وكنيسة الموارنة، والشوارع المُتجهة إلى شارعي الثورة والعروبة، وقصر البارون إمبان بقبابه، وأبراجه المخروطية، وامتزاج عمارته، والتماثيل الصغيرة، في الواجهة، وعلى الجانبَين، بين النسقَين الهندي والمغولي. من الخلف مُستوصف الدليفراند، على ناصية شارع هارون الرشيد، يستعيد فيه زحام شارع السد، الدكاكين والأسواق والمقاهي والسيارات وعربات الكارو والحنطور واليد والباعة الجائلين والتندات واللافتات وامتداد المفارق، حتى المدرسة الإنجليزية.
وهو يُشير إلى الأبراج والقباب المتلاصقة: بناية كبيرة.
ومضت شفتاها ببسمة اعتزاز: أنا كاثوليكية، تابعة للفاتيكان، في هذه الكنيسة يُقيم مندوب البابا.
الدرجات الرخامية تصعد إلى الباب الخشبي الضخم، يُفضي إلى قاعة رخامية، على جانبَيها أعمدة تعلو إلى السقف العالي، وحجرات مواربة، أو مُغلقة، تمازج الهدوء والسكينة والرائحة الذكية، الغائبة المصدر.
وقع أقدامهما على الأرضية الرخام يُعمقه الصمت السادر. تشاغَلا —ربما للتخلُّص من الارتباك — بالنظر إلى الصور، والأيقونات، والتماثيل، والأثاث القليل المُتناثر في الحجرة الواسعة.
تبادلا النظرات في جلستهما — متقارِبَين — على الكرسي المُواجِه للباب المفتوح. حدس أن الحجرة لاستقبال الزوار، تناثر في أركانها مقاعد خشبية، أشبه بما صُفَّ في قاعة الصلاة بكنيسة الزيتون. الزجاج الملوَّن الشفَّاف يعكس ضوء النهار، الجدران خالية، إلا من رسمٍ كبير مُلوَّن — وسط المكان — للسيد المسيح في وقفة دعاء، وثمة نجفة لا تتَّسِق بساطتها مع فخامة المكان.
النحنحة المُترامية من خارج الحجرة، دفعتهما إلى الوقوف بتلقائية. القامة الطويلة، والنظرة المُتجهمة، والملامح الساكنة، حرَّكَت في داخله إحساسًا بعدم الارتياح، ولعلَّه شعور بالكراهية، أعرف أنك لن تُوافق، لكن الظروف أجبرتني على الوقوف أمامك، ولا بد أن أنتزع موافقتك.
تكلَّم ماهر فيما قَدِما لأجله.
استنكر — في داخله — ما لجأ إليه من عبارات قد لا تُرضي المطران، أو تُضايقه، أُفضِّل السَّير في الطريق المُضيئة، ليتَك تُعامِلنا كما يُعامِل الأب أبناءه، تُعاهِدنا على أن يحترم كلٌّ منَّا ديانة الآخر، وعبارات أخرى كثيرة أملاها الارتباك، لم يُعِدَّها ولا تدبَّر وقعَها في نفس الرجل الذي واجهَهُ بعينَين مُلتمعتَين، ساكنتَين.
اتجه المطران بنظرته إلى سيلفي: أنت مسيحية … وضع الله هذا الشابَّ في طريقك لاختبار مدى إيمانك.
وجد في انكسار عينَيها ما شجَّعه، فاستطرد: عليك أن تُثبتي قوة هذا الإيمان.
كانت لهجة المطران هادئة، لكن النبرات بدَت مُتوعدة، كأنها تتعمَّد بثَّ الخوف في نفسها. آلَمَته الجرأة التي تصرَّفت بها الفتاة، خالفت دِينَها وأسرتَها، وفرَّت مع شابٍّ لا تعرف أصله، لتتزوَّج منه.
قال إن ما حدث هو غواية من الشيطان، كي تتحدى سيلفي إرادة الله، هدَّدها بأنه لن يكون لها مكان في الكنيسة الكاثوليكية.
واكتست نبراته صرامة: ستُواجِهين بهذا القرار متاعِب لا نهاية لها.
ثم وهو يلوِّح بسبابتِه أمام وجهها: لا بد أن تُراجعي قرارك.
هذا هو الزوج الذي تُريده، لا تتصوَّر بابًا يُغلَق عليها مع شخصٍ آخر.
قال المطران: إذا تزوَّجتِ خارج الكنيسة فستُواجهين مصيرك بلا أهلٍ ولا كنيسة.
وعاود هزَّ إصبعه: ستُواجهين مصيرك بمفردك.
لاحظ زمَّها شفتَيها كمن تهمُّ بالبكاء: ما تنوِين فعله يهبط بك إلى مرتبة المُومِسات.
ضغط ماهر على يدِها لتتماسَك أمام الكلمات القاسية.
أُصِرُّ على الموافقة، وتصرُّ على الرفض، الموافقة حقِّي، أما الرفض فلا بدَّ أن تبتلِعه في النهاية، لا شأن للدين ولا الكنيسة، ولا شأن لك بقرار زواجنا.
قالت، وهما يتَّجِهان إلى محطة الأتوبيس في الكربة: لماذا لا تتحوَّل إلى المسيحية؟
أشار إلى صدره بعصبية: أنا؟
قالت: لماذا أتحوَّل إلى الإسلام؟
– لأنه يوافق على زواج الرجل بالكتابية، بغير المُسلمة.
وهي تُعبر بيدَيها: المسيحية لا توافق … المشكلة واضحة!
•••
واتاه السؤال، ألقاه دون تدبُّر: الإسلام يوافق على زواج المُسلم من الكتابية … لماذا ترفض الكنيسة؟
لم يكن مُحسن عبد العاطي — زميله في إدارة النشر — يُخفي اعتزازه بأنه من حملة كتاب الله، وكان ماهر يطمئن إلى إلمامه بقضايا الزواج والطلاق والمواريث، وإن شدَّد على عدم تفقُّهه في المذاهب السنية الأربعة، ولا مذاهب الإسلام الأخرى.
مطَّ محسن عبد العاطي شفتَه السفلى: اسأل الكنيسة!
– حصل. قال الأب: كفر!
بحلقت عينا مُحسن في استغراب: هل كنتَ تتوقَّع موافقته؟!
١٢
نزل من المترو في محطة الإسعاف.
مضى — للمرة الأولى — ناحية شارع بولاق، مبنى مصلحة الكهرباء والبنايات القديمة والدكاكين المتلاصقة والزحام. مال — كما حدَّدت له العنوان — من الشارع الجانبي، قُبالة سينما علي بابا، مقهي — على الناصية — يشغل مساحة الطابق الأرضي، امتلأ بالطاولات والدخان والصيحات والنداءات والشتائم، الحارة الضيقة تفصِل بينه وبين البيت الذي يقصده.
تحسَّس طريقه في ظلمة السلالم الحجرية، يلتفِت — بعفوية — إلى الظُّلمة المُتكاثفة، توقفت خطواتها في الطابق الأول، وضغطت الجرس.
الخالة إيفون، هي الشقيقة الكبرى لأُمِّها، رآها يوم جنازة السيدة كاترين، واليومَين التاليين.
تقترب من الستين، وإن بدت — على امتلائها— نشطة، وخفيفة الحركة، وتُكثر من الكلمات المُرحِّبة، وتعبيرات الوجه واليدَين، الوجه مُستدير، مُمتلئ، والجبهة عالية، والصدغان مُتهدلان، والعينان طيبتان، لا تخلوان من مكر، لها شارب خفيف فوق شفتَيها، ترتدي فستانًا من الكستور المُشجر، بطول قامتها، تُحيط معصمها بسوارٍ من الخرَز الزجاجي، وتدسُّ قدمَيها في شبشبٍ من البلاستيك المُتشابك.
ما رسمَه خيالُه لم يتَّفق مع ما شاهده.
طرح التساؤل نفسه في الأختَين الأميرتَين، تُقيم الصغرى في فيلا بالزيتون، والثانية في بيت قديم ببولاق؟
الردهة الضيقة تُفضي — على اليسار— إلى حجرة صغيرة، بها كنبة فُرشت بسجادة من مزَقِ الأقمشة الملوَّنة، وكرسيان من خشب الزان، ومنضدة مستطيلة، فوقها بوتاجاز مسطح وأوعية، على الجدار المَطلي — بالجير — بلونٍ سماوي، صورة نصفية كبيرة للعجوز الجالس قرب الشرفة، ونتيجة انتهى عامُها، فلم تنزع من موضعها. الشرفة الخشبية، المُتشقِّقة، تطلُّ — من الجانب الأيمن — على شارع بولاق، تطؤها قدَما الخالة إيفون، فتُحدث صريرًا.
استعادت أيام ما قبل ١٩٥٦م: لم يعُد إلا القلَّة من الجاليات الأجنبية، لا بأس من أن يعودوا إلى أوطانهم.
وأشارت إلى الرجل الواقف في مدخل الحجرة: عمك لويجي.
افترَّ فمُه عن أسنانٍ مُهشمة، مُصفرَّة.
استعاد ماهر ملامحه في الجنازة، جسده المُمتلئ، ووجهه المكوَّر، وأذنَيه العريضتَين، وعينَيه الخاليتَين من الرموش، والذقن العريض، والندبة البُنية الداكنة بحجم الترمسة في خده الأيمن، تتبايَن التجاعيد في وجهه مع شَعرِه المصبوغ بالسواد، يرتدي بلوفر من التريكو، في هيئة مُربعات لونية، يغلِب عليها اللون الأسود.
وشى صوتُها بالتأثُّر: وُلِدنا في القاهرة، لا نعرِف مدينة سواها، ولا نتصوَّر أننا نبتعِد عنها.
لاحَظ في صوتها غُنَّة واضحة. إن ابتسمت ضاقت عيناها، بدتا خطَّين، يعلوهما حاجباها المقوَّسان.
وتطلَّعت إلى الصورة المُعلقة على الجدار: الشجرة الصغيرة يسهُل نقلُها، إذا كبرت فإن محاولة النقل تُميتها.
ورفَّ على شفتَيها ظل ابتسامة: خمس سنوات بعد الحرب أثبتت صواب ما فعلناه.
كانت سيلفي قد حدَّثته عن الخالة إيفون: روت لي من الحكايات ما يَكفي لأن أستعيدَها على امتداد العمر، أتصوَّر أني نسيت، لكنني ألتقِط طرف الخيط، فلا أصِل لنهايته.
وهو يغتصِب ابتسامة: إيطاليا بلد جمهوري، حدثتني سيلفي عن أُمِّها الأميرة.
قالت الخالة إيفون: نحن إيطاليون بالفعل.
واتته جرأة: لكنها ليست أميرة.
دون أن تُجاوز بساطتها: قيام الجمهورية بدَّل أوضاع العائلات.
وأشاحت بيدها: ذلك زمن قديم، نحن الآن مُواطنتان من مصر … هي من الزيتون، وأنا من بولاق.
وربَّتت صدرها: أنا من بولاق.
ثم في نبرة متأثرة: لا أحد من أبناء أختي يزُورني، عدا سيلفي.
وخنق التأثُّر صوتها: حتى كاترين، أدعو لها بالرحمة، كانت سيلفي تنقِل عنها السلام.
