الرسالة العاشرة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اعلم أيها الأخ أنَّا قد فرغنا من بيان العلل والمعلولات وبينا فيها أقاويل جميع الحكماء، حسب ما جرت به عادة إخواننا، ونريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة بيان الحدود والرسوم، فنقول:
إن الأنبياء — عليهم السلام — هم سفراء الله تعالى بينه وبين خلقه، والعلماء هم ورثة الأنبياء، والحكماء هم أفاضل العلماء، وقد قيل إن الحكيم هو الذي يوجد فيه سبع خصال محمودة، إحداها أن تكون أفعاله محكمة وصنائعه متقنة وأقاويله صادقة وأخلاقه جميلة وآراؤه صحيحة وأعماله زكية وعلومه حقيقية.
واعلم أن معرفة حقيقة الأشياء هي معرفة حدودها ورسومها، وذلك أن الأشياء كلها نوعان: مركبات ووسائط.
فأما المركبات فتعرف حقائقها إذا عرفت الأشياء التي هي مركبة منها، والبسائط تعرف حقائقها إذا عرفت الصفات التي تخصها.
مثال ذلك إذا قيل لك ما حقيقة الطين؟ فيقال: ماء وتراب مختلطان. والسكنجبين؟ فيقال: خل وعسل ممزوجان. والسرير؟ خشب وصورة مركبان. والكلام؟ ألفاظ ومعانٍ مؤلفات. واللحن؟ نغمات حادة وغليظة متحدتان. والحيوان؟ نفس وجسد مقرونان.
وعلى هذا القياس تجيب إذا سئلتَ عن هذه الأشياء المركبة فلا بُدَّ من ذكر تلك الأشياء التي هي مركبة ومؤلفة منها، فأما الأشياء البسيطة فتعرف حقائقها إذا عرفت الصفات التي تخصها.
مثال ذلك إذا قيل لك: ما الهيولى؟ فيقال: جوهر بسيط قابل للصورة. فإن قيل: ما الصورة؟ فيقال: ماهية الشيء، وله الاسم والفعل والقيامة. فإن قيل: فما الجوهر؟ فيقال: هو قائم بنفسه القابل للصفات. فإن قيل: فما الصفة؟ فيقال: عرض حال في الجوهر لا كالجزء منه. فإن قيل: ما الشيء؟ فيقال: هو المعنى الذي يعلم ويخبر عنه. فإن قيل: ما الموجود؟ قيل: هو الذي وجده أحد الحواس أو تصوَّره العقل أو دل عليه الدليل. فإن قيل: ما المعدوم؟ فيقال: ما قابَل هذه الأشياء المذكورة في الوجود. فإن قيل: ما الوجود؟ فيقال: إيس. فإن قيل: ما العدم؟ فيقال: ليس. فإن قيل ما القديم؟ فيقال: ما لم يكن ليس. فإن قيل: ما المحدث؟ فيقال: ما كونه غيره. فإن قيل: ما الأحداث؟ فيقال: تكوين المكون. فإن قيل: ما العلة؟ فيقال: هي سبب لكون شيء آخر إيجادًا. فإن قيل: ما المعلول؟ فيقال: هو الذي لوجوده سبب من الأسباب. فإن قيل: ما العالم؟ فيقال: هو المتصور للشيء على حقيقته. فإن قيل: ما العلم؟ فيقال: صورة المعلوم في نفس العالم.