أدرك أن سيلفي تُعاني. فطن إلى تأثُّرها بما كان لدى الأم — ربما — من ميولٍ استعراضية، تستخدِم مفردات الأم، وتُحاكي ما كانت تحرص عليه من تصرُّفات.
حدثته عن الاعتزاز الذي كانت تنظر به السيدة كاترين إلى نفسها، هي أعلى في المكانة الاجتماعية من زوجها، من حقِّها، وواجبها، أن تفرض سيطرتها على البيت ومَن فيه، تتحكَّم، وتُصدِر الأوامر والتحذيرات، تُحدد أوقات الطعام والفراغ والسهر وسماع الأسطوانات. وكانت ترتدي ثيابًا أنيقة كما يليق بحفيدة أميرةٍ إيطالية، وتحرص على ثياب الخروج داخل البيت.
يدفعها الشعور بالتفوُّق إلى إبداء ملاحظاتٍ قاسية. يتظاهر المسيو ميكيل بالموافقة، وإن حرص ألا يترك لها فرصة حقيقية للسيطرة عليه.
عرف — من تناثر كلمات أنطوان المُلمزة — أن المسيو ميكيل تعرَّف — بعد إحالته للمعاش — إلى بائعة أربعينية، لحيمة الجسد، مكحولة العينَين، في سوق الخضر القريب من الكنيسة، تحدَّث عن السأم الذي يدفعه للتردُّد على فرشتها داخل السوق، يُضيفان إلى البيع والشراء حكاياتٍ تشرُق وتغرُب، تتراوح ردود أفعالها بين البسمة والضحكة العالية، يُضيفها إلى الكفَّين والقدمَين المُخضبة بالحناء، واهتزاز الثديين إذا تحرَّكت، أو تكلَّمت، وأساور الذهب المُلتمعة في ساعدَيها، ومنديل الرأس الأسود الذي عصبت به رأسها، زيَّنت أطرافه بحواش مُطرزة.
عرف أنطوان أن العلاقة جاوزت الحكي لمَّا رأى أباه يُغادر — ذات مساء — بيت البائعة في عطفة خزام.
لزم المسيو ميكيل البيت دون أن يُشير إلى ما كان، ولا إلى بواعث انقطاعه عن البيت. هل رأى أنطوان، الذي تظاهر بأنه لم يرَه؟
صادق أبونا امرأةً من الشارع، وها نحن نُحاكيه … صداقة أبينا والمعلمة فتحت الطريق للعلاقات الكاثوليكية الأرثوذكسية الإسلامية … لو لم تمرَض أمُّنا، وانشغل أبونا بأمورنا، بدلًا من الغِناء الغبي والصرمحة وراء النسوان، ما كنتِ [ينظر إلى سيلفي] تركتِ الدراسة، وأمضيتِ وقتك خارج البيت … هذا الرجل القبطي، هل كان يتردَّد على الفيلا لو أن أبي عرف واجباته؟ … أثق أن سكوت أُمِّنا عن تصرفات زوجها هو الذي سيُدخلها الجنة.
قال أنطوان: نحن ندفع ثمن الإقامة في الزيتون.
قالت الأم: عندما أقَمْنا بالفيلَّا، كان الحي كله فيلات وقصورًا وحدائق وزراعات.
وأشارت بيدها إلى ما حولها: لم نكن نتصوَّر هذه الأيام!
وقالت في نبرة مُتصعبة: راح زيتون الحلم الجميل، وجاء الكابوس الذي لا يرحل!
كان الزيتون — في ذاكرة السيدة كاترين — حيًّا للأجانب والأثرياء، القصور والفيلات والحدائق والشوارع النظيفة، لا تذكر — بالتحديد — متى تبدَّل الحال. ربما في أعوام الحرب العالمية الثانية، انتقلت — بعدها — إلى الحي أُسَر من الأحياء المجاورة والبعيدة. علت البنايات، وافتُتحت دكاكين الحرفيِّين، وأُقيمت أسواق الخضر والفاكهة.
لم تكن تُخفي استياءها من تغيُّر صورة الحياة في الزيتون، غاب ما كان يتَّسِم به الحي من هدوءٍ وتجاوُرٍ للقصور والفيلات والحقول والحدائق، اختفت السواقي في أطراف الحقول، وأشجار الموالح والجوافة والموز والبانسيانا والكافور، تحوَّلت الخضرة إلى أراضٍ بور، ثم بُنِيت فوقها العمارات والورش والمخازن والأسواق، تخلَّلتها الشوارع الضيقة والحواري، وقدِم السكان الجُدد بالزحام والضجيج والتلوث، أعداد بلا حصر، جاءوا من الأحياء البعيدة والقريبة.
ترامت إلى الفيلا — فيما يُشبه الصدى أو الهمس — تلك الصفة المقتضبة: الخواجات، حتى الحرفيون ورواد المقاهي في شارع سنان كانوا يتهامسون بالصفة، عند قدوم أفراد الأسرة من — وإلى — طريق جسر السويس.
قالت: سادة الزيتون الآن لم يكونوا يجرءُون على السير في شوارعه! وأغمض التأثُّر عينيها: كنت أكرَه الأشجار لأنها تحجب الرؤية … الآن أُحبها للسبب نفسه!
ورافق إغماض العينَين تحريك الرأس: لم يعُد حولنا ما يُغري بالرؤية!
قال جان: أهذا رأيك بعد أن ازدحم ما حولنا بالبنايات؟
– فيها ما لا يُغري بالرؤية!
لاحظ ماهر غضب الخواجة لويجي لغياب المكرونة عن المائدة: نحن طلاينة، مائدة الإيطالي لا تخلو من المكرونة!
غالب ماهر ارتباكه: ما على المائدة يكفي.
ورسم على شفتَيه ابتسامة: بصلة المُحب خروف.
قالت الخالة إيفون: تترُكين ديانَتَك من أجل الزواج؟
– ماهر وافق أن أظلَّ على المسيحية.
قال ماهر وهما يهبطان درجات الشهر العقاري: الشهر العقاري يُصر على موافقة الكنيسة.
– كما تري … لن توافق الكنيسة.
– والحل؟
– ما تريده سأفعله.
غالب تردُّده: هل تُعلِنين إسلامك؟
أضاف للرفض في عينَيها: ستظلِّين مسيحية. إعلان الإسلام للفرار من ضغط أهلك، ورفض الكنيسة.
– دعني أفكر.
– لسنا مُتعجلين!
حرَّكت رأسها فيما يُشبه اليأس: كلُّ الطرق مسدودة.
قالت الخالة إيفون: هذه الطريق أيضًا ليست صحيحة. نعتنق دينًا لأننا نؤمِن به وليس لأنه يجمعنا بمن نُحب!
– ماذا أفعل؟
شعر في صوت سيلفي بتماوُج الحيرة والقلق.
قالت الخالة: كما اتفقتما، فليظلَّ كل منكما على دينه.
زفرت في ضيق: الكنيسة ترفض.
– لكن القانون يوافق.
واتجهت إلى ماهر بنظرةٍ متسائلة: لو أن سيلفي أرادت أن تذهب إلى الكنيسة … هل توافق؟ وهو يومئ برأسه: هذا شأنها.
– مسايرة للظروف؟
– أظن أني لستُ شديد التديُّن!
قالت الخالة لسيلفي كالمُتنبِّهة: الدراسة … ألا تنوين استكمالها؟
طوَّحت أصابعها في تهوين: لن أكون الوحيدة التي تدرس وهي متزوجة.
١٣
أخذت منه الورقة، وأعادت قراءتها: «مكتب الإمام الأكبر شيخ الأزهر.
بعد حمد الله والصلاة والسلام على خير رسُله، وأفضل خلقه، محمد ﷺ، تشهد مشيخة الأزهر أن السيد … والذي كان يعتنق قبل اليوم، الديانة المسيحية، ومذهبه فيها … قد حضر إلينا راغبًا في اعتناق الدين الإسلامي.
قالت: هل أملأ هذه الورقة؟
– قبلها تقرئين الفاتحة، وآيات من القرآن، وتنطِقين بالشهادتَين.
– فقط؟
– هل تتصوَّرين شيئًا آخَر؟
نفضت رأسها بمعنى أنها لا تعرف.
عدل الشيخ عباءته على كتفَيه، ورنا إلى سيلفي بنظرةٍ متسائلة: تُريدين اعتناق الإسلام؟
أومأت بعينَيها.
فاجأها الشيخ، فاجأهما، بمؤاخَذة بعض طالبي التحوُّل من المسيحية إلى الإسلام، يَطلبونه لتيسير الزواج من مُسلمين، أو الطلاق من مسيحيين.
حدجها بنظرة متوجِّسة: هل تحفظين القرآن؟
هزَّت رأسها.
– هل تحفظين القرآن؟
عاودت هَزَّ رأسِها.
– كله أو بعضه؟
رنت إلى ماهر بنظرةِ استغاثة.
علَّمها الفاتحة، وسورًا قصيرة من جزء عم، وقلَّدته في الوضوء وحركات الصلاة.
قال الشيخ ليُحرك صمتها: هل أنت جادَّة في اعتناق الإسلام؟
ثم وهو يتفرَّس في وجهها: هل تعتنِقين الإسلام عن رضًا؟
ونقل نظرته إلى ماهر: المسلم الحق لا يُكرِه أعزَّاءه على الإسلام.
ونقر على المكتب بطرف القلَم في يده: إذا كان قد اشترط لزواجكما أن تعتنقي الإسلام، فهذا إكراه.
قال ماهر: لم يدفعها أحد.
ودون أن يتدبَّر كلماته: أنا لم أُناقشها في الدين أصلًا.
استطرد موضحًا: لا تشغلني ديانتها، وما إذا كانت مُسلمة أم مسيحية.
وغالَب انفعاله: يشغلني أن أتزوَّجها بلا عقبات.
نحَّى الشيخ الأوراق جانبًا: إذا اعتنقت الإسلام فلأنها تُريد اعتناقه!
وهما يُغادران دار الإفتاء، تصاعدت الأسئلة في نفسها، وإن ظلَّ صامتًا: هل يكفي الحُب للتحوُّل عن الدين الذي نشأنا عليه ونعرفه، إلى دينٍ آخر لا نعرف عنه ما يدعونا إلى اعتناقه؟ وهل أحبَّته بالفعل، أو أنه الشابُّ المصادفة في طريق أزمتها؟
قال: سنعود، لتُعلِني إسلامك.
ثم وهو يُداري ارتباكه بابتسامةٍ فاترة: سيُصبح من حقِّنا أن نتزوَّج على يدِ مأذون!
فاجأته بالقول: هل أتخلَّى عن الكاثوليكية بالفعل؟
حدَّق فيها، يُحاول قراءة عينيها: ماذا تقصدين؟
– هل أُسلم لأتزوَّجك؟
يعجز عن التقاط حقيقة مشاعرها، ابتسامتها الدائمة المُحايِدة تُخفي المعنى حين تتكلَّم معه، أو تظلُّ صامتة.
– أعرف أنه سيكون مثل إسلام نابليون وهتلر.
أرجع ما قال إلى الانفعال الذي لا يُنكره في نفسه.
رفعت عينَين مُتسائلتَين: ما شأني بهما؟
– كان إسلامُهما لهدف.
وشحب صوته فبدا كالهمس: وإن لم يتحقَّق!