فإن قيل ما الحي؟ فيقال: المتحرك بذاته. فإن قيل: ما القادر؟ فيقال: هو الذي لا يتعذر عليه الفعل متى شاء. فإن قيل: ما الفعل؟ فيقال: أثر من مؤثر. فإن قيل: ما معنى الباري تعالى؟ فيقال: علة كل شيء، وسبب كل موجود، ومبدع المبدعات، ومخترع الكائنات ومتقنها ومتممها ومكملها ومبلغها إلى أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها، بحسب ما يتأتى في كل واحد منها. فإن قيل: ما القدرة؟ فيقال: إمكان إيجاد الفعل. فإن قيل: ما الصنعة؟ فيقال: هو إخراج الصانع من فكره ووضعه في الهيولى. فإن قيل: ما المصنوع؟ فيقال: مركب من هيولى وصورة. فإن قيل: ما العقل الفعال؟ فيقال: هو أول مبدع أبدعه الله تعالى، وهو جوهر بسيط نوراني فيه صورة كل شيء. فإن قيل: ما النفس؟ فيقال: جوهرة بسيطة روحانية حية علامة فعالة، وهي صورة من صور العقل الفعال. فإن قيل: ما الإرادة؟ فيقال: إشارة بالوهم إلى تكوين أمر ممكن كونه وكون خلافه. فإن قيل: ما العقل الإنساني؟ فيقال: التمييز الذي يخص كل واحد من أشخاصه دون سائر الحيوانات. فإن قيل: ما الجنس؟ فيقال: صفة جماعة متفقة بالصورة يعمها معنًى واحد. فإن قيل: ما الشخص؟ فيقال: كل جملة يشار إليها دون غيرها مميزة من غيرها بالأفعال والصور. فإن قيل: ما الخاصة؟ فيقال: صفة مخصوصة لما دون غيره بطيئة الزوال.
فإن قيل: ما النور؟ فيقال: جوهر مرئي يضيء من ذاته ويُرى به غيره. فإن قيل: ما الظلمة؟ فيقال: عدم النور عن الذات القابلة للنور. فإن قيل: ما النهار؟ فيقال: هو ضوء الشمس. فإن قيل: ما الليل؟ فيقال: هو ظل الأرض. فإن قيل: ما الحرارة؟ فيقال: غليان أجزاء الهيولى. فإن قيل: ما البرودة؟ فيقال: جمود أجزاء الهيولى. فإن قيل: ما الرطوبة؟ فيقال: سيلان أجزاء الهيولى. فإن قيل: ما اليبوسة؟ فيقال: تماسكها. فإن قيل: ما اللون؟ فيقال: هو بروق شعاعات الأجسام. فإن قيل: ما الرائحة؟ فيقال: بخارات ذوات كيفيات تتحلل من الأجسام المركبة. فإن قيل: ما الصوت؟ فيقال: قرع في الهواء من تصادم الأجسام. فإن قيل: كم الحركات؟ فيقال: ستة أنواع هي «الكون، والفساد، والزيادة، والنقصان، والتغير، والنقلة». فإن قيل: كيف حالتهن في الأفعال؟ فيقال: إن الكون هو قبول الهيولى والصورة، وخروجه من حيز العدم، والفساد هو خلق الصورة وخلعها من الهيولى، والزيادة تباعد نهايات الشيء، والنقصان تقاربها، والتغير تبدل الصفات على الموصوف، والنقلة خروج من مكان إلى مكان.
فإن قيل: ما المكان؟ فيقال: إنه كل موضع تمكن فيه المتمكن، وهو نهايات الجسم. فإن قيل: ما الزمان؟ فيقال: عدد حركات الفلك وتكرار الليل والنهار. فإن قيل: ما الفلك؟ فيقال: إنه جسم شفاف كري محيط بالعالم. فإن قيل: ما العالم؟ فيقال: جميع الموجودات المتكونات التي يحويها الفلك. فإن قيل: ما الكواكب؟ فيقال: أجسام منيرة مستديرة كالجامدة من دوام ثباتها في موضع معروف بها. فإن قيل: ما الجسم؟ فيقال: ما له طول وعرض وعمق. فإن قيل: ما الجسم الشفاف؟ يقال: كل جسم يرى ما وراءه. فإن قيل: ما النار؟ فيقال: نير حار يبدد الأشياء ويفرق أجزاءها ويردها إلى ذاتها البسيطة. فإن قيل: ما الهواء؟ فيقال: جسم لطيف خفيف سيال شفاف سريع الحركة إلى الجهات الست؛ وهي فوق وتحت وغرب وشرق وجنوب وشمال. فإن قيل: ما الماء؟ فيقال: جسم سيال قد أحاط حول الأرض. فإن قيل: ما الأرض؟ فيقال: جسم غليظ أغلظ ما يكون من الأجسام وتواقف في مركز العالم. فإن قيل: ما الجهات؟ فيقال ستة أنواع: شرق وغرب وجنوب وشمال وفوق وتحت؛ وذلك أن الشرق حيث تطلع الشمس، والغرب حيث تغيب، والشمال حيث مدار الجدي، والجنوب حيث مدار سهيل، والفوق هو مما يلي المحيط، والأسفل هو مما يلي الأرض.
فإن قيل: ما الطين؟ يقال: ماء وتراب. فإن قيل: ما الزبد؟ يقال: ماء وهواء. فإن قيل: ما البخار؟ يقال: ماء ونار. فإن قيل: ما الدخان؟ يقال: نار وتراب. فإن قيل: ما البرق؟ يقال: نار وهواء. فإن قيل: ما المعادن؟ يقال: ما الغالب عليه الترابية. فإن قيل: ما النبات؟ يقال: ما الغالب عليه المائية. فإن قيل: ما الحيوان؟ يقال: ما الغالب عليه الهوائية. فإن قيل: ما الإنسان؟ يقال: ما الغالب عليه النارية. فإن قيل: ما الملائكة؟ يقال: ما الغالب عليها طبيعة الفلك. فإن قيل: ما الجن؟ فيقال: ما الغالب عليها النارية والهوائية. فإن قيل: ما الشياطين؟ يقال: ما الغالب عليها الترابية والنارية. فإن قيل: ما الرياح؟ يقال: هي تموج الهواء وسيلانه إلى إحدى الجهات. فإن قيل: ما الطبيعة الفاعلة؟ يقال: هي قوة من قوى النفس الكلية الفلكية سارية في الأركان. فإن قيل: ما الأثير؟ يقال: الهواء الحار الذي يلي فلك القمر. فإن قيل: ما النسيم؟ يقال: هو الهواء المعتدل الذي يلي وجه الأرض.
فإن قيل: ما الزمهرير؟ يقال: هو الهواء الذي هو فوق كرة النسيم ودون الأثير، وهو بارد مفرط البرودة. فإن قيل: ما الشعاع؟ يقال: نور الشمس والقمر والكواكب السيارة في الهواء نحو مركز الأرض. فإن قيل: ما انعكاس الشعاع؟ يقال: هو رجوع تلك الأنوار من سطح الأرض والبحار والأنهار والجبال في الهواء. فإن قيل: ما البخار؟ يقال: هو أجزاء مائية رطبة ترتفع في الهواء مع تلك الشعاعات الراجعة من سطوح المياه. فإن قيل: ما الدخان؟ يقال: هو أجزاء أرضية لطيفة ترتفع في الهواء مع الحرارة. فإن قيل: ما الغيم والسحاب؟ يقال: الأجزاء المائية والترابية إذا كثرت في الهواء وتراكمت، والغيم منها هو الرقيق، والسحاب هو المتراكم.
فإن قيل: ما المطر؟ يقال: تلك الأجزاء المائية إذا الْتَأَم بعضها مع بعض وبردت وثقلت ورجعت نحو الأرض. فإن قيل: ما الرياح؟ يقال: تلك الأجزاء الأرضية إذا بردت ورجعت نحو مركزها. فإن قيل: ما البرق؟ يقال: هو النار تنقدح من احتكاك تلك الأجزاء الدخانية في جوف السحاب. فإن قيل ما الرعد؟ يقال: هو الصوت الذي يدور في جوف السحاب ويطلب الخروج. فإن قيل: ما الصاعقة؟ يقال: هي صوت يحدث من خروج تلك الرياح دفعة واحدة مع تلك البروق. فإن قيل: ما الصوت؟ يقال: هو قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام بعضها بعضًا.
فإن قيل: ما الضباب؟ يقال: هو البخار الرطب يثور من وجه الأرض بعقب الأمطار. فإن قيل: ما الهالة؟ يقال: دائرة تحدث فوق سطح الغيم من انعكاس شعاع الشمس والقمر والكواكب. فإن قيل: ما قوس قزح؟ يقال: هو نصف محيط تلك الدائرة إذا حدثت في كرة النسيم منصبة. فإن قيل: كم عدد الألوان المتناهية من ذلك بأصباغها؟ يقال: أربعة؛ الحمرة في أعلاها، والصفرة دونها، والخضرة دون الاصفرار، والزرقة دون الخضرة.