١٤
حين مات الأب، بدا كل شيء كأنه إعادة لما عاشوه عند رحيل الأم. كل الخطوات منذ لحظات الوفاة حتى العودة من مدافن مار جرجس. رحل الأب دون مُعاناة، شهق بالألَم، وظلَّت عيناه الزرقاوان المفتوحتان ساكنتَين.
مد أنطوان يده، فأغمضهُما.
عانت الأم حتى بدا موتُها مُتوقعًا، ربما — كل واحد بينَه وبين نفسه — أن تأتي النهاية التي طال توقُّعها. أجهدَهم الإشفاق، والترقُّب، وأوقات الأزمة، واستدعاء الطبيب، والأدوية في مواعيدها، وعودة الأب يوحنا إلى الكنيسة دون أن يُعطيها المسحة الأخيرة.
ما كاد ظلُّ الحزن الثابت — بعد رحيل الأم — يتحرك، يستعيدون أيامَها كمادةٍ للتذكُّر، وليس للحزن، ربما ابتسموا، أو علَت ضحكاتهم لتصرُّفٍ، أو لقول … ما كاد الحزن يشحب، حتى رحل الأب.
عاد الحزن ظلًّا ثابتًا، كما كان.
قالت سيلفي: بعد وفاة أُمي، توقَّعتُ أن يلحق بها أبي.
أردفت في تأثُّر واضح: من المُستحيل أن يعيش بدونها!
تملك الأب في يومِ رحيلها ما يُشبه الشرود، أو الذهول، غنَّى، ونادی باسم كاترين، ورفض طلب أنطوان أن يستبدل ملابسه، وتابع خروج التابوت من البيت بعينَين ساهمتَين، ولم يُشارك في الجنازة. ظلَّ في البيت بمفرده، حتى عادوا من المقابر، لم يُظهر اهتمامًا، ولا وجَّه أسئلة.
بدا التغيُّر واضحًا في تصرُّفات العجوز. ظلَّ على ميله إلى الغناء، يعلو صوته بألحانٍ أوبرالية، لكنه أطال الصمت، والانطواء على نفسه، يكتفي بساندوتشات تُعِدها له دومينيك أو سيلفي، لا يجلس إلى المائدة، ينتقل بين الشرفة وحجرة النوم، غلب عليه الحزن وبطء الحركة.
لم تتصوَّر سيلفي أنَّ البيت يخلو — في بضعة أشهر — من أُمِّها وأبيها، بدا المستقبل محملًا بالتوقُّعات القاسية.
قالت: يجب أن نؤجِّل خطبتنا مرةً ثانية.
رمقها بارتياب، عرف أنها تُخفي ما لا تبوح به.
– قد يكون التأجيل حتى أجد عملًا، ويُتاح لنا العثور على شقةٍ مناسبة.
– كل بحثنا في الزيتون … لماذا لا نبحث بالقُرب من بيتنا في المواردي؟
ثم وهو يُغالِب توتره: متى تزورين أُسرتي؟
– لن أحتاج إلى دعوة.
ورفعت إصبعها في وجهه: لِأزور أُسرتك وليس للبحث عن شقة، يصعُب أن أبتعِد عن الزيتون.
١٥
تغيَّرت الجلسة.
جلس أنطوان على رأس المائدة، وإخوته على الجانبَين. أعاد أنطوان كلمات الصلاة التي كان يُردِّدها أبوه قبل تناول الطعام «تباركت يا رب، يا من تعولنا منذ حداثتنا، وتهبنا خيراتك، وتُهيئ الغذاء للجميع، لأن أعيُن الكل تترجَّاك، فأنت تُعطيهم طعامهم في حينه، تفتح يدَك فتُشبع كلَّ حي رضي، لك المجد والتسبيح والبركة والشكر على كل ما أعددتَ لنا من الطعام الموضوع على هذه المائدة المُعدة لغذاء أجسادنا، اجعله شفاءً وقوة لحياتنا الجسدية، امنح خلاصًا ونعمةً وبركة وطهرًا لكلِّ المُتناولين منه، ارفع عقولنا إليك كل حين، لطلب طعامنا الروحي غير البائد، أعطِنا أن نعمل للطعام الباقي للحياة الأبدية، وهب لنا نصيبنا في الاشتراك في وليمتِك السماوية، امنحنا خُبز البركة وكأس الخلاص، واملأ قلوبنا من البهجة والفرح، أنعم علينا بحياةٍ مُطمئنة هادئة، وسعادة في النفس، وصحة في الجسد، وقداسة في الروح، علِّمنا أن نطلُب رضاك في كلِّ شيء، حتى إذا أكلنا أو شربنا أو عمِلنا أي شيء، نعمله لمجد اسمك القدوس، لأن لك المجد إلى الأبد، آمين».
دعا الله أن يُبارك أفراد الأسرة، ويبارك البيت، ويحفظ على الجميع نعمة الحياة.
فعلوا ما كانوا يفعلونه عندما يصلي أبوهم، أحنَوا رءوسهم، وأخفضوا أعيُنهم، ورسموا علامة الصليب، وحاولوا التأمُّل.
•••
قال جان: أنطوان أخذ كل شيءٍ لنفسه … لم يترك لنا شيئًا.
ثم في نبرة مُفعمة بالأسى: مشكلة أنطوان تصوُّرُه أن كلَّ ما في البيت ملكه الشخصي، هو الوريث الوحيد حتى مِن قبل أن يرحل أبي!
بدا أن أنطوان لم يعُد يُعطي حسابًا لأي شيء، لا علاقات أُسرية، ولا أخوَّة، ولا حتى قوانين تمنعه، ما يُريده يأخُذه، لا يسأل ولا يُناقش، دائم التوجُّس، يرمق ما حوله بعينَين متلفِّتتَين.
ورفع نظرة حيرة: كيف نُواجه الظروف في الأيام المقبلة؟
رسم الأب على صدره إشارة الصليب: تذكر قول إنجيل متى: «فلا تهتمُّوا للغد، لأن الغد يهتمُّ بما لنفسِه، يكفي اليوم شره».
١٦
ألقى نظرةً سريعة على الناحية المُواجهة.
امتداد نصوح إلى محطة القطار مُزدحم بعربات اليد والباعة والمارَّة، والغروب القريب يدفع محل كريشة والمحالَّ المجاورة إلى الإضاءة. رأي عبد الرحيم بائع الأقمشة في الدكان المُقابل للكنيسة — شتمه المسيو ميكيل حين عرض الزواج من دومينيك — يقف خلف البنك بقامته القصيرة، وشعره المُفلفل، وبشرته السمراء، ووجهه المُستدير، والشفتَين المُمتلئتَين، يعلوهما أنف أفطس. الأرفُف من خلفه، رُصَّت فوقها أثواب القماش، يقيس ما يُعِدُّ لبيعه بالمتر الخشبي. الرجل — في رواية سيلفي — كوَّن ثروته من تجارة السوق السوداء، ومن بَيع أكفان الموتى. أضاف إلى بيع الأقمشة بالبطاقات — في أعوام الحرب العالمية الثانية — مواد التموين التي تباع بالبطاقات: السكر والزيت والصابون والشاي، خصَّص لبيعها دكانًا صغيرًا، مُلاصقًا.
مال إلى شارع نصوح الهندي، الكناس العجوز يُكوِّم أوراق الشجر المُتساقطة في جانبَي الشارع.
قبل أن يميل في اتجاه الفيلا، لامست أنفُه رائحة الياسمين، ذابت في أريجها روائح القمامة في الخرابة المهجورة أول الشارع، والبِرَك الصغيرة المتناثِرة.
طالعته — بمفردها — تستند بكوعِها إلى سُور الشرفة، أحكمت الروب المُشجَّر حول نفسها، وتطلَّعت إلى الطريق الخالية، من خلال أغصان الشجر التي تساقط معظم أوراقِها.
قالت لنظرته المُتلفتة: دومينيك مريضة.
ونترت قطرات مطر حملَتْها الريح إلى داخل الشقة: صحبها عيَّاد إلى الطبيب.
أدرك أنه لا يُوجَد في البيت سواهما، سيلفي وهو، ارتباكه وكلماتها المُتوترة.
عرف من كلماتها أن دومينيك تقوم بأعمال البيت، لا تُشاركها خادمة مُقيمة في البيت، أو تتردَّد عليه.
قفز السؤال إلى ذهنه: هل هذه حياة أسرة، كانت الزوجة أميرة، وكان الأب — قبل رحيله — موظفًا في بنكٍ أجنبي؟ الفيلَّا تشي بعزٍّ قديم، لا يجد امتدادًا في حياة أهلها.
أهمل ما هبَّ عليه من الريح الساخنة، تُعمق الاختلاف، وما يُباعد بينهما، حتى الحياة في فيلَّا الزيتون، وفي شقة المواردي، تجعل لكلٍّ منهما عالَمه الخاص، لا صِلة له بالآخر.
قال ليُبدِّد الصمت المُنفعل: ألا يزال أنطوان يرفض زواجنا؟
عرف أنه لا فائدة، وإن فرَض مقاطعة صامتة!
– هل أُكلمه؟
– سيتصور كلامك ضعفًا.
وأشاحت بذقنها: من كنتُ أخشي غضبهما ماتا.
ووشی صوتها بالاستياء: أنطوان تُهِمه أخلاقُنا، لكنه بلا أخلاق، ما يفعله لمجرد السيطرة!
زادت من إحكام الروب حول صدرها: برد؟
كانت الريح تعصف بأشجار الحديقة، يصدر عنها ما يُشبه الحفيف أو الوسوسة، يتوالى سقوط الثمار على الأرض في ارتطامٍ مكتوم، رءوس الأشجار تهتز، وهبَّات الهواء الباردة تنفُذ من بين الفروع، تنفض قطرات الماء العالِقة بها، تتناثر القطرات في المساحة وراء إفريز الشرفة وداخل الفيلَّا.
ثم وهي تتهيَّأ للقيام: ندخل.
وعلا صوتها بلهجةٍ مُرحبة: خروج دومينيك فرصة لتُشاهد حجرتنا.
الحجرة تُطل على منور يفصلها عن البيت المجاور من الخلف، جدرانها من عروق الخشب المطلية باللون الأبيض، في الوسط سجادة صغيرة ذات ألوان، وكومودينو فوقه فازة من الكريستال، فيها زهور صناعية بهتت ألوانها. على الجانبَين سريران منفصلان، أحدُهما — الذي اختارت سيلفي الجلوس عليه — منكوش الأغطية.
لا يدري من همس بالنداء، ومن اقترب بالاستجابة.
نزعت الروب، كوَّمته، وألقته على السرير جوارها.
– هنا أدفأ.
التقطت نظرتَه المُحدقة في بطن ساقها.
وهي تفرد راحة يدَها في وجهه: عينك!
قال: تتكلَّمِين كالمصريين!
– أنا كذلك بالفعل.
ومالت برأسها ناحيته: من تظنُّني؟
رنا إلى النهدَين المُتحرِّرين من السوتيان، تحت قميص النوم الأسود، المطرَّز بالدانتيل، يشي المَنبت باستدارتهما المُتماسِكة، وطزاجتهما، شعر — للمرة الأولى منذ تعرَّف إليها — بتوتُّرٍ في ذكورته.
مدفوعًا بجرأة لم يعهدها في نفسه: مُمكن؟
اتسعت عيناها بالتساؤل.
همس: ألمس صدرك؟
وضعت في عينَيها لينًا مُحرضًا: ما يمنعك؟
وشی ارتجاف أصابعه بارتباكه. حاول المُلامسة بالجرأة المواتية، ترك لأصابعه الإبانة عن ألَق التعري، لامس الجسد الباذخ بيدَين تائهتَين. لفَّت ذراعَيها وساقَيها حول جسده، اجتذبتْه فيعجز إلا عن إروائها.
جاست اليدان في الأحراش الناعمة، الباذخة، وما كانت العينان تُخالِسه النظر. باحت الأسرار بطلاسمها، اختلطت، وتشابكت، وجوه وملامح وكلمات: شارع المواردي، وفيلَّا الزيتون، وغناء المسيو ميكيل، والانتظار، والشوق، واللهفة، وتهويمات الأحلام، والشبَق، والرهبة، والتوتر، والاكتشاف، والفقد المُستعاد، واندفاع الطوفان، وإهالة التراب على جسد الأم، واجتذاب الدوَّامة للقرار الذي لا يُدركه، وميدان ابن سندر، وتعالِي أجراس الكنيسة، وعظات الأب يوحنا، وقول الخالة إيفون: هل توافق على أن تحتفظ سيلفي بدينها؟ والنافذة المُطلة على النيل، وزفرة السيدة كاترين: لم تعُد الزيتون كما كانت، وزحام شارع السلطان سليم، واستطالة الظلال، والإيماءات، وتوسُّط قوس قزح وسط السماء، وتطوُّح الذاكرين — على أنغام الأورغن — في خيمة الصوفية، وإبحار القارب في أمواجٍ مُتلاطمة، وعلو أجراس النشوة، وترامي صوت أم كلثوم من راديو قريب: شمس الأصيل نورت فوق النخيل يا نيل، وثمَّة القُرب والبُعد والانثناء والتقلُّب والتمدُّد والعِناق والتصلُّب، وهمس الغمغمات والتمتمات والدمدمات، والأنين الخافت، والعينَين المُغمضتين، والشفتَين السخيَّتَين بما لم يتوقع، والأُف التي لا يدري إن كانت تُعبر عن الألم أم اللذة، وإن توضَّحت النشوة في انثناء الإصبع الكبير للقدم، وتمزيق الأظافر لبشرة الذراعَين يشي باللذة، ويحضُّ عليها، تشابكت الأيدي والأقدام، بدا الجسدان قطعةً واحدة، مُتكوِّرة.
•••
علا حاجباها بالدهشة: يُهمك الأمر؟
غالَب ارتباكه: ألا يُهمك؟
وهي تُشيح بيدها: إنها حادثة قديمة.
– من؟
– كنت صغيرة.
– لا بد أنك تذكرينه … من هو؟
– صديق لأخي أنطوان.
وشردت بعينَيها فيما يُشبه التذكُّر: دخل حجرتي — ليلة — بعد عودتي إلى البيت، لم أستطع المقاومة.
– وهل أخبرتِ أنطوان … أو أُمك … أو …
قاطعته في لهجةٍ مُستغربة: ماذا كانوا يفعلون؟
قال في سرعة، ليقضي على عدم التصديق في داخله، إن حياتها لا تَعنيه من قبل أن تعرِفه.
ضغط على مخارج الكلمات: ما مضي من حياتك مِلك لك تستطيعين إخفاءه.
أضاف بلهجة مُتواطئة: أمامنا حياة جديدة!
وومضت عيناه بالتذكُّر: مَن رفيق؟
أعادت نُطق الاسم: رفيق؟
ذكرت اسمه في أثناء …
وسكت.
قالت: مجرد اسم نطقتُه في لحظة جنون!
١٧
تنقَّل — بأُلفة المكان — بين الصالة — لم يعُد يقصُر جلوسه فيها — والحُجرات المُحيطة بها. البوفيه الأسود، المُغلَق، ضخم بمساحة الجدار، خلف الأنتريه ذي الكنبة والكُرسِيَّيْن والمنضدة الرخامية.
عُلِّق، في أوسط الجدار، جسد المسيح العاري على الصليب، وإكليل الشوك على رأسه، والطعنة في جنبِه الدامي، إلى جواره صليب مِن العاج الأسود، أهداه للمسيو ميكيل تاجِر قبطي من المُتعامِلين مع البنك.
حجرة المائدة في زاوية بين المدخل وجانب الحديقة، تُلاصقها حجرة نوم أنطوان وجان. الجدران مكسوَّة بالورق المُلوَّن، الترابيزة المربعة الصغيرة، المُغطاة بمفرش كروشيه أبيض، تفصل ما بين السريرين، بينهما — أعلى الجدار — لوحة — بدا أنها منقولة عن كارت بوستال — لامرأةٍ عارية، مُمدَّدة على شيزلنج. إلى جوار النافذة المُطلة على الحديقة والشارع، دولاب ملابس من ضلفتَين، ومكتبة صغيرة عُلِّقت على الجدار. في المنتصف طاولة خشبية مُستطيلة، يتقابل في طرفَيها كرسِيَّان، ربما لتناول الطعام والكتابة. في يمين الصالة، حُجرة نوم دومينيك وسيلفي. تتوسط الجدار لوحة، فيها خُضرة منبسطة، وأشجار، وأبقار ترعى. قرأ على العلبة الصغيرة كالحُقِّ عبارة «المناولة الأولى».
دقق في الصورة.
لم يتأكد ما إذا كانت صورة الطفلة الصغيرة لدومينيك، أو سيلفي. صعَّبت الملامح في الذبول الذي يشحب الصورة.
تُقابل الحُجرة حجرةَ نوم الأبوَين، تركها الأب منذ أقعدها المرَض في السرير، يتمدَّد على كنبة الصالة، أو يجلس في الردهة الخالية، يُغني، أو يقرأ الصحف، أو يُسلِّم عينَيه لإغفاءة.
في نهاية الصالة، إلى اليسار، طُرقة ضيقة، مفروشة بسجَّادة طويلة، تُفضي إلى حجرة الصالون، وإلى الحمام والمطبخ.
لم تعُد الحجرة مُغلقة، كان تصوُّره أنهم يحتفظون بأثاثها المُطعَّم بالذهب، والكراسي ذات الكساء الحريري الدمقسي، المُتداخل الألوان، والنجفة المورانو، والسجادة العجمية الفاخرة.
تفتح دومينيك النوافذ على الجانبَين، ومن الخلف، بينما تظلُّ نوافذ الواجهة مُغلقة، لا تُفتح إلا حين تنشغل دومينيك بتنظيف الشيش والزجاج، أو لتأذَن للهواء — وقت الصباح — بالدخول. إن حل الشتاء، يُغلق زجاج النوافذ، ويظلُّ الشيش مفتوحًا للنور.
الأشجار — خلف الحديقة — لم تُقلَّم، فتكاثفت، ألقت ظلالًا دائمةً على النوافذ الخلفية، اكتفى أنطوان بنفض رأسه لشكوى دومينيك من أن فروع الأشجار لامست النوافذ، بما قد يجعل فتحها صعبًا.
زقزقة العصافير في الصباح الباكر، وفي وقت الغروب، تعلو بما يغيب بقية النهار، تتشابك، تبدو كالصراخ المُستغيث.
هبط الدرجات الخمس المُفضية إلى الحديقة، والباب الحديدي الخارجي. مال إلى اليسار، نزل البدروم — أسفل الفيلَّا — في نهاية مَمرِّ الحديقة، اشتدَّ المرض على الأم، طلب أنطوان مُعاونته في نقل قطع أثاث من حُجرة الأبوين إلى البدروم. لم يعُد في الحجرة سوى السرير الذي ترقُد عليه الأم، وبوفيه مُغلَق وضعت حاجياتها فيه، وفوقه.
أضاء أنطوان لمبةً تدلَّت من سقف البدروم، تكوَّمت قِطع الأثاث على الأرضية البلاط، ولصق الجدران، وفي الأركان: كراسي مُحطمة، مَرتبة صغيرة سوَّدها التراب، علبة صفيح مُغلقة، أجزاء من أجهزة كهربائية، ملفَّات قديمة، بيانو منزوع الأسلاك، صندوق بيرة زجاجاته ناقصة، فازة فخارية مكسورة العنق، سلال مُتداخِلة، لوحة مرور علاها الصدأ فاختفت أرقامها.
•••
نسَب المشكلة إلى صديقٍ لم يُسمِّه، همس بها لمُحسن عبد العاطي، يكبُره بأعوام كثيرة، وعمله في المراجعة يُتيح له معرفة ما قد يغيب عنه، سيفيدُه بما يمتلِكه من خبرة.
رجَّح عبد العاطي أن يكون الله خلقها بدون دم. ذلك ما يحدُث لبنات كثيرات، ربما فقدت الغشاء في صباها دون أن تعي، وربما أسباب أخرى، كثيرة.
شعر أنه أميل إلى تصديق المعنى.
ألِفا الاندفاع — حين تخلو الفيلَّا — لمُمارسة الحب، يستعيدان ما تكرَّر حدوثه دون أن يُشيرا إلى ما سبق، تشغلهما اللحظة بتوقُّعاتها وتوتُّرها، يُضيفان إلى لحظة الذروة ملامساتٍ وقبلات، يتأمَّل تبايُن بشرته السمراء، وبشرتها البيضاء الوردية.
فاجأته بأوضاعٍ لم يكن يعرفها، ولا تصوَّرها، داری ذهوله في تصنُّع الفهم والخبرة، حرص ألَّا يظهر حتى ما يتصاعد في نفسه من الشعور بالإرهاق، أو القرف.
أشار إلى بطنها، وهي تُودِّعه — ليلة — على الباب الداخلي للفيلَّا: أخشي أن يُفاجِئنا ما لا نتوقَّعه.
تأمل نبرتها الهادئة: لماذا حبوب منع الحمل إذن؟!
التقطت ابتسامةً على شفتَيه.
قال لنظرتها المتسائلة: لمَّا دعوتني لزيارة أُسرتك، تصوَّرت أنها عزومة مراكبية!
فسَّر المعنى: دعوة مجاملة.
وعادت الابتسامة إلى شفتَيه: لكنك دعوتني إلى حجرة نومِك!
قالت في نبرة مُستاءة: كلام لا أُحبُّه.
ورفعت عينَين تنطقان بالغضب: ماذا تُريد أن تقول؟!
١٨
ركعت دومينيك أمام تمثال العذراء. قالت كلامًا كثيرًا، روت عن أُمها، وأبيها، وعياد وأنطوان، والمرض الذي يُعذبها.
نذرت للعذراء أن تتنازل عن كلِّ الثياب في دولابها للفقراء، إن هي يسَّرت لها الشفاء من المرض.
حركت شفتَيها في صلاةٍ صامتة، ورسمت علامة الصليب.
ظلَّت — منذ وفاة أبيها — تتردَّد على الكنيسة كل صباح، وتعترف للأب يوحنا مرةً كل أسبوع. ترتدي زي الحِداد، تُبدِّل ما بين الفستان والتايير، لكنها تحرص على السواد. ربما ارتدت ثيابًا ملوَّنة داخل البيت، لكنها تحرص على الفستان الأسود، في خروجها من البيت. وكانت تُطيل الصلاة في حجرتها — قبل أن تتَّجِه إلى النوم — أمام أيقونة العذراء، وصورة أُمِّها وأبيها.
قالت سيلفي: سأظلُّ معك في الفيلَّا حتى تُرتِّبي أمورك.