ونحن قد ذكرنا طرفًا في كيفية حدوث هذه الأشياء في رسالة الآثار العلوية بشرحها. فإن قيل ما الثلوج؟ يقال: قطر صغار تجمد في خلل الغيم تنزل برفق. فإن قيل: ما البرد؟ يقال: قطر تجمد في الهواء بعد خروجها من سلك السحاب. فإن قيل: ما الغيم؟ يقال: ما كان بسيطًا رقيقًا، يقال له الغيم، وما كان متراكمًا بعضه فوق بعض كأنه جبال من قطن يقال له السحاب. فإن قيل: ما السيول؟ يقال: مياه أودية تجري من كثرة الأمطار. فإن قيل: ما مدود الأنهار؟ يقال: من ماء العيون الذي ينزل من أصول الجبال فينصبُّ ويجري في بطون الأودية، زيادتها من كثرة السيول. فإن قيل: من أي موضع تجري الأنهار كلها؟ يقال: تبتدئ من عيون في رءوس الجبال أو أسافلها وتلال في البراري، وتمر بجريانها نحو الآجام والغدران والبطائح. فإن قيل: ما الزلازل؟ يقال: هي حركة بعض بقاع الأرض من رياح محتبسة في جوف الأرض. فإن قيل: ما الخسوف؟ يقال: هي سقوط سطح بقاع الأرض على أهوية تحتها إذا انشقت وخرجت منها تلك الرياح المحتبسة. فإن قيل: ما الجبال؟ يقال: أوتاد الأرض ومسنيات الرياح والبحار. فإن قيل: ما الجزائر؟ يقال: بقاع من الأرض في وسط البحار. فإن قيل: ما البراري؟ يقال: هي بقاع من الأرض ليس فيها نبات ولا بناء. فإن قيل: ما الآجام والبطائح؟ يقال: بقاع فيها مياه ونبات. فإن قيل: ما الغدران؟ يقال: مواضع تجتمع فيها مياه الأمطار. فإن قيل: ما الأرض؟ يقال: جسم كري الشكل واقف في الهواء بإذن الله تعالى بجميع ما عليها من الجبال والبحار.
فإن قيل: ما الإرادة؟ يقال: هي إشارة بالوهم إلى تكون شيءٍ ما يمكن كون ذلك ويمكن الكون في غير. فإن قيل: ما القدرة؟ يقال: هي إمكان شيء من الأفعال اختيارًا. فإن قيل: ما الاختيار؟ يقال: هو قبول أحد الأمرين بالوهم من ذوات الباطن وذوات الظاهر بالحس. فإن قيل: ما الجهل؟ يقال: تصور الشيء بغير صورته. فإن قيل: ما الاعتقاد؟ يقال: هو عقد الاحتمال على تحقيق شيء. فإن قيل: ما الوهم؟ يقال: هو قوة من قوى النفس الحيوانية متخيلة بها الأشياء. فإن قيل: ما الإيمان؟ يقال: هو التصديق مما يخبر به المخبر. فإن قيل: ما الإسلام؟ يقال: هو التسليم بلا اعتراض. فإن قيل: ما الدين؟ يقال: هو الطاعة من جماعة لرئيس يُنتظر منه نيل الجزاء. فإن قيل: ما الكفر؟ يقال: هو الغطاء. فإن قيل: ما الشِّرك؟ يقال: هو إثبات ربوبية اثنين. فإن قيل: ما الجحود؟ يقال: هو إنكار الحق. فإن قيل: ما المعصية؟ يقال: هي الخروج عن الطاعة. فإن قيل: ما الطاعة؟ يقال: هي الانقياد لأمر الآمر ونهي الناهي. فإن قيل ما المعاد؟ يقال: هو رجوع النفوس الجزئية إلى النفس الكلية. فإن قيل: ما الثواب؟ يقال: هو ما تجد كل نفس من الراحة واللذة والسرور والفرح بعد مفارقتها للجسد. فإن قيل: ما العقاب؟ يقال: هو ما ينالها من الخوف والحزن والآلام بعد المفارقة للأجسام، وكل نفس بحسب ما اكتسبت تنال من الخير إن كان خيرًا، أو من الشر إن كان شرًّا. فإن قيل: ما المعروف؟ يقال: هو فعل ما جرت به العادة ولم تَنْهَ عنه الشريعة والسنة. فإن قيل: ما المنكر؟ يقال: فعل ما لم تجرِ به العادة، لا في السنة ولا في الشريعة. فإن قيل: ما أجرة الأجير؟ يقال: هي جزاءٌ لما يستحق كل عامل بما يعمله.
(١) فصل في أن الشكل هو صورة جسمانية واللون صورة روحانية
الشكل هو صورة جسمانية، واللون صورة روحانية، وهما جميعًا موجودان في الأشياء كلها إذا تأملها المتأمل، فيكونان في جنس الثمار يعني في شكل الثمرة موجود لنضجها واستحالة الرطوبة اللطيفة الرقيقة إلى ما قد بدت لها، إما من ذوات الرطوبة السيالة وذوات الرطوبة المكتثرة، فتقدم السيالة لانحفاظ كالآلة تقوم مقام لحاء الشجر لحفظ رطوبتها وتمنع أن يلحقها الفساد والذوات الدهانة في ترتيبها أن نفس الثمرة تقبلها وتحفظها لئلا يلحقها الفساد، وذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ليطبخ الحرارة الغريزية الكائنة في جميع الثمار وبلاغًا لها، فهي لتصير من لا هيئة غير نافعة إلى هيئة نافعة؛ لأن غرض الطبيعة إنضاج كل شيء تطبخه بالحرارة الغريزية لرطوبات الهيولى على ما هي مرتبة ترتيب الإله للمنافع التي من أجلها صار كذلك.
فإذا لم تقدر على ذلك لعرض يعرض لذلك إما لكون الرطوبات غالبة على الشيء فتتولد فيه العفونة فيكون دليلًا لفساد، وإما لكون الرطوبات في الشيء ناقصة فيصير ما يتولد فيه اليبوسة والخشن، فيكون من ذلك الفساد وبذور النبات عند ظهورها وبذور الزرع والشجر كلها حارة رطبة؛ لأن الحرارة في ذلك أكثر من الرطوبة، والرطوبة التي فيها مانعة للحرارة؛ فلذلك يحدث الطراوة في بدئها.
ألا ترى إلى فعل الأنفحة التي تجمِّد اللبن الحليب بفضل حرارته وإتباع اللبن لها القبول منها؛ لأن في الحرارة قوًى جاذبة تجذب الرطوبات إليها لتتغذى بها وتعيش ما دامت المادة من ذلك باقية.
فإذا ازدادت البرودة والرطوبة عليها اختفت الحرارة في باطن الأجسام فأحرقتها؛ لأن الحرارة هي الفاعلة والرطوبة هي الهيولى القابلة للصورة، والحرارة أيضًا بتمدد الحركة إلى فوق تكون في مخرجها نحو اليمين والقدام وإلى فوق من ناحية القلب؛ لأن القلب أفضل أجزاء البدن وليس بأفضل من البدن، وعروق الشجرة أفضل أجزائها وليس أفضل منها، فالصغار بكثرتها تقاوم الكبار لقلتها، ومن أجل أن المحرك الأول واحد صار لكل كائن فعله في مثله مماثلًا للأول الواحد، وكل مبدئ واحد أول ما ينبعث من القلب في بدن الحيوان، فإنه يبدو منه عرقان اثنان: واحد لأعلى البدن، والآخر لأسفله.
ومن بدن النبات يبدو عرقان: أحدهما ينزل إلى أسفل ويتناول المادة من الأرض والماء بحسب ما يكون سبب حياته، والآخر يرقبه إلى فوق ليتغذى به فتكون منه تربية البدن والورق والثمر.