قالت دومينيك: لا تؤجِّلي زواجك لأجلي.
– ما زلنا نبحث عن شقة، وعن وظيفةٍ لي.
واصطنعَتْ ضحكة: ماهر لن يُزعجه غيابي عنه.
واحتضنتها بنظرةٍ مشفقة: إن أراد يستطيع زيارتنا.
إذا حلَّت الأزمة بدومينيك، فإن سيلفي تعمَد إلى إسدال الستائر، وإغلاق الأبواب والنوافذ، لا يترامى صراخ دومينيك — إذا صرخت — إلى الطريق، ربما عانت في الليل من التقلُّصات العنيفة، والقيء، والتوجُّه إلى دورة المياه.
تستغيث بالعذراء لتُنقذها مما تُعانيه، تُناديها، تدعو باسمها، أو باسم ابنها، أو باسم الصليب.
يُعاودها الدوار والرغبة في التقيؤ، تمسك خصرها بيدِها، وتميل على الأرض.
يتناثر القيء، لا تشعر بالراحة إلا إذا تقيَّأت ما بجوفها.
إذا حزنت أو غضبت، غالَبَت الدوار، ومالت نفسها إلى الغثيان، تعود من الحمَّام بعد أن تُفرغ ما بجوفها، ربما طفر القيء من فمِها، دون أن تقدر على منعه.
تهمس سيلفي في إشفاق: أنت تتقيَّئين من نسمةِ الهواء!
تُواصِل الصراخ، والصياح، تُمزق ثوبها، تَخمش وجهها، تشدُّ شعرها، تضرِب الأثاث أو الجدار برأسها، أو بلكماتٍ متوالية، يَعرُوها ما يُذهلها عن الدنيا، تزوغ عيناها، يغلب البياض عليهما، تُداخلها ارتعاشات، وتقلُّصات عنيفة، ويتخشَّب جسدها، ويعوجُّ فمها، ويسيل الزبد الأبيض على الشفتين والذقن.
يُحاذر أنطوان وجان من أن يُلامسا جسدها، وإن رفضا أحاديث الجان والعفاريت.
تظلُّ سيلفي جالسةً إلى جانب سرير دومينيك، تحرص أن تظلَّ مُستيقظة، وقد تفاجئ نفسها بالصحو من النوم.
تشعر أنها تُحب دومينيك كما لا تُحب إنسانًا في الدنيا، تختلف عن كلِّ مَن في البيت، لا تُلاحقها بالملاحظات والتعليقات والمؤاخذات والانتقادات والأوامر التي لا تنتهي، تمتلك قُدرة — بلا حدٍّ — في التسامُح، والْتماس الأعذار، وكُره الشر، لا تُضمره، ولا تُعلنه، لأحد. تُسمِّيها — في مُداعباتها — سانت دومينيك.
روت سيلفي بواعث ما تُعانيه دومينيك: لاحظ الأب يوحنا علاقة حُب بينها وبين راهبٍ شابٍّ في كنيسة اللاتين، فسعي لنقلِه.
أزمعت — لمَّا حدث — أن تظلَّ بلا زواج، ثم ظهر عيَّاد في حياتها.
•••
لاحظ ماهر ضيق أنطوان بتلميحات عيَّاد إلى ميراث دومينيك من أبيها، إلى ما يجب أن ترِثه من العجوز، أثاره الشعور بعدم الندِّية الذي بدا أن أنطوان ينظر — من خلاله — إليه، وإلي عياد، وحتى إلى إخوته.
قال بجرأة مدفوعة بالانفعال الذي يعرفه في نفسه: أريد سيلفي بثيابها.
أضاف دون أن تشغله أمارات الغضب على وجه أنطوان: لا أُريد أيَّ شيء.
ثم وهو يُغالِب انفعاله: ترفض دومينيك لعياد، وترفض سيلفي لي.
واقتحمَه بنظرةٍ غاضبة: ماذا تريد؟!
١٩
وقف عياد ودومينيك أمام القس، يدُ كلٍّ منهما في يدِ الآخر.
تحدَّث الأب عن الزواج، والواجبات التي يُعنى بها الزوجان، أعاد النظر في الأوراق بين يده، ثم اتَّجه إلى عياد بنظرةٍ حيادية: يا عياد، هل تتَّخذ هذه المرأة التي أنت ماسِك يدَها لتكون زوجةً شرعية لك؟ وهل تعِد — بوقارٍ في حضرة الله وأمام هؤلاء الشهود — أن تكون لها زوجًا مُحبًّا وأمينًا، طالما كُنتما على قيد الحياة؟
همس عياد وهو يَحني رأسه: نعم.
اتجه الأب بنظرته إلى دومينيك: يا دومينيك، هل تتَّخذِين هذا الرجل الذي أنت ماسكة الآن يده ليكون زوجًا شرعيًّا لك؟ وهل تعِدين — بوقار في حضرة الله وأمام هؤلاء الشهود — أن تكوني زوجة مُحبة وأمينة ومُطيعة طالما كنتما على قيد الحياة؟
همهمت دومينيك في ارتباك، بما يعني الموافقة.
قال الأب: أُصرِّح بأنكما زوج وزوجة، والذي جمعه الله لا يُفرقه إنسان. ثم علا صوت القس: باسم ربنا وإلهنا ومُخلصنا يسوع مُشرع شريعة الكمال، وواضع ناموس الفضائل، نعلن في هذا المحفل الأرثوذكسي، وأمام هيكل ربِّ الصباءُوت، زواج الابن المبارك الأرثوذكسي البكر عياد، على خطيبته الابنة المباركة الأرثوذكسية البكر دومينيك، باسم الآب والابن والروح القدس، إله واحد، آمين.
مبارك الله الآب ضابط الكل، آمين.
مبارك ابنه الوحيد يسوع المسيح ربنا، آمين.
مبارك الروح القدس المُعزَّی، آمين.
صحبت عياد إلى كنيسة العذراء بشارع طومانباي. عقد قرانها على طقس الأقباط الأرثوذكس، تخلَّت عن كاثوليكيتها، ودخلت أرثوذكسيته.
قال أنطوان: أنا أرفض زواجك من دومينيك!
قال عياد: لم أطلب موافقتك، دعْها تُقرر.
– أنا أخوها الأكبر.
– وهي تجاوزت الحادية والعشرين.
– عند موتها، لن تدفن في مقابر الكاثوليك.
قال عياد دون أن يترك هدوءه: أنت لا تعرف من يموت قبل الآخر؟ ولا من يَدفِن مَن!
– إذا أردتَ أن تتزوَّج دومينيك، فلا تتوقَّع مُساعدتي.
استطرد في تلقائيةٍ متكلفة: حقيبة ثيابها هي كل ما ستخرُج به من البيت!
قالت الخالة إيفون: الأرثوذكسية والكاثوليكية مذهبان في ديانة واحدة.
قال لويجي: الاختلاف موجود.
قالت إيفون: لكن الديانة واحدة.
وشی صوت دومينيك بالحيرة: أوافق؟
– لماذا ترفضين؟
وافق مطران كنيسة البازيليك على زواجها من عياد، هو المطران نفسه الذي عنَّف سيلفي حين عرضت عليه فكرة الزواج من مُسلم. بدا ودودًا، ومُتسامحًا: قد تختلف المذاهب، لكن الكاثوليك والأرثوذكس أبناء ديانةٍ واحدة.
زارت البطريركية المُطلة على شارع رمسيس، تحدَّث الكاهن عن حقِّها في أن تحتفظ بمذهبها، لكنه اشترط أن ينتمي أبناؤها — حين تنجِب — إلى المذهب الأرثوذكسي: هذا هو شرطُنا للموافقة على الزواج.
قال عيَّاد وهما يهبطان درجات البطريركية: نوافق حتى نتزوج، ثم نُقرر ما ينبغي فعله.
انتقلت من الفيلَّا إلى بيت عياد في منشية الصدر، اقتصر الأمر على الإكليل في حفل الكنيسة، أهملا ما يسبق الزواج من خطوات، ربما اختلفت تقاليد المذهبَين.
الشقة ذات حُجرتَين وصالة صغيرة في شارع الجراج، وجدت في السوق المجاورة بديلًا مُشابهًا لسوق الزيتون، يصحبها عياد، أو تذهب بمفردها.
استقبلت حفاوة الجارات بحيرة: هل تُبدِّل ما ألفته من عُزلة في فيلَّا الزيتون؟ أو تُخالط من عرضنَ الصداقة؟
الصحن الفسيح، الأضواء العالية، في المواجهة، تمثال من الرخام للسيدة العذراء، وصينية من الفضة يتوسَّطها شمعدان، بداخله شمعة مُطفأة. وثمة الوجه الجميل، المُتعب، المُكلَّل بتاج الشوك، الشموع المتراصَّة المُشتعلة تحت تمثال العذراء المجمرة التي يتضوَّع منها البخور، الأيقونات المُحيطة بالمكان، الدكك الخشبية، الماء المصلَّى عليه، اختلاف لون العباءة من البُني إلى الأسود، يضاف إلى الثانية عمامة سوداء مُستديرة، تراتيل الشمامسة.
تأمَّلت العمم السوداء، والطيلسانات المُطرزة بالصلبان الذهبية، صحن الكنيسة الواسع، العالي الجدران، المنقوش الأسقف والأفاريز، الأيقونات، القناديل المُذهبة، المتدلِّية من السقف العالي، الشمعدانات النحاسية، النجف الكريستال.
أنصتت لقرع الأجراس، وضرب الصنوج، والصلوات، والدعوات لأمِّ النور، والمزامير، يُرتلها الشمامسة بأصواتٍ مُتناغِمة، بالعربية والقبطية، تتوزَّع في صحن الكنيسة.
مدَّت لسانها بعد أن مضغت اللقمة الصغيرة. أحسَّت بلذعة قطرة النبيذ الأحمر على طرف اللسان.
أربكها الفارق بين طقوس الكاثوليكية وطقوس الأرثوذكس، حاكت عيَّاد الواقف جانبها في كلِّ ما فعله.
ثاني يوم أحد، أهملت التردُّد على أيٍّ من الكنيستَين، حتى تعي طقوس مذهبها الجديد، ثم تناسَت الأمر تمامًا، فلم تعُد تتردَّد على الكنيسة.
٢٠
قال أنطوان: التقيتُ الأب يوحنا اليوم في الكنيسة.
لم يُجِب.
أضاف أنطوان وهو يتفحَّصه: سألني عنك.
ظلَّ صامتًا.
عرف أن الأب يوحنا تدهورت صحته، فلم يعُد يُغادر الكنيسة لزيارة أبنائها، لم يعُد هو يتردَّد على الكنيسة للصلاة، ولا للاعتراف، ولا لحضور حفلات عقد القران، أو القدَّاس، أو الصلاة في الجنازات.
كان الأب قد رفع يدَه في الهواء بعلامة الصليب: جعل المسيح رُسله أساقِفة، والأساقفة أقاموا قُسسًا وشمامسة.
وداری قلقه بابتسامة فاترة: نحن نحيا لخدمة الجماعة المسيحية.
ثم في لهجةٍ مُثقلة بالحزن: دعه لا يفعل مثل الذين يصِفهم الإنجيل بأنهم يُحبون الظُّلمة أكثر من النور لأن أعمالهم شريرة.