(٢) فصل في أن العدد هو أحد الرياضيات الحكيمة
ثم اعلم أن العدد هو أحد الرياضيات الحكيمة، وذلك أن الوحدة الموجودة في الواحد الموهوم هي أصل العدد ومنشؤه، وهو لا جزء له، والعدد هو كثرة الآحاد المجتمعة، وهو صورة تطبع في نفس العادِّ من تكرار الوحدة.
والمعدودات هي الأشياء التي تُعد، والحساب هو جمع العدد وتفريقه، والمحسوبات هي الأشياء التي عرفت مقاديرها.
فالعدد منه أزواج ومنه أفراد، والزوج هو كل عدد له نصف صحيح، والفرد هو كل عدد يزيد على الزوج بواحد، والعدد منه صحيح ومنه كسور؛ فالعدد الصحيح هو كلما يشار إليه بإحدى عشرة لفظة أصلية، وهي اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة مائة ألف، وما تَركَّب منها، وهي هذه: عشرون ثلاثون أربعون خمسون ستون سبعون ثمانون تسعون، مائة مائتان ثلاثمائة أربعمائة خمسمائة ستمائة سبعمائة ثمانمائة تسعمائة، ألف ألفان ثلاثة آلاف أربعة آلاف خمسة آلاف ستة آلاف سبعة آلاف ثمانية آلاف تسعة آلاف.
وعلى ذلك تكرار اللفظ بالغًا ما بلغ، والعدد الكسور هو كلما يشار إليه بتسعة ألفاظ مشتقة من نفسه، وهي هذه: النصف والثلث والربع والخمس والسدس والسبع والثمن والتسع والعشر، أو ما تَركَّب منها مثل: نصف وثلث وربع ربع وخمس خمس وسبع سبع وما شاكلها من الألفاظ المركبة من هذه التسعة. والعدد الذي مبدؤه من واحد في جميع أموره ومنتهاه إلى أربعة، وهذه صورة ذلك «١، ٢، ٣، ٤»، وهذه الأربعة ثبات أصله وما يتولد منه في كيفية فرع، ثم الباقي مركب منها كما بيَّنا في رسالة الأرثماطيقي، وللعدد مراتب أربع: مراتب آحاد ومراتب عشرات ومراتب مئات ومراتب الألوف، وله أيضًا نظام وترتيب ذو فنون تجدها عند التصرف فيها.
فمنها نظم طبيعي، مثل: ١، ٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ٧، ٨، ٩، ١٠.
ومنها نظم الأزواج على الولاء، مثل هذه: ٢، ٤، ٦، ٨، ١٠، ١٢، ١٤، ١٦، ١٨، ٢٠.
ومنها نظم الأفراد على الولاء، مثل هذه: ١، ٣، ٥، ٧، ٩، ١١.
ومنها نظم زوج الفرد، مثل هذه: ٦، ١٥، ١٤، ١٨.
ومنها نظم زوج الزوج والفرد، مثل هذه: ١٢، ٢٥، ٢٨.
ومنها نظم زوج الزوج، مثل هذه: ٢، ٤، ٨، ١٦، ٣٢.
ومنها نظم الأفراد الأول الأول، مثل هذه: ٣، ٥، ٧، ٩.
ومنها المجذورات، مثل هذه: ٤، ٩، ١٦، ٢٥.
ومنها نظم المكعبات، مثل هذه: ٦، ٢، ٢، ٤، ٦.
ومنها نظم المربعات غير المجذورات، مثل هذه: ٦، ١٥، ١٤، ١٨، ٢٥، ٦٢.
ولكل نوع من هذه الكيفية نشوء وكمية أنواع، ولتلك الأنواع خواص قد ذكرنا طرفًا منها في رسالة العدد، والنسبة هي قدر أحد العددين عند الآخر، والنسبة المتصلة هي التي تكون قدر الأول إلى الثاني كقدر الثاني إلى الثالث، والمنفصلة هي التي تكون قدر الأول إلى الثاني كقدر الثالث إلى الرابع، والضرب هو تضعيف أحد العددين بقدر ما في الأول من الآحاد، والقسمة عكس الضرب، والجذر هو العدد المضروب في نفسه، والمجذور هو المجتمع من ذلك، والمكعب هو المجتمع من ضرب المجذور في الجذر.