داخلت صوتَه نبرة إشفاق: أنا الذي قمتُ بتعميده، ويجب أن يظلَّ في مستوى حُسن ظنِّي.
قال جان: لم يسألني أحد قبل التعميد إن كنتُ سأقبل التعميد أم لا.
قال الأب في حُزن ظاهر: يقول سانت نيبوليتس: «إني أُنكر خالق السماوات والأرض، وأتنكَّر لتعميدي، وأتنصَّل من عبادتي السابقة التي قدَّمتها للرب، إنني أتعلَّق بك يا إبليس، وبك أومن».
وهو يُظهر الحيرة: عندما عُمِّدتُ لم أكن أعرف معنى الحرام والحلال، لم أكن واعيًا.
وانتزع ابتسامة باهتة: يجب أن يكون التعميد بعد البلوغ!
قال أنطوان: لاحظ أنك لم تعُد تتردَّد على الكنيسة.
رمقَه بنظرة مُستريبة: هل يُخضعون زائري الكنيسة للمُراقبة؟
وافتعل ابتسامةً تهوينًا للأمر: أنا أتردَّد على كنيسةٍ أخرى.
– هذه هي الكنيسة الوحيدة للكاثوليك في الزيتون.
صرخ: أنت تُحاكمني!
وأخلَى وجهه لتمازُج السخط والغضب: أنت تأمُل في جائزة لإيمانك، وأنا لا يشغلني جزاء عدم إيماني.
– الإيمان ليس جائزة، إنه ضرورة!
– أنا لم أعُد أعتقد في كلِّ ما تعلمته، أظن أني نسيتُه!
وتداخلت في صوته بحة: أُحب أن تصدُر تصرفاتي عن إرادتي الحرة!
وأشار بيدِه ناحية الكنيسة: هذا الرجل الذي يكره نفسه، هل هو من تعترِف أمامه بِخطاياك؟!
وخنق التأثُّر صوته: ما أعرفه أن المسيحية دين … وهذا الرجل جعل من المسيحية مهنةً يتكسَّب منها!
ولوَّح بيدِه في عصبيةٍ واضحة: الكنيسة مسئولة عن الدعوة لتعاليم الإنجيل، لا شأن لها بحياة الناس الخاصة.
ثم بلهجة مُهوِّنة: لماذا لا نحيا حياتنا، ونؤجِّل الاختلاف إلى ما بعد ذلك؟
– ماذا تعني؟
– سنعرف بعد الموت إن كان هناك حساب أم أنه مجرد وهم!
تحركت يدا أنطوان بالحركة السريعة من الجبهة إلى جانبي الصدر: أنت تكفر!
واجهَهُ بنظرة مُستخفة: بالعكس … أعرف أن الله هو الأب.
وعلا صوته: أليس عذاب جهنم والنار الأبدية غريبًا عن طبيعة الله؟
وشابَ لهجته عناد: هل يؤذي الأب أبناءه؟
قال أنطوان: هل امتناعك عن دفع أجر الجنايني جزءٌ من حالة الرفض التي تعيشها؟
وهو يرفع كتفَيه: أنا أُساعد في البيت بقدْر ظروفي!
٢١
عند اقترابه من البيت بدا العمال مشغولين بتثبيت القوائم الخشبية — أمام الفيلَّا — في مساحة عرض الشارع، أدرك أنهم يُعدون سرادقًا لحفل زفاف جان.
ترك لخياله — حتى المساء — تصوُّر الحضور: أقارب الأسرة، الجيران، الزملاء القُدامى للمسيو ميكيل.
تدلَّت أسلاك اللمبات على أشجار الحديقة، مئات اللمبات الملوَّنة الصغيرة أحاطت بأشجار الحديقة، وتخلَّلتها. فُتحت نوافذ البيت المقابل على آخِرها، أطل منها رجال ونساء، وتزاحم الأطفال حول الحديقة يُحاولون رؤيةَ ما وراء الأشجار، ما تُخفيه الأغصان والأوراق. حتى سكَّان البيوت البعيدة، أطلوا من النوافذ والشرفات، ومن فوق الأسطح.
اعتادت سيلفي زيارة أسرة الطابق الأرضي في البيت المُواجه، تأنس إلى شخصية الزوج الخطَّاط، الهادئة، وإلى تعامُله معها كابنةٍ لا يضيق بتوالي أسئلتها وملاحظاتها، وإلى الفوضى في حجرة مكتبه: الدولاب الصغير، المفتوح الضلفتَين، اختلطت فيه رصات الملابس والكتب، حوض السَّمك الملون، وأقفاص العصافير، وزهور البلاستيك، والأقلام المُتباينة الأطوال، والكتب، والمجلات، والورق المُقوى، والأحبار، وأقلام الفحم والبسط، والشموع، والتماثيل الصغيرة، والدمى البلاستيك، وبقايا الطعام، والأكواب الفارغة، والزجاجات المُختلفة الأحجام والألوان، والمُعلبات، والجدران المُغطاة بلوحاتٍ ملونة، وعود لم ترَه يأخُذه من موضعه، وصور شخصياتٍ لا تعرفها.
تُبدي إعجابها بلوحاته، المُستمدَّة من الحروف العربية، واللوحات المُقلَّدة.
تضحك لفشلِها في تعدُّد محاولات تقليدِه.
عرفت أنه كان — إلى جانب كتابة الخطوط ورسم اللوحات — يُجيد تزوير الأوراق الرسمية والمستندات والبطاقات الشخصية وجوازات السفر — حتى العملات يُتقن تزويرها — وكانت هي السبب — كما قال — في أن يقضي أعوامًا داخل السجن.
حدَّثها عن مُرافقته لأخته، المُغنية الطفلة، إلى حفلاتها في القاهرة وخارجها، وعن مُرافقته لأخته المُمثلة، الطفلة كذلك، إلى الإذاعة، تُغني لشقيقها القمر في برامج بابا شارو. حين كبرتا، خلا إلى خطوطِه ولوحاته التي يُحبها.
ظلَّ إخوتها على حرص الأبوَين في تجنُّب الاختلاط، يكتفون — إن التقَتِ الأعيُن — بإيماءة التحية، أو هزة الرأس، يُواصلون السَّير، كلٌّ في طريقه.
طالَعَه ما لم يتوقَّعه. أبلغته سيلفي أن الحضور أصدقاء لجان وأهل العروس، شارك النسوة في النوافذ بزغاريد، ظهر في ملامح جان المُستغرِبة أنه فوجئ بها، رافقت الزغاريد مُوسيقى وأغنيات ورقصات.
أدهشَه أنه وجد ما يدعو إلى الدهشة.
تصوَّر أن زفاف الكاثوليك له مظاهره التي لا يعرفها، استمع إلى أغنيات العوالِم، وصفَّق على إيقاع أداء الراقصة، وجارى الحضور في دفع النقوط.
غنَّى العوالِم يا امَّه القمرع الباب، وقولوا لمأذون البلد، وأهواك.
آخِر الليل، استبدلت الراقصة ببدلتها غلالةً حريرية، تكشف عن جسدِها.
نسِي تصوُّره بأن الفرقة تؤدي أغنياتٍ لا يُردِّدها المسيو ميكيل، ما ألِفَها، وأحبَّ سماعها، وإن لم يفهم معانيها.
أخذ على جان فكرة السفر إلى الخارج، لكي تعمل فلا بدَّ أن تمتلِك مهنة، شهادة التجارة المتوسِّطة لن تُتيح لك أي شيء، مجرد أن تغسل الأطباق، وتُقطع الخضراوات في المطاعم، أو تعمل في بناء العمارات، أو غسل السيارات، وقد يُسعدك الحظُّ بالعمل في مزارع تقطير الكروم، إن سافرتَ إلى جنوب فرنسا.
ولوَّح بإصبعه مُحذرًا: أُفضِّل الواقع الذي أعرفه بدلًا من المجهول الذي لا أعرفه!
وهو يرفع كتفَيه: لا أسافر إلى المجهول … أهاجر إلى أستراليا.
ثم وهو يغالب التأثر: لفيكتوريا إخوة يعيشون هناك. أُسافر على كفالتهم!
أردف للسؤال في عينَي ماهر: تعرفتُ إليها في الأتوبيس. وجدتُ فيها ما يُقنعني بالزواج.
وتخلَّل شعره بأصابعه: قد أغسل الصحون كما يفعل الشبَّان المصريون، وقد تُفيدني الإنجليزية وأسرة زوجتي في عملٍ أفضل.
لم يتحدَّث عن ظروف لقاءاتهما التالية، كيف تصارَحا بالأسرة والديانة والظروف الشخصية (وشى اسمها — فيكتوريا — بديانتها) ومَن طرح على صاحبه فكرة الهجرة إلى أستراليا؟ وما موقف الأب — ساعاتي في شارع عثمان بن عفان — مِن الأمر برمته؟ هل وافق، أو أبدى تحفظًا، أو أنهما أزمعا التصرف دون أن يضعا حسابًا للرفض؟ عدا ذلك، فقد غابت الملامح عن بقية التفاصيل.
عقدا قرانهما في كنيسة اللاتين، أنهَيا العقد ساعة العصر، وأعدَّا حقائبهما ليُسافرا بعد حفل الزفاف.
قال جان لأنطوان، قبل أن يلحق بعروسه في سيارة التاكسي، الواقفة أمام الفيلَّا: أترك لك كلَّ شيء، لكن لا تظلِم دومينيك وسيلفي.
٢٢
قال ماهر في ابتسامة مُشفقة: أُسرتكِ تتساقط كأوراق شجر الحديقة.
الخريف في بداياته. الفجوات تتَّسع بين الأغصان والأوراق، لتساقُط الأوراق الصفراء، داخل الحديقة وخارجها، يتناهى صوت الأذان من جامعٍ قريب، يختلط بأصوات العصافير فوق الأشجار.
حدجته بنظرة مؤنِّبة: إذا كنتَ تقصد سفر جان وأنطوان فقد فرَّا من الموت!
واتَّجهت نظرتُها إلى ما وراء الأشجار: لا شيء يُغريهما بالبقاء!
في صباح حفل الزفاف، سافر جان مع عروسه إلى أستراليا، اقتصرت الحياة في الفيلَّا على أنطوان وسيلفي.
طالت إقامة أنطوان في القاهرة حتى يُتاح له بيع الفيلَّا. لمَّا واجهه عياد برفض دومينيك وسيلفي، حزم حقائبه، وأعدَّ نفسه للسفر.
لاحظ ماهر تغيرًا في تصرفاتها، في السهر والصحو والمنام والوقوف في النافذة المُطلة على الشارع الخلفي، والأوراق الصغيرة تكتُب فيها، ثم تُكرمِشها، وتقذِف بها من النافذة، أو تُمزقها.
كان الحزن يقتُلها لتناقُص قطع الأثاث، الطرقات الغريبة يعقبها فصال بين أنطوان والرجل ذي الجلباب، ثم ترفع قطعة أثاث من موضعها. كل ما في البيت يرتبط بحياتها، بفتراتٍ من حياتها، حادثة نُقشت ملامحها، أو عابرة: كراسي، مناضد، شمعدانات، أيقونات، أكواب كريستال، فازات، ساعة حائط بندولية، لوحات مُقلدة، كتب. حتى الراديو، رفعَه أنطوان من موضِعه على الرف الخشبي، ثم لم تعُد تراه.