ثم اعلم أن الهندسة أصل الرياضات الحكمية، وعلم الهندسة هو معرفة الأبعاد والمقادير؛ فالأبعاد ثلاثة أنواع: الطول والعرض والعمق. والمقادير ثلاثة أنواع: خطوط وسطوح وأجسام؛ فالخط هو مقدار ذو بعد واحد، والسطح هو مقدار ذو بعدين، والجسم ذو ثلاثة أبعاد. والخطوط ثلاثة أنواع: مستقيم ومقوس ومنحنى؛ وهو المركب منهما. والسطوح ثلاثة أنواع: البسيط والمقعر والمقبب. والأجسام كثيرة الأنواع؛ فمنها من كثرة السطوح، ومنها من جهة كثرة الأشكال، ومنها من جهة الجميع.
فأما التي اختلافها من جهة كثرة السطوح، فنذكر منها ثمانية أنواع؛ أولها: الكرة وهي جسم يحيط به سطح واحد، ونصف الكرة يحيط به سطحان، وربع الكرة يحيط به ثلاثة سطوح، والشكل الناري يحيط به أربعة سطوح، والشكل الأرضي وهو المكعب يحيط به ستة سطوح، والشكل الهوائي يحيط به ثمانية سطوح، والشكل المائي يحيط به عشرون سطحًا، والشكل الفلكي يحيط به اثنا عشر سطحًا.
والسطوح كثيرة الأنواع: تارة من جهة الأضلاع، وتارة من جهة الزوايا، وتارة من الجميع. ولكن يجمعها كلها أربعة أنواع: المثلث والمربع والمدور والكثير الزوايا؛ فالسطح المثلث ما يحيط به ثلاثة خطوط وله ثلاث زوايا، والسطح المربع ما يحيط به أربعة خطوط وأربع زوايا، والدائرة سطح يحيط به خط واحد في داخله نقطة كل الخطوط المستقيمة الخارجة منها إليه متساوية من المركز إلى المحيط، مساوٍ بعضها لبعض، والشكل الكثير الزوايا مثل المخمس والمسدس والمسبع وما زاد بالغًا ما بلغ. والزوايا ثلاث: قائمة وحادة ومنفرجة؛ فالزاوية القائمة هي التي بجنبها مثلها، والحادة أصغر من القائمة، والمنفرجة أكبر من القائمة.
(٣) فصل في تعريف النبات والحيوان والإنسان والجسم والصوت وغير ذلك
النبات هو كل جسم يتغذى وينمو، والحيوان كل جسم متحرك حساس، والإنسان حي ناطق مائت، وهو جملة مركبة من نفس ناطقة وبدن مائت، والجسم جوهر لطيف طويل عريض عميق، والصوت قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام، واللفظ كل صوت له هجاء، والكلام كل لفظ يدل على معنًى. وإن قيل: ما الصدق؟ فيقال: إيجاب صفة الموصوف هي له، أو سلب صفة عن موصوف ليست له. والكذب؟ فهو عكس ذلك. ويقال أيضًا الصدق والكذب في الأقاويل، والصواب والخطأ في الضمائر، والخير والشرفي الأفعال، والحق والباطل في الأحكام، والضر والنفع في الأشياء المحسوسة.
والدنيا هي مدة بقاء النفس مع الجسد إلى وقت افتراقها الذي يسمى الموت، والموت هو ترك النفس استعمال البدن، والآخرة هي نشوء ثانٍ بعد الموت.
ويقال أيضًا الموت هو بقاء النفس بعد مفارقة الجسد وخلوها في عالمها، والجنة هي عالم الأرواح، وجهنم هي عالم الأجسام، والجنة أيضًا هي المرتبة العليا، وجهنم أيضًا هي المرتبة السفلى.