استمهلت ماهر — ذات أصيل — وهو يتهيَّأ للانصراف. دخلت إلى حُجرتها، وأطلَّت برأسها متلفِّتة.
تقدم ليُعاونها في حمل ما بيدِها.
– صورتي في إطار، احتفِظ بها حتى لا يبيعها أنطوان.
شك في أن يكون شخصٌ ما قد دخل حياتها، لعلَّه يقف وراء نافذة في البناية المقابلة. لم يحاول سؤالها عما بدَّل حياتها، أو يشغلها، يثِق أنها ستكذِب، هذا هو ما ألِفَه منها في الفترة الأخيرة، حتى لو أنها أرادت أن تحصل على ما هو بديهي، وما هو من حقِّها، ولا يحتاج إلى عناء، هي تكذب، تكذب لمجرد أن تكذب، لو أنها سألت نفسها، فقد لا تجِد الإجابة التي تُقنعها.
يأخذ هيئة المُنصِت لما ترويه، تروي وتروي، يعرف أن معظم الأحداث والمواقف من اختراع رأسها الصغير، وأنها تجد في الكذب مُتعة، تدفعها إلى المزيد من الحكي.
تمنَّى لو أنها لم تعُد تكذب عليه، توقفت عن الكذب عليه، تنطوي البراءة الظاهرة على نفسٍ طيبة بالفعل، ترفُض الكذب واللؤم والتخابُث والتسويف والمُماطلة، لا تملُّ الكذب والروايات التي يخترعها الخيال.
لم يعُد يجد في نفسه ميلًا لأن يلتمس لها الأعذار، الكذبة هي كذبة، بصرف النظر عن اللون الذي تنسِبها إليه، لا يُهم إن كانت بيضاء أو سوداء، أو أي لونٍ آخر، لو أنه أظهر عدم التصديق لمُعظم ما ترويه، ربما راجعت نفسها قبل أن تبصق كذبةً جديدة، تتوقَّف عن الحكي في ما يصعب تصديقه، تتوقَّع رد الفعل، فلا تُقدِم على الفعل.
– أنتظر موافقةً بالعمل في شركة سياحة.
– خبر يستدعي الفرحة.
وهي تُسلِّم نفسها لشرود: وقَّعتُ إقرارًا بأني حاصلة على بكالوريوس تجارة.
استطردت للدهشة في عينيه: جارنا الخطاط … يُجيد تزوير الشهادات والوثائق.
حاول السيطرة على مشاعره: ألا تخشَين السجن؟
ظلَّت صامتة.
تصاعد القلق في داخله: هذه جريمة عقوبتها السجن.
أنصت — مذهولًا — لتبريرها ما جرى، هي لا تدري لماذا فعلت ما فعلت. قدَّم الخطاط عرضه، فوافقَت.
تحوَّلت إلى كائنٍ غامض لا يعرفه. لو أنه يعرف في ماذا تفكر؟ ما يملأ رأسها من تصوُّرات؟ ما يتحرك في نفسها من مشاعر؟
ماذا تخفي هاتان العينان الزرقاوان البريئتان؟! كتم مشاعره المُهتاجة. يعي سرعة هياجه، واندفاعه، وعجزه عن التحكُّم في عواطفه. وهو يحاول الاحتفاظ بهدوئه: سحنة المرء ونصيبه من الذكاء وظروفه الاجتماعية والمادية أمور لا حِيلة له فيها، لكن الكذب مسئولية يُحاسَب عليها!
أردف في صوتٍ مقتضب: لا أتصوَّر أنكِ تفعلِين هذا.
ثم وهو يُغالِب شعورًا باليأس: عِديني ألَّا تكذبي لأي سبب!
٢٣
– سأظلُّ على الكاثوليكية.
اختلط صوتها الهامس بصراخ العصافير في لحظات ما قبل الغروب.
رمقها بنظرة عدَم تصديق: ماذا؟
ظلَّت على صوتها الهامس: أجد نفسي في ديانتي.
تيقَّن أنها صادقة في ما قالته، كذبت كثيرًا، تراكمت أكاذيبها، وتفرَّعت، وتضخَّمت، صارت بلا حد، لكنه أيقن من صدقِها هذه المرة، ما قالته يصعُب اختراعه، إسلامها من أجل زواجهما، لم تسأله عن الإسلام، ولا عن مدى اتفاقه، أو اختلافه مع الكاثوليكية. عكَس الْتماع عينَيها وتهدُّج صوتها صِدق ما ترويه.
قال بالانفعال الذي أخفق في كتمِه: هل الديانات فيها أصيل وزائف؟!
رفعت عينَين مندَّاتَين بالدمع: أنت لم تُعلِّمني الإسلام، من الصعب أن أكون بلا دين.
استعاد قول أمِّه، وهي تسحب السجادة الصغيرة من تحتها: هل تُصلي سيلفي؟
أظهر الدهشة: لماذا تطلُبين منها ما لا أفعله؟!
حدجها بنظرةٍ متأمِّلة كأنه يُعيد اكتشافها: هل تعرفين المسيحية؟
زاد ارتباكُها: وُلدتُ في بيتٍ مسيحي.
لاحظ أنها تتجنَّب نظراته، كأنها لا تُريد أن يفطن إلى ما تُعانيه.
ظلَّ ينظر إليها وهو صامت، كأنه عاجز عن تصديق ما قالته.
استطردت وهي تشرد فيما لم يتبيَّنه: والكنيسة قريبة من البيت!
وهو يُعاني ارتباكًا: هل ترين الخير في قرارك؟
ران انكِسار على صوتها: لم أعد أتوقَّع الخير حتى من نفسي.
انبثق في صدره أمل: ما قاله موظف الشهر العقاري نصيحة.
شوَّحت بيدها: لا تنتزِع مُوافقتي في هذه الظروف!
منذ عادت إلى التردُّد على الكنيسة، لم تهزَّ جرس كرسي الاعتراف. تظلُّ واقفة، حتى تلمح الأب — الذي لا تعرفه — قادمًا بخطواته المُهرولة، تطمئن إلى جلستها وراء ثقوب النافذة ذات الخشب المُعشَّق، تهمس باعترافها، ما فعلَتْه، وما جرى لها، في الأسبوع الفائت، ما يشغلها وما تُعانيه، لا تُنصت إلى نصائح الأب قدْر حرصها على أن تعترف، تتكلَّم في كل ما يخطر ببالها، كأنها تنظُر في مرآة، أو تُكلم نفسها بصوتٍ مرتفع، تخشى أن تتوالى الأيام، تُواجِه ما تغيب صورتُه، قبل أن تهمس باعترافها، تروي ما حدث دون أن تُبدل، أو تُضيف، أو تحذف.
آلمَها أنها أرادت أن تُصلي، لكن الكلمات استعصت عليها، نسِيَت ما ينبغي قوله، مفردات اعتادت سماعها من أمِّها وأبيها، عجزت عن البَوح بما في نفسها، وما تطلُبه.
لم تتصوَّر أن الأمور ستجري على هذا النحو، شعرت أنها تتَّجِه إلى هدفٍ لا تعرفه، شيء مُخيف لا تدري متى يحدُث، ولا كيف تبدو ملامحه.
اختلط كلُّ شيء: هل ما تزال ابنة لميكيل جوتييه وكاترين فرنسيس، وتُقيم في فيلَّا الزيتون، ورحل أخواها إلى خارج البلاد، وانتقلت أُختها إلى بيت زوجها القبطي، ومعارفها وأصدقائها من غير المصريين … هل ما زال ذلك كله صحيحًا، أو أن ما عاشته — في الفترة الأخيرة — بدَّل كلَّ شيء؟! هل تُبدِّل شهادة ميلادها؟ هل تقطع صِلتها بالزيتون؟
هذه الفيلَّا ليست بيتي.
أنظر إلى ما حولي: الجدران والأسقف والأثاث والنوافذ والأبواب، المرئيات التي اعتدتُها، أشعر بغربةٍ عن المكان تماما — رغم أني لم أُغادِره — ولا صِلة لي به، طوَّحَت بي حياتي الجديدة، بعيدًا عن البيت وأهله.
أدركت خطورة ما وراء الأفق، بما لن تفلح الأكاذيب في صدِّه، شعرت أنَّ أمرًا ما، قاسيًا، يلوح، يُهدد حياتها.
لم تعُد تُدرك الصواب من الخطأ.
وجدَت في الرحيل عن مصر فرارًا من كلِّ ما أوقعت فيه نفسَها، من كرة الثلج التي تضخَّمت، فحطَّت على صدرها.
أسقطت فكرة السفر إلى أمريكا، لن يُرحِّب أنطوان بالفكرة، وإذا سافرت دون أن تُبلغه، فقد يرفض استضافتها، أو استقبالها، لن ينسى أنه لم يحصُل على ما أراد، ظلَّت الفيلَّا ملكًا للأسرة، ربما لا يردُّ على رسالتها، أو يردُّ بالاعتذار.
ناوشتها صورة جان في سيدني الأسترالية، حدَّثها — في رسائله — عن البحر والبنايات والشوارع والكنائس والحدائق وتماثيل الميادين، أرفق برسائله بطاقات صور مُلونة، حاولَت أن تجد فيها الحياة هناك، تحركت في داخلها مخاوف الرحيل إلى المجهول، المغامرة، ومواجهة ما لا تعرفه.
هي لن تستطيع البقاء في البيت، أو أنها لن تستطيع البقاء فيه بمُفردها.
لاحظت إيماءة المعنى في كلمات عيَّاد المتكررة عن احترام ذكرى الأب الراحل، واحترام وصيتِه.
تأمَّلت الخالة إيفون بالعجز في ملامحها وتصرُّفاتها، ولويجي الذي يلزم البيت. قد تجد عملًا يدرُّ عليها إيرادًا، لكنَّ الإقامة في بيت الخالة إيفون سيفرض عليها — بعد وقت العمل — ما لا تُطيقه، الملاحظات والتعليقات والأوامر التي كانت تُنغِّص عليها العيش، قد تتكرَّر بما لا تستطيع مواجهته، وقد لا يحتمِلها العجوزان.
تقاطعت الطُّرق، وتشابكت. لم تعُد تعرف إلى أين تتَّجِه.
أهملت فكرة الاختفاء من العالَم، تلاشت الفكرة في اللحظة التالية لظهورها، التخلُّص من الحياة يحتاج إلى شجاعة، لا تملِكها.
ماهر كأنه الأمل المُستحيل، لا تعرف إن كانت تُحبه، أم أنه علاقة عابرة حاولت — بالتعرُّف إليه — أن تفرَّ من أزمتها؟
أنصتت إلى دروس الأب يوحنا في قضايا اللاهوت: ما إذا كان الروح ينبثق من الأب وحده، أو من الأب والابن معًا؟ شروط المعمودية، مادة العماد، إتمام المعمودية: بالرش أم بالتغطيس، حقيقة الاختيار السابق والمُقدر، الخمير والفطير، الكهنوت، النعمة الرسولية، المطهر، العصمة … مفردات حفظتها، دون أن تعرف من معناها إلَّا القليل.
مثل الومضة التي تستعيد عوالِم كاملة، رأت الأب لوقا في ملامحه الطيبة، وثوبه الكهنوتي المُختلِط الأبيض والبُني.
الدير!
بدت الفكرة قارِب نجاةٍ حقيقيًّا، تصعد إليه من خطر الأمواج الصاخبة حولها، يَمضي بها إلى اليابسة والأمان وتناسِي الالتفات إلى الوراء.
حين زارت الأب لوقا، لم يُجهد نفسه في تذكُّرها.
ارتجفت ملامح وجهه بانعكاسِ المفاجأة.
اكتفي بالقول: كيف حالك؟
عرفت أنه لم ينسَها.
وهو يُحاول إخفاء مشاعره: في هذا الأمر لا بدَّ من الرجوع إلى آراء ربما كانت أكثر حكمة!
عاودت التردُّد على الدير، تؤكد ما اعتزمته، تنقر باب مكتب الأب لوقا بنقراتٍ خافتة، يتناهى صوته، تدخل، تقِف أمامَه حتى يأذن لها بالجلوس، لا تُعيد عرض ما حدَّثته فيه، ولا يسألها إن كانت قد رجعت عن قرارها.
لمَّا دفع إليها أوراقًا، وقال: املئي البيانات، فهِمَت أنها تخطو أولى خطواتها إلى داخل كنيسة.
عرف ماهر أن النَّدَم والشعور بالذنب يُعذبانها، يتصوَّر أنها طفلة عابثة، لا تعي تصرفاتها، ولا تُقدِّر ما قد تنتهي إليه.
شعر أن الدنيا تُظلم في عينَيه، والملامح تختلِط، وتتشابك، وتتشوَّه، وأنه يفقد السيطرة على نفسه، وروحه آخِذة في الذوبان، وقدماه تَخذُلانه.
فكَّر في أن يفعل شيئًا، أي شيء، يُخلصه من إحساس العجز الذي يتملَّكه، اقتحمته رغبة في أن يُحطم شيئًا، أي شيء، كل شيء.
علا صوته بما لم تعهده منه، ولا عهِدَه هو في نفسه، كأنه يُريد أن يُخلِّص نفسه من مشاعر الغضب، اجتاحه إعصار من المشاعر الغاضبة.
كان جانب جسده آخِر ما رأته، وهو يميل من الشارع الصغير إلى شارع نصوح الهندي.
٢٤
رفَّت ابتسامة تلقائية على شفتَيه، وهو يتأمَّل واجهة سينما على بابا: الرجال يُفضلون الشقراوات، لص بغداد، إسماعيل يس في الجيش.
خلَّف السينما وراءه، واتَّجه ناحية اليسار، بادلَه روَّاد المقهي — على الناصية — نظرات مَعرفة. كانت قد تكررت مُرافقته لسيلفي في زياراتها المتباعِدة إلى الخالة إيفون. مضى ناحية باب البيت الخشبي المُتآكِل، وجد لجسدِه منفذًا بين الأجْوِلَة المرصوصة على جانبَي المدخل الضيق، وروائح التراب والرطوبة والشواء والطبيخ والعطن.
تلمَّست قدماه السلمة الأولى.
حدجته الخالة إيفون بنظرةٍ متأمِّلة: تسأل عن سيلفي؟
حرَّك رأسه دلالة الموافقة.
– ألم تزُر دومينيك وعياد؟
– لا أعرف البيت.
وهي تنظر في عينَيه: سيلفي دخلت الدير.
أضافت للدهشة المُرتسِمة على وجهه: تأثَّرَت بغيابك عنها.
حاول أن يقول شيئًا، يسأل، أو يُوضح، أو يعترض، شعَر كأنه فقد القُدرة على مجرد تحريك شفتَيه. ظلَّتا ترتعِشان، دون أن تنفرِجا، كأن شيئًا ما قد انتُزع من داخله، تحرَّكت مشاعِره بما لا يقوى على التعبير عنه، لا يدري حقيقة الشعور الذي تملَّكه.
أغمَض عينَيه، كأنه لا يُريد أن يرى ما حوله.
حدَّثته عن الأيام الأخيرة قبل أن تلجأ سيلفي إلى الدير، تعتزل فيه.
قالت في نبرة باردة: تفرُّ ممَّا أوقعت فيه نفسها من مشكلات.
وزمَّت شفتَيها، فبدت الكرمشة حول الفم: يغفر الله ذنوبنا، لكن الناس يرفضون المَغفرة.
وأدارت وجهها نحو النافذة: لجأت سيلفي إلى الدير.
الدير؟
صحِبته إلى دير الدومينكان، نزلَا من الأتوبيس في ميدان الجيش، سارا في شارع مصنع الطرابيش، خلا من المحالِّ والزحام، اقتصر على الأبنية ذات الأسوار، والنوافذ المُغلقة، والنباتات المُتسلقة، والأشجار الكثيفة الأوراق، عمَّق الصمتُ وقعَ أقدامِهما، وترامى رفع الأذان من موضعٍ قريب.
قبل نهاية الشارع، سبقَها إلى بابٍ صغير، يُفضي إلى ساحةٍ ذات أسوار حديدية، يتوسَّطها بناء صغير، يُغطيه ظلُّ شجرة جوافة، قرفص أمامه رجلٌ في حوالَي الستِّين، يرتدي جلبابًا، تشاغل بإصلاح طاولة متكسِّرة.
قال ماهر في لهجة مُبطنة بالود: مساء الخير يا عم رمضان.
عرفت أنه على معرفةٍ سابقة بالمكان، وأن زيارته ليست الأولى.
صعدا الدرجات الرخامية حتى الباب المُغلق، ضغط الجرس في الجانب، بدا كأن الرنين احتوى المكان بأكمله. انفتح الباب بانفراجةٍ متوجِّسة، هتفت الملامح المُتسائلة بترحيب: أهلا أستاذ ماهر.
الراهب في بداية عقدِه الثامن، يَشي شعرُه المتداخل البياض والشقرة، وعيناه السماويتان، وملامحه الدقيقة، وبشرتُه البيضاء المُشربة بالحمرة، بانتمائه إلى بيئةٍ مغايرة، ليست المواردي، ولا حتى الزيتون.
قدم سيلفي للراهب: زوجتي.
وبلهجةٍ أقرب إلى الهمس: الأب جاك جومييه.
اكتفي الأب جومييه بهزة رأسٍ مُرحبة، وسبقهما إلى الداخل. في المواجهة سُلَّم يُفضي إلى طوابق عُليا، وإلى اليمين ما بدا أنه موضع للصلاة، الصليب الضخم، الدكك المُتراصَّة، صور المسيح والعذراء في مساحات الجدران. إلى اليسار، في نهاية الطرقة الواسعة، باب عريض من الزجاج المُغبَّش، تعلوه لافتة عليها كلمة «المكتبة»، أشار إلى حجرة الاستقبال، يسار السُّلَّم، المقاعد الخشبية تصدُر عنها رائحة القدم، وضع ماهر ما كان يحمِله من أوراقٍ على الطاولة، وسط الحجرة.
زوى الأب جومييه عينَيه بنظرةٍ متسائلة: الميديوي؟
– كل أوراق المجلة.
مضي الأب بالأوراق: تبقى كتابات قليلة.
مال على سيلفي، في ابتعاد الراهب: الميديوي مجلة بالفرنسية تطبعها دار المعارف.
وهي تُشير إلى زاوية السقف: الأبراص كثيرة!
– يثقون بقُدرتها على التهام الحشرات.
خلَّفا الدير وراءهما. أشار إلى بنايةٍ في الشارع نفسه، تشي نوافذها الخشبية الصغيرة بحداثة إنشائها: دير للراهبات.
البوابة الحديدية تُفضي إلى ساحة ضخمة، على جانبَيها أشجار، يتوسَّطها بناية من الحجارة اختلط فيها الأبيض والبُني، من حولها خلاء تتناثر في مدى أفقه بنايات صغيرة وزراعات، نظرت — بالفضول — من انفراجة الباب، إلى الراهبات الثلاث، انشغلنَ فيما لم تتبيَّنه، يرتدينَ الملابس البُنية الفضفاضة، من الرأس إلى القدمَين، الملابس نفسها التي ترتديها راهبات الدليفراند.
وهي تستعيد نظراتها: الحياة هنا هادئة.
ثبتت في ذهنه صورة شاهدَها لديرٍ مرتفع الأسوار، تتداخل حجارته البيضاء والبُني، يبدو من ورائها — كالانبثاق — برج الكنيسة المفتوح الجوانب، يتدلَّى من أوسطه جرس نُحاسي ضخم.
كان قد قرأ، وحدَّثته سيلفي عن الحياة في الدير: التقشُّف، التأمُّل، الصلاة، غُرف العبادة، الجدران العارية، الزي البسيط، العمل في صمت، لا حوارات جانبية، ولا كلام بصوتٍ مرتفع.
كيف تبدو في ثياب الراهبات؟ كيف تعيش الرهبنة؟ هل دخولها الدير محاولة للخلاص من حصار الأزمات؟ أو أنها تريد تغيير حياتها بالفعل؟
تنحنحت الخالة إيفون من احتباس صوتها: لم أُفلح في إثنائها.
همست بالسؤال، دون أن تلتفِت إليه: ألم تر — ذات يوم — ما بداخل حقيبتِها؟
اخترقَها بنظرةٍ مُستاءة: ما شأني بحقيبتها؟!
وأحاط رأسه بيدَيه كمن يعجز عن التصرف: لماذا؟
تباطأت في نُطق الكلمات: تحرص على وضع صورة العذراء بيدِها المسيح.
ثم في هيئة من يرفض أن يُعطي المناقشة أكثر مما أخذت: كلَّمتني عن اعتزامها التحوُّل إلى الإسلام … ثم أبلغتني — في زيارتها الأخيرة — بحِرصها على ديانتها.
وبدا كأنها تستعدُّ للنهوض: دعائي أن يُرشدها الله إلى التصرُّف السليم!
ومضت في ذهنه لحظات، غلبَه فيها التأثر لقول سيلفي إنها لا تتصوَّر حياتها بدونه، إذا ابتعد عنها، فإن كل الصور تشحب، تظلُّ صورته وحدَها واضحة الملامح، وقالت: لا أتصوَّر ماذا كان سيحدث في حياتي لو لم تظهر أنت فيها. وقالت: لولا حُبي لك كنتُ سأقتل أنطوان، أو أقتل نفسي! وقالت: ما دمتَ معي فلن أحزن على فترة ما قبل لقائنا. وقالت: إذا أسلمتُ فإني سأدعو الله أن أموت قبلك كي تدفنني!
هل كانت تستمتع باللعبة؟!
داخَلَه حزن لم يشعر به من قبل، غضب لم يعهَدْه في نفسه، قهرَه الإحساس بعدَم القدرة على التصرُّف، أضاف إلى مشاعره أن الوقت فات، غلبَه الذهول، فلا يدري شيئًا مما حوله، أحسَّ أنه مُحاط بما لا يفهمه، ولا يُدرك كُنهه.
هل كانت سيلفي في حياته؟ هل تعرَّف إلى أُسرتها في فيلَّا الزيتون؟ هل أحبَّها وأحبته، وواجها الدنيا؟! بدت الأشياء في ذهنه مُشوشة، ساورَه الشك إن كان قد تعرَّف إليها، وحدث بينهما ما حدث. تلاحَق الكذِب، تراكَم، لم يعُد يُصدق إن كان ما رآه قد رآه بالفعل؟
استند إلى راحتَي يدَيه، يتهيَّأ للقيام.
التقطت في عينَيه نظرة مُتلفِّتة: تُريد شيئًا؟
خذلته الكلمات، فسكت.