فجنة نفس النباتية صورة الحيوانية، وجنة نفس الحيوانية صورة الإنسانية، وجنة نفس صورة الإنسانية صورة الملائكة، ولصورة الملائكة مقامات ودرجات عند الله تعالى، وبذلك يكون بعضهم أشرف من بعض، كالمقربين منهم وغير المقربين، والبعث هو انتباه النفس من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، والنوم هو اشتغال النفس عن الجسد بغيره مع شمول عنايتها به، والقيامة قيام النفس من قبرها، وهو الجسد الكائن الذي كانت فيه فزهدت وأبعدت عنه.
والحشر هو جمع النفوس الجزئية نحو النفس الكلية واتحاد بعضها ببعض؛ إذ الجزء أحد أجزاء الكل، والكل مجمع الأجزاء المنفصلة منه.
وقولنا الاتحاد امتزاج الجواهر الروحانية كامتزاج صوت الزِّير والبَم، والحساب موافقة النفس الكلية النفوس الجزئية بما عملت عند كونها مع الأجساد، والصراط هو الطريق المستقيم القاصد إلى الله تعالى.
(٤) فصل في الألوان المفردة
الألوان المفردة هي البياض والسواد والحمرة والصفرة والخضرة والزرقة والكدرة، والأشياء البيض إنما تراها بيضاء لأسباب ثلاثة: أحدها لأن النور محبوس فيها لغلبة الرطوبة، والرطوبة لونها كاللبن. والثاني لأن النور مولج فيها لكثرة التخلخل كالملح. والثالث لأن النور محبوس فيها لجمود رطوبتها كالفضة.
على أن النور من وراء الأجسام المشفة يُرى أبيض، فإن عرض له عارض يُرى أصفر، والأشياء الصُّفر تُرى صفراء لأسباب تمنع النور أن يُرى صافيًا، كالنار يراها صفراء لأن حرارتها تسد مسام البصر فلا تقدر قوة الباصرة إدراكها على التمام.
ومنها ما يرى أصفر لأن الحرارة تسد مسامها كالأشياء البيض إذا طبخت اصفرَّت.
فأما علة رؤية الأشياء حُمرًا فلشيئين: أحدهما الأسباب المعفنات، والآخر الأسباب المذوبات؛ فالمعفنات لكثرة الرطوبة، والمذوبات لكثرة الحرارة، كالشمس تراها حمراء عند كثرة البخارات الصاعدة إليها من جملة المياه والرطوبات وعند النضج والأزهار والثمار تؤدي من شدة الحرارة المذوبة.
فقد تبين بهذا أن البصر إذا رأى النور من وراء الأجسام المشفة وغلبها أحد الأسباب الثلاثة، رآها حمراء.
وأما الخضرة فهي من أجل غلبة الرطوبة الأرضية على النور، ومنع البصر إياها أو منع النور أن يصير إلى البصر صرفا.
وأما السواد فهو منع الرطوبة الأرضية وصول النور إلى البصر، أو منع البصر الوصول إلى النور؛ لأن السواد يجمع البصر والبياض يفرقه.
وكل الألوان الباقية متوسطة بين هذين الطرفين وفعلها في البصر بحسب غلبة أحد هذين عليها.
والطعوم تسعة أنواع: وهي العفوصة والقبوضة والحموضة والحلاوة والملاحة والمرارة والحرافة والعذوبة والدسومة. والحلاوة تجعل اللسان أملس، والمرارة تجعل أجزاءه متفرقة خشنة، والحريف يزيد في ذلك، والمالح يفرق ويجفف، والعفوصة تجمع وتقبض، والحموضة تفرق وتقبض.
ثم اعلم أيها الأخ بأنك قاصد إلى ربك منذ خُلقت نطفة في الرحم وربطت بها نفسك تنقل كل يوم من حالة هي أدون إلى حالة أتم وأكمل وأشرف، ومن مرتبة هي أنقص إلى مرتبة أخرى هي أعلى وأشرف، وإلى منزلة هي أرفع، إلى أن تلقى ربك وتشاهده ويوفيك حسابك، وتبقى عنده نفسُك ملتذة فرحانة مسرورة مخلدة أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى السداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد إنه رءوف بالعباد.